الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثاني
في الإحرام
(1)
فَصْلٌ
في ميقات الحج
لَهُ ميقَاتَان زَمَاني وَمَكَانيّ. أمَّا الزمَانيّ فَهُوَ شَوالُ (2) وَذُو الْقِعْدَةِ (3) وعشْرُ لَيَالٍ مِنْ ذِي الْحِجةِ (4) آخِرُها طُلُوعُ الْفَجْرِ يَوْمَ العيدِ (5) فَلَا يَنْعَقِدُ
(1) يطلق على الفعل المصدري فيراد به نية الدخول في النسك إذ معنى أحرم أدخل نفسه في حالة حَرُم عليه بها ما كان حلالاً، أي نوى الدخول في ذلك وهو حينئذ ركن سمي بذلك لاقتضائه تحريم الأنواع الآتية، ويطلق على الأثر الحاصل بالمصدر فيراد به نفس الدخول في النسك أي الحالة الحاصلة المترتبة على النية، وهذا مرادهم بقولهم ينعقد الإحرام بالنية، وقولهم: نويت الإحرام وقولهم: يبطل الإحرام بالردة ويفسد بالجماع، والمراد هنا الأول فلو نوى بقلبه الإحرام أي الدخول في النسك ولم يعين حجاً أو عمرة صح وانعقد عمرة إن كان في غير أشهر الحج فلا يشترط له التعيين، ولا قصد الفعل ولا نية الفرضية نعم يجب التعيين فيما لو أحرم مطلقاً في أشهر الحج.
(2)
شوال: من شالت الإبل أذنابها إذا حملت فيه.
(3)
القعدة: بفتح القاف على الأفْصَح سمي به لقعود العرب فيه عن القتال.
(4)
الحجة: بكسر الحاء على الأفصح سمي به لوقوع الحج فيه.
(5)
فوقوف المحرم بعد فجر يوم عيد الأضحى لا يجزِئه عن الحج للحديث الصحيح الذي رواه الخمسة وصححه الترمذي رحم الله الجميع آمين. عن عروة بن =
الإِحْرَامُ بالْحَج في غَيْر هَذِهِ الْمُدَّة فَإنْ أحْرَمَ به في غَيْرِها لم يَنْعَقِدُ حَجَّاً (1) وَانْعَقَدَ عمرة (2) مجزئة عن عمرة الإِسلام على الأصح وقيل: يَنْعَقِدُ عمرة ولا تجزئه عن عمرة الإِسلَام وَقِيلَ: لَا تكون عُمْرَة بلْ يَتَحَلَّلُ بعَمَل عُمْرَةٍ وقيلَ: لا يَنْعَقِدُ الْحَج في لَيْلَة الْعيدِ بَلْ حُكْمُهَا حُكمُ غيرِ أشْهُرِ الْحَج وَلَوْ أَحْرَمَ قَبْل أشْهُرِ الْحَج إِحْرَاماً مُطْلَقاً انْعَقَدَ عُمْرَة.
وأما الْمَكَانِيّ فالنَّاس فيه قِسْمَانِ: أحَدهمَا: مَنْ هو بِمَكَّةَ مكّياً أوْ غَريباً فَميقَاتُهُ بالْحَج نَفْسُ مَكّةَ (3) وَقِيلَ: مَكّةُ وسائرُ الْحَرَمِ والصَّحيحُ هُوَ الأَولُ ولهُ أنْ يُحْرِمَ مِنْ جَمِيعِ بقاع مَكةَ.
= مُضَرس رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت: يا رسول الله إني جئت من جبل طيىء كللت راحلتي (أتعبتها) وأتعبت نفسي ووالله ما تركت من حبل (بالحاء المهملة الكثيب المستطيل من الرمل وقيل الضخم منه) إلا وقعت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"منْ شهد معنا صلاتنا هذه فوقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تمَّ حجه وقضى تفثه (أدى مناسكه) ".
(1)
أي لوقوع الإحرام بالحج في غير أشهره وهي كما تقدم شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة لقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197] فخص فرضه بالأشهر المعلومات بهذه الآية الخاصة من الآية العامة وهي قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] فهذه الآية محتملة لأن يراد بها أن من الأهلة ما هو مواقيت لغير الحج ومنها ما هو مواقيت للحج، وهذا مبهم عينته الآية الأولى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} فتعين الأخذ بها كيف وقد صح عن ابن عباس رضي الله عنه إنه قال: (من السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج)، وهذه الصيغة لها حكم المرفوع، وصَح أيضاً عن جابر رضي الله عنه:(أهل بالحج في غير أشهره؟ فقال: لا).
(2)
أي إنْ كان حلالاً، وإلا فهو لغو لأن العمرة لا تدخل على أخرى، والحج لا يتقدم على وقته.
(3)
أي لا يجوز الإِحرام من خارج مكة ولا من محازاتها ولا من أبعد منها. هذا في حق من يحرم على نفسه ولو بقران وهو بمكة، أما الأجير والمتبرع بالحج ولو مكياً =
وَفِي الأَفْضَل قَوْلان للشافعي رَحِمَهُ الله تعالى الصَّحيحُ مِنْهُمَا أنَّهُ يُحْرمُ من باب دَاره (1) والثاني مِنَ الْمَسْجِد قَريباً مِنَ البَيْت وَيُسْتَحَب أنْ يكُون إحْرام المُقيم بمَكَّةَ يَوم التروية (2) وهُوَ الثامن مِنْ ذي الْحِجة وسَوَاء أرادَ الْمُقِيمُ بمكَّةَ الإِحْرَام بالْحَج مفرِداً أم أرَاد القِران بَيْن الحَج وَالْعُمْرَة فميقَاته ما ذَكَرْنَاهُ وقيلَ: إنْ أرادَ القرانَ لزِمَهُ إنْشاء الإِحْرَام مَنْ أدْنَى الحِلِّ كما لو أرادَ الْعُمْرَةَ وَحْدها والصَّحِيحُ ما قَدَّمْنَاهُ.
القسم الثاني الأفُقيُّ (3) وهُوَ غيرُ المقيمِ بمكةَ وَمَواقيتُهُمْ خَمْسَةٌ:
أحَدهما: ذُو الحُلَيْفَةِ (4) ميقَاتُ مِنْ تَوَجهَ مِنَ الْمدينَة الْمُنَوَّرَة وَهُوَ مِنَ
= فيعتبر إحرامهم من ميقات المحجوج عنه، فإن خالفوا بالإحرام من غيره فالدم عليهم لا على المحجوج عنه، وعند الحنفية العبرة بميقات الحاج وبه قال الطبري وجماعة من الشافعية.
(1)
المعتمد أنه يسن له أولاً: ركعتا الإحرام بالمسجد، ثم يأتي إلى باب داره فيحرم عند أخذه في السير بنفسه أو دابته إذْ الإحرام لا يسن عقب الركعتين بل عند الخروج إلى عرفة، ثم يدخل المسجد محرماً لطواف الوداع المسنون له -كما يأتي إن شاء الله- لا للصلاة.
(2)
يستثنى منه العادم لهدي التمتع فليلة الخامس يصوم الخامس والسادس والسابع ليكون يوم الثامن مفطراً لأنه يوم سفر، وسُمي بالتروية لأنّ الحجاج كانوا في الزمن السابق يتروون أي يحملون معهم الماء من مكة إلى عرفة، واليوم والحمد لله موجود في جميع مشاعر الحج.
(3)
يجوز في (أفقي) ضم الهمزة والفاء وفتحهما.
(4)
الحُلَيْفَة: بضم الحاء وفتح اللام تصغير (الحلفة) بفتح أوليه، واحد الحلفاء وهو النبات المعروف، وتسمى الآن أبيار علي نسبة إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبها بئر يقول العوام إنه قاتل الجن بها، وهذا القول كذب لا أصل له.
المدينة على نحو ستة أَمْيَال (1) وَبينَهُ وبينَ مكةَ عَشْرُ مَرَاحلَ (2).
الثاني: الْجُحْفَة (3) مِيقَاتُ الْمُتَوَجهينَ مِنَ الشام على طَريق تبوكَ وَالْمُتَوَجهِينَ مِنَ مصْرَ والْمَغْربِ وهيَ قَرْيةٌ على نحو ثَلَاث مَرَاحلَ منْ مكةَ أَوْ أكْثَرَ.
الثالث: قَرن بإسْكان الراء ويُسَمَّى قَرْنَ المنازل (4) وقرن الثعالب وهو ميقاتُ الْمُتَوَجهينَ مِنْ نَجْد الْحجازِ ومِنْ نَجْد الْيَمَن.
(1) قال العلامة السمهودي -أحد مؤرخي المدينة المنورة- كما في حاشية العلامة ابن حجر المكي -رحم الله الجميع- اعتبرتها من عتبة باب السلام إلى عتبة مسجد الشجرة بذي الحليفة فرأيتها تسعة عشر ألف ذراع بتقدم التاء وسبعمائة بتقديم السين واثنين وثلاثين ذراعاً ونصف ذراع بذراع اليد. انتهى. وذو الحليفة أبعد المواقيت عن مكة المكرمة.
(2)
أي بسير الإبل المحملة والمشي على الأقدام، وأما الآن بالسيارة فست ساعات أو نحوها.
(3)
الجحفة: بضم الجيم وسكون الحاء المهملة: قرية كبيرة بين مكة والمدينة وهي أوسط المواقيت، سميت بذلك لأن السيل أجحفها أي أزالها، فهي الآن خراب، ولذلك بدلوها الآن "برابغ" وهي قبل "الجحفة" بيسير، فالإحرام من رابغ مفضول لتقدمه على الميقات، إلا إنْ جهلت الجحفة أو تعسر بها فعل السنن للإحرام من غسل ونحوه، أو خشي من قصدها على ماله فلا يكون الإحرام من رابغ مفضولاً، فعليه أصبح الآن الإحرام من "رابغ" ليس بمفضول لجهل أكثر الناس بعين "الجحفة" ولارتفاقهم في المنزل برابغ من حيث المأكل والمشرب، وغير ذلك.
(4)
قرن: بفتح القاف، وسكون الراء: وادي السيل الكبير ووادي المحرم، وهما متصلان، وكلاهما يسمى قرناً، فمن أحرم من أحدهما فقد أحرم من الميقات لكن يجب الإحرام من نفس وادي السيل من طرفه الموالي لجهة الطائف لا من القهاوي.
الرابعُ: يَلَمْلَم ويقالُ: أَلمْلَم (1) وهُوَ ميقاتُ الْمُتَوَجِّهينَ مِنْ تِهَامَةَ وَتهامَةُ بَعْض من اليمن.
فَإِن اليمن يَشْمَلُ نَجْداً وتهَامَةَ، قالَ أصْحَابُنَا: وحَيْثُ جاء في الْحَدِيث وغَيْره أن يَلَملَم ميقَات أهْل الْيَمن فالْمُرَاد ميقَاتُ تهامَةَ (2) لا كُل الْيَمَن فإن نَجْدَ الْيَمَنِ ميقَاتهُمْ ميقَات نَجْدِ الْحِجَاز (3).
الخامسُ: ذَاتُ عرْقٍ (4) ميقَاتُ الْمُتَوَجهينَ مِنَ الْمَشْرق كَخُراسان وَالعراق وهَذه الثلَاثة بينَ كلٍّ منها وبَيْنَ مَكَّةَ مَرْحَلتَان.
(1) ويقال أيضاً "يرمرم" براءين مهملتين بدل اللامين، وهو جبل من جبال تهامة على ليلتين من مكة المكرمة.
(2)
أي تهامة اليمن، وسمي "يمناً" لأنه عن يمين الكعبة، "وتهامة" بكسر التاء وقيل بفتحها اسم لكل ما نزل من نجد، وكان غوراً من التهم وهو شدة الحر وسكون الرياح، وقيل لتغير هوائها، ومكة منها، ونجد بفتح النون قيل وضمها اسم لكل ما ارتفع، ثم اشتهر في موضع مخصوص بالحجاز واليمن مشتملان على نجد وتهامة، فإذا أطلق نجد فالمراد به نجد الحجاز.
(3)
وهو قرن وادي المحرم لمن يمر بطريق جبل كرا أو وادي السيل لمن يمر بطريق الحويّة، وهما متصلان بجبل كرا وكلاهما يسمى قرناً، فمن أحرم من أحدهما فقد أحرم من الميقات، والطريقان والحمد لله معبدان، لكن يجب على مريد الإحرام من وادي السيل الإحرام من نفس الوادي من طرفه الموالي لجهة الطائف لا من القهاوي -كما تقدم- فليتنبه لذلك المحرم وفقنا الله آمين.
(4)
عرق: بكسر العين وسكون الراء المهملتين جبل صغير أو أرض سبخة تنبت الطرفاء، و "ذات عرق": قرية خربة قديمة وهي بين العقيق، وقرية المضيق ووادي العقيق قبلها، فمن أحرم منه فقد أحرم واحتاط وهذا العقيق غير عقيق الطائف، وغير عقيق المدينة المنورة الذي ورد فيه الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: "أتاني الليلة آت من ربي فقال: صَل في هذا الوادي =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= المبارك وقل عمرة في حجة" فإن هذا بينه وبين المدينة أربعة أميال تقريباً، وهناك عقيق رابع في طريق بلاد غامد قد جئته عام 1374 هـ أو 1375 هـ أنا والأستاذ عبد الرحمن بن صالح المسفر في سيارة فُرْط موديل (74) أول خروجها، وصاحب السيارة اسمه أحمد بن خلف الغامدي مسكنه بالصقاع ببلجرشي، والعقيق كل ما شقه السيل فأنهره. وقد نظم بعض العلماء رحمهم الله تعالى ورحمنا جميعاً المواقيت مع بيان مسافتها فقال:
قرن يلملم ذات عرق كلها
…
في البعد مرحلتان من أم القرى
ولذي الحليفة بالمراحل عشرة
…
وبها لجحفة ستة فاخبُرْ ترى
وهذه المواقيت كلها خارج الحرم المكي وعلى حدوده أعلام. قال الإمام النووي رحمه الله في مجموعه: (واعلم أنّ الحرم عليه علامات منصوبة في جميع جوانبه)، ذكر الأزرقي رحمه الله تعالى وغيره بأسانيدهم أن إبراهيم الخليل على نبينا وعليه الصلاة والسلام علمها ونصب العلامات فيها وكان جبريل عليه السلام يريه مواضعها، ثم أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بتجديدها، ثم عمر ثم عثمان ثم معاوية رضي الله عنهم، وهي إلى الآن بينة ولله الحمد.
قال الأزرقي في آخر كتاب مكة: أنصاب الحرم التي على رأس الثنية ما كان من وجوهها في هذا الشق فهو حرم، وما كان في ظهرها فهو حل. اهـ. وقد نظم بعضهم مسافتها بالأميال فقال:
وللحرم التحديد من أرض طيبة
…
ثلاثة أميال إذا رمت إتقانه
وسبعة أميال عراق وطائف
…
وجدة عشر ثم تسع جِعْرانة
ومن يمن سبع تقديم سينه
…
وقد كملت فاشكر لربك إحسانه
أقول:
وقد جدد هذه الأعلام بعد معاوية عبد الملك بن مروان ثم المهدي ثم المقتدر بالله العباسي، ثم أمر الراضي بالله العباسي بتجديد العلمين من جهة التنعيم ثم أمر المظفر صاحب إربل بعمارة العلمين من جهة عرفة ثم الملك المظفر صاحب اليمن، وجددها السلطان أحمد الأول العثماني سنة ألف وثلاث وعشرين هجرية وفي زمن حكومتنا السنية زمن عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود جددت الأعلام من جهة عرفة، ومن بعض الجهات نسأله تعالى التوفيق لحكومتنا لما يحبه ويرضاه آمين.
والأفْضَلُ في حقِّ أهل العرَاق والمشرق أنْ يُحْرمُوا مِنَ العَقيق (1) وهو وَادٍ بِقُرْبِ ذات عرق أَبعَد منها وأَعْيانُ هذه الْمَواقيت لا تُشتَرطُ بَلْ ما يُحَاذيها في مَعْنَاهَا (2) والأفْضَلُ في كلّ ميقَات منها أنْ يُحْرمَ من طَرَفه الأَبْعَدِ من مَكَّة (3) فلو أَحْرَمَ منَ الطَّرَف الآخر جازَ لأَنهُ أَحْرَم منه (4) وهذه الْمَوَاقيتُ
(1) نص عليه الشافعي رحمه الله تعالى لأنه الأحوط كما تقدم ولأنه ورد أنه صلى الله عليه وسلم:
"وقت لأهل المشرق العقيق" لكنه ضعيف وإن حسنه الترمذي رحمه الله تعالى وهذه المواقيت كلها ثبتت بالنص لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: (وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرناً ولأهل اليمن يلملم، هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج والعمرة، ومن كان دونهن فمهله من أهله، وكذلك أهل مكة يهلون منها) متفق عليه، وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق. رواه أبو داود والنسائي، وعن جابر مرفوعاً رواه مسلم رحم الله الجميع ورحمنا معهم آمين.
وعن الإِمام أحمد رحمه الله قال: لما فتح هذان المصران -الكوفة والبصرة- أتوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالوا: يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حَد لأهل نجد قرناً وأنه جَوْر عن طريقنا، وإن أردنا أن نأتي قرناً شق علينا، قال: فانظروا حذوها من طريقكم قال: فحد لهم ذات عرق. رواه البخاري رحمه الله تعالى وهذا التحديد من سيدنا عمر رضي الله عنه هو حيث لم يبلغه النص.
(تنبيه): الاعتبار في هذه المواقيت نفس الموضع لا بما به من بناء ونحوه.
(2)
لما ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه قال لأهل الكوفة والبصرة حين شكوا إليه بُعد قرن عن طريقهم ولم يبلغه النص (فانظروا حذوها من طريقكم فحد لهم ذات عرق).
(3)
أي احتياطاً إلا ذا الحليفة فمن مسجدها الذي أحرم منه صلى الله عليه وسلم ويسمى مسجد الشجرة، لوجود شجرة كانت موضعه، وقيل من البيداء.
(4)
منه أي من الميقات وقد تقدم التنبيه، وهو أنه مَنْ أراد الإحرام من وادي السيل الكبير فليحرم من نفس الوادي من طرفه الموالي لجهة الطائف لا من القهاوي التي بعد المسيل لأنها ليست موضع الميقات الذي وقته صلى الله عليه وسلم فليتنبه لذلك فقد وقع في ذلك جم غفير من الحجاج والمعتمرين، فإنهم كانوا يقفون بسياراتهم عند هذه القهاوي ويحرمون =
لأَهْلهَا ولكُل منْ مَرَّ بها مِنْ غير أَهْلهَا ممَّنْ يُريدُ حَجاً أَو عُمْرَة (1) كَالشَّامي يَمُرُّ بميقَات أَهْل الْمَدينة ويَجُوزُ أَنْ يُحْرِمَ قَبْلَ وُصُوله الميقَاتَ منْ دُويْرَة أَهْله ومِنْ غيرها وفي الأَفْضَل قَوْلَان الصَّحيحُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ الميقَات (2) اقتدَاء برَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَالثاني من دُوَيْرَة أهله أما مَنْ مسكَنُهُ بينَ الميقَات وَمكَّةَ فَميقاتُهُ القرية التي يَسكُنها (3) والحِلة التي يَنزلُهَا البَدَوِيُّ ويُسْتَحَب أن يُحْرمَ مِنْ طَرَفها الأبْعَدِ مِنْ مَكَّةَ وَيَجُوزُ مِنَ الأَقْرَبِ ومن سَلَكَ الْبَحْر أو طَريقاً ليسَ فيه شَيءٌ مِنَ المَوَاقيتِ الْخَمْسَةِ أحْرَمَ إذَا حَاذَى (4) أقْرَبَ المَوَاقيتِ إليهِ (5).
= منها، فيجب على من أحرم من هذه القهاوي الرجوع إلى المسيل والإِحرام منه وإلا فعليه ما على مجاوز الميقات. هدانا الله لما يحبه ويرضاه آمين.
(1)
لقوله صلى الله عليه وسلم: "هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج والعمرة".
(2)
يستثنى منه الأجير إذا سلك طريقاً ميقاتُها أقرب من ميقات المحجوج عنه فإنه يسن له الإحرام قبله من محاذاة ميقات المحجوج عنه وقد يجب الإحرام قبل الميقات كان نذره من دويرة أهله.
(3)
كأهل منى وخليص فمسكنه ميقاته، والحرمي ومن بمكة يخرجان للعمرة إلى أدنى الحل لوجوب الجمع بين الحل والحرم، ومن سكن بين ميقاتين كأهل بدر، والصفراء، والخيف، فإنهم بعد ذي الحليفة وقبل الجُحْفَة فميقاتهم الثاني وهو "الجحفة"، ومن كان في طريقه ميقاتان ومَر بعين أحدهما وحاذى الآخر فالعبرة بما مَر بعينه إذ هو أقوى من المحاذاة كما إذا لم يمر على ذي الحليفة وسلك طريق الجحفة، فميقاته الجحفة والله أعلم.
(4)
أي سامته يميناً أو شمالاً لا أماماً ولا خلفاً.
(5)
هذا إذا حاذى ميقاتاً واحداً، فإن حاذى ميقاتين كأن لم يمر بالجحفة، وإنما سلك طريقاً تكون أقرب إليه عند محاذاتها من ذي الحليفة، فأقربهما إليه، وإن كان الآخر أبعد عن مكة، فإن استويا قرباً إليه فالأبعد من مكة، فإن استويا فمحاذاتهما، ويعمل بقول المخبر عن علم ثم يجتهد إن علم أدلة المحاذاة، وإلا قلد مجتهداً وسن له أنْ يحرم قبله، ويجب ذلك إن تحير وخاف فوت حج تضيق عليه والله أعلم.
فإنْ لم يُحَاذ شَيْئاً (1) أحْرَمَ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكةَ (2) فإنْ اشْتبَهَ عَلَيْهِ الأَمْر تَحَرَّى (3) وطَريقُ الاحْتِيَاط لا تَخْفَى (4).
(فرع): إذا انْتَهَى إنْسَان إلَى الميقَات وَهُوَ يُرِيدُ حَجاً أو عُمْرَةً لَزمَهُ أنْ يُحْرمَ منهُ فإنْ جَاوَزَه (5) غَيْرَ مُحْرم عصَى (6) ولزِمَهُ أنْ يعُودَ
(1) كالجائي من سواكن إلى جدة بحراً من غير أنْ يمر برابغ ولا بيلملم لأنهما حينئذ أمامه فيصل إلى جدة قبل محاذاتهما، وهي على مرحلتين من مكة فتكون جدة ميقاته.
(2)
أي لأنه لا ميقات بينه وبين مكة أقل من هذه المسافة.
(3)
أي إنْ لم يجد مخبراً عن علم وإلا لزمه اتباعه.
(4)
يفهم منه أن الاحتياط سنة، وهو كذلك، ويجب الاحتياط عند تحيره في اجتهاده وخاف فوت حج تضيق عليه، كما تقدم والله أعلم.
(5)
أي وإن كان حال المجاوزة في غير أشهر الحج، فإنْ جاوزه أي الميقات وهو كل محل يلزمه الإحرام منه إلى جهة الحرم غير محرم.
(6)
عصى: أي إن كان مكلفاً ولم ينوِ العود إليه أو إلى مثل مسافته قبل التلبس بنسك، أما لو كان مريداً للنسك غير سائر إلى جهة الحرم بل يمنة أو يسرة جازت مجاوزة الميقات وتأخير الإِحرام إلى محل مسافته إلى مكة مثل مسافة ذلك الميقات كالجائي من اليمن بحراً فله تأخير إحرامه إلى رأس العلم المعروف قبل مرسى جدة، ولا يجوز تأخير الإحرام إلى جدة لأنها أقرب من يلملم بنحو الربع، وقول العلامة ابن حجر المكي ومن وافقه رحمهم الله تعالى من جواز التأخير إلى جدة مبني على اتحاد المسافة الظاهرة من كلامهم فإذا تحقق التفاوت وقد حققه الكثير ممن سلك الطريقين، وهم عدد كادوا أن يتواترون، فالعلامة ابن حجر ومن وافقه قائلون بعدم جواز تأخير الإِحرام إلى جدة أخذاً من نص تقييدهم المسافة والله أعلم، ومن مَرّ بميقات طريقه أو محل مسافة القصر من مكة مريداً مكة أو الحرم لا للنسك بل لنحو تجارة كحطاب سن له الإحرام منه وكره تركه، ويُسَنْ بتركه دم وإن تكرر دخوله خروجاً من خلاف مَنْ أوجبه كابن عباس وأبي حنيفة رضي الله عنهما فإن جاوزه بغير إحرام ثم أراد أن يحرم فمحل الإِرادة ميقاته ويسمى (الميقات العنوي) بفتح العين المهملة والنون -أي الذي عَنّ له الإحرام منه -، أو =
إليه (1) وَيَحْرِم منه (2) إنْ لَم يَكُنْ لهُ عُذْر فإنْ كَانَ لَهُ عُذْر كَخوفِ الطَّرِيقِ (3) أو الانْقِطَاع عن الرُّفْقَة أو ضِيقِ الوَقْتِ (4) أحْرَمَ ومَضَى في نُسكِهِ (5) ولَزمَهُ دَمٌ إذا لم
= (الإِرادي) وهو مثل الميقات الشرعي في الحكم كالميقات (الشرطي) وهو ما عين للأجير و (النذري) وهو ما عينه في نذره هذا إن كان كلٌ فوق الشرعي فإن كان دونه لغى الشرط وفسدت الإِجارة ولم ينعقد النذر، وتعين الميقات الشرعي.
(1)
لزمه أن يعود إليه أي إلى الميقات أو لمثله بقصد تدارك الواجب محرماً قبل التلبس بنسك ولو سنة كطواف القدوم، أو ليحرم به ولو ماشياً إنْ قدر ولو بمشقة تحتمل عادة وإن كان من حاضري الحرم ولا يكفيه دونه وإن كان ميقاتاً [فإن قيل: يسقط الدم عن المتمتع إذا عاد إلى أي ميقات ولو أقرب] أجيب: إنما سقط عن المتمتع الدم بعوده لميقات أقرب لأن المدار على كونه ربح ميقاتاً، وبذلك يتحقق انتفاؤه، والمدار هنا على الإِساءة أصالة وانتفاؤها بذلك غير محقق والله أعلم.
(فائدة): جاء في تقييدات على الإيضاح: لا يجب الإحرام من الميقات إلا إذا كان مستجمعاً لخمس شرائط:
الأول: أن يكون قاصداً بهذا السفر دخول مكة أو الحرم ليخرج مَنْ جاوزه مريداً نحو الطائف.
الثاني: أن يكون قاصداً النسك ولو بغير هذا السفر ليخرج أهل مكة إذا توجهوا إليها ولم يكونوا مصممين على النسك، ولو كان من عادتهم الحج كل عام.
الثالث: أن تكون المجاوزة إلى جهة الحرم.
الرابع: أن يكون غير ناو العَوْد إليه أو إلى مثل مسافته قبل تلبسه بنسك.
الخامس: أن يكون حراً. اهـ من خط الشيخ ابن سليمان الكردي رحمه الله تعالى والمعلق والمسلمين والمسلمات آمين.
(2)
هذا مجرد مثال وإلا فلو عاد إلى الميقات أو إلى مثل مسافته قبل التلبس بنسك محرماً كفى، كما يفهم مما مَرّ ومما يأتي في كلام المصنف رحمه الله تعالى.
(3)
أي على نفس محترمة أو بُضع أو مال وإن قَل.
(4)
أو سهو عن لزوم العود أو جهل به، وإن خالط العلماء.
(5)
أي جوازاً في غير ضيق الوقت ولزوماً فيه حيث غلب على ظنه أنه يفوته الحج إذا عاد.
يَعُدْ (1) فإنْ عَادَ إلَى الميقَات (2) قَبْلَ الإِحْرَام فَأحْرَمَ منْه أو بَعْدَ الإِحْرام وَدُخولِ مَكّةَ قَبل أنْ يطُوفَ (3) أو يفعَلَ شيئاً من أنْواع النُّسك سقط عنه الدمُ وإنْ عَادَ بَعْدَ فِعْل نُسُك لم يَسْقُطْ عنه الدَّم وسَوَاء في لزُوم الدَّمِ مَنْ جاوَزَ عامِداً أو جَاهلاً أو ناسياً (4) معذوراً بغيرِ ذلكَ وإنما يَفْتَرِقُونَ في الإِثْم فلا إثم على الناسي والجَاهلِ ويَأثَمُ العامِدُ.
(1) أي وأحرم بعد المجاوزة وسواء أنوى بعدها عدم الإِحرام أم لا. وأن يكون إحرامه في تلك السنة.
(2)
أي الذي جاوزه أو لمثل مسافته فلا أثر للعود إلى أقرب منه لأنه ألزم نفسه الإحرام منه بنية النسك عند مجاوزته.
(تنبيه): من خرج من مكة لزيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً فزار ثم وصل ذا الحليفة، فإن كان عند الميقات قاصداً نسكاً حالاً أو مستقبلاً لزمه الإحرام من الميقات بذلك النسك أو بنظيره، وإلا لزمه الدم بشرطه، وإن كان عند الميقات قاصداً وطنه، أو غيره ولم يخطر له قصد مكة لنسك لم يلزمه الإحرام من الميقات بشيء وإن كان يعلم إنه إذا جاء الحج وهو بمكة حج أو أنه ربما حصرت له العمرة وهو بمكة فيفعلها لأنه حينئذ ليس قاصداً الحرم بما قصد له من النسك، وإنما هو قاصده لمعنى آخر واحتمال وقوع ذلك منه بعدُ لا نظر إليه، بخلاف ما إذا قصده عند المجاوزة لنسك حاضر أو مستقبل، فإنه قاصده لما وضع له، فلزمه تعظيمه به أو بنظيره لوجود المعنى الذي وضع الإحرام لأجله من الميقات فيه قاله ابن حجر في الفتاوى الكبرى. اهـ عمدة الأبرار بزيادة.
(3)
أي قبل أن يشرع في الطواف، ولو طواف القدوم كما سبق سواء أَقبل الحَجَر بنية الطواف أم لا، لأن تقبيله حينئذ مقدمة للطواف لا منه.
(4)
فإنْ قيل صورة السهو يشكل تصورها لأن الساهي عن الإِحرام يستحيل أن يكون في تلك الحالة مريداً للنسك. أجيب: تتصور فيمن أنشأ سفره من بلده قاصداً للإحرام وقصده مستمر فسها عنه حين المجاوزة والله أعلم. =