المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحديث الخامس والثلاثون - شرح الأربعين النووية للمناوي حـ ٢٩ - ٣٥

[عبد الرؤوف المناوي]

فهرس الكتاب

- ‌الأهمية العلمية للكتاب:

- ‌أولًا: مكانة المؤلف العلمية:

- ‌ثانيًا: مكانة الكتاب العلمية:

- ‌الدِّراسات السَّابقة:

- ‌أولا: الكتاب المحقق:

- ‌ثانيًا: المؤلف رحمه الله تعالى:

- ‌تقسيم المشروع:

- ‌منهج التحقيق:

- ‌أولا تحقيق النص:

- ‌ثانيًا: ترتيب النص:

- ‌ثالثًا: عزو الآيات:

- ‌خامسًا: تراجم الرواة والأعلام:

- ‌الفصل الأوَّل: ترجمةٌ موجزةٌ للمؤلف

- ‌تمهيدٌ

- ‌المبحث الأوّل: اسمه وكنيته ونسبه ونسبته

- ‌المبحث الثاني: مولده ونشأته العلمية

- ‌المبحث الثالث: رحلاته العلمية

- ‌المبحث الرابع: شيوخه

- ‌المبحث الخامس: تلاميذه

- ‌المبحث السادس: مكانته العلمية، وثناء العلماء عليه

- ‌المبحث السابع

- ‌المطلب الأوَّل: عقيدته

- ‌أوَّلًا: بيان أنَّه رحمه الله على مذهب الأشاعرة في العقيدة

- ‌ثانيًا: بيان أنّه رحمه الله على مذهب أهل الطرق الصّوفية

- ‌المطلب الثاني: مذهبه الفقهيُّ:

- ‌المبحث الثامن: مؤلفاته

- ‌فمن الكتب الحديثيَّة وعلومها:

- ‌وألَّف أيضاً في الفقه عدَّةَ كتبٍ

- ‌وصنَّف في أصول الفقه عدَّة مؤلفات

- ‌وأما في السيرة النبوية، فله عدَّة مؤلفات

- ‌وألَّف في علم اللُّغة العربية وفروعها عدة مؤلفات منها:

- ‌وله مؤلَّفات في علوم أخرى متنوِّعة، منها:

- ‌المبحث التاسع: وفاته

- ‌الفصل الثاني: دراسة الكتاب

- ‌المبحث الأول: اسم الكتاب

- ‌اشتهر بين العلماء المترجمين:

- ‌المبحث الثاني: توثيق نسبته إلى مؤلفه

- ‌المبحث الثالث: سبب تأليف الكتاب، وموضوعه

- ‌المبحث الرابع: مكانة الكتاب العلمية:

- ‌أولاً: مكانة المؤلف العلميّة:

- ‌ثانياً: مكانة الكتاب العلميّة:

- ‌ثالثاً: ثناء بعض العلماء عليه:

- ‌المبحث الخامس: منهج المؤلِّف في كتابه في الجزء المحقق

- ‌المطلبُ الأوَّلُ: منهجه في تخريج الحديث، والحكم عليه:

- ‌المطلب الثاني: منهجه في شرح الحديث:

- ‌المبحث السادس: مقارنةٌ بين (شرح الأربعين النوويَّة) للمناويِّ الشافعيِّ (ت 1031 ه

- ‌المطلب الأوَّل: في الترجمة لراوي الحديث وذكر شيءٍ من مناقبه:

- ‌أوَّلًا: شرح الأربعين النووية للحافظ المناوي رحمه الله:

- ‌ثانيًا: جامع العلوم والحكم للحافظ ابن رجبٍ الحنبليِّ رحمه الله:

- ‌ثالثًا: المنهج المبين لأبي حفصٍ الفاكهانيِّ رحمه الله:

- ‌رابعًا: الفتح المبين لابن حجرٍ الهيتميِّ الشافعيِّ رحمه الله:

- ‌المطلب الثاني: في الجانب اللغويِّ:

- ‌أوَّلًا: شرح الأربعين النوويَّة للحافظ المناوي رحمه الله

- ‌ثانيًا: جامع العلوم والحكم للحافظ ابن رجبٍ الحنبليِّ رحمه الله:

- ‌ثالثًا: المنهج المبين لأبي حفصٍ الفاكهانيِّ رحمه الله:

- ‌رابعًا: الفتح المبين لابن حجرٍ الهيتميِّ الشافعي:

- ‌المطلب الثالث: في الصِّناعة الحديثيَّة ونقد المرويَّات:

- ‌أوَّلًا: شرح الأربعين النوويَّة للحافظ المناويِّ رحمه الله: لقد عُنِيَ المصنِّف بهذا الجانب، فمن ذلك قوله:

- ‌ثانيًا: جامع العلوم والحكم للحافظ ابن رجبٍ الحنبليِّ رحمه الله:

- ‌ثالثًا: المنهج المبين لأبي حفصٍ الفاكهانيِّ المالكيِّ رحمه الله:

- ‌رابعًا: الفتح المبين لابن حجرٍ الهيتميِّ الشافعيِّ رحمه الله:

- ‌المطلب الرابع: في الصناعة الفقهيَّة:

- ‌أوَّلًا: شرح الأربعين النوويَّة للحافظ المناويِّ الشَّافعيّ رحمه الله

- ‌ثانيًا: جامع العلوم والحكم لابن رجبٍ رحمه الله

- ‌ثالثًا: المنهج المبين لأبي حفصٍ الفاكهانيِّ رحمه الله:

- ‌رابعًا: الفتح المبين لابن حجرٍ الهيتميِّ الشافعيِّ رحمه الله:

- ‌المبحث السابع: موارده في كتابه في الجزء المحقَّق

- ‌المطلب الأوَّل: المصادر التي سمَّى المُناويُّ مؤلِّفيها، وفيه فروعٌ

- ‌الفرع الأوَّل: الكتب المؤلَّفة في الحديث وعلومه ما يلي:

- ‌الفرع الثاني: الكتب المؤلَّفة في الفقه ما يلي:

- ‌الفرع الثالث: الكتب المؤلَّفة في العقيدة ما يلي:

- ‌الفرع الرابع: الكتب المؤلَّفة في اللغة والغريب ما يلي:

- ‌الفرع الخامس: الكتب المؤلفَّة في التراجم ما يلي:

- ‌الفرع السادس: كتب عامَّة:

- ‌المطلب الثاني: مصادر اكتفى المُناويّ بتسمية مؤلفيها، ولم أهتدِ إلى الكتاب المراد:

- ‌المبحث الثامن: وصف النسخ الخطِّيَّة للكتاب:

- ‌المطلب الأول: وصف النسخة الأصل (ز)

- ‌من مميزات النسخة الأصل:

- ‌المطلب الثاني: وصف النسخة الثانية (ب):

- ‌الحديث التاسع والعشرون

- ‌الحديث الثلاثون

- ‌الحديث الحادي والثلاثون

- ‌الحديث الثاني والثلاثون

- ‌الحديث الثالث والثلاثون

- ‌الحديث الرابع والثلاثون

- ‌الحديث الخامس والثلاثون

- ‌الخاتمة، وفيها أهمُّ النتائج والتوصيات:

- ‌ثبت المصادر والمراجع

الفصل: ‌الحديث الخامس والثلاثون

‌الحديث الخامس والثلاثون

(عن أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم: لا تحاسدوا) خطابٌ لكلّ من يتأتَّى توجيْهُ (1) الخطاب إليه، أي: لا يحْسُدْ بعضكم بعضًا؛ فإنَّ الحَسَدَ حرامٌ شديدُ التَّحريمِ، وأصله:(تتحاسدوا)، حُذِفتْ (2) إحدى التاءين تخفيفًا (3).

وقد تطابقتِ المللُ، وتوافقَتِ النِّحلُ على ذمِّ الحسد وقُبحِه، وهو كما قال / [131/أ] الحَرالِّي: قلق النفس من رؤية النِّعمة على الغير (4)، وقال غيره: تمنِّي زوالِ نعمة المحسود (5)، وزاد الشارح الهيتميُّ: وعودِها إليك (6)(7)، وهي زيادةٌ مُضِرَّة، كيف وقضيته: أنَّه لو تمنَّى زوالَ نعمة الغيرِ (8) ولم يتَمَنَّ مع ذلك انتقالها إليه لا يكون مذمومًا، وهو باطلٌ، فلو اقتصر على ما ذكروه كان صوابًا.

(1) في (ب): توجُّه.

(2)

في الأصل: (وأحذفت).

(3)

وهذا الحذف لإحدى التاءين كثيرٌ في القرآن، منه قول الله:{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ} أي: تتنزَّل، وعلَّة الحذف: لأنَّه لما اجتمع المثلان ثقُل عليهم اجتماع المثلين، ولم يكن سبيلٌ إلى الادغام، فحذفوا إحدى التَّاءين جوازًا، انظر: شرح المفصَّل لابن يعيش (5/ 558) وهل المحذوف هي التَّاء الأولى -وهي تاء المضارعة-، كما يقول بعض الكوفيين، أو التاء الثانية كما هو مذهب سيبويه والبصريين؟ فيها خلافٌ تجده في الكتب المطوَّلة، انظر: الكتاب لسيبويه (4/ 476)، وشرح الكتاب للسيرافي (5/ 449)، وشرح الأُشموني على الألفيَّة (4/ 160).

(4)

ورد في نظم الدرر للبِقاعي (2/ 104) دون نسبةٍ إلى الحرَّاليِّ، وهو مغرمٌ بالنقل عن الحرَّاليِّ، فقد نقل عنه في (نظم الدرر) باسمه أكثر من ثمان مئةِ موضعٍ.

(5)

انظر: إكمال المعلم (3/ 185)، والإفصاح عن معاني الصحاح (2/ 44)، شرح النووي على مسلم (6/ 97).

(6)

في (ب): إليه.

(7)

الفتح المبين (551).

(8)

في (ب): (لو تمنَّى زوال نعمة المحسود الغير).

ص: 190

وإنَّما كان قبيحًا؛ لأنَّه اعتراضٌ على الله ومعانَدَةٌ له ومحاولةٌ لنقضِ ما فعله الحكيمُ -تعالى-، وإزالةُ فضله عنْ مَن أهلٌ له (1){أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (2).

وفيه قال بعضهم (3):

ألا قُلْ لمنْ بَاتَ لِيْ حاسدًا

أتدريْ على مَنْ أَسَأْتَ الأدَبْ؟

أسَأْتَ على اللهِ في فِعلِهِ

لأنَّكَ لَمْ تَرْضَ لِيْ مَا وَهَبْ

وقال المتنبي (4):

وأظلمُ أهل الظلم من بات حاسدًا

لمن بات في نعمائه يتقلَّب (5)

ووجه ظلم الحاسد: أنَّه يلزمه أن يحبَّ لمحسوده ما يحب لنفسه، وهو لا يحبُّ لنفسه زوال النعمة، فقد أسقط حقَّ محسوده عليه، ومن ثَمَّ جاءَ في عدَّة أخبارٍ وآثارٍ: «أنَّه يأكل

(1) كذا في النسختين، ولعل الصواب:(عن من هو أهلٌ له).

(2)

النساء: (54).

(3)

وهو المعافى بن زكريا النهرواني الجريري المعروف بابن طرارا، قال الخطيب البغدادي: ) وكان من أعلم الناس في وقته بالفقه، والنحو، واللغة، وأصناف الأدب). توفِّي سنة (390 هـ)، انظر: تاريخ بغداد (15/ 308) ، ومعجم الأدباء للحموي (6/ 2704) ، وفيهما البيتان، بل زاد الأوَّل ثالثًا.

(4)

هو أبو الطَّيِّب أحمدُ بن الحسين بن عِيدان -بكسر المهملة- السقا المتنبِّي - بتاء معجمة باثنتين فوقها، ثم نون ثم باء معجمة بواحدة - كما في الإكمال لابن ماكولا (7/ 238)، الشاعر المشهور، نشأ بالشام، وأقام بالبادية، وطلب الأدب وعلم العربية، ونظر في أيام الناس، وتعاطى قول الشعر في حداثته، حتى بلغ فيه الغاية، وأنهى فيه النهاية، وفاق فيه أهل عصره. توفّي سنة (354 هـ)، انظر: نزهة الألباء في طبقات الأدباء لابن الأنباري (ص: 219)، وفيات الأعيان (1/ 121).

(5)

الأمثال السائرة من شعر ابن المتنبي للصاحب ابن عبَّاد (ص 63).

ص: 191

الحسنات -أي: يُذهِبُها ويُحْرِقُها ويمحو أثرها -كما تأكل النَّار الحطب» (1)،

أي:

(1) أخرجه أبوداود-وتفرَّد به عن الستَّة- في سننه في كتاب الأدب، باب في الحسد، (4/ 276، ح 4903) وعبد بن حميدٍ في منتخَبه (ص 418) والخرائطيّ في مكارم الأخلاق (ص 339) وابن بشرانَ في أماليه (ص 310) والبيهقيّ في الآداب (ص 47) وفي الشعب (9/ 10) كلُّهم من طريق سليمان بن بلال، عن إبراهيم بن أبي أَسيدٍ - ضبطه ابن حِبَّان بفتح الهمزة وضمِّها، بينما ضبطه الحافظ ابن حجرٍ: بفتح الهمزة، - عن جدِّه، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إيَّاكم والحسدَ، فإن الحسد يأكل الحسناتِ كما تأكل النَّار الحطبَ - أو قال: العُشبَ» وسنده ضعيفٌ، فيه إبراهيم بن أبي أَسيد البرَّاد، قال أبو حاتم في الجرح والتعديل (2/ 88):(شيخٌ مدنيٌّ محلُّه الصدق)، وذكره ابن حبَّان في الثقات (6/ 10) وقال الحافظ في التقريب (رقم 153):(صدوقٌ). وجدُّه أيضًا مجهولٌ ولم يسمَّ، ولذا قال البخاريُّ في التاريخ الكبير (1/ 273) عن هذا الحديث:(لا يصحُّ). وضعَّفه الألباني في الضعيفة (4/ 375).

وأخرج ابن ماجه في السنن، في كتاب الزهد، باب الحسد، (2/ 1408، ح 4210) من طريق عيسى بن أبي عيسى الحناط، عن أبي الزناد، عن أنس، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:«الحسد يأكل الحسنات، كما تأكل النار الحطب، والصدقة تطفئ الخطيئة، كما يطفئ الماء النار، والصلاة نور المؤمن، والصيام جنة من النار» وعيسى الحنَّاط هو ابن ميسرة الغفاريّ كما في: موضح أوهام الجمع والتفريق (ص 146) للخطيب -خلافًا للبخاريِّ في التاريخ الكبير (6/ 404) - ولم يخرِّج له من الستَّة إلا ابن ماجه، خرَّج له هذا الحديث وآخر، وهو ضعيفٌ جدًّا، انظر: الجرح والتعديل لابن أبي حاتمٍ (6/ 289)، والضعفاء للعقيلي (3/ 392)، ولذا فالحديث لا يصحّ أيضًا، لكن نقل الشارح في فيض القدير (3/ 413) عن الحافظ العراقيِّ قوله:(سنده ضعيفٌ، وقال البخاريّ: لا يصحّ، لكنَّه في تاريخ بغداد بسندٍ حسن) اهـ. والمشار إليه هو ما خرَّج الخطيب في تاريخ بغداد (3/ 12) قال: أخبرنا الحسن بن أبي بكر، قال: أخبرنا عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم البغوي، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن حريقا البزاز، قال: حدثنا الحسن بن موسى الأشيب، قال: حدثنا أبو هلال، عن قتادة، عن أنس مرفوعًا

ومحمد بن الحسين لم أقف له على ترجمةٍ، وكذا عبد الله بن إسحاق البغوي، والظاهر ضعفُ هذا الطريق، فإنَّه لو صحَّ عن قتادة لوصلنا من طريق دواوين الإسلام، بدلًا من كتب التواريخ وتراجم الأعلام، وقد قعَّد الحافظ الذهبيُّ في الموقظة في علم مصطلح الحديث (ص: =

ص: 192

اليابسَ؛ لأنَّه يفضيْ بصاحبه إلى اغتيابِ المحسُودِ وشَتْمه، وقد يُتْلِفُ مالَه ويسعى في سفك دَمِه، وكلُّها مظالمُ يقتَصُّ منه في الآخرة، ويَذهب في عوضها حسناتُهُ، والله حكيمٌ لا يعْبَثُ، ولا يضعُ الشيء بغير محلِّه، فالحاسدُ كأنَّه نسبَ ربَّهُ إلى الجهل والسفهِ، ولم يَرضَ بقضائه، فليطلبْ ربًّا سِواه.

ويكفي الحاسدَ أنَّه في الدنيا: معاقبٌ بالغيظِ الدَّائم، وفي الآخرة: بإحباط الحسنات، وكفى (1) شاهدًا على قبحِ حاله قولُ المصطفى صلى الله عليه وسلم:«الحسد يُفسِد الإيمان كما يُفسد الصَّبِرُ (2) العسلَ» (3).

= 77) قاعدةً نفيسةً حيث قال: (فهؤلاء الحفَّاظ الثقات: إذا انفرد الرجل منهم من التابعين، فحديثه: (صحيح)، وإن كان من الأتباع، قيل:(صحيحٌ، غريبٌ)، وإن كان من أصحاب الأتباع، قيل:(غريبٌ، فردٌ)، ويندر تفردُّهم، فتجد الإمام منهم عنده مئتا ألفِ حديثٍ، لا يكاد ينفرد بحديثين ثلاثة! ومن كان بعدهم: فأين ما ينفرد به؟ ما علمته، وقد يوجد). أضف إلى ذلك أنَّ هناك كتبًا ذكر أهل العلم أنَّه لا تقبل مفاريدها، ومنها تاريخ الخطيب، وقد نظم ذلك العلَّامة عبد الله الشنقيطيُّ العلوي رحمه الله -صاحب مراقي السعود- في طلعة الأنوار مع شرحها هدي الأبرار ص (126) فقال:

وما نُمِيْ لـ (عَقْ) و (عَدْ) و (خَطْ) و (كِر)

وعق وخط وكر

و (مسندِ الفِردوسِ) ضِعفُهُ شُهرْ

أي: اشتهر ضعف ما تفردَّت به هذه الكتب من الأحاديث: الكامل لابن عديّ، والضعفاء للعقيلي، وتاريخا الخطيب وابن عساكر، ومسند الفردوس للديلميِّ، وهي قاعدةٌ أغلبيَّة والله أعلم.

(1)

في (ب): وكفاك.

(2)

الصَّبِر: بكسر الباء، هذا الدواء المر، وقد تسكَّن، فيقال: الصَّبرُ صبْرٌ، أي: مُرٌّ شديد المروارة، انظر: التلخيص في معرفة أسماء الأشياء لأبي هلالٍ العسكريِّ (ص: 409).

(3)

لم أقف على هذا مرفوعًا، وروي موقوفًا من كلام الحسن عنه، أخرجه اللَّالكائيّ في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (6/ 1092) من طريق يحيى بن أيّوب، قال: بلغه عن الحسن، من قوله:«الحسد يفسد الإيمان كما يفسد الصَّبِر العسل» وكلمة (الحسد) لم تتبيَّن للمحقِّق؛ لذا أثبت في المتن (الحِدَّة) وقال في الحاشية: (في الأصل غير واضح، ولعلَّها الحسد). وأمَّا من نسب الحديث لكتاب الفردوس للديلميِّ كالسخاويِّ في المقاصد الحسنة (ص 305)، والألبانيّ =

ص: 193

قال حُجَّةُ الإسلام: كفى بالحسد ذمًّا أنه يفسد الطاعات، ويبعث على الخطيئات، وهو الدَّاءُ العضال الذي ابتلي به كثيرٌ من العلماء، فضلًا عن العامَّة حتى أهلكهم، وحسبُك أنَّه -تعالى- أمر بالِاستعاذة من شرِّ الحاسد كما أمر بها من شرِّ الشيطان، ويكفيك في قبحه: أنَّه أوَّل ذنبٍ عُصِيَ اللهُ به؛ لأنَّ إبليسَ لم يحملْه على ترك السجود إلَّا الحسدُ، كما أنَّ قابيلَ لم يحمله على قتل هابيلَ إلَّا الحسدُ، وأمَّا حديث: / [131/ب] «لا

= في الضعيفة (8/ 21) - فقد دخل عليه -في ظنِّي- حديثٌ في حديثٍ، فحديث الفردوس للديلمي (2/ 114) من حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه، وهو بلفظ: «الغضب يفسد الإيمان

» وهو أيضًا في فوائد تمَّام (1/ 248)، وشعب الإيمان (10/ 531)، ولا يصحُّ؛ ففيه (مُخَيِّس) -بضمِّ الميم، وفتح الخاء، وتشديد الياء، كذا قيَّده الأمير أبو نصر ابن ماكولا في الإكمال في رفع الارتياب (7/ 170) وجوَّز كسر الميم وسكون الخاء مع تخفيف الياء- وهو ابن تميم، قال أبو حاتمٍ (8/ 442):(مجهولٌ).

والغريب أنَّ الشارح المناويَّ قال في التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 506) عن حديث الحسدِ: (فيه مجهولٌ)، مع أنَّه جزم هنا بنسبته! إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم! ، ولم يكن ينبغي الجزم بنسبته إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهذا الأمر من جملة ما عاب الإمامُ البيهقيُّ الإمامَ أبا محمَّدٍ الجوينيَّ -رحمهما الله تعالى- لمَّا كتب له الرسالة الشهيرة، فكان من كلام البيهقيِّ متحدِّثًا عن كيفيَّة التعامل مع الأحاديث الضعيفة:(فسبيله -أدام الله توفيقه-: يملي في مثل هذه الأحاديث: (رُويَ عن فلان)، ولا يقول:(رَوى فلان)؛ لئلَّا يكون شاهداً على فلان بروايته من غير ثبتٍ، وهو إن فعل ذلك وجد لفعله متَّبعاً؛ فقد: - أخبرنا أبو عبد الله الحافظ [أي: الحاكم النيسابوريّ] قال: سمعت أبا الوليد الفقيه، يقول: لمَّا سمع أبو عثمان الحِيريُّ من أبي جعفر بن حمدان كتابه (المخرَّج على كتاب مسلم)، كان يديم النظر فيه، فكان إذا جلس للذكر يقول في بعض ما يذكر من الحديث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول في بعضه: روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فنظرنا، فإذا إنه قد حفظ ما في الكتاب، حتى ميَّز بين صحيح الأخبار وسقيمها)) انظر: رسالة البيهقي للجويني (ص: 67)، وهي في طبقات الشافعيَّة الكبرى للسبكيِّ (5/ 77) وما بعدها. وانظر: المجموع شرح المهذّب (1/ 63) فقد عاب أيضًا ذلك على الفقهاء.

ص: 194

حسَدَ إلا في اثنتين» (1) فالمراد به فيه الغبطة، فالحسد حقيقيٌّ ومجازيٌّ، فالحقيقيُّ: تمنِّي زوال النعمة، والمجازيُّ: تمنِّي مثلها (2)، وتسمَّى غبطةً، وهو مباحٌ في الدّنيوي، مندوبٌ في الأخرويِّ.

فإن قيل: إذا وقع في خاطرِ إنسانٍ كراهة آخر بحيث بلغت به كراهته إلى أن تمنَّى زوال نعمته، لكنَّه لم يسمع (3) في ذلك، ولا أظهره له، ولا رتَّب عليه مقتضاه، كيف يأثم به والخواطر مرفوعةٌ عن هذه الأمة؟

قلنا: إذا لم يسترسل ولم يتسبَّب في تأكيد أسباب الكراهة المؤدِّية لذلك، وكان مع هذا التمنِّي بحيث لو تمكَّن من إزالته تلك النعمة لم يُزلها، ولم يسعَ في إخراجها عنه، وإنَّما عنده خاطرٌ لا يمكن دفعه فلا حرج عليه ،كما قال الحافظ العراقي (4).

قال: وقد رُوي في التَّمهيد عن الحسن: (ليس أحدٌ من ولد آدم إلا وخُلِقَ معه الحسد، فمن لم يجاوز ذلك إلى البغي والظلم لم يتبعه منه شيءٌ)(5) كما يشير إليه حديث: «إذا حسدتُمْ فلا تبغُوا، وإذا ظننتم فلا تحققوا» (6)،

وفي حديث آخر: «ثلاثةٌ لا يسلم منها

(1) أخرجه البخاريّ في صحيحه كتاب العلم، باب الاغتباط في العلم والحكمة (1/ 25، ح 73)، ومسلم في صحيحه كتاب صلاة المسافرين، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه (1/ 558، ح 266).

(2)

في الأصل: (تمنِّي زوال مثلها)! والمثبت من (ب) وهو الصواب.

(3)

في (ب): لم يسعَ.

(4)

طرح التثريب (5/ 255).

(5)

أخرجه ابن عبد البرِّ في التمهيد (6/ 124). والحسن هو البصريّ.

(6)

ذكره ابن عبد البرِّ في التمهيد (6/ 125) وقال: (روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسنادٍ لا أحفظه في وقتي هذا). وقد أخرجه الخطيب في المتفق والمفترق (3/ 1483)، وابن عديٍّ في الكامل (5/ 509)، وأبو بكر الشافعيّ في الغيلانيَّات (426) عن عبد الله بن سعيد المقبريّ عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا، وسنده ضعيفٌ جدًّا؛ لأنَّ عبد الله بن سعيدٍ متَّهم بالكذب، انظر: تهذيب التهذيب (5/ 237).

وضعَّف الحديث: عبد الحقِّ في الأحكام الوسطى (3/ 30)، وابن القطَّان في بيان الوهم والإيهام (3/ 489، 5/ 749). والألباني في الضعيفة (5/ 514).

تنبيه: عزا جماعة من أهل العلم الحديثَ إلى ابن ماجه كالحافظ ابن حجر في تسديد القوس -كما أفاده الألباني في غاية المرام (185) -، والسيوطيّ في الجامع الصغير وفي الكبير، مع أنّ الحديث الموجود في ابن ماجه (2222) من رواية محاربٍ عن جابر رضي الله عنه مرفوعًا بلفظ:«وإذا وزنتم فأرجحوا» دون باقي الحديث، وإذا كان ذلك كذلك فعزو الحديث بتمامه إلى ابن ماجه فيه نظرٌ لا يخفى.

ص: 195

أحدٌ: الطيرةُ، والظنُّ، والحسدُ، فإذا تطيَّرتَ فلا ترجعْ، وإذا ظننت فلا تحقِّق، وإذا حسدت فلا تبغِ» (1).

(ولا تناجشوا) بجيمٍ وشينٍ معجمتين، أي: لا ينجش بعضكم على بعضٍ بأن يزيد في المبيع لا لرغبةٍ فيه، بل لينخدع غيره فإنَّه حرامٌ؛ لأنَّه غشٌّ وخديعةٌ وتركٌ للنصح الواجب، واشتقاقُه من:(نجشْتَ الصيد) إذا أثرتَه، كأنَّ الناجش يثير كثرة الثمن بنجشه، ذكره الزمخشريّ (2).

(1) هذا الحديث بهذا اللفظ لم أقف عليه في كتب الحديث، ولكن له لفظ آخر مرويٌّ بطريقين: الأَوَّل: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عند أبي الشَّيخِ الأصبهانيِّ في كتاب التوبيخ والتنبيه (ص 44) من طريق شعبة عن محمد بن إسحاق عن علقمة بن أبي علقمة عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ:«في المؤمن ثلاث خصالٍ: الطيرة، والظن، والحسد، فمخرجه من الطيرة أن لا يرجع، ومخرجه من الظَّن أن لا يحقِّق، ومخرجه من الحسد أن لا يبغي» وفي إسناد الحديث من الكتاب سقطٌ أفاده محقِّق الكتاب، ومن هو علقمة بن أبي علقمة؟ وهل سمع من أبي هريرة؟ قال حسن الوائلي في نزهة الألباب في قول الترمذيّ وفي الباب (5/ 2814):(ولم أر تصريحًا لابن إسحاق، وعلقمة إن كان المدنيَّ فيبعد سماعه من أبي هريرة وإن كان غيره فاللَّه أعلم).

والطريق الثاني عند الطبرانيّ في الكبير (3/ 228) عن حارثة بن النعمان رضي الله عنه، وفيه إسماعيل بن قيس الأنصاري وهو ضعيفٌ -كما قاله الهيثمي في المجمع (8/ 78) - انظر: تاريخ الإسلام للذهبيِّ (4/ 582) وغاية المرام للألبانيِّ (ص: 185)، والمداوي لعلل الجامع الصغير وشرحي المناوي للغماريِّ (1/ 342).

(2)

الفائق في غريب الحديث (3/ 407).

ص: 196

وقال البيضاويُّ: هو تفاعُلٌ من النَّجْش (1)، وأصله الإغراء والتحريض، وإنما ذكره بصيغة التفاعُلِ؛ لأنَّ التُّجَّارَ يتعارضونَ في ذلك، فيفعل هذا لصاحبه على أن يكافئه بمثله (2).

وهذا النَّهي لا يقتضي الفساد (3) عند الشافعيِّ (4)،

فيحرمُ ويصحُّ، وأبطلَه بعض

(1) النجْش: بنونٍ مفتوحةٍ، وجيمٍ ساكنةٍ، انظر: مشارق الأنوار للقاضي عياض (2/ 5)، وشرح النووي على مسلمٍ (10/ 159)، وإرشاد السَّاري للقسطلاني (4/ 61)، وذكر الزبيديّ في تاج العروس (17/ 406): أنَّ تحريك الجيم لغةٌ.

(2)

تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة للقاضي البيضاوي (2/ 239).

(3)

مسألة اقتضاء النَّهي الفساد أفردها العلَّامة صلاح الدِّين العلائي الشافعي (761 هـ) بمصنَّفٍ نفيسٍ سمَّاه: (تحقيق المراد في أنَّ النهي يقتضي الفساد) قال في أوَّله: (فإنَّ مسألة اقتضاء النهي الفسادَ من مُهمَّات الفوائد، وأمَّهات القواعد؛ لرجوع كثيرٍ من المسائل الفرعيَّة إليها، وتخريج خلاف الأئمَّة في مآخذهم عليها، فعلَّقتها في هذه الأوراق مبسوطةً، وذكرت من المباحث ما هي به منوطةٌ). ص (271). ثمَّ قال في نهاية الرسالة: (هذه المسألة -وإن كانت جزئيَّةً- فهي من القواعد الكبار التي ينبني عليها من الفروع الفقهيَّة ما لا يحصى، وقد اضطربت فيها المذاهب، وتشعَّبت الآراء، وتباينت المطالب، ثمَّ إنَّ كلَّ الأئمة المجتهدين قد تناقض فيها قولهم، ولم يُطرِدوا أصلهم الذي اختاروه فيها، سوى الإمامِ الشافعيِّ ومن تابعه). ص (400).

(4)

مسألة حكم بيع النَّجش تكلَّم فيها الإمام الشافعيُّ في كتابه اختلاف الحديث (المطبوع ملحقًا بالأمِّ)(8/ 628) وبيَّن أنَّ هذا البيع يصحُّ مع المعصية، وأمَّا القاعدة الأصوليَّة وهي: أنَّ (النهي لا يقتضي الفساد) فلا يوجد نصٌّ للإمام الشافعيِّ رحمه الله تعالى فيها على هذا الإطلاق، ولكن أصحابَه عمدوا إلى نصوصٍ له في تطبيقات فرعيَّة، فاستنتجوا منها هذه القاعدة الأصوليَّة، وهذا الذي نسبه الشارح إليه -وهو أنَّه لا يقتضي الفساد، بقيده الذي سيأتي- تدلُّ عليه نصوصٌ من كلامه رحمه الله، منها ما قال الإمام في كتاب الرسالة -بعد ذكره لجملةٍ من الأنكحة المنهيِّ عنها-:(وكلُّ نكاحٍ كان من هذا لم يصحَّ؛ وذلك أنَّه قد نُهي عن عقده) .. الرسالة (347) وانظر أيضًا: (121، و 320) من كتاب الرسالة، وقد حكى الإمام المازريُّ في شرح البرهان:(أنَّ الأكثر من الفقهاء في هذه المسألة على دلالة النَّهي على الفساد، والأكثر من المتكلِّمين على أنَّه لا يدلُّ على الفساد، وأصحاب الشافعيِّ يحكون عنه القولين، فمنهم من نقل عنه ذهابه إلى أنَّ النهي يدلُّ على الفساد، ومنهم من استلوح من كلامٍ وقع له، مصيره إلى أنَّه لا يدلُّ على الفساد). انظر: تحقيق المراد في أنَّ النهي يقتضي الفساد للعلائي (290).

والذي حقَّقه العلائيّ أنَّ مذهب الشافعيِّ من خلال نصوص كلامه الصريحة هو: أنَّه يدلُّ على الفساد -إن كان النَّهيُ لعينه أو لوصفه اللَّازم له-، قال رحمه الله في تحقيق المراد (ص: 110) بعد نقله لجملةٍ من كلام الشافعيِّ من الرسالة وغيره- قال: (كلُّ هذا صريحٌ في أنَّ النَّهي عن الشيء لِعينه أو لوصفه الَّلازم يدلُّ على فساده

والظَّاهر من تصرُّفات الشافعيِّ وجمهور أصحابه -رحمة الله عليهم- أنَّ النَّهي على الوجه المشار إليه يدلُّ على الفساد، وأنَّ دلالته على ذلك من جهة الشَّرع لا من جهة اللّغة، وأنَّ ما نُهي عنه لغيره المجاورِ له لا يقتضي النَّهيُ فسادَه، وهذا هو المختار، وبالله التوفيق). وانظر: الفتح المبين في شرح الأربعين للهيتمي (550).

ص: 197

العلماء (1).

وتفسير النَّجْش بما ذُكر: هو ما عليه الأكثر، وقيل: المراد في الحديث النَّهي عن إغراء بعضهم بعضًا على الشرّ والخصومة، حكاه القاضي (2) وغيره (3).

(ولا تَباغَضُوا) أي: لا يُبْغضْ بعضكم [بعضًا](4)، أي: لا تتعاطوا أسباب البغض؛ لأنَّه قهرِيٌّ، كالحُبِّ لا اختيار للإنسان فيه، والبغض للشيء هو النُّفرة منه لمعنىً مستقبحٍ

(1) وإطلاق القول بأنَّ النهي يقتضي الفسادَ مطلقًا: هو مشهور مذهب الإمام أحمد، انظر: تحقيق المراد للعلائيِّ (ص 300). والكوكب المنير شرح مختصر التحرير لابن النَّجَّار الحنبليِّ (3/ 93 - 94) ، وقد نقل عن ابن مفلحٍ وأقرَّه ما يدلُّ على التفصيل، وانظر: مذكِّرة في أصول الفقه للشنقيطيِّ (322).

(2)

انظر: تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة للقاضي البيضاوي (3/ 261).

(3)

وممَّن حكاه الطيبي في الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3209). وكذا الهيتميُّ في الفتح المبين (553) قال: (ويصحّ أن يفسَّر النجش هنا بما هو أعمّ من ذلك؛ لأن النجش لغة: إثارة الشيء بالمكر والحيلة والمخادعة، وحينئذ فالمعنى: لا تتخادعوا، ولا يعاملْ بعضكم بعضًا بالمكر والاحتيال وإيصال الأذى إليه).

(4)

ما بين معقوفتين زيادةٌ من (ب).

ص: 198

فيه، وهو والكراهة متقاربان (1).

واعلم أنَّ التباغُضَ بين شخصين: إمَّا من الطرفين بأن يبغض كلٌّ منهما الآخر، أو من أحدهما بأن يبغض أحدهما صاحبه دون الآخر، فهي ثلاثُ صُوَرٍ، ثمَّ البغض فيهنَّ إمَّا لله، / [132/أ] أو لغيره.

والتباغضُ والبغضُ حرامٌ إلَّا في الله فإنَّه واجبٌ ومن كمال الإيمان (2)؛ لخبر: «من أحبَّ لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان» (3) فإنَّ عموم النَّهي عن التباغضِ مخصوصٌ بالبغض في الله، فهو محرَّمٌ خُصَّ بواجبٍ أو مندوب.

قال الطوفيّ: (ويثاب المتباغضان في الله (4) -وإن كان أحدهما مخطئًا-؛ لأنَّ الغرض أنَّ كلًّا منهما أدَّاه اجتهاده إلى اعتقادٍ أو عملٍ ينافي اجتهاد الآخر فيبغضه على ذلك،

(1) انظر: الفروق اللّغوية للعسكري (129).

(2)

كذا في الأصل، وهو الصواب، وفي (ب): ومن ذلك كمال الإيمان.

(3)

أخرجه أبو داود في كتاب السنة، باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه (5/ 60، رقم 4681) والبغويّ في شرح السنة (13/ 54) عن يحيى بن الحارث عن القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه، ويحيى بن الحارث هو الذِّماريُّ، أبو عمرو الشاميّ ثقةٌ، انظر: التقريب (7522)، والقاسم هو ابن عبد الرحمن أبو عبد الرحمن الشامي، تكلّموا فيه كثيرًا، قال فيه الحافظ في التقريب (5470):(صدوقٌ يُغرب كثيرًا)؛ لذا فما يتفرَّد به فهو ضعيف، وللحديث شاهدٌ أخرجه التِّرمذي في أبواب صفة القيامة، باب 60 (4/ 251، رقم 2521) وأحمد (24/ 399) من طريق أبي مرحومٍ عبد الرحيم بن ميمون عن سهل بن معاذٍ عن أبيه معاذِ بن أنس الجهنيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من أعطى لله تعالى ومنع لله، وأحبَّ لله، وأبغض لله، وأنكح لله فقد استكمل إيمانه» ولكنَّ الترمذيَّ قال فيه (منكرٌ)، وأبو مرحوم قال الحافظ في التقريب (4059) صدوق؛ لكن لعلَّه إلى الضَّعف أقرب؛ فقد ضعَّفه ابن معينٍ، وقال أبو حاتمٍ: يكتب حديثه ولا يحتجُّ به، وأقوى ما قيل في تعديله قول النَّسائيِّ:(أَرجو أنَّه لا بأس به) ولم أقف على معدِّلٍ له آخر، نعم ذكره ابن حِبَّان في الثقات (7/ 134) انظر: تهذيب التهذيب (6/ 308)، لذا فالمرجَّح ضعف الحديث، والله أعلم.

(4)

في (ب): (لله).

ص: 199

فهو معذورٌ عند الله.

وغالب فرق الأمَّة وطوائفها من هذا ما لم يتضمَّن بعضُها كفرًا (1)، وأكثرُ العقائدِ المختلفِ فيها بين الأمَّةِ اجتهاديٌّ (2)،

وما ذاك إلَّا كاثنين اختلفا في جهة القبلة فيصلِّي

(1) في (ب): (ما لم يتضمَّن بعضها بعضًا كفرًا) وفي شرح الطوفيِّ أوضح حين قال: (ما لم يتضمَّن رأْيُ بعضِها كفرًا أو فِسقًا بواحًا).

(2)

هذا الكلام فيه نظرٌ يتبيَّن بالوقفات الآتية:

الوقفة الأولى: أنَّ هذا الكلام مخالفٌ للحديث الصحيح المرويِّ من طرقٍ عند أبي داود (4596) والترمذيِّ (2640) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وعند ابن ماجه (3992) من حديث عوف بن مالكٍ، وعنده أيضًا من حديث أنس بن مالك (3993) عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النَّصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمَّتي على ثلاث وسبعين فرقة» وقال الترمذيّ: (حسن صحيح)، ولفظ حديث عوفٍ:«والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، واحدة في الجنة، وثنتان وسبعون في النار» ، قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: «الجماعة» . أفيعقل أن يكون الاختلاف بينهم في أمورٍ اجتهاديَّة سببًا لهم في استحقاقهم دخول النار؟ ! كلَّا، بل استحقُّوا هذا بارتكابهم مخالفاتٍ قطعيَّةٍ تخالف الشريعة المحمّدَيَّة، والطريقة النبويَّة.

الوقفة الثانية: أنَّ قوله (بالأكثر) -على إطلاقه- قد يشمل اختلاف أهل السُّنَّة مع الخوارج والرافضة والمعتزلة والجهمية والأشاعرة وغيرهم ممن خالفُوا الجماعة وحالفُوا الضلالة، أفيكون الاختلاف مع هؤلاء كاختلافنا في أمر القبلة هل هي في اليمين أو في اليسار؟ ! .

الوقفة الثالثة: أنَّ واقع الفرق في هذه الأمَّة يخالف ما ذكره الطوفيّ رحمه الله، آلاختلاف في توحيد الله تعالى بأنواعه من ألوهيَّةٍ وأسماءٍ وصفاتٍ، وفي مسائل الإيمان والوعد والوعيد، وكذا الاختلاف في أمر الصحابة، أفكلّ هذا من الاختلاف الاجتهاديِّ، الذي يكون كلٌّ من المختلِفَين معذورًا؟ !

الوقفة الرابعة: هذا الكلام فيه إبطالٌ لجهود السلف السابقين، ومن بعدهم من التابعين، أهل الخبر والأثر، والفقه والنظر: في محاربتهم أهل البدع وتبيين ضلالاتهم، والتحذير منهم، وهجرهم، والبراءة منهم، فهذا ابن عمر رضي الله عنهما يقول عن أهل القدر - كما في أوَّل حديثٍ من صحيح مسلم:«فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أنِّي بريءٌ منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر: لو أنَّ لأحدهم مثل أحد ذهبًا، فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر» . أفليس هؤلاء الذين أغلظ عليهم القول من فرق هذه الأمَّة؟ .

الوقفة الخامسة: من شروط صحة القياس عدم وجود الفارق، وقد ظهر أنَّ قياس اختلاف الفِرَق على الاختلاف في جهة القبلة قد تحقَّق فيه الفارق بين المقيس والمقيس عليه، وهذا قادحٌ من قوادح العَّلة، كما هو مقرَّر في مطوَّلات كتب الأصول انظر مثلًا: نفائس الأصول للقرافي (9/ 4100). على أنَّ الطوفيَّ رحمه الله قال أوَّلًا: (أكثر العقائد) ولم يقل: (كلّ العقائد) وأيضًا: اشترط ألَّا يتضمَّن رأي بعضها كفرًا أو فسقًا بواحًا، ولكن تعليقي على ما قد يتبادر إلى الأذهان من كلامه رحمه الله، مع أنَّ الرجل كان مشتهرًا بالتشيُّع، فقد ذكر ذلك كلٌّ من: الذهبيِّ في العبر في خبر من غَبَر (4/ 33) ، والصفديِّ في الوافي بالوفيات (19/ 43 (، وقال: (وقيل إنَّه تاب آخرًا من الهجاء والرَّفض) ، وابنِ رجبٍ الحنبليِّ في ذيل طبقات الحنابلة (4/ 409).

ص: 200

كلٌّ منهما إلى جهةٍ، فكلّ منهما يعتقد خطأ صاحبه، ويحرم عليه الاقتداء به، وهما معذوران مأجوران، ولا تحسبنَّ هذا قياسًا فاسدًا؛ إذ هو قياسُ أصلٍ على فرعٍ، وقطعيٍّ على اجتهاديٍّ) (1).

(ولا تدابروا) من الإدبار الإعراض المؤدِّي إلى التقاطع، أي: لا يَعْرِضْ بعضكم عن بعضٍ كراهةً فيه ونفرةً منه؛ لأنَّه يؤدِّي إلى تضييع ما يجب من حقوق الإسلام من الإعانة والنصرة ونحوهما.

وقال الطوفيُّ: (لا تلازُمَ بين التَّباغضِ والتَّدابر؛ إذ قد يُبْغضُ رَجُلٌ (2) آخَرَ عادةً ويوفِّيْهِ حقَّه، وقد يُعْرِضُ عنه أدبًا أو تأديبًا أوْ خوفَ تُهْمَةٍ (3)) (4).

قال الحافظ العراقيُّ: (ومعنى تباغضوا وتدابروا متداخلٌ متقاربٌ)(5)(6).

(1) التعيين في شرح الأربعين (298 - 299).

(2)

في (ب): الرجل.

(3)

ما بعد (أو خوفَ) لا يظهر في الأصل.

(4)

التعيين في شرح الأربعين (299).

(5)

طرح التثريب (5/ 257).

(6)

كلام العراقيِّ جاء قبل كلام الطوفيِّ في نسخة (ب).

ص: 201

(ولا يبع بعضكم على بيع بعض) قال الطيبيُّ: (ضمَّن معنى الغلبة والاستعلاء؛ فعدَّاه بـ"عَلى"، قال في المُغرِب (1): باع عليه: إذا كان على كُرهٍ منه، وباعَ له الشيء: إذا اشتراه له، ومنه الحديث:«لا يبع بعضكم على بيع بعض» أي: لا يشتر؛ بدليل رواية البخاريِّ: «لا يبتاع رجلٌ على بيع أخيه» (2). انتهى (3).

وأجراه أئمَّتنا على العموم (4)، فصوَّروا ذلك بأن يقول لمشتري سلعةٍ في زمن الخيار: افسخ وأبيعك مثله بأرخص، أو أجود منه بثمنه فيحرم؛ لما فيه (5) من الإيذاء الموجِبِ للتَّباغُضِ، قالوا: ومثله الشراء على الشراء بغير إذن المشتري، بأن يقول للبائع في زمن الخيار: افسخ وأشتريه منك بأغلى، ومثل ذلك ما في معناه من السَّوم على سوم غيره، والخِطبة على خِطبته/ [132/ب] إلَّا برضاه.

وتصرَّف بعضهم في النهي فخصَّه بما إذا لم يكن فيه غَبنٌ فاحش (6)، وإلَّا فله إعلامه ليفسخ ويبيعه بأرخص، والأصحُّ خلافه.

وشمل النهي بيع المسلم على بيع الذمِّي فيحرم؛ لأنَّ له ما للمسلم إلَّا ما خُصَّ

(1) كتاب المغرب في ترتيب المُعرِب للناصر بن عبد السيِّد المطرزي (610 هـ) من أئمة اللغة، وهو كتابٌ في غريب ألفاظ الفقهاء الحنفيَّة.

(2)

أخرجها البخاريّ في صحيحه، كتاب البيوع، باب لا يشتري حاضر لبادٍ بالسمسرة (3/ 72، ح 2160). بلفظ: «لا يبتاع المرء على بيع أخيه» .

(3)

في المغرب (ص 56)، وانظر: الكاشف عن حقائق السنن (7/ 2142).

(4)

يعني أئمة الشافعية، انظر: تحفة الأبرار للبيضاوي (2/ 238)، والتعيين في شرح الأربعين للطوفي (300).

(5)

في الأصل: (لمانعه) والمثبت من (ب).

(6)

هذه عبارة ابن دقيقٍ العيد في شرح العمدة، وفسَّر التصرُّف بتخصيص النهي، وهذا التخصيص لبعض الشافعيَّة، وقال به ابن حزمٍ محتجًّا بحديث «الدين النصيحة» ، قال الصنعاني: وأجيب بأنَّه يكفيه في النصيحة تعريفه بأنَّه مغبونٌ من غير أن يريد أن يبيعَه شيئًا بأرخص. المحلى لابن حزم (7/ 373)، العُدَّة على إحكام الأحكام (4/ 35).

ص: 202

بدليلٍ (1).

(وكونوا عباد الله) أي: تعاطَوْا ما تصيرون به يا عباد الله (إخوانًا) مما يُؤدِّيْ إلى ائتلاف القلوب من حُسْنِ الخُلُقِ والنُّصْحِ والرَّحمةِ والمعاشرةِ بالمعروفِ والمودَّة والمواسَاةِ والشَّفقةِ والتَّعَاونِ على البرِّ والتقوى، حتَّى كأنَّكم أولادُ رجلٍ واحدٍ كما أنَّكم عباد ربٍّ واحدٍ، فحقُّكم أن تطيعوهُ بكونكمْ إخوانًا؛ ليحصُلَ التَّعاضدُ على إقامة دِينِه وإظهار شِعاره وتمكينه، وذلكَ بدون الِائتلاف لا يَتِمُّ بدليل:{هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} (2). قال الطيبيُّ: (وقوله: إخوانًا يجوز أن يكون خَبَرًا بعد خَبَرٍ، وأن يكون بَدَلًا، وقوله: (عبادَ) منصوبٌ على الِاختصاصِ بالنِّداءِ (3)، وهذا الوجهُ أوجَهُ،

(1) قال ابن عبد البرِّ في الاستذكار (6/ 523): (اختلف فيه: فكان الأوزاعيّ يقول: لا بأس بدخول المسلم على الذمِّي في سومه؛ لأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إنَّما خاطب المسلمين في أن لا يبعْ بعضهم على بيع بعض، فقال: «لا يبع أحد على بيع أخيه» يعني المسلم، وقال الثوري ومالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم: لا يجوز أن يبيع المسلم على بيع الذمِّي، والحجَّة لهم: أنَّه كما دخل الذمِّي في النهي عن النجَش وعن ربح مالم يضمن وغير ذلك ممَّا الذمِّيُّ فيه تبع المسلم فكذلك يدخل في هذا). ثمَّ قال: (وقد أجمع العلماء على كراهة سوم الذمِّي على سوم المسلم وعلى سوم الذمِّي إذا تحاكموا إلينا، فدلَّ أنَّهم داخلون في ذلك). وذكر العراقيّ في طرح التثريب (4/ 95) أنَّ أبا عبيد بن حربويه (ت 319 هـ) -وهو من الشافعيَّة- ذهب إلى أنَّ ذلك يختصُّ بالمسلم، قال العراقي:(والصحيح خلافه)، وانظر: فتح الباري (4/ 353)، وتحفة الأحوذي (4/ 239).

(2)

سورة الأنفال: (62).

(3)

الاختصاص في اصطلاح النحاة: تخصيص حكمٍ بضميرٍ -أي: قصره عليه- لغير الغائب -أي: المتكلّم أو المخاطب- بعده اسمٌ ظاهرٌ معرفةٌ، معناه معنى ذلك الضمير، وتطبيقه على هذا الحديث:(وكونوا -أخصُّ عبادَ الله- إخوانًا)، وقد جاء الاختصاص بلفظ النداء لاشتراكهما في معنى الاختصاص، وإن لم يكن منادى، والذي يدلُّ على أنه غير منادى: أنَّه لا يجوز دخول حرف النداء عليه، ولكن للمشابهة بين النداء والاختصاص ذكره علماء النحو في خاتمة أبواب المنادى، وذكروا الفروق التي بينهما. انظر: الكتاب لسيبويه (2/ 233)، وشرح المفصل لابن يعيش (1/ 369). وشرح ابن عقيل (3/ 297)، وإرشاد السالك للفوزان (2/ 154) ومن أشهر الأمثلة النحويَّة للاختصاص قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«نحن -معاشر الأنبياء- لا نورَث، ما تركناه صدقة» وهو منصوبٌ بفعل مضمرٍ، والتقدير:(أخُصّ معاشر الأنبياء)، وقد وقع هذا الحديث في كتب النَّحو -كشرح ابن عقيل وغيره- بلفظ:«نحن معاشر الأنبياء» بينما صواب لفظ الحديث: «إنَّا معاشر الأنبياء» كما ذكره الحافظ ابن حجر في أوَّل الفرائض من فتح الباري (12/ 18) ..

ص: 203

يعني: أنتم (1) مستوُوْنَ في كونكم عَبِيْدًا لله -تعالى-، وملَّتكم ملَّةً واحدة؛ فالتَّحاسد والتباغض والتقاطع منافيةٌ لحالكم (2)، فالواجب عليكم أن تكونوا إخوانًا متواصلين متآلفين لقوله تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (3).

وزاد في رواية البخاريِّ: «كما أمركم الله» ) (4)(5).

قال الحافظ العراقيُّ: يريد به هذا الأمر الذي هو قوله: «كونوا إخوانًا» ؛ لأنَّ أمره -عليه الصَّلاة السَّلام- هو أمر الله، وهو مبلِّغٌ، أو يريد قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (6) فإنَّه خبرٌ عن المشروعيَّة الَّتي للمؤمنين أن يكونوا عليها ففيها معنى الأمر (7).

قال ابن عبد البرِّ: تضمَّن الحديث: أنَّه لا يجوز أن يبغض المسلم أخاه، ولا يُدبِر عنه

(1) في (ب): أنهم.

(2)

في الأصل (للحكم) ، والمثبت من (ب).

(3)

سورة آل عمران: (103).

(4)

هذه الزيادة في صحيح مسلم، كتاب البرِّ والصلة والآداب، باب تحريم الظنِّ والتجسس (4/ 1986، 2563). وقد عزاها الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله إلى مسلمٍ فقط، انظر: فتح الباري (10/ 483)، ولم أقف عليها في صحيح البخاريِّ.

(5)

الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3210).

(6)

سورة الحجرات: (10).

(7)

طرح التثريب (5/ 257).

ص: 204

بوجهه إذا رآه، ولا يقطعه بعد صُحْبته له في غير جُرمٍ يجوز له العفو (1) عنه (2).

(المسلم أخو المسلم) بدليل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (3) أي: جمعتهم الأخوة الإسلاميَّة بالحضرة المحمَّديَّة لاتِّحاد الموافقة في ورود المشربِ الإيمانيِّ، والمدد الإحسانيِّ (4)، وكلُّ اتفاقٍ بين شيئينِ أو أَشياء: يطلق عليه اسم الأُخُوَّة، ويشترك فيه الْحُرُّ والبالغُ وضدُّهما، فأخوك مَنْ وافقك في الدِّين والذَّوق، ومدد الأفْهام (5)، لا مَنْ شاركَكَ في معنى صورة النُّطْفَة في الأرحام؛ ولهذا ورَّثَ الشافعيُّ المؤمنين بعضَهم بعضًا عند فقد التَّوارُث بالقَرَابة، ولم يورِّثْ بأخوَّة النَّسب عند الِافتراق في الدِّين (6).

(1) في الأصل: (في غير جرمٍ أفي جرمٍ يجوز له العفو عنه) ، والمثبت من (ب)، وفي التمهيد:(في غير جُرمٍ، أو في جُرمٍ يحمد له العفو عنه).

(2)

التمهيد (6/ 126).

(3)

سورة الحجرات: (10).

(4)

هذه مصطلحاتٌ صوفيَّة.

(5)

كذا في النسختين، ولم يظهر لي معناها.

(6)

هذه المسألة مشهورةٌ في الفرائض بمسألة التوارث بجهة الإسلام، أو من لم يكن له وارثٌ يرث بأحد الأسباب الثلاثة المتَّفق عليها:(النكاح، والنسب، والولاء) فهل يودَع ماله في بيت مال المسلمين؟ فيه ثلاثة أقوال:

القول الأوَّل: أنَّه ليست جهة الإسلام سببًا من أسباب الإرث مطلقًا أي: سواءً كان بيت المال منتظمًا أو غير منتظمٍ، وهو قول الحنابلة والحنفية. انظر: المغني لابن قدامة (9/ 216)، وحاشية ابن عابدين (5/ 488).

والقول الثاني: أنَّها سببٌ من أسباب الإرث مطلقًا، وهو قول المالكيَّة، وأحد القولين في مذهب الشافعيَّة، بل هو منقول المذهب على الأصل، كما عبَّر به الشربيني في المغني، انظر: الشرح الكبير للدردير (4/ 416)، ونهاية المحتاج (6/ 9). ومغني المحتاج (4/ 12).

والقول الثالث: أنَّ بيت المال يكون وارثًا إذا كان منتظمًا، وهو الأرجح عند الشافعيَّة، ولذا قال النوويّ:(ولو فقدوا كلُّهم: فأصل المذهب أنَّه لا يورَّث ذوو الأرحام، ولا يردُّ على أهل الفرض، بل المال لبيت المال، وأفتى المتأخرون: إذا لم ينتظم أمر بيت المالِ بالرَّدِّ على أهل الفرض غير الزوجين ما فضل عن فروضهم بالنسبة). منهاج الطالبين (338)، تحفة المحتاج في شرح المنهاج (6/ 391). انظر: التحقيقات المرضيَّة للفوزان (41).

ص: 205

وهذا استعطافٌ من المصطفى صلى الله عليه وسلم لكلٍّ / [133/أ] على الآخر، وتليينٌ لقلبه كَمَا يقال: لمن يؤذيْ أخاه: إنَّه أخوك، لا مجرَّد إخبار.

قال الحافظُ العراقيُّ: (وفيه إثبات الأُخُوَّة بين جميع المؤمنين، قال: وهذه الأُخُوَّة دون الأُخُوَّةِ الَّتي آخى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بينَ أصحابه حين قدم المدينة كما آخى بين سلمان وأبي الدرداء (1)، وبين عُمرَ وصُهيبٍ (2)، ولهذه الأخوَّةِ مزيَّةٌ زائدةٌ على أُخوَّة الإسلام) (3).

(لا يظلِمه): قال الطِّيبُّي: استئنافٌ إمَّا للبيان للموجِب، وإما لوجه التشبيه (4).

أي: لا يدخل عليهِ ضررًا في نحوِ نفْسِهِ أوْ دِينِهِ أوْ عِرضِهِ، أو مالِه بغير إذنٍ شرعيٍّ، والظُّلمُ حرامٌ حتَّى للكافر، [والظُّلم](5) يكون في النِّفسِ والدين والمالِ والعرضِ ونحو ذلك.

(ولا يَخذُله): قال العراقيّ: بضمِّ الذال المعجمة (6).

(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصوم، باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع (4/ 210، ح 1968).

(2)

لم أقف على أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم آخى بين عمرَ وصهيبٍ رضي الله عنهما، انظر: تكملة شرح الترمذي للعراقيِّ، تحقيق: عبد الله العمراوي (ص 776). رسالة ماجستير غير منشورة في الجامعة الإسلاميَّة، (المدينة المنوَّرة) سنة/1425 - 1426 هـ. ولكن أشار إليها ملا علي قاري في المرقاة (3/ 1243).

(3)

انظر: تكملة شرح الترمذي للعراقيِّ، تحقيق: عبد الله العمراوي (ص 775). رسالة ماجستير غير منشورة في الجامعة الإسلاميَّة، (المدينة المنوَّرة) سنة/1425 - 1426 هـ.

(4)

الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3178).

(5)

ما بين معقوفتين زيادة من نسخة (ب).

(6)

انظر: تكملة شرح الترمذي للعراقيِّ، تحقيق: عبد الله العمراوي (ص 776). رسالة ماجستير غير منشورة في الجامعة الإسلاميَّة، (المدينة المنوَّرة) سنة/1425 - 1426 هـ.

ص: 206

والخِذْلان: تركُ الإعانةِ والنُّصرةِ، ذكره الطيبيُّ (1)، وقال غيره (2): هو الخذل، وهو أن يتركَ نصرته المشروعة عند القدرةِ سِيَّما عند الحاجة، فالخذلان حرامٌ: دُنيويًّا كأنْ يَرى عدُوًّا يريد البطش به فلا يدفعه، أو دينيًّا كأنْ يقدر على نصحه فيتركه.

وزاد في روايةٍ: (ولا يُسْلِمُهُ)(3) وهو بِضمِّ ياء المضارعة (4) وسكون السين من: أسلم فلانٌ فلانًا، إذا ألقاه في التَّهلُكة ولم يَحْمِهِ مِنْ عَدُوِّه، واللَّفظ - وإنْ كان عامًّا- لكن دخله التَّخصيصُ في مثل هذا الحديث، وغلب عليه الإلقاءُ إلى الهلكة (5).

وفي روايةٍ أخرى: «ولا يَخُونُه» (6).

(1) الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3178). وذكره العراقي أيضًا في المصدر السابق.

(2)

مثل هذه العبارة لابن علَّان في دليل الفالحين (3/ 20).

(3)

لكن هذه الزِّيادة من حديث ابن عُمر، لا من حديث أبي هريرة رضي الله عنهما، أخرجه البخاريُّ (2442) ومسلمٌ (2580) عنْ سالمٍ عن أبيه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يُسلِمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربةً فرَّج الله عنه بها كربةً من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة» .

(4)

لأنَّه من فعل (أسلم) الرباعيِّ، والقاعدة: أنَّ الفعل الماضيَ الرباعيَّ يضمُّ أوَّله في مضارعه مطلقًا، مثل: يُكرم، ويُدحرج، بخلاف الثلاثيّ (يَنصر) والخماسيّ (يَنطلق) والسداسيّ (يَستخرج)، فتفتح أوائلها مطلقًا. انظر: فتح الأقفال وحلّ الإشكال في شرح لاميَّة الأفعال لبحرق (206).

(5)

هذه العبارة للحافظ العراقيّ في المصدر السابق، ولعلَّ كلامَه أوضح من كلام الشارح فقد قال:(والَّلفظ -وإن كان عامًّا في كلِّ من أسلمته إلى شيءٍ، كقولك: أسلمت الثمن للبائع، وأسلمت الصبيَّ للمعلِّم، ونحو ذلك لكنَّه دخله التخصيص في مثل هذا الحديث). وانظر: فتح الباري (5/ 97).

(6)

هذا اللَّفظ -واللفظ الآتي: «لا يكذبه» - ليسا في صحيح مسلمٍ، بل ليسا في النسخ المحقَّقة من كتاب الأربعين -التي وقفت عليها-، لكن هما في سنن الترمذي، في أبواب البرِّ والصلة، باب ما جاء في شفقة المسلم على المسلم (3/ 389، ح 1927) بلفظ: «المسلم أخو المسلم، لا يخونه ولا يَكذِبه ولا يخذُله» . وقال الترمذيّ: (حسنٌ غريبٌ).

ص: 207

(ولا يَكذِبه): بفتح ياء المضارعة وكسر المعجمة والتخفيف، وبضمٍّ فسكون، والأوَّل أشهر وأكثر (1).

بل اقتصر عليه الحافظ العراقيّ في شرح (2) الترمذيّ (3)، لكن اقتصر المؤلِّف على الثاني (4): لا يخبره بأمرٍ بخلاف الواقع لغير مصلحة تألُّفٍ وصونٍ نحو نفسٍ أو مالٍ؛ لأنَّه

(1) وجعل العلَّامة ابن عَلَّان -بفتح العين واللَّام المشدَّدة، كما في تاج العروس (30/ 55) - الأوجه ثلاثةً فقال:(«ولا يكذبه»: يجوز أن يكون بفتح الياء، أي: يُخبره خبرًا كاذبًا، ومنه قوله تعالى: {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ويجوز أن يقرأ بضمِّ أوَّله وسكون ثانيه وتخفيف ثالثه، أي: لا يلقيه للمخبَر -بفتح الباء- كاذبًا، أو بتشديد الثالث: أي: لا ينسبه إلى الكذب، ثم رأيت عن المصنِّف ضبطَه بضم أوله وإسكان ثانيه). دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (3/ 20).

(2)

شرح العراقيّ على الترمذيِّ تكملةٌ لشرح ابن سيِّد الناس، ولتحديد موضع بدء الشرح قال العراقي في المقدِّمة: (وآخر ما رأيت بخطِّه شرحه لبعض باب: ما جاء أنَّ الأرض كلّها مسجد إلا المقبرة والحمام

فشرعت في البناء عليه من أوَّل الباب)، وأمَّا الموضع الذي وقف عنده العراقيّ في شرحه فقد بيَّنه أبو الفضل تقي الدين ابن فهدٍ (871 هـ) بدقَّةٍ حيث قال معدِّدًا مصنفات العراقي في لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفَّاظ (ص 232):("تكملة شرح جامع الترمذي" لابن سيِّد الناس، وهي من باب: ما جاء أن الأرض كلَّها مسجد إلا المقبرة والحمام إلى قوله في أثناء كتاب (البر والصلة): باب ما جاء في الستر على المسلمين ثلاثة عشر مجلَّدًا خرج من ذلك إلى أثناء الصيام قريبا من ست مجلدات، قرأ عليه ابنه شيخنا الحافظ أبو زرعة من ذلك بحثا وتدبرا بحضرة جماعة نحوًا من خمس مجلدات انتهاؤها في أثناء باب ما جاء في الصوم بالشهادة)، وقد حُقِّقت التَّكملة في رسائل علميّة في قسم فقه السنة في الجامعة الإسلامية ولعلَّه يرى النور قريبًا إن شاء الله، وللعلم فحديث هذا الباب -حديث أبي هريرة: لا تباغضوا ولا تدابروا- هو آخرُ حديثٍ شرحه العراقيُّ في التكملة.

(3)

انظر: تكملة شرح الترمذي للعراقيِّ، تحقيق: عبد الله العمراوي (ص 776). رسالة ماجستير غير منشورة في الجامعة الإسلاميَّة، (المدينة المنوَّرة) سنة/1425 - 1426 هـ.

(4)

قال المصنِّف في باب: (الإشارات إلى ضبط الألفاظ المشكلات) في خاتمة الأربعين: (ولا يَكذِبه: بفتح الياء وإسكاف الكاف). الأربعين (71) ..

ص: 208

لغير ما ذُكِر: غشٌّ وخيانةٌ، بدليل خبر أبي داود: «كبُرتْ (1) خيانةً: أن تحدِّث أخاك

حديثًا هو لك مصدِّقٌ وأنتَ له كاذبٌ» (2).

(1) بضمِّ الباء، لا بكسرها، لأنَّ الخيانة معنىً، ويقال في المعاني -وكذا الأجسام-:(كبُر، يكبُر) بالضمِّ معًا، ويقال في السنِّ:(كبِر) بالكسر، (يكبَر) بالفتح، وكلا المادَّتين في كتاب الله تعالى، فأمَّا الأولى فمنها قوله تعالى:{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} ومضارعها: (يكبُر) بالضمِّ أيضًا، قال تعالى:{أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} . ومن الثانية قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} .

وفي هذا المعنى نظم الدنوشريّ (ت 1025 هـ) -كما في حاشية الطالب ابن حمدون على لاميَّة الأفعال لابن مالكٍ ص (61) - فقال:

(كبِرتُ) بكسر الباء في السِّنِّ واردٌ

مضارعُه بالفتح، لا غيرُ يا صاحِ

وفي الجسمِ والمعنى: (كبُرتُ) بضمِّها

مضارعه بالضمِّ جاء بإيضاحِ

(2)

هذا الحديث له طريقان:

الطريق الأوَّل: عن جبير بن نفير، عن سفيان بن أَسيد -بفتح الهمزة- الحضرميّ، مرفوعًا. أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب المعاريض (4/ 293، ح 4971) والبخاريّ في الأدب المفرد (1/ 203) من طريق بقية بن الوليد، عن ضُبَارة -بضمِّ أوَّله ثمَّ موحَّدة كما ضبطه ابن حجر في التقريب (رقم 2962) - ابن مالك الحضرمي، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه جبير بن نفير به. وهذا الحديث له عللٌ: فـ (بقيَّة) قال فيه ابن مسهر: -كما في الكامل في ضعفاء الرجال (2/ 259) - (احذر أحاديث بقيَّة، وكن منها على تقيَّة، فإنَّها غير نقيَّة)، إلَّا أنَّه قد وقع التصريح بالسماع في طريق ابن عديٍّ في الكامل (2/ 204) إلَّا أنَّه يدلِّس تدليسَ التسوية -كما قاله الذهبيّ في ميزان الاعتدال (1/ 339) -، وثانيًا: شيخ بقيَّة: (ضُبارة بن مالكٍ) هو وأبوه مجهولان، انظر: التقريب (رقم 2962)، وقال النووي:(إسناد فيه ضعفٌ، لكن لم يُضَعِّفه أبو داود، فيقتضي أن يكون حسنًا عنده). الأذكار للنووي (380).

والطريق الثاني: عن يزيد بن شريح، عن جبير بن نفير أيضًا عن النواس بن سمعان مرفوعًا. أخرجه أحمد عن عمر بن هارون البلخي، عن ثور بن يزيد، عن شريحٍ به. قال أبو نعيم في حلية الأولياء (6/ 99):(غريبٌ من حديث ثور، تفرد به عمر بن هارون البلخي). وعمر بن هارون (متروك) كما قاله الحافظ في تقريب التهذيب (رقم 4979) ولكن تابعه الوليد بن مسلم عند البخاريّ في التاريخ الكبير (4/ 86) ولكنَّه يدلس تدليس التسوية، ولذا فلا يصحّ الحديث ولا يتقوَّى، وممن ضعَّف الحديث بطريقيه: الشيخ الألباني في السلسلة الضعيفة (3/ 405). والشيخ شعيب وأصحابه في تحقيق المسند (29/ 183) وقد تساهل الحافظ العراقي في المغني عن حمل الأسفار (ص: 1024) حين قال: (إسناده جيّد)، وأشدّ منه الغماريّ في المداوي (5/ 16) حين صحَّحه! .

تنبيه: في مسند أحمد (29/ 183): (حدثنا عمر بن هارون، عن ثور بن يزيد، عن شريح، عن جبير ابن نفير الحضرمي) قال محققو المسند: (كذا في المطبوعة والأصول الخطَّية، والذي في مصادر التخريج: يزيد بن شريح).

ص: 209

ومن حيث هو: أشدّ الأمور ضررًا، والصدق من حيث هو: أشدُّها نفعًا، إلَّا أن يعرضَ ما يصير به الكذبُ نافعًا والصِّدق ضارًّا، كأن سأله ظالمٌ عن إنسانٍ يريد قتله أو أخذ ماله فإن صدقه ضرَّه، وإن كذبه نفعه.

وقد ورَدَ أنَّ أعرابيًّا بايع المصطفى صلى الله عليه وسلم على تركِ خصلةٍ من خصالٍ كالزِّنا والسرقة والكذب، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:«دعِ الكذب» فصار كلَّما / [133/ب] همَّ بزنا أو سرقة قال: كيف أصنع؟ إن فعلت سألني النبيُّ، فإن صدقته حدَّني، وإن كذبته فقد عاهدني على ترك الكذب، فكان تركه سببًا لترك الفواحش كلها (1).

(ولا يَحْقِره) بفتح المثنَّاة التحتيَّة أوّلِه وسكون المهملة وكسر القاف أي: لا يُذلّه ولا يستصغرُ شأنه ويضع من قدره؛ لأنَّ الله لما خلقه لم يحقرْه، بل رفعه وخاطبه، فاحتقاره تجاوزٌ لحدِّ الربوبية في الكبرياء، وهو ذنبٌ عظيمٌ.

روي بمثنَّاةٍ مضمومةٍ، وخاءٍ معجمةٍ وفاءٍ (2) بمعنى: لا يَغدرُ عهده، ولا ينقض أمانته،

(1) لم أقف عليه.

(2)

أي: (ولا يُخفره) من الإخفار، وهو ضبط أبي العباس أحمد العُذري الدَّلائي الأندلسي (ت 478 هـ) -كما ذكره القاضي في الإكمال (8/ 31) - وهو من رواة صحيح مسلمٍ، لازم أبا ذرّ الهرويَّ وغيره، وتتلمذ عليه ابن حزمٍ وابن عبد البرِّ، وأما عبارة الصفديِّ في الوافي بالوفيات (4/ 209):(بوفاته خُتم سماع مسلم، فإن كل من حدَّث بعده عن إبراهيم بن سفيان فإنه غير ثقة) فقد قالها الصفديُّ في الجُلودي (ت 368 هـ) -بضمِّ الجيم على الصحيح، كما في تاج العروس (7/ 511) - لا في العُذري، خلافًا لمن ظنَّ أنَّها في العُذري كمحقِّق الإكمال للقاضي عياض (1/ 41). وانظر: سير أعلام النبلاء (18/ 568).

ص: 210

قال عِيَاضٌ: والصَّواب الأوَّلُ (1)، وقال العراقيُّ: والمشهور الأوَّل (2)، بدليل رواية (ولا يحتقره)(3) بتاءٍ بعد الحاء، وهذه كلُّها إخبارٌ بمعنى النَّهيِ.

ومعنى ذلك كلِّه: أنَّ من حقِّ الإسلام وأُخوَّته: أنْ لا يظلم المؤمنُ أخاه ولا يَخذلُه ولا يَكذبه ولا يَحْقِرُه، وتخصيص المسلم لمزيدِ حرمتهِ، لا لِلاختصاصِ مِن كلِّ وجهٍ، فالذي يحرم: ظلمُه وخذلانه بنحو ترك دفع عدوِّه والكذب عليه واحتقاره، نعمْ احتقاره من حيثُ الكفرُ القائمُ به جائزٌ. {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} (4).

(التقوى) فَعْلَى من الوقاية ما يُتَّقَى به ممَّا يُخَاف، فتقوَى العبدِ لله: أنْ يجعل بينه وبين ما يخشاه مِنْ غضَبِهِ وقايةً تقيْهِ منه، وهي تجنُّبُ نَهْيِهِ وامتثالُ أمره.

قال القيصريُّ (5): وقد أكثر الناسُ القولَ في التقوى، وحقيقتُها: تنزيهُ القلبِ عن الأدناس، وطهارة القلب من الآثام، وإن شئت قلت: الحذر من مواقعة المخالفات (6).

(ههنا) أي: في القلب، بمعنى أنَّ محلَّ سببها الذي هو خوف الله الحاملُ عليها هو القلب، لا حقيقتها الَّذي هو الاتِّقاء من العذاب.

(1) قال القاضي عياض: (والصواب من ذلك أن يكون بالقاف من الاستحقار، وكذلك وقع في غير مسلمٍ بغير خلافٍ). إكمال المعلم (8/ 31).

(2)

انظر: تكملة شرح الترمذي للعراقيِّ، تحقيق: عبد الله العمراوي (ص 776). رسالة ماجستير غير منشورة في الجامعة الإسلاميَّة، (المدينة المنوَّرة) سنة/1425 - 1426 هـ.

(3)

هو ضبطٌ في الحديث، لا رواية مستقلَّة، انظر: الإكمال للقاضي (8/ 31) وشرح النووي على مسلم (16/ 121).

(4)

سورة الحج (18).

(5)

لعلَّه حميد الدِّين حامد بن موسى بن عبد الله القيصريُّ (815 هـ) له شرحٌ على الأربعين النوويَّة، لم أقف عليه. انظر: سلم الأصول إلى طبقات الفحول (2/ 9).

(6)

لم أهتد إليه، وذكره في الفيض القدير (1/ 121).

ص: 211

قال المُظهِرُ: وحينئذٍ فلا يجوز تحقير المتَّقي من الشرك والمعاصي، لما ذكر من أنَّ التقوى محلُّها القلب، وما كان محلُّه القلب يكُون مَخْفِيًّا عن أعيُنِ الناس، وإذا كان مَخْفِيًّا لا يجوز لأحدٍ أن يحكُمَ بعدم تقوى مسلمٍ حتى يحتقره، ويحتمل أنَّ معناه محلُّ التقوى هو القلب، فمن كان في قلبه التقوى فلا يحقر مسلمًا؛ لأنَّ المتَّقيَ لا يحقِرُ المسلمَ (1).

قال الطيبيُّ: والثاني أوجَه، والنَّظم له أدعى؛ لأن المصطفى صلى الله عليه وسلم إنَّما شبَّه المسلم بالأخ لينبِّه على المساواة، وأن لا يرى أحدٌ لنفسه على أحدٍ من المسلمين فضلًا ومزيَّةً، ويحبَّ له ما يحبُّ لنفسه، وتحقيرُهُ إيَّاه يأبَى ذلك، وينشأ منه قطع وِصلة (2) الأُخُوَّة التي أمر الله تعالى بها أن توصل. [134/أ]

ومراعاة هذه الشريطة أمرٌ صعبٌ؛ لأنَّه ينبغي أن يسوِّيَ بين السُّلطان /وأدنى العوامّ، و [بين](3) الغنيِّ والفقيرِ، والقويِّ والضعيفِ، والقريبِ والبعيدِ، والكبيرِ والصَّغيرِ، ولا يتمكَّن في ذلك إلَّا من امتحن الله قلبه للتقوى، وأخلصَهُ (4) من الأمراض القلبيَّة من نحو غِشٍّ وحقدٍ خلاصَ الذهب الإبريز من خَبَثه، فيؤثِر لذلك أمرَ الله تعالى على متابعة الهوى (5)؛ فلذلك جاء قوله عليه السلام:«التقوى هاهنا» معترضًا بين قوله «ولا يحقره» ، وقوله الآتي: «بحسبِ امرئٍ

» إلخ؛ فإنَّ كلًّا منهما متضمِّنٌ للنَّهي عن الاحتقار، وأنت عرفتَ أنَّ موقع الاعتراض بين الكلامين موقع التأكيد والتقرير.

وأفاد الحديثُ: أنْ لا عبرة بظواهر الصور؛ قال المصطفى [صلى الله عليه وسلم](6): «إنَّ الله -تعالى- لا ينظرُ إلى صُوركُم (7) ، ولا إلى أموالكم وأعمالكم، (8) ولكن إنَّما ينظر

(1) المفاتيح في شرح المصابيح للمظهِري (5/ 216).

(2)

وَصَلَ الشيء بالشيء، يصله وُصلا، وصلة، بالكسر والضم. انظر: تاج العروس (31/ 78).

(3)

ما بين معقوفتين زيادة من نسخة (ب).

(4)

في (ب): فأخلَصَهُ. بالفاء.

(5)

في (ب): أمره الله تعالى على متابعة الهوى.

(6)

ما بين معقوفتين زيادة من نسخة (ب).

(7)

وفي (ب): ظواهركم.

(8)

هكذا وقع في النسختين: «وأعمالكم» ، وهو مخالفٌ لما في المصادر، والصواب هو أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«إن الله لا ينظر إلى صُوركُم وأمْوالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» وهو لفظ مسلمٍ في الصحيح (رقم 2564)، وهذا الوهم قديمٌ نبَّه عليه الحافظُ البيهقيُّ رحمه الله فقال -بعد سرده اللفظ الصحيح-:(هذا هو الصَّحيح المحفوظ فيما بين الحفَّاظ، وأمَّا الَّذي جرى على ألسنة جماعةٍ من أهل العلم وغيرهم: «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم» فهذا لم يبلغنا من وجهٍ يثبت مثله، وهو خلاف ما في الحديث الصحيح، والثَّابتُ في الرواية أولى بنا وبجميع المسلمين، وخاصَّةً بمن صار رأسًا في العلم يقتدى به، وبالله التوفيق). الأسماء والصفات (2/ 426). وقد وقع هذا الوهم في بعض نسخ رياض الصالحين كلِّها -كما قاله الشيخ الألبانيُّ في مقدِّمة تحقيقه للرياض ص (15) -، ومشى عليها ابن عَلَّان في شرحه فقال:(أي: إنَّ الأعمال الظاهرة لا تحصل بها التقوى، إنما تحصل بما يقع في القلب من عظيم خشية الله ومراقبته). دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (3/ 24)، وانظر: السلسلة الصحيحة (6/ 330).

ص: 212

إلى قلوبكم» (1) أي: التي هي محلُّ التقوى، وأوعيةِ الجواهر وكنوزِ المعرفة (2).

قال الغزاليُّ: أبانَ الحديثُ بأنَّ القلبَ موضعُ نظر الرَّبِّ، فيا عجباهُ (3) لمن يهتمُّ بوجهه الذي هو محلُّ نظر الخلق، فيغسِله وينظِّفه، ولا يهتمُّ بقلبه الذي هو محلُّ نظر الخالق، فيطهِّره ويزيِّنه؛ لئلَّا يطَّلع عليه وهو مدنَّسٌ (4).

وفيه دليلٌ على أنَّ محلَّ الروح القلبُ لا الدِّماغ (5).

(1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البِرِّ والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره (4/ 1987، ح 2564).

(2)

في (ب): المعارف.

(3)

في (ب): فيا عجبًا.

(4)

منهاج العابدين (113).

(5)

ورد إلى شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله تعالى سؤالٌ في هذا الموضوع، وهي: أين مسكن العقل؟ فأجاب رحمه الله: بأنَّ العقل قائمٌ بنفس الإنسان التي تعقل، وأما من البدن فهو متعلِّقٌ بقلبه، كما قال تعالى:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} وقيل لابن عباس: بماذا نلت العلم: قال: (لسانٌ سؤول، وقلب عقولٌ)، ولفظ القلب قد يراد به المضغة الصنوبرية الشكل التي في الجانب الأيسر من البدن التي جوفها علقة سوداء كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم:«إنَّ في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد» ، وقد يراد بالقلب باطن الإنسان مطلقًا فإن قلبَ الشيء باطنُه كقلب الحنطة واللَّوزة والجوزة ونحو ذلك، ومنه سمِّي القليب قليبًا؛ لأنَّه أُخرِج قلبه وهو باطنه، وعلى هذا فإذا أريد بالقلب هذا فالعقل متعلِّق بدماغه أيضًا، ولهذا قيل: إنَّ العقل في الدماغ، كما يقوله كثيرٌ من الأطبَّاء، ونُقل ذلك عن الإمام أحمد، ويقول طائفة من أصحابه: إن أصل العقل في القلب فإذا كمُل انتهى إلى الدماغ، والتَّحقيق: أن الروح التي هي النفس لها تعلق بهذا وهذا وما يتَّصف من العقل به يتعلَّق بهذا وهذا، لكن مبدأ الفكر والنظر في الدماغ، ومبدأ الإرادة في القلب، والعقل يراد به العلم ويراد به العمل، فالعلم والعمل الاختياريُّ أصله الإرادة، وأصل الإرادة في القلب، والمريد لا يكون مريدًا إلا بعد تصوّر المراد، فلا بدَّ أن يكون القلب متصوِّرًا فيكون منه هذا وهذا، ويبتدئ ذلك من الدماغ، وآثاره صاعدة إلى الدماغ، فمنه المبتدأ وإليه الانتهاء، وكلا القولين له وجه صحيح، وهذا مقدار ما وسعته هذه الأوراق والله أعلم). مجموع الفتاوى (9/ 303 - 304) .. وانظر مثله في: العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (1/ 161).

ص: 213

«وأشار إلى صدره» وفي رواية للطبراني: «وأشار إلى القلب» (1)، وهذا من كلام الراوي.

قال الطيبي: لمَّا كانت التقوى: تَشُدُّ من عُقدة الأخوَّة الإسلامية، وتستوثق من عراها قال الله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} (2) يعني: أنَّكم إن اتَّقيتم لم تحملكم التقوى إلا على التواصل والاِئتلاف والمسارعةِ إلى إماطة ما يَفْرُط منكم (3)، وأنَّ مستقرَّ التقوى ومكانه: المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد، وإذا فَسدت فَسَد الجسد، قال -تعالى-:{أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} (4)؛

(1) لم أجدها عند الطبرانيِّ؛ لأنَّ مسند أبي هريرة رضي الله عنه ليس في المعجم الكبير الموجود، لكن نسبها العراقيُّ في تخريج الإحياء (4/ 50) إلى صحيح مسلمٍ، ولعلَّ قصده وجود لفظ:(وأشار إلى صدره) فهي التي في صحيح مسلمٍ.

(2)

سورة الحجرات: (10).

(3)

في (ب): ما يفرط منه.

(4)

سورة الحجرات: (3).

ص: 214

ولذلك كرَّر عليه الصلاة والسلام هذه الكلمة، وأشار بيده إلى صدره ثلاثًا، صلى الله عليه وسلم.

«بحسْبِ» بسكون السين، «امرئٍ من الشرِّ» قال الطيبيُّ: قوله: «بحسْبِ امرئٍ» مبتدأ، والباء فيه زائدة (1)، وقوله «أن يحقرَ أخاه» خبره، أي: كفايةٌ (2) من خلال الشرِّ ورذائلِ الأخلاق في معاشه ومعاده تحقيرُ أخيه المسلم هذا (3). أي: يكفيه منه في أخلاقه ومعاشه ومعاده أن يحقر أخاه.

«المسلمَ» تفظيعٌ لشأن الاحتقار وتهويل؛ لأنّه ذنبٌ عظيمٌ، بدليل / [134/ب] ما رتَّب عليه ما يكفي المحتقر من الشرِّ؛ فإنَّ الله لم يحتقر الإنسان؛ إذ (4) خلقه في أحسن تقويمٍ، وخلق له ما في الأرض جميعًا، وسخَّر له ما في السماء والأرض والأنهار والشمس والقمر والليل والنهار، وآتاه من كلّ ما سأله، فمن حقره فقد حقر ما عظَّم الله، وكفى به شرًّا، ومن احتقاره: أنْ (5) لا يسلم عليه، ولا يردّ عليه، وليس منه تقديم (6) العالم على الجاهل، والعدل على الفاسق؛ لأنَّه ليس لذاته بل لوصفه المذموم، حتى لو زال عنه عاد إليه التعظيم.

«كلُّ المسلم على المسلمِ» فيه ردٌّ على من زعم أنَّ (كلًّا) لا تضاف إلَّا إلى نكرةٍ (7)، وهذا مبتدأ، وقوله:«حرامٌ» خبره، أي: جميع أنواع ما يؤذيه حرامٌ.

(1) ومعنى كونها زائدةً: (لأنَّ دخولها لا يزيد معنًى على ما كان قبل دخولها). المقاصد الشافية في شرح خلاصة الكافية للشاطبي. (3/ 600).

(2)

في (ب): كافيةٌ.

(3)

الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3179).

(4)

في الأصل: (إذا).

(5)

في (ب): أنه.

(6)

كلمة (تقديم) ليست واضحةً في الأصل.

(7)

وقد وردت آيات من القرآن على إضافة (كلّ) إلى معرفةٍ، منها على سبيل المثال:{وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} (مريم: 95)، قال ابن جماعة في التبيين في شرح الأربعين:(ص 196) -بعد أن ذكر من منعه-: (وهو إنكارٌ ساقطٌ لا ينبضُ له عرقٌ)، وانظر: مغني اللبيب لابن هشام (ص 263)، وتمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد لناظر الجيش (7/ 3210). وذكره محمد عضيمة في دراسات لأسلوب القرآن الكريم (1/ 6).

ص: 215

«دَمُهُ» بدلُ بعضٍ من المبتدإ؛ لأنَّ به حياتَه، فلا تجوز إراقَتُهُ بقتلٍ ونحوه إلَّا بموجبٍ.

«ومالُه» لأنَّ الله خصَّه به وجعله مِلكًا لَه فلا يحلُّ أخذه إلَّا بحقِّه.

«وعِرْضُهُ» أي: حَسَبُهُ (1)، وهو (2) مفاخِرُه ومفاخِرُ آبائه؛ وذلك لأنَّ به صيانةَ حُرمَتِه فلا يجوز انتهاكُه إلَّا بحقِّه؛ إذ به قيامُ صورته المعنويَّة.

قال الأكملُ: (المراد بالمسلم هنا: إنسانٌ ذو إسلام ودمٍ ومالٍ وعِرضٍ؛ ليصحّ جعلها أجزاءً تدخل عليها كلمة (كلُّ)، والأولى أن يقال: المسلمُ بمعنى منْ أسْلم، فيتعدَّد معنًى، والعِرض هو الأمر الذي يتوجَّه إليه المدح والذمُّ) (3).

وقال الطيبيُّ: قوله: «كلُّ المسلم على المسلم» إلخ هو الغرض الأصليُّ، والمقصود الأوَّليُّ، والسَّابق كالتَّمْهِيد والمقدِّمَة له، وجعل مال المسلم وعرضه جزءًا منه؛ تلويحًا إلى معنى خبر:«حرمة مال المسلم كحرمة دمه» (4).

(1) قال الفيوميّ: (الحَسَب بفتحتين: ما يعدُّ من المآثر، وقال الأزهري: الحسب: الشرف الثابت له ولآبائه، قال وقوله عليه السلام «تنكح المرأة لحسبها» أَحْوَجَ أهلَ العلمِ إلى معرفة الحَسَب؛ لأنَّه ممَّا يعتبرُ في مهر المثل). المصباح المنير (1/ 134).

(2)

في (ب): وهي.

(3)

لم أقف عليه.

(4)

هذا الحديث رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وهو جزءٌ من الحديث المشهور: «سباب المسلم فسوقٌ

» ولهذه الزيادة إلى ابن مسعودٍ مرفوعةً طريقان، الأول: عن إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«حرمة مال المسلم كحرمة دمه» أخرجه أحمد في مسنده (7/ 296)، وأبو يعلى (1/ 277) وأبو نعيم في الحلية (7/ 344) والشهاب القضاعي في مسنده (1/ 137)، . وإبراهيم الهجري هو ابن مسلمٍ قال فيه الحافظ: ليّن الحديث، رفع موقوفاتٍ، انظر: تقريب التهذيب (ت/252).

والطريق الثاني: عن عمرو بن عثمان عن أبي شهابٍ -هو موسى بن نافع الأسدي- عن الأعمش عن أبي وائلٍ عن عبد الله مرفوعًا، أخرجه البزَّار (1/ 210)، والدارقطني في سننه (3/ 425) وعمرو بن عثمان ضعيف، انظر: تقريب التهذيب (ت/5074) وقال البزَّار: تفرَّد به أبو شهابٍ، وروى الحديث موقوفًا على ابن مسعودٍ: ابن أبي شيبة في المصنف (7/ 106) عن عبدالله بن نمير، عن سفيان، عن عبد الله بن عائش، عن إياسٍ، عن عبد الله قوله في خطبةٍ طويلةٍ، وقال الدارقطنيّ في العلل (5/ 324):(والموقوف عن أبي الأحوص أصحُّ).

ص: 216

والمال يبذل للعِرض، قال (1):

أَصُونُ عِرضيْ بماليْ لا أدنِّسُهُ

لا بارك اللهُ بعدَ العِرض في المال (2).

وقال غيره (3): جعله الثلاثة كلَّ المسلم وحقيقته لشدّة اضطراره إليها، واقتصاره عليها؛ لأنَّ ما سواها فرعٌ عليها، وراجعٌ إليها؛ لأنَّه إذا قامت الصورة البدنيَّة والمعنويَّة فلا حاجة إلى غير ذلك، وقيامها بترك الثلاثة فقط، ولكون حرمتها هي الأصلَ والغالبَ لم يحتج إلى تقييدها بما إذا لم يعرض [ما](4) يبيحها شرعًا، كالقَتلِ قودًا [أو حدًّا](5)، وأخذِ مال المرتدِّ فيئًا، [وتوبيخ المسلم تعزيرًا.

قال الحافظ العراقيُّ: وفي بعض طرقِ الحديث] (6) زيادةُ: «وأن يظنَّ به السوء» (7)

(1) ورد هذا البيت في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي (ص 1184) منسوبًا إلى حسَّان بن ثابت رضي الله عنه، وكذا في التذكرة الحمدونية (2/ 98) وخزانة الأدب لابن حجة الحموي (1/ 423)، ولكن وقع في لسان العرب (3/ 37) منسوبًا إلى (حيَّة بن خلف الطائيّ) ولعلَّه أخذ بعض القصيدة من حسَّان رضي الله عنه.

(2)

الكاشف عن حقائق السنن (10/ 3178).

(3)

لعلَّه ابن حجرٍ الهيتميُّ كما في كتابه الفتح المبين (564).

(4)

ما بين معقوفتين زيادة من نسخة (ب).

(5)

ما بين معقوفتين زيادة من نسخة (ب).

(6)

ما بين معقوفتين زيادة من نسخة (ب).

(7)

لم أقف عليه، وقد ذكره ابن السبكي في طبقات الشافعية الكبرى (6/ 315) ضمن فصلٍ كبيرٍ جمع فيه ما وقع من الأحاديث في كتاب الإحياء للغزالي ولم يجد لها إسنادًا، أورد فيه أكثر من ألف حديثٍ منها هذا الحديث، وقال بعده:(رواه ابن المبارك).

ص: 217

فيحتمل أنَّه داخلٌ في انتهاك عرضه، ويحتمل أنَّه أمرٌ زائدٌ على العرض؛ لأنَّ انتهاك العرض أن يتكلَّم فيه بما يسيؤه، وظنُّه فيه السُّوء أمرٌ زائدٌ / [135/أ] على ذلك، قال: وفي مسند أحمدَ ومعجم الطبرانيِّ الكبيرِ من حديث النُّعمانِ بن بشيرٍ مرفوعًا: «لا يحِلُّ لمسلمٍ أنْ يروِّعَ مُسلمًا» (1).

فهذا أمرٌ زائدٌ على الأمور الثلاثة (2).

(رواه مسلمٌ)(3)

، وكذا الترمذيُّ (4)، وهو كثيرُ الفوائد (5)، عظيمُ العوائد (6)، وهو من

(1) لم أقف عليه في مسند أحمد من حديث النعمان بن بشير، ولم يعزه العراقيُّ في تخريج أحاديث الإحياء (2/ 743) إلَّا للطبراني، وهو في المعجم الكبير (21/ 166) من طريق عفَّان بن سيار، عن عنبسة بن الأزهر، عن سماك بن حرب، عن النعمان بن بشير. وعنبسة صدوق ربَّما أخطأ، وسماكٌ تغيَّر بأخرة، ولكن للحديث شاهدٌ صحيح من حديث أخرجه أبو داود في سننه، في كتاب الأدب، باب من يأخذ الشيء على المِزاح (4/ 301، ح 5004)، وأحمد في المسند (38/ 163) كلاهما من طريق الأعمش عن عبد الله بن يسار الجهني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدَّثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنَّهم كانوا يسيرون مع النبي صلى الله عليه وسلم فنام رجلٌ منهم فانطلق بعضهم إلى حبلٍ معه فأخذه ففزع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا يحلُّ لمسلمٍ أن يروِّع مسلمًا» . وصحّحه الألباني في غاية المرام (ص 257).

(2)

انظر: تكملة شرح الترمذي للعراقيِّ، تحقيق: عبد الله العمراوي (ص 778). رسالة ماجستير غير منشورة في الجامعة الإسلاميَّة، (المدينة المنوَّرة) سنة/1425 - 1426 هـ.

(3)

في صحيح مسلم (4/ 1986، ح 1986) قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنبٍ، حدثنا داود يعني ابن قيس، عن أبي سعيد -مولى عبد الله بن عامر بن كُرَيز- عن أبي هريرة مرفوعًا. دون قوله:(ولا يكذبه).

وأبو سعيدٍ هذا قالوا: لا يعرف اسمه، وقال ابن المديني:(مجهول) -كما في جامع العلوم والحكم لابن رجب (2/ 259) - وذكره البخاريّ في التاريخ الكبير (9/ 34) وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (9/ 376) ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا، وذكره ابن حبَّان في الثقات (5/ 586)، والدارقطني في أسماء التابعين ومن بعدهم ممن صحت روايتهم عن الثقات عند البخاريّ ومسلمٍ (2/ 294) ووثَّقه الذهبي في الكاشف (2/ 430)، وقال الحافظ في التقريب (ت/8132): =

ص: 218

الجوامعِ (1) وفصلِ الخطابِ الذي خُصَّ به هذا النبيُّ المكرَّم، صلى الله عليه وسلم.

= (مقبول) أي: حيث يتابع، وإلَّا فليِّن الحديث، ولكنَّ الحديث روي من طرقٍ أصحَّ من هذا الوجه، فقد روي عن جماعةٍ من الصحابة أوصلهم الحافظ العراقي في شرحه على الترمذيّ ستَّة، ثمَّ ذكر ما ورد في الباب أيضًا ووصلت عشرة أحاديث، وأخْرجَ كلَّ طريقٍ منها. انظر: انظر: تكملة شرح الترمذي للعراقيِّ، تحقيق: عبد الله العمراوي (ص 768 - 775). رسالة ماجستير غير منشورة في الجامعة الإسلاميَّة، (المدينة المنوَّرة) سنة/1425 - 1426 هـ.

(4)

سنن الترمذيّ، كتاب البرِّ والصلة، باب ما جاء في شفقة المسلم على المسلم (3/ 389، ح 1927). وقال الترمذيّ: (حسنٌ غريبٌ)، ولعلَّ الغرابة للكلام السالف في أبي سعيدٍ، وقد نسب السيوطيّ في الجامع الصغير الحديث إلى أبي داود، فردّ عليه الشارح في فيض القدير (6/ 270) أنَّه في الصحيح، ثمَّ قال:(العدول إلى غيره من ضيق العَطَن).

(5)

وقال فيه ابن الملقِّن في المعين على تفهم الأربعين (400): (حديثٌ عظيمُ الفوائدِ كثيرُ العوائدِ).

(6)

في (ب): عظيم الفرائد.

(1)

من خصائص النبيِّ صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، وبدائع الحكم، كما في صحيح البخاريّ (7013) وصحيح مسلمٍ (523) عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«بعثت بجوامع الكلم» ، وأورد البخاريُّ إثر هذا الحديث مقولة الزهريّ:(جوامعُ الكلم - فيما بلغنا - أنَّ الله يجمع له الأمور الكثيرة التي كانت تُكتبُ في الكتب قبله في الأمر الواحد والأمرين، ونحوِ ذلك). وقال الحافظ في الفتح (13/ 247): (وجزم غيرُ الزهريّ بأنَّ المراد بجوامع الكلم: القرآن، بقرينة قوله: «بُعثتُ» ، والقرآن هو الغاية في إيجاز اللفظ واتِّساع المعاني). ولا مانع من القول بأنَّ جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم نوعان: نوع قرآنيٌّ، ونوعٌ حديثيٌّ، كما ذهب إليه الحافظ ابن رجبٍ رحمه الله في مقدِّمة جامع العلوم والحكم (1/ 54).

ص: 219