الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الحادي والثلاثون
(عن أبي العبَّاس) وقيل أبي يحيى (سهل بن سعد)(1) بن مالك بن خالدِ بنِ ثَعلبةَ (السَّاعِدِيِّ) -بكسر المهملة- نسبةً إلى ساعِدةَ بنِ كَعْبٍ الأنصاريِّ الخزرجيِّ المدنيِّ، آخرُ من مات من الصَّحابة (2)، [مات سنة ثمانٍ وثمانين عن بضعٍ وتسعين سنة](3).
(قال: جاء رجل إلى النّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله: دُلَّنِيْ) بضمِّ الدال وفتح اللام مشدّدةً، (على عملٍ) هو فعلٌ من الحيوان بقصدٍ وإرادة، والمراد هنا: عملٌ صالح.
(إذا عملتُه أحبَّنيَ اللهُ وأَحبّنيَ النَّاسُ) معنَى محبّةِ اللهِ للعبدِ: رِضاهُ عنْه وإحسانُه إليه؛ لأنّ المحبَّةَ ميلٌ طبيعيٌّ، وهو في حقّه مُحالٌ، فالمراد غايتها (4).
(1) كتبَ في حاشية الأصل تعريفٌ عن سهل بن سعد فقال: رضي الله عنه، ينبغي عنهما؛ لأنّ أباه صحابيّ، روي له مائةُ حديثٍ وثمانية وثمانون، اتفقا على ثمانية وعشرين، وانفردَ البخاريُّ بأحدَ عشرَ. صح). والكلام لابن حجر الهيتميِّ في الفتح المبين (499).
(2)
هذا على أحد الأقوال، وهو مرويٌّ عن جرير بن حازمٍ، قال الحافظ:(والظَّاهر أنَّ جريرًا أراد المدينة)، وقال بهذا ابن المدينيّ والواقديّ وغيرهما، قال العراقيّ: وهو قولٌ ضعيفٌ؛ لأنَّ السّائبَ مات بالمدينة بلا خلاف، وقد تأخر بعده. انظر: الإصابة (1/ 85).
(3)
ما بين معقوفتين زيادةٌ من (ب).
(4)
هذا تأويل لصفة المحبة لله تعالى؛ بحجة أنَّ المحبَّة ميلٌ طبيعيٌّ وهو محالٌ في حقه، لكن هذا تعريف لمحبة المخلوق لا محبة الخالق، ومن قاس هذا على هذا فقد خالف الصواب، وجانَب طريق السنة والكتاب، إذ المحبة من صفات الله عز وجل العظيمة، وذكر شيخ الإسلام أنّ أول من أنكر صفة المحبة هو الجعد بن درهم لما قال: إنّ الله لم يتّخذ إبراهيم خليلًا، ثم قال:(والذي دلَّ عليه الكتاب والسُّنَّة، واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها ومشايخ الطريق: أن الله يُحِبّ ويُحَبّ؛ ولهذا وافقهم على ذلك من تصوّف من أهل الكلام، كأبي القاسمِ القُشَيريِّ وأبي حامد الغزاليِّ وأمثالهما). الزُّهد والورع والعبادة (130) وانظر: مدارج السالكين (1/ 268). وسيأتي بعد قليلٍ ذكر الشارح أنَّ لهم -معاشر الأشاعرة- في تأويل صفة المحبة قولين: قولٌ يفسِّرها بالإرادة فقط، وقولٌ يفسِّرها بالرِّضا مع الإرادة.
(فقال: ازْهَدْ فِي الدُّنيا) اعرض بقلبك عنها استصغارًا لجملتها واحتقارًا لشأنها وبغضًا لها، وحبًّا لله (يُحِبَّك الله) أي: يرضَى عنك ويثيبُك؛ (1) لأنَّه تعالى يُحِبُّ من أطاعه، ومحبّته مع محبّة الدنيا لا يجتمعان، عُرِفَ ذلك بالنّصوص والنّظر والتّجرِبَة والطّبعِ والتّواتر.
قال الغزاليّ: (مَن ادَّعى أنّه جمع بين حُبِّ الدنيا / [1124/ب] وحُبِّ خالقها في قلبه فقد كذب، وذلك لأنّ حبّها كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: «رأسُ كلّ خطيئةٍ» (2) والله لا يُحِبُّ الخطايا ولا أهلَها؛ ولأنّها لهوٌ ولعبٌ وزينةٌ وتفاخُرٌ وتكاثرٌ، والله لا يحبُّها؛ ولأنَّه تعالى منذُ خلق الدُّنيا لم ينظُرْ إليها بغضًا لها كما في حديثٍ (3)؛ و «لأنها
(1) وهذا أيضًا تفسير بلازم الصفة، ولازم الحقِّ حقٌّ، ولو كان المصنِّف رحمه الله يُثبت أصل الصفة لقُبل منه، لكن صرح -فيما سبق- أنَّ المحبة محالٌ في حقّ الله تعالى.
(2)
رواه أبو نعيم في الحلية (6/ 388) والبيهقي في الزهد الكبير (134) من قول عيسى ابن مريم عليه السلام وجزم شيخ الإسلام بأنَّه من قول جندبٍ البجليّ رضي الله عنه، كما في مجموع الفتاوى (11/ 107)، ومثّل له العراقي للحديث الموضوع الذي أُخذ من كلام الحكماء كما في شرحه للعراقي (1/ 315) وكذا قال الألباني في الضعيفة (3/ 370). ولكن أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (13/ 102) عن الحسن البصريِّ مرسلًا، وحسَّنه السخاويّ في فتح المغيث (2/ 122) ودفع عنه الوضع، وذكر أنه لا يصحّ التمثيل به، ولكن مرسلات الحسن كالريح كما قرّره جمع من أهل العلم، انظر -مفصّلًا- شرح العلل لابن رجب (1/ 536).
(3)
أخرجه الديلمي (1/ 2/235) من طريق الحاكم عن داود بن المحبّر، عن الهيثم بن جمَّاز عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا:(إن الله لم يخلق خلقًا هو أبغض إليه من الدنيا، وما نظر إليها منذ خلقها؛ بغضا لها). وهذا موضوعٌ أيضًا آفته داود بن المحبر؛ فإنه متهم بالوضع، أو شيخه الهيثم بن جمَّاز؛ فإنه متَّهم بالكذب. انظر: السلسلة الضعيفة (7/ 83).
لا تزن عند الله جناحَ بَعوضةٍ، ولولا ذلك ما سقى منها كافرًا شربةَ ماءٍ» (1)
كما في حديثٍ آخر) (2).
قال الطّوفيُّ: (ومحبّة الدُّنيا المكروهة إيثارُها لقضاءِ شَهوات النفس وأوطارها؛ لأنّ ذلك يَشْغَلُ عن الله، أمَّا محبّتها لفعل الخير وابتغاءِ الأَجر عند الله فهي عبادةٌ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «نِعمَ المال الصَّالح للرجل الصالح» (3)) إلخ (4).
والزهد: ترك الدّنيا عن قدرة، قال الأكمل (5): وهو المراد هنا؛ بدليل قوله: (في الدنيا)(6).
وقد يطلق اسم الزهد على ترك كلّ ما سوى الله من دنيا وآخرة، كأبي يزيد (7) فإنه سئل عن الزهد، فقال: (ليس بشيءٍ لا قدر له عندي ما كنت زاهدًا سوى ثلاثة
(1) أخرجه الترمذيّ في السنن في أبواب الزهد، باب ما جاء في هوان الدنيا على الله عز وجل (2320). من طريق عبد الحميد بن سليمان عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه، وقال الترمذيّ:(صحيح غريب من هذا الوجه) ..
(2)
لم أهتد إليه.
(3)
أخرجه البخاري في " الأدب المفرد "(299)، وأحمد (29/ 298)، وابن حبان (1089)، والبغوي في " شرح السنة "(10/ 91) من طريق عبد الرحمن -هو ابن مهدي- حدثنا موسى ابن علي، عن أبيه، قال: سمعت عمرو بن العاص مرفوعًا. وهو على شرط مسلم.
(4)
التعيين في شرح الأربعين (231).
(5)
هو محمد بن محمود بن أحمد البابرتي أكمل الدين الحنفيُّ، كان فاضلًا صاحبَ فنونٍ، ويقال: إنَّه كان يعتقد مذهب الوحدة، ذكره ذلك عنه ابن خلدون، وشرح مشارق الأنوار للصغَانيِّ شرحًا وسطًا غزيرَ الفائدة، مات سنة (786 هـ) انظر: الدرر الكامنة (6/ 1) وتاج التَّراجِم لابن قطلوبغا (277). وطبقات المفسرين للداودي (2/ 253).
(6)
لم أقف عليه.
(7)
أبو يزيد طيفور بن عيسى بن شروسان، سنة (261 هـ) وقد نقل عنه الذهبيّ أقوالًا كثيرة في السير ولا شكّ أن بعضها مخالف لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. انظر: سير أعلام النبلاء (13/ 86).
أيَّام، أوَّل يوم زهدت في الدنيا، والثاني زهدت في الآخرة، والثالث: في كل ما سوى الله فنوديت: ما تريد؟ قلت أريد أن لا أريد) جعل ترك ما سوى الله هو الزهد.
وقال الغزاليّ: (الزهد ترك طلب المفقود من الدنيا، وتفريق المجموع منها، وترك إرادتها واختيارها، وأصعب الكلِّ: ترك الإرادة بالقلب، إذ كم تاركٍ لها بظاهره محبٌّ لها بباطنه، فهو في مكافحةٍ ومقاساةٍ من نفسه شديدة، فالشَّأن كلُّه في عدم الإرادة القلبيَّة)(1).
ولهذا لما سُئل أحمدُ ابن حنبلٍ-رضي الله عنه عَنْ من معه ألفُ دينارٍ أيكونُ زاهدًا؟ قال: (نعم بشرط ألّا يفرحَ إذا زادتْ، ولا يحزَنَ إذا نقصتْ)(2).
وقال ابن القيِّم: (أحسنُ حدوده: أنَّه فراغ القلب من الدنيا لا فراغ اليد، وقد جهل قومٌ فظنُّوا أنَّه تجنُّب الحلال، فاعتزلوا النساء فضيَّعوا الحقوق، وقطعوا الأرحام، وجفوا الأنام، واكفهرُّوا في وجوه الأغنياء، وفي قلوبهم شهوة الغِنَى أمثال الجبال، ولم يعلموا أن الزهد إنما هو بالقلب، وأنّ أصله موت الشهوة القلبية، فلما اعتزلوها بالجوارح ظنوا أنهم استكملوا الزهد فأدَّاهم إلى الطعن في كثيرٍ من السلف والأئمة)(3).
قال الطيبيُّ: (ولا يتصور الزهد ممَّن ليس له مال ولا جاهٌ، وقيل لابن المبارك: / [125/أ] يا زاهد قال: الزاهد عمرُ بنُ عبد العزيز، إذ جاءته الدّنيا راغمةً فتركها، أمَّا أنا ففيمَا (4) زهِدت؟ ) (5).
وقال الطُّوفيُّ: (الزاهد على أضربٍ: أحدها: الزهد في الحرام، وهو الزهد الواجب العام.
(1) منهاج العابدين إلى جنَّة ربِّ العالمين (66 - 67).
(2)
طبقات الحنابلة (2/ 14)، وجامع العلوم والحكم (2/ 183).
(3)
لم أقف عليه في كتب ابن القيم هكذا، وانظر طرفه الأول منه في عدة الصابرين (510). وانظر: نواد الأصول للحكيم (2/ 72) ، وفيض القدير (4/ 72).
(4)
كذا في النسختين بإثبات الألف.
(5)
الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3290).
والثاني: الزُّهد في الشبهات، والأشبه وجوبه؛ لأنَّه وسيلةٌ إلى اتِّقاء الوقوع في الحرام (1).
الثالث: الزُّهد فيما عدا الضروريات من المباحات، وهو المراد من هذا الحديث [ظاهرا](2) وهو زهد الخواصِّ العارفين بالله تعالى.
الرابع: الزهد فيما سوى الله من دنيا وجنّةٍ وغير ذلك، فلا قصدَ لصاحب هذا الزهد إلا الوصول إليه تعالى وهو زهد المقرَّبين، ويندرج في ضِمنه كلُّ مقصودٍ، وكلُّ الصَّيد في جوف الفَرا (3)) (4).
وهل الدُّنيا ما على وجه الأرضِ إلى قيامِ السَّاعة، أو كلُّ موجودٍ قبل الحشرِ، أو ما سوَّاه اللَّيل والنَّهار، وأظلَّته السَّماء وأَقلَّتْه الأرض، أو الدِّرهم والدّينار، أو ما أدرك حسًّا، والآخرة ما أدركَ عقلًا، أو ما فيه شهوة النَّفس؟ أقوالٌ، رجّح النوويُّ الثَّاني (5). والمراد هنا
(1) في (ب): (وسيلة إلى إبقاء الوقوع في الحرام). وكأنَّ (اتقاء) تصحفت إلى (إبقاء) والله أعلم.
(2)
ما بين معقوفتين زيادةٌ من نسخة (ب).
(3)
هو مثلٌ عربيٌّ، قَال ابن السكيت: الفَرَا الحِمَارُ الوَحْشِيُّ، وجمعه فِراء، قَالوا: وأصل المثل أن ثلاثة نَفَرٍ خرجوا متصيدين، فاصطاد أحدُهم أرْنَباً، والآخر ظبيًا، والثالث: حماراً، فاستبشر صاحب الأرنب وصاحب الظبي بما نالا، وتطاولا عليه، فقال الثالث: كُلُّ الصَّيْدِ في جوف الفَرا، أي هذا الذي رُزِقْتُ وظَفِرْتُ به يشتمل على ما عندكما، وذلك أنه ليس مما يصيده الناس أعْظَمُ من الحمار الوحشي، ورواه مرفوعًا أبو الحسن الرامهرمزي في الجزء السادس من أمثال الحديث (176) بسنده إلى نصْر بن عاصم الليثيّ قال أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقريش وأخَّر أبا سفيان ثمّ أذن له فقال: ما كِدتَ أن تأذن لي
…
فقال له: وما أنت وذاك يا أبا سفيان؟ إنَّما أنت كما قال الأوَّل: كلُّ الصَّيد في بطن الفرا) قال السخاوي: جيِّد الإسناد مرسل، انظر: الأجوبة المرضيَّة للسخاوي (3/ 1176 - 1180) والأمثال للعسكري (10) ، ومجمع الأمثال للميداني (2/ 136 (.
(4)
التعيين في شرح الأربعين (233).
(5)
ورد في حاشية الأصلِ كلامٌ طويلٌ عن ابن حجر الهيتميِّ في شرحه، ونصُّه:(فائدة: قال ابن حجر في شرحه: واعلم أنَّ الذمَّ الوارد في الكتاب والسنة في الدنيا ليس راجعًا لزمانها وهو الليل والنهار؛ فإنَّ الله -تعالى- جعلهما خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا، ولا لمكانها وهو الأرض؛ لأنَّ الله -تعالى- جعلها لنا مِهَادًا، ولا إلى ما أودعه تعالى فيها من الجمادات والحيوانات؛ لأنَّ ذلك كلَّه من نعمه -تعالى- على عباده، قال تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} وإنما هو راجعٌ إلى الِاشتغال بما فيها عما خلقنا لأجله من عبادته تعالى، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ثم من بني آدم من أنكر المعاد، وهؤلاء هم أهل التمتع بالدّنيا، على أن منهم من كان يأمر بالزهد فيها، ويرى أن كثرتها توجب الهم والغم، ومن ثَمَّ قال أصحابنا: لا يكفي الخطيب عن الوصية بالتقوى الاقتصار على ذم الدنيا؛ لأن ذمها معلوم لكل أحد حتى لمنكري المعاد، وبقيتهم يقرون بالمعاد، لكنهم منقسمون إلى ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات، انتهى المقصود منه). وهو في الفتح المبين (503).
الأخيرُ، وعُلم مما مرَّ أنَّ محبَّة الله للعبد تحتاج إلى تأويل بخلاف عكسه.
قال الغزاليُّ: (محبة العبد لله حقيقيّة لا مجازيّة؛ لأنَّ المحبَّة في وضع اللسان ميلُ النفس إلى مُلائمٍ مُوافقٍ، والعشق الميل الغالب المغرض (1)، والله محسن جميل، والإحسان والجمال موافق، ومحبة الله للعبد مجازيَّة، (2) ترجع إلى كشف الحجاب حَتَّى يَراه بقلبِه، وإلى تمكينه إيَّاه من القرب منه) (3).
وفي شرح المواقف (4): محبَّتنا له تعالى كيفيّةٌ روحانيّةٌ مرتَّبةٌ على تصوِّر الكمال
(1) في (ب): (المفرط) ، ولعله أقرب.
(2)
محبَّة الله للعبد حقيقيَّةٌ لا مجازيَّةٌ، وعلى هذا أجمع أهل السنَّة والجماعة، يقول الإمام ابن عبدالبرِّ رحمه الله:(أهل السُّنَّة مجمِعُون على الإقرار بالصِّفات الواردة كلِّها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلَّا أنَّهم لا يكيِّفون شيئًا من ذلك، ولا يحُدُّون فيه صفةً محصورةً، وأمَّا أهلُ البدع والجهميَّةُ والمعتزلةُ كلُّها والخوارج فكلُّهم ينكرُها، ولا يحمل شيئًا منها على الحقيقة، ويزعمون أنَّ من أقرَّ بها مشبِّهٌ، وهم -عند من أثبتها- نافون للمعبود، والحقُّ فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله وهم أئمة الجماعة والحمد لله). التمهيد (7/ 145 (.
(3)
لم أهتد إليه. وعزاه المصنف للغزالي في الفيض القدير (1/ 177).
(4)
هو كتاب المواقف في علم الكلام لعضد الدين الإيجي (756 هـ) ويُعدّ الكتاب ذروةَ ما بلغه علم الكلام عند الأشاعرة، فلم يجارِهِ أشعريٌّ فضلًا أن يزيد عليه، وقد غلبت عليه المادة الفلسفية والمنطقية، وله شهرةٌ كبيرةٌ، انظر: دائرة المعارف الإسلامية (3/ 187) ويعدُّ هذا الكتاب مختصرًا لكتاب الآمدي (ت 631 هـ) المسمى بـ (أبكار الأفكار)، واعتنوا بكتاب المواقف حتى وصلت شروحه أزيدَ من أربعين كتابًا.
المطلق له -تعالى- على الاستمرار، ومقتضيةٌ إلى التوجه التامِّ إلى حضرة قدسه بلا فتورٍ وقرارٍ، ومحبتّنا لغيره كيفيَّةٌ تترتَّبُ على تخيّلِ كمالٍ فيه من نحوِ لَذّةٍ أو شفقةٍ، ثمَّ هي عندنا الرضا والإرادة مع ترك الِاعتراض، وقيل: الإرادة فقط فيترتب عليه -كما في الإرشاد (1)
- أنَّه -تعالى- لا تتعلَّق به محبّةٌ على الحقيقة؛ لأنَّها إرادة، والإرادة لا تتعلق إلا بمتجَدّدٍ (2)
(1) لعله يقصد كتاب (الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد (في عقيدة الأشاعرة) لإمام الحرمين الجويني، وهو مطبوع، وهو من أهمّ كتبهم، وقد نقل أبو القاسم ابن عساكر (ت 571 هـ) في تبيين كذب المفتري فيما نسب للأشعريِّ (ص 326) عن أبي سعد الكِرماني أنه سئل:(هل قرأتَ كتاب الإرشاد على الإمام أبي المعالي؟ فقال نعم، فاستأذنته في قراءته فأذن له، فشرع في قراءته على عادة أصحاب الحديث، فلما قرأ منه نحو صفحةٍ قال له: إن هذا العلم لا يقرأ كما يقرأ الحديث للرواية، وإنما يقرأ شيئًا شيئًا للدراية، فإن أردت أن تقرأه كما قرأناه، وإلَّا فاتركه)! ..
(2)
تقدّم قبل قليلٍ أنَّ مذهب أهل السنَّة المجمع عليه هو إثبات الصفات لله تعالى على حقيقتها، وهنا فسّر المحبة بالإرادة، وهي مستمسك كلِّ المتأولين المانعين من قيام الصفات الفعلية بذات الباري جل جلاله، ثمّ ذكر أن الإرادة متجددة، والله تعالى أزليّ، والناتج أن المتجدّد لا يقوم في الأزلي، وهذا الكلام باطل؛ لأنَّ قدم الإرادة وأزليتها لله تعالى حقّ لا شك فيه، ولكنّ قدمَها لا يدلّ على قدم المُرادات، بل المرادات حادثة، والإرادة أزليَّة تحدث في المستقبل متى أراد الله تعالى كما قال: (إنما أمره إذا أراد شيئًا
…
) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (إنه لم يزل مريدًا بإراداتٍ متعاقبة، فنوع الإرادة قديم، وأما إرادة الشيء المعيَّن فإنما يريده في وقته، وهو سبحانه يقدِّر الأشياء ويكتبها ثم بعد ذلك يخلقها، فهو إذا قدرها علم ما سيفعله وأراد فعله في الوقت المستقبل لكن لم يرد فعله في تلك الحال فإذا جاء وقته أراد فعله فالأول عزم والثاني قصد.) مجموع الفتاوى (16/ 303). ومسألة تجدُّد بعض الصفات -وهي الصفات الاختيارية الفعلية- من محارات النُظَّار، كما قاله شيخ الإسلام قبل كلامه السابق، وذكر أنه ورد في القرآن أكثر من عشر آياتٍ فيها إثبات تجدُّد علم الباري جل جلاله، مع إثبات علمه السَّابق الأزليِّ. انظر مجموع الفتاوى (12/ 66).
وهو -تعالى- لا أوَّلَ له (1).
(وازهد فيما عند النَّاس) منها (يحبَّكَ النَّاسُ) حتَّى الجنُّ؛ لأنَّ قلوب أكثرهم مجبولةٌ مطبوعَةٌ عَلى حُبِّ الدُّنيا، ومن نازع إنسانًا في محبوبِه كرِهه وقَلَاه، ومن لم يعارِضه فيه أحبَّه واصطفاه؛ ولهذا / [125/ب] قال الحسن:(لا يزال الرَّجُل كريمًا على الناس حتى يطمعَ في دنياهم فيستخِفُّون به ويكرهون حديثه)(2).
وقيل لبعض أهل البصرة: - (من سيِّدُكم؟ قال: الحسن، قيل: لم؟ قال: احتاجوا لعلمه، واستغنى عن دنياهم)(3).
وقال ابن عطاء الله (4): (الزهد فيما في أيدي النَّاسِ سببٌ لمحبة الخلق، والزهد فيما سوى الله سببٌ لمحبة الحقّ، فَمَن أحبَّ العطاء من الخلق دلّ على بعده من الله، فالعطاء منهم حِرمانٌ، والمنعُ منه (5) إحسان، وحُكِيَ عن روح الله عيسى عليه الصلاة والسلام أنه لقي في سياحته قبيل الصبح رجلًا نائمًا فوكزه برِجله وقال: قُم، فقدْ سبقك العابدون، فقال: دعْني يا روحَ الله فإنِّي عبدته بأحبِّ العبادة إليه، فقال له: ما هي؟ قال: الزهدُ في الدنيا، فقال عليه السلام: نَمْ نَومَة العروس في خدرها فقد فُقْتَ
(1) المواقف (2/ 162). وانظر هذا الكلام في سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد لمحمد الصالحي الشامي (1/ 466). وهو ناقلٌ عن غيره أيضًا.
(2)
فيض القدير (1/ 481).
(3)
انظر: كشف المشكل (3/ 142) ، وصيد الخاطر (509).
(4)
ابن عطاء الله السكندري هو أبو الفضل أحمد بن محمد بن عبد الكريم الشاذليّ، قال عنه ابن حجر:(صحب الشيخ أبا العباس المرسي، صاحب الشاذليّ، وصنف في مناقبه، ومناقب شيخه، وكان المتكلِّمَ على لسان الصوفية في زمانه، وهو ممن قام على الشيخ تقي الدين ابن تيمية فبالغ في ذلك). ومن تلاميذه تقي الدين السبكي، ومن أشهر كتبه (الحكم العطائية). توفي سنة (709 هـ). انظر: الدرر الكامنة (1/ 324).
(5)
في (ب): منهم.
العابدين) (1).
وفي الحديث دليلٌ على أنَّ الزهد أعلى المقامات وأفضلُها مطلقًا؛ (2) لأنه جعله سببًا لمحبة الله، وأن مُحِبَّ الدنيا متعرّضٌ لبُغضِ اللهِ تعالى (3).
خاتمةٌ: قالوا: الزهدُ يجتمع به خير الدنيا والآخرة، أما خير الدنيا فما يحصل من البركة وراحة القلب والبدن، وأما الآخرة فما يحصل من ثواب الزهد فيها وقلَّة الحساب، فإن الزهد يحملُه على إخراج الواجبات والتوقُّف في الشبهات وهي السَّعادة التامة.
قال العارف أبو الحسن الشاذليُّ (4): دخل عليّ بالمغرب بعض الكُبراء فقال ما أدري لك كبيرَ عملٍ فَبِمَ فُقْتَ الناس وعظَّموك؟ قلتُ: بخصلةٍ واحدةٍ افترضها الله على نبيِّه تمسَّكْتُ بها: الإعراضُ عنهم وعن دنياهم، قال تعالى:{فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا} (5)، وفي تركها الرَّاحةُ من الخواطر الرديَّة والتذلّل لها.
سئلَ السَّيِّدُ الجليل معروفٌ الكرخيُّ (6) عن الطَّائعين بِمَ قدروا على الطاعة؟ قال:
(1) لم أقف عليه.
(2)
بل أعلى المقامات وأفضلها مطلقًا: هو مقام توحيد الله تبارك وتعالى، الذي من أجله خلق الله السماوات والأرض وما بينهما.
(3)
في الأصل: (متعرِّضٌ لمحبَّة الله) وهو خطأ، والمثبت من (ب).
(4)
هو أبو الحسن علي بن عبد الله الشاذلي المغربي الزاهد الصوفي، إليه تنتسب الطريقة الشاذلية، وسكن مدينة (شاذلة) التونسية، ويعتبر الشيخ أبو العباس المرسي أبرز أتباعه، وتوفي (656 هـ) انظر: العبر في خبر من غبر (3/ 282). ولشيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله مصنّفٌ كبيرٌ طُبِع أخيرًا طبعةً كاملةً بعنوان: (الرَّد على الشَّاذليِّ في حزبيه، وما صنَّفه في آداب الطريق) يقع في 250 صفحة، وهو جوابٌ عن استفسارٍ جاءه في بعض أوراد حزب الشيخ أبي الحسن الشاذلي.
(5)
سورة النجم: (29).
(6)
معروف الكرخيُّ أبو محفوظ البغداديّ، واسم أبيه فيروز، وقيل: فيرزان، من الصابئة، قال فيه الذهبيّ: علم الزهاد، ذُكِرَ معروفٌ عند الإمام أحمد، فقيل: قصير العلم، فقال: أمسك، وهل يراد من العلم إلَّا ما وصل إليه معروفٌ! . مات سنة (200 هـ). انظر: تاريخ بغداد (15/ 263) سير أعلام النبلاء (9/ 340).
بإخراج الدنيا من قلوبهم (1).
والزهدُ أعمّ من الورِع؛ لأنَّه إبقاء البعض، والزهد قطعُ الكلّ، هذا كلُّه في مقام شهود الفرق، أما إذا لاحت أنوارُ مشاهد الجمعِ، وكُشِفَ به أسرارُ كلِّ ذَرَّة، وما انطوت عليه من الحكم الإلهيَّة، فيغتبطُ بكل ما زهِد فيه لشهود حكمة الصانع في مصنوعاته، وإشراقِ أنوار التجَلِّيْ في مِرآته، ويكون مقام الزهد حينئذٍ حسِّيًا لا يُلتفت إليه؛ لأن الدنيا جيفةٌ، / [126/أ] فكيف يتقرب إلى الله -تعالى- بِجِيفةٍ؟ ومن شهد عظمة المشهود فهو مَلَكٌ، ولا يقال في حقّ مَلَكٍ: إنَّه زَهِدَ في جيفةٍ، ولهذا قال بعضهم: إنْ أردت أن تَسْعدَ؛ ففي زهدك فازهدْ.
وهذا (حديثٌ حسنٌ) وصحيحٌ أيضًا؛ فقد صحَّحه الحاكمُ في المستدرك (2)(رواه ابن ماجهْ)(3) الحافظُ الكبيرُ محمَّدُ بن يزيدَ الرَّبَعِيُّ (4) مولاهم، القزوينيُّ (وغَيرُهُ) كالطبرانيِّ في معجمه الكبير (5)(6) ، [والحاكمِ في مستدركه، والبيهقيِّ (7) وغيرهم، كلُّهم عن صحابيِّه
(1) ذكره ابن الجزري في الزهر الفاتح في ذكر من تنزه عن الذنوب والقبائح (ص 87).
(2)
المستدرك (4/ 348).
(3)
سنن ابن ماجه، كتاب الزهد، باب الزهد في الدنيا (2/ 1373، 4102).
(4)
قال في اللباب في تهذيب الأنساب (2/ 15): الرَّبَعِيُّ: بفتح الراء والباء وفي آخرها عين مهملة.
(5)
المعجم الكبير (6/ 193).
(6)
جاء في هامش نسخة الأصل نقلٌ طويلٌ منقولٌ عن العلَّامة ابن عَلَّان رحمه الله وهو: (وابن حبَّان في (روضة العقلاء) له، والسخاويُّ قال: رواه ابن ماجه، عن أبي عبيدة بن أبي السفر عن شهاب بن عبادة، ورواه ابن حبَّانَ عن محمَّد بن أحمد بن المسيب، عن يوسف بن سعيد بن مسلم، ورواه الحاكم في الرِّقاق من مسند
…
عن أبي بكر محمد بن جعفرٍ الآدميِّ، عن أحمدَ بن عبيد بن ناصِحٍ، ورواه الطبراني عن عليِّ بن عبد العزيز البغويِّ، عن أبي عبيدٍ القاسم بن سلَّام، أربعتهم: عن خالد بن عمروٍ القرشيِّ، وقال الحاكم: إنَّه صحيح الإسنادِ، وليس كذلك؛ فخالدٌ مجمعٌ على تركه، ضعَّفه أحمدُ وابنُ معينٍ والبخاريُّ في آخرين، ونسبه أحمدُ وابنُ معين وآخرون إلى وضع الحديث، نبَّه على ذلك الحافظ السخاويُّ في تخريج أحاديث المتن، وقال الحافظ ابن حجرٍ في تخريج أحاديثها أيضًا بعد كلامٍ ذكره في إسناد الحديث ما لفظه: فالظَّاهر أنَّ الحديثَ الذي أوردناه آنفاً لا يصح ولا يطلق على إسناده أنَّه حسنٌ. انتهى. أفاد ذلك كلَّه الشيخ محمد علي عَلَّان في شرح رياض الصالحين). وهو في دليل الفالحين (4/ 403).
(7)
شعب الإيمان (13/ 115).
المذكور] (1).
وأشار بقوله: (بأَسَانيدَ حَسَنةٍ) إلى أنَّه صحيحٌ لغيره؛ (2) فإنَّ الأسانيدَ إذا كانت حسنةً ارتقى الحديث بها من درجة الحسن إلى درجة الصحة فيحكم له بها؛ ولذلك صحّحه الحاكم (3).
(1) ما بين معقوفتين زيادةٌ من (ب).
(2)
هذه العبارة: (بأسانيد حسنة) ونحوها: للإمام النَّوويِّ رحمه الله استعمالٌ خاصٌّ له؛ فإنَّه أحيانًا يطلق هذه العبارة الدَّالَّة على تعدّد الطرق بما له طريقٌ واحدٌ، وهذا نبَّه عليه الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله في نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار، كما نقل عنه العَّلامة الألبانيّ في مقدِّمة تحقيق رياض الصالحين، انظر: ص (12 - 14) وقال: (ولم أرَ من تعرَّض للإجابة عنه، والذي يبدو لي: أنّه يشير بذلك إلى أنَّ الحديث مشهورٌ شهرةً نسبيَّةً بمجيئه من عدَّة طرقٍ عن أحد رواته). انتهى بتصرّفٍ يسير.
(3)
هذا الحديث أخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد، باب الزهد في الدنيا (2/ 1373، 4102) ، وابن عديٍّ في الكامل (2/ 902) والعقيليُّ في الضعفاء (2/ 10) والحاكم في المستدرك (4/ 348) وأبو نعيمٍ في الحلية (3/ 252) كلّهم من حديث عمرو بن خالدٍ القرشي، عن سفيان الثوري، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد مرفوعًا، وعمرو بن خالدٍ القرشي الأموي قال فيه الحافظ في التقريب (ص: 421): (متروكٌ ورماه وكيع بالكذب)، وانظر: المنتخب من العلل للخلَّال (37)، والعلماء على تضعيفه، وقال العقيلي:(ليس له أصلٌ من حديث سفيان الثوري)، وأما قول الحاكم:(صحيح الإسناد ولم يخرجاه) فقد تعقبه الذهبي بقوله: (خالد بن عمرو القرشي وضاع)، انظر: المستدرك (4/ 348)، وقال السخاويّ في المقاصد الحسنة (ص: 106): (قال الحاكم: إنَّه صحيح الإسناد، وليس كذلك، فخالدٌ مجمع على تركه بل نسب إلى الوضع)، وتابعَ خالدًا عليه: محمد بن كثيرٍ الصنعانيّ كما أخرجه قوام السنة في الترغيب والترهب (2/ 240)، ولعلَّه أخذه عنه ودلَّسه؛ لأن المشهور به خالدٌ هذا .. انظر: جامع العلوم والحكم (540 - 541) وتهذيب التهذيب (8/ 26 - 27). وعلى هذا فلا يصحُّ الحديث.
وهذا أحد الأحاديث الأربعة التي عليها مدار الإسلام، ومِن ثَمَّ قال المنذريُّ:(هذا الحديث عليه لامعةٌ من لوامعِ أنوار النبوة)(1).
وقد تضمَّن الحثَّ على التقلُّلِ من الدُّنيا فالنَّظرِ إليها بعينِ الحقارة؛ وذلك لِما تطابقتْ عليه المللُ والنِّحَلُ حتى من أنكرَ المعاد، فمِلاكُ هذا الدِّين وسلوكُ سبيل الناجين: الزُّهد فيها والإعراض عنها؛ ولهذا كان محطَّ نظرِ السَّلفِ الصَّالحِ: التَّجرُّدُ المطلقُ عن علائقها.
(1) الترغيب والترهيب (4/ 157) وتتمَّة كلامه: (ولا يمنع كون راويه ضعيفاً أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قاله).
[4 - عن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا ضرر ولا ضرار». حديثٌ حسنٌ، رواه ابن ماجهْ والدارقطنيُّ وغيرهما مسندًا، ورواه مالك في (الموطّإ) مرسلًا عن عمرو بن يحيى، عن أبيه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأسقط: «أبا سعيدٍ». وله طرقٌ يُقَوِّي بعضُها بعضًا].