الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثالث والثلاثون
«عَنْ» حَبرِ الأمَّة، مُفسِّرِ التنزيل، ومُبيِّنِ التأويل، أبي العباس «ابن عباسٍ، رضي الله عنهما [قال] (1): إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: لو يعطى النَّاس بدعواهم» أي: لو كان كلُّ من ادَّعى شيئًا عند الحاكم يُعْطاهُ بمجرَّدِ دَعواه بِلا بيِّنةٍ «لَادَّعَى» جوابُ (لو)، أي: لأخذ «رجالٌ» (2) جمعُ رجلٍ، وهو الذَّكر البالغ مِن بني آدم، وَذكَّرهم لَا لإخراجِ النِّساء؛ بل لأنَّ الدَّعوى غالبًا إنَّما تصدُر منهمْ، أو من باب الِاكتفاء بأحد القَبيلَيْنِ كـ {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} (3)، ، ويؤيِّده روايةُ:«لوِ ادَّعَى ناسٌ» (4)(أموالَ / [127/ب] قومٍ) هم جماعةُ الرجالِ ليسَ فيهمُ امرأةٌ.
(1) ما بين المعقوفين زيادة من (ب).
(2)
في هامش النسخة الأصليَّة من المخطوط قطعةٌ من شرح الهيتميِّ لهذا الحديث قال: (هم ذكور بني آدم، أو البالغون منهم، فإن قوبل بهم النساء أريد الأوَّل، أو الصبيان أريد الثاني، ولا يختص ذلك بهم على كل من هذين، وإنما ذكروا؛ لأن ذلك من شأنهم فحسب، ويؤيد ذلك رواية: "لادعى أناس". (أموال قوم) قيل: يخص الرجال، لقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} فذكرهن دليلٌ ظاهرٌ على أنَّ القوم لم يشملهن، وبه صرح زهير في قوله:
وما أدري ولستُ إخالُ أدري
…
أقومٌ آلُ حصنٍ أم نساءُ؟
وقيل: يعم الفريقين، إذ هما المراد في نحو:{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} وقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس بأرض قومي» ، ورُدَّ: بأن دخولهنَّ هنا ليس لغةً، بل لقرينة نحو التكليف في الآية، وحكمة التعبير بـ (رجالٍ) ثم (قومٍ) بناءً على أنَّه يعمُّهما: أن الغالب في المدَّعي أن يكون رجلًا، والمدَّعى عليه يكون رجلًا وامرأةً، فراعى في التغاير بينهما الغالب فيهما، وعلى ترادفهما فالمغايرة للتفنُّن في العبارة. حجر). وهو في الفتح المبين (529).
(3)
سورة النحل (81).
(4)
أخرجها ابن ماجه في السنن، كتاب الأحكام، باب البينة على المدَّعي (2/ 778، ح 2321).
قال الصَّغَانيُّ (1): (وربَّما دخل فيه النِّساء تبعًا ويذكَّر ويؤنَّث، والتعبير بـ (الرجال) في الأوَّل، و (القوم) في الثَّاني للتفنُّن، ودَفعًا لكراهة (2) تكرار أحدهما) (3).
قال الطُّوفيُّ: (ويحتمل على القولِ بأنَّ النِّساء يدخلْن في لفظ (القوم) أن يقال: لما كان الغالبُ أنَّ المدَّعي إنَّما يكونُ رَجلًا؛ -إذ المرأة ليْستْ مِن أهل الدَّعوى وحضور مجالس الحُكَّام، والمدَّعَى عليه يكونُ رجلًا وامرأةً، - قال:«لَادَّعَى رجالٌ أموالَ قومٍ» حَمْلًا عَلى الغالب) (4). انتهى.
وقوله: (المرأة ليْستْ مِن أهلِ الدَّعْوَى) أرادَ بها أنَّه لا يُناسِبُها ذلك.
«و» سفكوا «دماءهم» بِمُجَرَّدِ دَعْواهم فوَضَعَ (ادَّعَى) موضعَ (أخذ، وسفك) وضعًا للسببِ موضع المسبَّبِ (5)؛ لأنَّ الدَّعوى سببٌ للأخْذ والسَّفك، فامتناعُ كلٍّ: لِامتناعِ
(1) هو رضيّ الدّين أبو الفضائل الحسن بن محمّد بن الحسن العدويّ الصغَانيّ الأديب اللغوي المحدّث، كان من أفراد العلماء، عارفًا بالأخبار النبويّة واللغة العربية والمعاني الأدبيّة والزهد والعبادة، ولقَّب نفسه (الملتجئ إلى حرم الله) بعد أن جاور مكَّة، له كتاب مجمع البحرين، وكتاب العباب الزاخر، وكتاب درّ السحابة في وفيات الصّحابة، وكتاب مشارق الأنوار النبوية من صحيح الأخبار المصطفويَّة. انظر: معجم الأدباء لياقوت الحموي (3/ 1015)، ومجمع الآداب في معجم الألقاب لابن الفوطي (6/ 490).
(2)
في الأصل: (للكراهة). والمثبت من (ب).
(3)
انظر: اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح للبِرماوي (1/ 327).
(4)
التعيين (284).
(5)
هذا يسمُّونه في (علم البيان) من البلاغة (مجازًا مرسلًا) وهو: ما كانت العلاقة بين ما استعمل فيه وما وضع له ملابسةُ غيرِ التشبيه، وعلاقته في هذا الحديث السببيّة، وهو:(تسمية المسبَّب باسم السَّبب) أي: استعمل لفظ (الادِّعاء) وهو السَّبب، موضع المسبّب وهو (الأخذ والسفك)، مثل إطلاق العرب (اليد) على النعمة، لأنَّ من شأنها أن تصدر عن الجارحة، انظر: بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح (3/ 468).
الإعطاء بلا بيِّنةٍ، كما هو شأن (لو) فإنَّها لامتناع الثَّانيْ -أعني الجزاءَ- لامتناع الأوَّل (1)
-أعْني الشَّرط- (2).
وذَكَرَ الأموالَ قبل الدِّماء مع كونِها أعظمَ خطرًا، -بدليلِ حديث: «أوَّل ما يُقْضَى بين
(1) في هامش النسخة الأصليَّة من المخطوط قطعةٌ من شرح الهيتميِّ لهذا الحديث وهي قوله: ("لو" حرف امتناعٍ لامتناعٍ؛ أي: يقتضي امتناع الجواب لامتناع الشرط؛ كما دلَّ عليه جمهور النُّحاة، أو لما كان سيقع لوقوع غيره، كما دل عليه كلام إمامهم سيبويه، وعليه فلا إشكال؛ لأنَّ دعوى رجالٍ أموال قومٍ كان سيقع لو وقع إعطاء الناس بدعاويهم، وكذا لا إشكال على الأوَّل أيضًا وإن كان وقع دعوى بعض الناس مال بعضٍ، سواءٌ أعطوا بدعاويهم أم لا؛ لأن المراد بدعوى الرجال أموالَ قوم: إعطاؤُهم إيَّاها ودفعها إليهم؛ أي: لو يعطى الناس بدعواهم لأخذ رجال أموال قومٍ وسفكوا دماءهم، فوضع الدعوى موضع الأخذ؛ لأنَّها سببه، ولا شكَّ أنَّ أخذ مال المدَّعى عليه ممتنعٌ، لامتناع إعطاء المدَّعي بمجرَّد دعواه، وكذلك أخذه كان سيقع لو وقع إعطاء المدَّعي بدعواه، ولا يقع بدون ذلك، فصح معنى (لو) هنا على القولين). الفتح المبين (529) ..
(2)
هذه العبارة مشتهرةٌ بين النحاة، وهي: أنَّ (لو) امتناعٌ لامتناعٍ، وانتقد ذلك ابن هشامٍ في كتاب (قواعد الإعراب): واختار أن يقال: (لَو: حرفٌ يقتضي امتناعَ ما يليه، واستلزامَه لتاليه) فهي تقتضي امتناعَ ما يَليه -الذي هو الشرط- ولكن لا تقتضي امتناع تالِيه -وهو جواب الشرط-، لكن تستلزمه، فقد تمنعه: إن لم يكن للجواب سببٌ غير الشرط، مثل هذا الحديث:(لو يعطى الناس بدعواهم) فيمتنع الإعطاء الذي هو الشرط، ويمتنع الجواب الذي هو الادِّعاء؛ لأنَّ الإعطاء له سببٌ واحدٌ وهو البيّنة بشروطها، ولكن إن كان للجواب سببٌ غير الشرط فلا تقتضي امتناع الجواب مثل قولي:(لو كانت الشمس طالعةً كان الضوء موجودًا)؛ إذ للضوء أسبابٌ غيرَ الشمس، فلا يصحُّ القول في (لو) في هذا المثال:(امتناعٌ لامتناعٍ)، فإطلاقها هكذا فيه نظرٌ لا يخفى، وقد وصف ابن هشامٍ تعريفهم: بأنَّها عبارة فاسدةٌ، ولذا كان حدُّ سيبويه لـ (لو):(حرف يدلُّ على ما كان سيقع لوقوع غيره). انظر: الكتاب لسيبويه (4/ 224)، ومُوصّل الطلَّاب إلى قواعد الإعراب لخالد الأزهريِّ (233 - 238). والإعراب عن نظم قواعد الإعراب لعبد الله الفوزان (108 - 109).
النَّاس يوم القيامة في الدِّماء»؛ (1) - لأنَّ الخُصوماتِ فِيْ الأموالِ أَكْثرُ، وامتدادَ الأيديْ إليها أعَمُّ، ولهذا ترى الإنسان يَسرِقُ ويَغصِبُ ويَنهَبُ في عُمُرِه ألفَ مرَّةٍ، ولعلَّهُ لا يقتل أحَدًا، وإن قتل فواحدًا أوِ اثنينِ.
«لكِن» هي هُنا -وإن لم تأت لفظًا على قانونها من وقوعِها بين نفيٍ وإثباتٍ حتَّى يصحَّ معنَى الاستدراك الذي هو مُؤدَّاها-: جاريةٌ عليه تقديرًا، فهو استدراكٌ معنوِيٌّ (2)، أي: لا يُعطَونَ بِدَعواهم بِلا بيِّنةٍ، لكنْ بالبيِّنة.
و«البيِّنةُ عَلى المُدَّعِيْ» لِضَعْفِ جانبه بدعْواه خِلافَ الأصْلِ، فجعلت البيِّنةُ لكونها حجَّةً قويَّةً (3) لبُعدِها عن التُّهمة في جانبه تقويةً له، والمدَّعِيْ: مَن يذكر أمرًا خفيًّا يخالف الظَّاهرَ (4)، والمدَّعَى عليه: عكسُه (5).
«واليمينُ على منْ أَنْكَرَ» لقوَّة جانبه لموافقته الأصل، وهو براءةُ ذمته، فجُعِلَت اليمينُ
(1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الديات، باب، (9/ 2، ح 6864). ومسلمٌ في كتاب القسامة، باب المجازاة بالدماء في الآخرة، (3/ 1304، ح 1678).
(2)
انظر: التعيين للطوفي (285)، ومغني اللبيب (ص 358)، وفتح القريب المجيب (1/ 530).
(3)
انظر فائدةً مهمة في تعريف البيِّنة وما حصل للمتأخِّرين من أغلاطٍ في فهمها: أعلام الموقِّعين (1/ 194) -الذي (لم يؤلَّف مثلُه في حكمة التشريع، ومسائل الاجتهاد والتقليد) قاله محمد رشيد رضا في مجلَّة المنار 12 (1909) -وخلاصة كلام ابن القيِّم: أنَّ (البينة في كلام الله ورسوله وكلام الصحابة اسمٌ لكل ما يبيِّن الحق، فهي أعمُّ من البينة في اصطلاح الفقهاء، حيث خصُّوها بالشاهدين أو الشاهد واليمين، ولا حَجْرَ في الاصطلاح ما لم يتضمَّن حَمْلَ كلام الله ورسوله عليه، فيقع بذلك الغلط في فهم النصوص، وحملها على غير مراد المتكلم منها، وقد حصل بذلك للمتأخرين أغلاطٌ شديدة في فهم النصوص).
(4)
وقصدهم بالظَّاهر هو: براءة الذمة. مغني المحتاج (6/ 446).
(5)
هذا الضابط عند الشافعية؛ والشارحُ شافعيٌّ فاكتفى بتعريفهم، ولهم ضابطٌ آخرُ فيه، فقالو: المدَّعِيْ: من لو سكتَ خُلِّيَ ولم يطالَبْ بشيءٍ، والمدَّعَى عليه: مَنْ لا يخلَّى ولا يكفيه السُّكوتُ. انظر: مغني المحتاج (6/ 446)، وكِفاية الأخيار في حلِّ غاية الِاختصار (570).
-لِكونها حجَّةً ضعيفةً لقرْبِها من التُّهمة- في جانبه فتعادَلَا (1)، وعُرِّفَ (المدَّعيْ) دون (المنكِر)؛ لأنَّ المدَّعِيَ: مَنْ يذكُر أمرًا خفيًّا، والمدَّعى عليه: من يذكُر أمرًا ظاهرًا، والموصول أظْهر من المعرَّف؛ لاشتراط كون صلته معهودةً (2) فأُعطي الخفيُّ للخفيِّ، والظَّاهرُ للظَّاهرِ (3).
ذكَرَه الشارح الهيثميُّ (4)، وهو أوضح من قول الطُّوفِيِّ: / [128/أ](عرَّفه، لأن فيه نوعَ تعريفٍ معنويٍّ لظهوره بإقدامه على الدَّعوى، وأمَّا (المنكِر) ففيه نوع تنكيرٍ لاستخفائه بتأخُّرِه، فأتى فيه بـ (مَنْ) مِنْ حيث أتى فيها إبْهامٌ وتنكيرٌ مناسبٌ لحالِه، قال: (ويحتمل
(1) ولذا قال ابن القيّم: (الذي جاءت به الشريعة: أنَّ اليمين تشرع من جهة أقوى المتداعيين). أعلام الموقعين (1/ 213).
(2)
توضيح ذلك: أن (مَن) في قوله: (على من أنْكَرَ) موصوليَّة، ويشترط لاسم الموصول (اسميًّا أو حرفيًّا) أن تكون بعده ما يسمّى بـ (صلة الموصول)، وهي إمّا جملةٌ (كما في هذا الحديث) أو شبهُ جملةٍ نحو:(جاء الذي في الدار أبوه) ويشترط إذا وقعت الصلة جملةً: أن تكون خبريَّةً معهودةً -أي: معروفة- للسامع من قبلُ حتى يتعرَّف بها اسم الموصول، انظر: شرح ابن عقيل (1/ 147)، دليل السالك (1/ 132).
(3)
يذكر النُّحاة في باب المعارف: أنَّ أقواها (الضمائر)، ثمَّ (العلم)، ثمَّ اسم (الإشارة)، ثمَّ (الموصولات)، ثمَّ المعرَّف بـ (أل)، ولضبط هذا -مع زيادة نوعين آخرين من المعارف وهما: ما أضيف إلى واحدٍ من الأنواع الخمسة، ونداء النكرة المقصودة- نظم بعضهم -ونُسِبَ إلى جلال الدين صالح البلقيني: -كما في فتح رب البرية على الدرة البهية نظم الأجرومية، للباجوري، (ص 57) -:
إنَّ المعارفَ سبعةٌ فيها سهُلْ
…
(أنا)(صالحٌ)(ذا)(ما)(الفتى)(ابني)(يا رجلْ)
فاسم الموصول أعرف من المحلى بأل، لذا استخدم اسم الموصول (الظاهر) مع (المدَّعى عليه) لأنه أقوى، واستعمل المحلّى بأل (الخفيِّ) مع (المدَّعي) لأنه يدَّعي أمرًا خفيًّا، وهذا استنتاجٌ من العلَّامة الهيتمي رحمه الله وقال:(هذا عند التأمّل أوجَه ممَّا ذكره بعض الشرّاح فاعلمه). انظر: الفتح المبين (531).
(4)
انظر: الفتح المبين (531).
أن يجعل هذا السؤال دوريًّا (1) مردودًا؛ لأنَّه لو أتى بغير هذه العبارة لَقِيل: لِمَ لمْ يأتِ بغيرها) (2).
واستثنى الفقهاءُ من عمومِ كونها على (مَنْ أَنكَرَ): صورًا كثيرةً لِمُدرَكٍ يخصُّها، وقد أورد الشارح الهيتميُّ (3) هنا فروعًا كثيرةً على مذهب الشَّافعية، والفاكهيُّ (4) فروعًا كثيرة على مذهب المالكيَّة (5)، وذلك غيرُ جيِّدٍ، واللَّائقُ بالكُتُب الحديثيَّة: إنَّما هو ذِكْرُ مأخَذ كلٍّ من الأئمَّة المجتهدين على وجهِ الاِختصار، وأما محلُّ بَسطه: فكُتُبُ الفروع.
واعلم أنَّه قام الإجماعُ على استحلاف المدَّعَى عليه في المال (6)، واختلف في غيره:
فذهب الشافعيُّ (7) وأحمدُ (8) إلى وجوبها على كلِّ من ادُّعِيَ عليه في حَدٍّ (9)، أو طلاقٍ،
(1) قال في المصباح المنير (1/ 202): (دارت المسألة أي: كلما تعلقت بمحل توقف ثبوت الحكم على غيره فينقل إليه ثم يتوقف على الأول وهكذا) وقال الزَّبيديُّ في تاج العروس (3/ 170): وأنشد بعضهم:
مسألة الدَّور جَرتْ
…
بيني وبين من أُحبْلولا مَشِيبيْ ما جَفَا
…
لولا جفاه لم أشِبْ
(2)
التعيين (285 - 286).
(3)
الفتح المبين (530 - 534).
(4)
هكذا سمَّاه المصنِّف بالفاكهي، ويقال الفاكهاني، وكلُّه نسبةٌ إلى من يبيع الفاكهة، انظر:«لسان العرب» لابن منظورٍ (13/ 523)، وهو تاج الدين عمر بن عليّ الفاكهاني المالكيّ، أخذ عن ابن دقيقٍ، وبدر الدين ابن جماعة، وأبي الحسن القرافي، وله مؤلفات منها: ، المنهج المبين في شرح الأربعين، ورياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام الذي قال فيه ابن فرحون:(لم يسبق إلى مثله لكثرة فائدته) وتوفي سنة (731 هـ). انظر: الديباج المذهب لابن فرحون (2/ 81).
(5)
المنهج المبين في شرح الأربعين للفاكهي أو الفاكهاني (489).
(6)
انظر: الإجماع لابن المنذر (102). والمغني لابن قدامة (10/ 188).
(7)
انظر: الأمّ (6/ 51)، ومغني المحتاج (6/ 368).
(8)
انظر: مسائل الإمام أحمد رواية ابنه أبي الفضل (3/ 206)، والمغني لابن قدامة (10/ 211).
(9)
قوله: (في حدٍّ) أي: فيما له تعلّق بحقوق الآدميين، وهي:(اللِّعان، والقسامة، وحدّ القذف) ولا يقصد بها مطلق حدود الله تعالى؛ لأنَّ اليمين لا تشرع في الحدود المطلقة -كالزِّنا- بحالٍ، قال ابن قدامة:(ولا نعلمُ فيها خلافًا، لأنه لو أقرَّ ثم رجع عن إقراره قُبل منه، وخُلِّي من غير يمينٍ، فَلَأَنْ لا يستحلف مع عدم الإقرار أولى، ولأنه يستحبُّ ستره). انظر: مغني ابن قدامة (10/ 213)، وجواهر العقود ومعين القضاة والموقِّعين والشهود للمنهاجي (2/ 396).
أو نكاحٍ، أو عِتْقٍ، أو غيرها؛ أخذًا بظاهر عموم الحديث، فإنْ نَكَلَ (1) حلف المدَّعِي وثَبتتْ دعواه (2).
وقال الحنفيَّة: يحلف على النِّكاحِ والعِتقِ، فإنْ نَكَلَ لزمه ذلك كلُّه (3).
واتفق الثَّلاثةُ على: أنَّ اليمينَ يتوجَّهُ على كلِّ مَنِ ادُّعِيَ عليه حقٌّ، سواءٌ كان بينه وبين المدَّعِيْ اختلاطٌ أم لا، وشَرَطَ المالِكيَّةُ (4) -كالفقهاءِ السَّبعةِ (5)
فقهاءِ المدينة- في كونها
(1) قوله: (نَكَل)، من النكول، وهو: من نكل عن العدوّ، وعن اليمين أي: جَبُن، انظر: مصباح المنير (512). والنكول أحد الأبواب الخمسة التي تدور عليها الخصومات، وعليها مدار أبواب الدَّعاوى والبينات، وهي:(الدعوى، والجواب، واليمين، والنكول، والبيّنة)، انظر: مغني المحتاج (6/ 441). وذكر شيخ الإسلام ابن تيميَّة: (أنَّ ما نقل عن الصحابة في النكول وردّ اليمين أنَّه ليس بمختلفٍ، بل هذا له موضعٌ، وذاك له موضعٌ، فكلّ موضعٍ أمكن المدَّعي معرفته والعلم به فردَّ المدعى عليه اليمين: فإنه إن حلف استحقَّ، وإن لم يحلف لم يحكم له بنكول المدعى عليه). قال ابن القيم: وهذا أحسن ما قيل في النكول، وردِّ اليمين. انظر: أعلام الموقعين (4/ 393) وحاشية الرَّوض المربع لابن قاسم (7/ 545).
(2)
ووجه ذلك أنَّه سبق أنَّ اليمين تكون في أقوى الجهتين، فلمَّا ضعف جانب المدعى عليه حلف المدَّعي وقوي جانبه.
(3)
فمذهبهم هو: أنَّه لا يحلَّف إلا المدَّعى عليه وحده، وأنَّ اليمين لا تكون إلَّا في جانبه فقط، وهو مذهب طوائف من الفقهاء والمحدثين. انظر: تبيين الحقائق شرح كنز الدَّقائق (4/ 294) ، والفتح المبين للهيتميّ (535)، وأعلام الموقعين (1/ 213).
(4)
انظر: المدوَّنة (4/ 37) والتاج والإكليل لمختصر خليل (8/ 124) ومنح الجليل (8/ 314).
(5)
وهم: سعيد المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وخارجة بن زيد، وسليمان بن يسارٍ، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام -على قولٍ- وجُمعت في قول بعضهم:
ألا إنَّ من لا يقتديْ بأئمَّةٍ
…
فَقِسمتُه ضِيزى عن الحقِّ خارجهْ
فخذهم: عبيدُ الله عروةُ قاسمٌ
…
سعيدٌ أبو بكرٍ سليمانُ خارجهْ
انظر: تهذيب الأسماء واللُّغات للنوويِّ (1/ 173) ووفيات الأعيان (1/ 283) ، ونسب عبد القادر القرشي في الجواهر المضيّة في طبقات الحنفيّة (2/ 147) هذين البيتين إلى محمد بن يوسف ابن الأبيض الشهير بقاضي العسكر (ت 692 هـ) رحمه الله.
عليه: أن يكون بينهما اختلاطٌ؛ لئلّا تبتذلَ السفهاءُ الأكابرَ بتحليفهم (1).
ولهم تصرُّفاتٌ خصُّوا بها عمومَ الحديث فقالوا: مَن ادَّعَى شيئًا من أسباب القَوَد لم يجِبْ به يمينٌ إلَّا أن يُقِيمَ شاهدًا (2)، ومَنِ ادَّعى نكاحَ امرأةٍ لم يَلزمْها يمينٌ (3)، ومَن ادَّعتْ على زوجها طلاقًا لم يَلزَمْها يمينٌ (4)، إلى غير ذلك، وحسْبُك أنَّه رأيٌ في مقابَلَة النَّصِّ (5).
(1) قال ابن عبد البرِّ المالكيّ في الاستذكار (7/ 123): (وليس في شيءٍ من الآثار المسندة ما يدلُّ على اعتبار الخُلطة، وقال إسماعيل: إنَّما معنى قوله عليه السلام: (اليمين على المدَّعى عليه، والبينة على المدَّعي): أنَّه لا يقبل قول المدَّعي فيما يدَّعيه مع يمينه، وأنَّ المدَّعى عليه يقبل قوله مع يمينه إن لم يقم عليه بينة؛ لأنَّه أراد بذلك العموم في كلِّ من ادُّعيَ عليه دعوى أنَّ عليه اليمين، فجاء رحمه الله بعين المحال، وإلى الله أرغب في السلامة على كلِّ حال). وقال النوويُّ في شرح مسلم (12/ 3):(لا أصل لاشتراط الخلطة في كتابٍ ولا سنَّةٍ ولا إجماعٍ).
(2)
منح الجليل (9/ 158). والتاج والإكليل (12/ 12).
(3)
التاج والإكليل (5/ 229).
(4)
التاج والإكليل (8/ 234).
(5)
انظر: إحكام الأحكام لابن دقيقٍ مع حاشية الصنعانيِّ (4/ 445).
وهذا «حديثٌ حسنٌ» (1) وصحيحٌ أيضًا كما ذكر هو وغيره في موضع آخر (2)، وقال الحافظ ابن حجرٍ:(إسناده جيِّدٌ)(3).
(رواه) الإمامُ الجليلُ الحافظُ الكبيرُ المشهورُ بالفصاحةِ والبراعةِ (البيهقيُّ)(4)(5)[بفتح الباء والقاف](6) نسبةً إلى (بيهقٍ): قُرًى مجتمعةٌ بناحية (نَيْسابور)(7)، بلغت تصانيفه نحوَ الأَلْفِ، قال السُّبكيُّ:(ولم يتَّفِقْ ذلك لأحدٍ)(8).
واعتنَى بجمع نصوص الشَّافعيِّ (9) وتخريج أحاديثها، حتَّى قال إمام الحرمين (10): (ما من
(1) تعقَّب الفاكهانيُّ على النوويّ في هذا فقال في المنهج المبين (478): (جعله هذا الحديث حسنًا فيه نظر، بل كان ينبغي أن يذكر ما في الصحيحين ويقول: زاد البيهقيُّ وغيره من طريقٍ حسنٍ: ولكن البيّنة على المدَّعي).
(2)
شرح النووي على مسلم (12/ 3).
(3)
قال في البلوغ (ص 389): (إسناده صحيح).
(4)
هو أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى الحافظ أبو بكر البيهقي، وشيوخه أكثر من مائة شيخٍ، واشتغل بالتصنيف بعد أن صارَ أَوحد زمانه، وفارس ميدانه، وأحذق المحدثين وأحدَّهم ذهنًا، وأسرعهم فهمًا، وأجودهم قريحةً، وبلغت تصانيفه ألفَ جزءٍ، ولم يتهيَّأ لأحدٍ مثلها، وقال شيخنا الذهبيُّ: كان البيهقيُّ واحدَ زمانه، وفرد أقرانه، وحافظ أوانه، قال: ودائرته في الحديث ليست كبيرةً، بل بورك له في مرويَّاته، وحسُن تصرُّفُه فيها؛ لحِذْقِه وخِبْرتِه بالأبوابِ والرِّجال. انظر: طبقات الشافعية الكبرى (4/ 10).
(5)
السنن الكبرى (10/ 252).
(6)
ما بين معقوفتين زيادة في (ب).
(7)
نيسابور: هي إيران الشرقية الآن انظر: معجم البلدان (1/ 531)، والمعالم الأثيرة (ص: 108).
(8)
طبقات الشافعية الكبرى (4/ 10).
(9)
قال السبكي في طبقات الشافعية الكبرى (4/ 10): (وفي كلام شيخنا الذهبيِّ أنه أوَّلُ مَن جمع نصوص الشافعيِّ، وليس كذلك، بل هو آخر من جمعها، ولذلك استوعب أكثر ما في كتب السابقين ولا أعرف أحدا بعده جمع النصوص؛ لأنَّه سَدَّ الباب على من بعده).
(10)
هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمّد الجويني أبو المعالي الملقَّب بإمام الحرمين، برع في العلم كوالده، قال السبكي:(ولا يشكّ ذو خِبرةٍ أنَّه كان أعلم أهل الأرض بالكلام والأصول والفقه وأكثرهم تحقيقًا، بل الكلُّ مِنْ بحره يغترفون، وأن الوجود ما أخرج بعده له نظيرًا). وله المؤلَّفات النفيسة ومن أشهرها: نهاية المطلب ودراية المذهب، واختصرها بنفسه بكلامٍ كالنِّصف، ومعناه بالضِّعف! ، انظر: طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (5/ 169)
شافعيٍّ إلا وللشافعيِّ في عنقِه مِنَّةٌ، إلا البيهقيَّ فله عليه منَّة) (1).
(وغيره هكذا) أي: باللفظ المزبور (2)، (وبعضه) / [128/أ] أي: الحديث (في الصحيحين)(3) وبقيّة الكتب الستة (4)، ولفظهم: «لو يُعْطَى الناسُ بِدَعواهم لَادَّعَى
(1) انظر: تبيين كذب المفتري لابن عساكر (ص 266) ، وطبقات الشافعية الكبرى (4/ 10). وقد قال هذا إمام الحرمين مع أنَّه وقعت للبيهقيِّ مع والد إمام الحرمين (الشيخ أبي محمَّدٍ) حادثةٌ معروفةٌ، حين شرع أبو محمَّد في تأليف كتابه (المحيط) الذي عزم فيه ألا يتقيَّد بالمذهب، وإنما يعتمد على الأحاديث، وأصدر منه ثلاثة أجزاء اطَّلع عليها البيهقيُّ، وكتب له رسالةً عظيمةً يبيِّن له فيها أوهامه وأغلاطه فيما استند إليه من حديث، فشكر له الشيخ وأعرض عن تكميل الكتاب. انظر نصَّ الرسالة كاملةً في طبقات الشافعيَّة الكبرى (5/ 77). وفيها فوائد تربويَّةٌ بالغة. وطبعت في دار البشائر الإسلاميَّة بتحقيق فراس خليل.
(2)
وعدوله عن لفظ الصحيحين إلى لفظ البيهقيِّ: لأنَّ فيه فائدتين: الأولى: بيان أنَّ البينة على المدعي، والثانية: تفسير المدَّعى عليه بأنَّه المنكِر. انظر: منحة العلَّام (9/ 494).
(3)
صحيح البخاريّ، كتاب تفسير القرآن، باب إنَّ الذين يشترون بعهد الله (6/ 35، ح 4552)، ومسلم في كتاب الأقضية، باب اليمين على المدَّعى عليه (3/ 1336، ح 1711). بلفظ: «لو يعطى الناس بدعواهم، لادَّعى ناسٌ دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدَّعى عليه» .
(4)
أخرجه أبو داود في أبواب الأقضية، باب اليمين على المدَّعى عليه، (3/ 311، رقم 3619) والترمذي في أبواب الأحكام، باب ما جاء في أنَّ البيِّنة على المدَّعي (3/ 19، رقم 1342)، والنسائيُّ في كتاب آداب القضاة، باب عظة الحاكم على اليمين (8/ 248، رقم 5425) وابن ماجه في كتاب الأحكام، باب البيِّنة على المدَّعي واليمين على المدَّعى عليه (2/ 778، رقم 2321).
ناسٌ دماءَ رجالٍ وأموالهَم، ولكن اليمينُ على المدَّعَى عليه» (1).
والحديث قاعدةٌ عظيمةٌ من قواعدِ الشرعِ، وأَصلٌ من أصولِ الأحكام، وأعظمُ مرجعٍ عند التنازع والخصامِ (2)، حتى قال بعضهم: إنَّه فصلُ الخِطاب (3) المرادُ من قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} (4).
(1) هو بهذا اللفظ متفقٌ عليه بين الشيخين، وزعم الأصيليّ أنّه:(لا يصح قوله، ورفعه عن النبى صلى الله عليه وسلم، إنَّما هو من قول ابن عباس). حكاه عنه القاضي عياضٌ في إكمال المعلم (5/ 555) وردَّ عليه، وذكر ابن عبدالهادي في المحرر في الحديث (641):(أنَّ زعمه مردودٌ). وأمّا زيادة: (والبيّنة على المدَّعي، واليمين على منْ أنْكَر) فقد أخرجها البيهقيّ في السنن الكبرى (10/ 252) من طريق الحسن بن سهل حدثنا عبد الله بن إدريس حدثنا ابن جريج وعثمان بن الأسود عن ابن أبى مليكة، وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقاتٌ رجال الشيخين غير الحسن بن سهل، وهو ثقة، فقد أورده ابن أبى حاتم (1/ 2/17) وقال:(روى عنه أبو زرعة) .. ولم يذكر فيه جَرحًا ولا تعديلًا، لكن رواية أبى زرعة عنه توثيقٌ له؛ إذ هو لا يحدِّث إلّا عن ثقة، كما قاله الحافظ ابن حجرٍ في اللسان (3/ 396). انظر: إرواء الغليل (8/ 266).
(2)
انظر: المفهم للقرطبي (5/ 148)، وشرح النوويّ على مسلم (12/ 3)، وشرح الأربعين لابن العطَّار (161).
(3)
أخرجه الطبريُّ في تفسيره (20/ 50 - 51) عن شريحٍ وقتادةَ والشعبيِّ.
(4)
سورة ص (20). وفي هامش النسخة الأصليَّة: (فائدةٌ: قال بعض العلماء: إنَّ فصل الخطاب في قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} هو البيِّنة على المدَّعي واليمين على من أنكر. حج). وهو في الفتح المبين (536).
[6 - عنْ أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغيِّرهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فبِقَلبِهِ، وذَلِكَ أَضْعَفُ الْإيْمَانِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ].