المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أسرار الحج وذكرياته - الإيضاح في مناسك الحج والعمرة

[النووي]

فهرس الكتاب

- ‌التعريف بصاحب الإِيضاحرحمه الله تعالى

- ‌التعريف بصاحب الحاشية على الإيضاح

- ‌التعريف بمؤلف الإِفصاح

- ‌مقدمة صاحب الإِفصاح

- ‌مقدمة الإِيضاح

- ‌أسرار الحج وذكرياته

- ‌منافع الحج دينية ودنيوية

- ‌الباب الأولفي آداب سفره وفيه مسائل

- ‌فصلإِذَا جَمَعَ في وَقْت الأُولَى أَذَّنَ لَهَا

- ‌فصلوَيُسْتَحَب صَلَاةُ الْجَمَاعَة في السَّفَر

- ‌فصلوَتُسَنُّ السُنَنُ الرَاتِبةُ مَعَ الْفَرَائِضِ في السفَرِ

- ‌فَصْلوَالتيمُّمُ مَسْحُ الْوَجْه

- ‌فَصْلإذا صَلَّى بالتيَمم لِعَدَم الْمَاءِ الَّذِي يَجِبُ اسْتِعْمَالُهُ لَمْ تَلْزَمْهُ إِعَادةُ الصَّلَاة

- ‌فَصْلٌإذا لَمْ يَجِدْ ماءَ ولا تُرَاباَ صَلَّى على حَسَبِ حَالِهِ

- ‌فَصْلمما تَعُمُّ به الْبَلْوَى وَيَحْتَاجُ إلى مَعْرِفَتِهِ سَالِكُ طَرِيْقِ الْحَجِّ حُكْمُ مَنْ يَمُوتُ مَعَهُمْ

- ‌فَصْلوممَّا يَتأكدُ الوَصيةُ به أنَّهُ يَنْبَغي أَن يحْرصَ على فعل الْمَعْرُوف

- ‌فَصْلمُخْتَصَرٌ جدَّاً فيما يَتَعَلَّقُ بوجُوب الْحَجُّ

- ‌الباب الثانيفي الإحرام

- ‌فَصْلٌفي ميقات الحج

- ‌فَصْلفي آداب الإِحرام

- ‌فَصْلٌفي التلبية

- ‌فَصْلفي محرمات الإِحرام

- ‌الأَوَّل: اللُّبْسُ:

- ‌النوع الثاني: من محرمات الإحرام الطيب:

- ‌النوع الرابع: الحلق وقلم الظفر:

- ‌النوع الخامس: عَقْدُ النكاحِ:

- ‌النوع السادس: الجمَاعُ ومُقَدّماته:

- ‌فَصْلٌهذه مُحَرَّماتُ الإِحرام السَّبْعَة وما يَتَعَلَّقُ بها والمرأة كالرَّجل في جَميعها

- ‌فَصْلوما سِوَى هذه المحرمات السَّبْعة لا تحرُمُ على المُحْرم

- ‌الفصل الأولفي آداب دخولها

- ‌الفصل الثانيفي كيفية الطواف

- ‌فَرْعٌ في وَاجِبَاتِ السَّعْي وَشُرُوطِهِ وَسُنَنِهِ وَآدَابِهِ:

- ‌الفصل الرابعفي الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ قَبْلَهُ وَبَعْدهُ

- ‌الفصل السادسفي الدفع إلى منى

- ‌الفصلُ السابعُفي الأعمالِ المشروعةِ بِمنى يَوْم النَّحْرِ

- ‌فَصْلٌلِلحج تَحَلُّلانِ

- ‌فَصْلفي أمورٍ تُشْرَعُ يوم النحرِ ويتعلقُ بِهِ غيرُ مَا ذكرناهُ

- ‌الفصل الثامنفيما يفعله بمنى في أيام التشريق ولياليها

- ‌الباب الرَّابعفي الْعُمْرة وَفِيهِ مَسَائِلُ

- ‌الباب الخامسفي المقام بمكة وطواف الوداع وفيه مسائل

- ‌الباب السادسفي زِيَارَةِ قَبْرِ سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَشَرَّفَ وَكَرَّمَ وَعَظَّمَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ

- ‌الباب السابعفيما يجب على من ترك من نسكه مأموراً أو ارتكب محرماً

- ‌فَصْلٌوَأَما ارْتِكَابُ الْمَحْظُورِ

- ‌فَصْليَحْرُمُ التَّعَرُّضُ لصيْد حَرم المدينةِ وَأشجَارهِ

- ‌فَصْلوَيَحْرُمُ صَيْدُ وَجِّ

- ‌فَصْلٌفِيمَا إذَا فَعَلَ الْمُحْرِمُ مَحْظُورَيْنِ أوْ أكْثَرَ هَلْ يَتَدَاخَلُ

- ‌فَصْلٌفي الإِحْصَارِ

- ‌فَصْلٌمتى صارَ الصَّبِيُّ مُحَرِماً فَعَلَ ما قَدَرَ عَلَيْهِ

- ‌فَصْلٌالزائِدُ مِنْ نَفقةِ الصَّبِي

- ‌فَصْلٌيُمْنَعُ الصَّبِي الْمُحْرِمُ

- ‌فَصلإذا جامعَ الصَّبِي

- ‌فَصْلحُكْمُ الْمَجْنُونِ حُكْمُ الصَّبِي

- ‌فَصْلإذَا بَلَغَ الصبي فِي أثناءِ الْحَجّ

- ‌فَصْلٌإِحْرَامُ العبدِ صحيحٌ

- ‌فَصْلٌفي آدابِ رُجُوعِهِ مِنْ سَفَرِ حَجّهِ

- ‌فَصْلٌذكر أقضى القضاةِ الماورديُّ في الأحكامِ السلطانيةِ باباً في الولايةِ على الحجيجِ أنَا أذكرُ إِن شاءَ الله تعالى مقاصِدَهُ

- ‌فَصْلٌنَختم به الكتاب وإن لم يكنْ له اختصاص بالمناسك

الفصل: ‌أسرار الحج وذكرياته

‌أسرار الحج وذكرياته

في كل مظهر من مظاهر الحج وفي كل مجال من مجالاته، تتجلى فيه العبودية لله ويظهر أثرها بارزاً ملحوظاً، ففي أداء الشعائر والتلبس بالطاعات من تجرد عن الثياب وحسر عن الرؤوس وفي الطواف بالبيت واستلام أركانه وفي موقف عرفات ومزدلفة ومنى في ذل وخضوع وتضرع وخشوع، وفي رمي الجمار والذبح أو النحر وما إليه في جميع ذلك مظهر العبودية لرب العباد وبارئهم، وإفراد له بالعبادة وحده دون سواه، تلك العبودية هي سر علة الوجود وهدفه الأسمى. قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات: 56 - 58].

وقال صلى الله عليه وسلم: "لَبَّيْكَ بِحِجّةٍ تَعَبداً ورِقَّاً". ثم إن الرحلة إلى بيت الله الحرام وبقية المشاعر تعطي صورة رمزية لعالم آخر وحياة أخرى، والغرض من إعطاء هذه الصورة هو دوام التذكر أبداً والبعد عن الغفلة وعدم الركون إلى الدنيا، وأخذ العبرة للاستعداد والتشمير عن ساعد الجد للتزود من الأعمال الصالحة، وادخارها لحياة باقية سعيدة وعيش رغيد لا يفنى ولا يبيد طول الأمد.

فالحاج إذ يسلك في طريقه إلى الحج المفاوز ويجتاز المخاوف والصعاب لا يكون له ما يسليه ويروِّح عنه ويربط جأشه في رحلته، حتى يبلغ

ص: 30

مأمنه إلا ما أعده من مال ومركوب، وإلا ما ادَّخره من زاد ومزاد فهو يشبه من يفارق دنياه وحيداً فريداً لا أهل ولا مال، ولا زاد أو مزاد يؤانس في وحشته، إلا ما ادَّخره من عمل صالح وإلا ما سعى إليه من كل مناحي البر وأوجه الخير، ومثل ذلك تجرده عن المخيط كتجرده عن ثيابه للغسل عند الموت، وفيه إشارة إلى الإِعراض عن الترفه والزينة (1)، وكون الحاج أشعث أغبر يشبه خروجه من القبر إلى المحشر حيران لهفان مندهشاً ينفض عنه غباره، وفي تلبيته إجابته لنداء ربه الذي استدعاه على لسان أبيه إبراهيم عليه السلام، وامتثال أمر نبيه صلى الله عليه وسلم الذي أجاب حينما سئل أي الحج أفضل؟ فقال:"العج والثج"(2) ووقوف الحجيج في عرفات كوقوفهم في عرصات القيامة آملين راغبين راجين وهم بين شقي وسعيد ومقبول ومخذول، وتعرضهم للهاجرة وحَمارّة القيظ في عرفات كتعرضهم للفح الشمس وغمرة العرق في المحشر، وإفاضتهم من عرفات كانفضاضهم من الموقف في القيامة بعد الفصل والقضاء، ولبثهم في مزدلفة ومنى كلبث المذنبين وانتظارهم لشفاعة الشافعين (3)، ورميهم الجمار تذكرهم لقصة أبيهم إبراهيم عليه السلام مع الشيطان الرجيم والتشبه به (4)، والاقتداء بنيهم محمد صلى الله عليه وسلم وذبحهم الأضاحي

(1) أي فيتحقق في الحج التشعث والتغبر لله لما جاء في الحديث: "الحاج أشعث أغبر".

(2)

العج: رفع الصوت، المراد هنا رفع الصوت بالتلبية، والثج: سيلان الدم، والمراد هنا سيلان دم الأضاحي.

(3)

من مجلة المنهل بعض مقال للأستاذ عبد الله خياط مع تصرف بسيط.

(4)

روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: "لما أتى خليل الله المناسك عرض له الشيطان عند جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض ثم عرض له عند الجمرة الثانية فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض ثم ذكر الجمرة الثالثة كذلك".

ص: 31

تجديد لذكرى فداء الله تعالى إسماعيل بكبش من الجنة، حينما أراد والده إبراهيم عليهما السلام ذبحه امتثالاً لأمر الله تعالى (1).

وطوافهم بالبيت تعظيم له لكونه رفع على قواعد الخليل وابنه إسماعيل عليهما السلام.

(1) أي لا لمجرد الرؤيا المنامية فقط لأنه لو كان فعل الذبح لمجرد أن إبراهيم عليه السلام رأى نفسه وابنه إسماعيل عليه السلام في المنام على هيئة الذابح الذي أضطجع ذبيحته ومر عليها بسكينه ما صحّ لإبراهيم عليه السلام أن يقدم على فعلة الذبح الخطيرة التي تعد من أكبر الكبائر، ومما يؤيد هذا القول جواب إسماعيل عليه السلام الذي أجاب به أباه حينما قصّ عليه أنه رأى في المنام أنه يذبحه {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102] فإنه يشير إشارة قوية إلى أن تلك الرؤيا كانت مشتملة على أمر وتكليف بذلك الذبح، وقول آخر: إن فعل الذبح للرؤيا فقط لأن رؤيا الأنبياء عليهم السلام حق ليس فيها شيء من آثار تخليط الشيطان وتلبيسه، لأن الله تعالى عصمهم في جميع أحوالهم من كيد الشيطان وحصنهم من وساوسه.

فإن قيل: ما الحكمة في أن الله تعالى أمر إبراهيم عليه السلام بذبح إسماعيل عليه السلام؟

أجيب: بأن الخليل عليه السلام سأل ربه أن يهب له ولداً من الصالحين {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100)} [الصافات: 100] فأجاب الله دعاءه ووهبه الولد على كبره وشيخوخته، ففرح به وأخذ الولد منزلته من قلبه فأراد الله أن يحفظ على إبراهيم مقام الخلة الخطيرة الشأن وأن يطهر قلبه من التعلق بغيره تعالى وأن يظهر للناس بقاءه على مقام الخلة فأمره بذبح هذا الولد الذي أخذ شعبة من قلبه ليخلص هذا القلب السليم الطاهر لربه، وليكون حقيقاً بهذه المنحة العظمى والنعمة الكبرى نعمة الخلة لله عز وجل كما قال تعالى:{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)} [النساء: 125] فبادر الخليل عليه السلام وامتثل أمر ربه وشرع في وسائل الذبح ومقدماته {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)} [الصافات: 103] ووقع ما أراد الله وهو تحقيق العزم الصادق من الخليل وناداه سبحانه بقوله: {يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106)} [الصافات: 103 - 106] وفدى الله إسماعيل بكبش من الجنة يذبح مكانه {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} [الصافات: 107] وجعل هذه الشعيرة سنة باقية في عقب إبراهيم وأتباعه يذبحون أيام النحر ويجدون ذكرى هذا الذبح العظيم ويضحون في سبيل الله ما يشترونه بحرّ أموالهم.

ص: 32

ورَمَلهم (1) واضطباعهم في الطواف تذكير لقلوبهم بهدي الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بفعله ليكونوا على شيء من صبره وعزمه وجلده وتذكرة بنشأة الإِسلام في عهده الأول، وسعيهم بين الصفا والمروة تذكير بحال إسماعيل وأمه هاجر عليهما السلام، حين تركهما الخليل عليه الصلاة والسلام في رعاية ربّ العالمين، ففاضت زمزم بماء البركة وعم الخير واتسع العمران.

وحلقهم أو تقصيرهم لشعورهم طريق لخروجهم من الإِحرام والتحرر

(1) الرمل: ويسمى الخبب وهو المشي بسرعة مع تقارب الخطا بهمة ونشاط، والاضطباع: وهو كشف المنكب الأيمن، بجعل جانب الرداء الأيمن تحت الإبط وطرحه على المنكب الأيسر، هذا الرمل وهذا الاضطباع هما من الهدي النبوي الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأشار على الصحابة به في طوافهم بالكعبة في عمرة القضاء التي كانت في ذي القعدة من العام السابع، وقد أراد صلى الله عليه وسلم أن يرد بهذا الهدي على المشركين ويكبتهم به ويجعله تكذيباً عملياً لهم، لما بلغه أنهم يستضعفون صحابته رضوان الله عليهم ويهزءون بقوتهم ويهونون من أمرهم ويقولون: إنهم مرضى ضعفاء نهكتهم حمى يثرب، فأخذ عليه الصلاة والسلام يشجع أصحابه ويقول لهم:"رحم الله امرءاً أراهم اليوم من نفسه قوة" فأراهم عليه الصلاة والسلام من نفسه ومن أصحابه بالرمل والاضطباع جلداً قوياً وعزماً وإيماناً وعزة يجب أن تكون محل الأسوة ومضرب الأمثال.

فان قيل: كان الرمل والاضطباع في الطواف من الرسول عليه الصلاة والسلام ومن أصحابه رضوان الله تعالى عليهم لذلك المعنى الخاص الذي انتهى بانتهاء وقته وتمام الغرض منه.

أجيب: بأنهما صفحة تاريخية إسلامية يجب المحافظة عليها وتكرارها عملياً في الطواف تذكيراً للقلوب بهدي رسولها صلى الله عليه وسلم، ومحافظة على متابعة سلفنا الصالح، وقد خطر لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن يترك الرمل في الطواف، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله لسبب عارض فزال ثم بدا له رضي الله تعالى عنه فمضى عليه ولم يتركه محافظة على فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 33

من أحكامه وقيوده (1)، وبه يتحقق انقضاء التشعث والتغبر، وفي الحلق بعد ذلك كله إشارة منهم إلى إبعادهم الذنوب عنهم واستئصالهم كل رذيلة وابتعادهم عن الأهواء والأغراض الشخصية وطرحهم آمالهم.

(1) أي فلا يخرج الحاج من إحرامه فلتة أو مفاجأة ويتمتع بالمباحات إلا بعمل ظاهر وقصد وإرادة، ألا وهو الحلق كما لا يخرج المصلي من صلاته إلا بالتسليم.

ص: 34