المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الأولفي آداب سفره وفيه مسائل - الإيضاح في مناسك الحج والعمرة

[النووي]

فهرس الكتاب

- ‌التعريف بصاحب الإِيضاحرحمه الله تعالى

- ‌التعريف بصاحب الحاشية على الإيضاح

- ‌التعريف بمؤلف الإِفصاح

- ‌مقدمة صاحب الإِفصاح

- ‌مقدمة الإِيضاح

- ‌أسرار الحج وذكرياته

- ‌منافع الحج دينية ودنيوية

- ‌الباب الأولفي آداب سفره وفيه مسائل

- ‌فصلإِذَا جَمَعَ في وَقْت الأُولَى أَذَّنَ لَهَا

- ‌فصلوَيُسْتَحَب صَلَاةُ الْجَمَاعَة في السَّفَر

- ‌فصلوَتُسَنُّ السُنَنُ الرَاتِبةُ مَعَ الْفَرَائِضِ في السفَرِ

- ‌فَصْلوَالتيمُّمُ مَسْحُ الْوَجْه

- ‌فَصْلإذا صَلَّى بالتيَمم لِعَدَم الْمَاءِ الَّذِي يَجِبُ اسْتِعْمَالُهُ لَمْ تَلْزَمْهُ إِعَادةُ الصَّلَاة

- ‌فَصْلٌإذا لَمْ يَجِدْ ماءَ ولا تُرَاباَ صَلَّى على حَسَبِ حَالِهِ

- ‌فَصْلمما تَعُمُّ به الْبَلْوَى وَيَحْتَاجُ إلى مَعْرِفَتِهِ سَالِكُ طَرِيْقِ الْحَجِّ حُكْمُ مَنْ يَمُوتُ مَعَهُمْ

- ‌فَصْلوممَّا يَتأكدُ الوَصيةُ به أنَّهُ يَنْبَغي أَن يحْرصَ على فعل الْمَعْرُوف

- ‌فَصْلمُخْتَصَرٌ جدَّاً فيما يَتَعَلَّقُ بوجُوب الْحَجُّ

- ‌الباب الثانيفي الإحرام

- ‌فَصْلٌفي ميقات الحج

- ‌فَصْلفي آداب الإِحرام

- ‌فَصْلٌفي التلبية

- ‌فَصْلفي محرمات الإِحرام

- ‌الأَوَّل: اللُّبْسُ:

- ‌النوع الثاني: من محرمات الإحرام الطيب:

- ‌النوع الرابع: الحلق وقلم الظفر:

- ‌النوع الخامس: عَقْدُ النكاحِ:

- ‌النوع السادس: الجمَاعُ ومُقَدّماته:

- ‌فَصْلٌهذه مُحَرَّماتُ الإِحرام السَّبْعَة وما يَتَعَلَّقُ بها والمرأة كالرَّجل في جَميعها

- ‌فَصْلوما سِوَى هذه المحرمات السَّبْعة لا تحرُمُ على المُحْرم

- ‌الفصل الأولفي آداب دخولها

- ‌الفصل الثانيفي كيفية الطواف

- ‌فَرْعٌ في وَاجِبَاتِ السَّعْي وَشُرُوطِهِ وَسُنَنِهِ وَآدَابِهِ:

- ‌الفصل الرابعفي الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ قَبْلَهُ وَبَعْدهُ

- ‌الفصل السادسفي الدفع إلى منى

- ‌الفصلُ السابعُفي الأعمالِ المشروعةِ بِمنى يَوْم النَّحْرِ

- ‌فَصْلٌلِلحج تَحَلُّلانِ

- ‌فَصْلفي أمورٍ تُشْرَعُ يوم النحرِ ويتعلقُ بِهِ غيرُ مَا ذكرناهُ

- ‌الفصل الثامنفيما يفعله بمنى في أيام التشريق ولياليها

- ‌الباب الرَّابعفي الْعُمْرة وَفِيهِ مَسَائِلُ

- ‌الباب الخامسفي المقام بمكة وطواف الوداع وفيه مسائل

- ‌الباب السادسفي زِيَارَةِ قَبْرِ سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَشَرَّفَ وَكَرَّمَ وَعَظَّمَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ

- ‌الباب السابعفيما يجب على من ترك من نسكه مأموراً أو ارتكب محرماً

- ‌فَصْلٌوَأَما ارْتِكَابُ الْمَحْظُورِ

- ‌فَصْليَحْرُمُ التَّعَرُّضُ لصيْد حَرم المدينةِ وَأشجَارهِ

- ‌فَصْلوَيَحْرُمُ صَيْدُ وَجِّ

- ‌فَصْلٌفِيمَا إذَا فَعَلَ الْمُحْرِمُ مَحْظُورَيْنِ أوْ أكْثَرَ هَلْ يَتَدَاخَلُ

- ‌فَصْلٌفي الإِحْصَارِ

- ‌فَصْلٌمتى صارَ الصَّبِيُّ مُحَرِماً فَعَلَ ما قَدَرَ عَلَيْهِ

- ‌فَصْلٌالزائِدُ مِنْ نَفقةِ الصَّبِي

- ‌فَصْلٌيُمْنَعُ الصَّبِي الْمُحْرِمُ

- ‌فَصلإذا جامعَ الصَّبِي

- ‌فَصْلحُكْمُ الْمَجْنُونِ حُكْمُ الصَّبِي

- ‌فَصْلإذَا بَلَغَ الصبي فِي أثناءِ الْحَجّ

- ‌فَصْلٌإِحْرَامُ العبدِ صحيحٌ

- ‌فَصْلٌفي آدابِ رُجُوعِهِ مِنْ سَفَرِ حَجّهِ

- ‌فَصْلٌذكر أقضى القضاةِ الماورديُّ في الأحكامِ السلطانيةِ باباً في الولايةِ على الحجيجِ أنَا أذكرُ إِن شاءَ الله تعالى مقاصِدَهُ

- ‌فَصْلٌنَختم به الكتاب وإن لم يكنْ له اختصاص بالمناسك

الفصل: ‌الباب الأولفي آداب سفره وفيه مسائل

بسم الله الرحمن الرحيم

‌الباب الأول

في آداب سفره وفيه مسائل

الأولى: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُشَاورَ مَنْ يثِقُ (1) بدينه وَخِبرتهِ وعِلمه في حَجّه في هَذا الْوَقْت (2) وَيجبُ عَلَى مَنْ يُشيرُهُ أنْ يَبْذُلَ لَهُ النَّصيحَةَ ويَتَخَلى عَن الْهَوَى وَحُظُوظ النّفْس وَمَا يَتَوَهَّمه نافِعاً في أمُور الدُنيا (3) فَإِنَّ المستشَارَ مُؤْتَمَن (4) والدِّين النصيحَة (5).

(1) أما أخذ الفأل من المصحف فإنه مكروه، وقيل حرام.

(2)

بينَ به أن الاستشارة في وقت العبادة لا في أصلها، وهذا فيمن لا يتضيق عليه النسك، أما هو فلا تستحب في حقه إذ لا فائدة لها مع التضيق.

(3)

أي فقط بل الواجب إخباره بما تعود مصلحته إلى الدين وحده أو مع الدنيا.

(4)

حديث رواه الإِمام أحمد وغيره رحمهم الله تعالى.

(5)

جزء من الحديث الصحيح المشهور الذي رواه مسلم في صحيحه عن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدين النصيحة" قلنا: لمن؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"، وذكره الإِمام النووي في الأربعين رحمه الله تعالى.

ص: 45

الثانيَة (1): إذَا عَزَمَ عَلَى الْحَج (2) فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَخِيرَ اللهَ تَعَالَى (3) وَهَذِهِ الاسْتِخَارَة لا تَعُودُ إِلَى نَفْس الْحَج فَإِنهُ خَيْر لَا شَك فِيهِ وَإنمَا تَعُودُ إلى وَقْتِهِ (4) فَمَنْ أَرَادَ الاسْتِخَارَةَ يُصَلي رَكْعَتَيْن (5) مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَة ثُم يقُولُ (6): اللَّهُمَّ إِنّي أسْتَخيرُكَ (7) بعِلمكَ (8) وَأسْتَقْدِرُكَ (9) بقُدْرَتِكَ (10) وَأَسْألكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيم فَإنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلَا أعْلَمُ وَأنْتَ عَلامُ الْغُيُوب، اللهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ ذَهَابي إلى الحَج (11) في هَذَا العَام خَيْرٌ لي في ديني ودنياي وَمَعَاشي وَعَاقِبة

(1) ظاهر هذا الترتيب أن الأولى تقديم الاستشارة على الاستخارة لأن الطمأنينة إلى قول المستشار أقوى منها إلى النفس لغلبة حظوظها، وفساد خواطرها.

(2)

يلحق بالحج العزم على كل واجب ومندوب موسع بل تندب الاستخارة حتى في المباح.

(3)

أي لقوله صلى الله عليه وسلم: "من سعادة ابن آدم استخارة الله تعالى ومن شقاوة ابن آدم ترك استخارة الله تعالى".

(4)

نظير ما مَرّ في الاستشارة، والاستخارة هي طلب خير الأمرين من الفعل الآن أو الترك، ولا يتصور هذا إلا في الموسع دون المضيق لأنه لا رخصة في تأخيره.

(5)

أي في غير وقت الكراهة إلا بحرم مكة فيصلي مطلقاً ومثلها كل نافلة فيجزىء عنها في إسقاط الطلب، وكذا في حصول الثواب إن نويت.

(6)

أي عقب الصلاة لا فيها ويسن افتتاح الدعاء وختمه بالحمدلة والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثناء الدعاء إن كرره.

(7)

أي أطلب منك خير الأمرين.

(8)

الباء للسببية أي أسألك شرح صدري لخير الأمرين بسبب علمك المحيط بكل الأشياء إذ لا يعلم خيرها حقيقة إلا من كان علمه محيطاً بكل الأشياء.

(9)

وفي رواية: (وأستهديك) والمعنى متقارب.

(10)

أي بسبب أنك القادر الحقيقي، ولا يمكن لأحد أن يقدر على شيء إلا إن قَدرْتَه عليه، أي خلقت فيه الاستطاعة.

(11)

أشار إلى ما في حديث البخارى رحمه الله تعالى من أنه يسمي حاجته ليكون ذلك أبلغ وأوضح.

ص: 46

أمْري وعَاجله وَآجله (1) فَاقْدُره لي وَيَسرْهُ لي ثَُم بَارِكْ لي فيه، اللَّهُمَ وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنهُ شَر لي (2) في ديني وَدُنْيَايَ وَمَعَاشِي وَعَاقِبةِ أَمْري وعَاجِله وَآجله فَاصْرِفْهُ عَني وَاصْرِفْني عَنْهُ وَاقْدرْ لي الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ (3) ثُمَّ رَضنِي بِهِ (4).

ويُسْتَحَب أَنْ يقْرأَ في هَذ الصَلَاةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ في الرَّكْعَةِ الأوْلَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} [الكافرون: 1](5) وَفِي الثانِيةِ: {قُل هُوَ اَللهُ أَحَد (1)} (6) بَعْدَ الاسْتِخَارَة لما يَنْشَرِحُ إِلَيْهِ صَدْرُة (7).

(1) جمع المصنف رحمه الله بين الكلمتين احتياطاً لأن لفظ الحديث: (وعاقبة أمري - أو قال: عاجل أمري وآجله) ومنه تؤخذ قاعدة حسنة وهي أن كل ذكر جاء في بعض ألفاظه شك من الراوي يسن الجمع بينها كلها ليتحقق الإِتيان بالوارد.

(2)

فيه الاكتفاء بتسمية الحاجة في الأول وقيل يسميها في الثاني أيضاً.

(3)

في رواية للنسائي رحمه الله تعالى: (حيث كنتُ).

(4)

في رواية البخاري رحمه الله تعالى: (ثم أرضني)، وفي أخرى بعد "قدره لي":(وأعني عليه)، وفي أخرى بعد "حيث كان":(لا حول ولا قوة إلا بالله) قاله ابن حجر المكي رحمه الله تعالى وقال: فيسن الجمع بين ذلك كله.

(5)

الأكمل قراءة {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} إلى {تُرجَعُونَ (70)} قبل سورة "الكافرون"، وقبل سورة "الإخلاص" في الركعة الثانية {وَمَا كاَنَ لِمُؤمنِ وَلَا مُؤمَنَةً} إلى {مبينَاً (36)} لأنهما مناسبان كالسورتين إذْ القصد منهما إخلاص الاعتقاد والعمل فناسبا هنا وإنْ لم يردا، إذ القصد إظهار الرغبة وصدق التفويض، وإظهار العجز، وقياس ما قالوه في الجمعة أنه لو نسي ما يقرأ في الأولى قرأه مع ما في الثانية، ومن تعذرت عليه الصلاة استخار بالدعاء المذكور، وظاهره عدم حصولها بمجرد الدعاء مع تيسر الصلاة، إلا أن يقال: المراد عدم حصول كمالها لظاهر خبر أبي يعلى رحمه الله تعالى: (إذا أراد أحدكم أمراً فليقل .. ) وذكر نحو الدعاء السابق، وورد في حديث ضعيف أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد الأمر قال:"اللهم خِرْ لي واختر لي" فينبغي ذكر ذلك بعد دعائه. اهـ حاشية.

(6)

الأمر المستفاد من اللام للندب.

(7)

فإنْ لم ينشرح صدره بشيء فيكرر الاستخارة بصلاتها ودعائها إلى انشراحه بشيء، وإنْ زاد على سبع، والتقييد بها في خبر أنس رضي الله تعالى عنه: (إذا هممتَ =

ص: 47

الثالِثَةُ: إِذا اسْتَقَرَّ عَزْمه (1) بَدَأَ بالتوْبَةِ (2) مِنْ جَمِيعِ المَعَاصِي وَالمَكْرُوهَاتِ وَيَخْرُجُ مِنْ مَظَالم الخَلْقِ (3) وَيقْضِي ما أَمْكَنَهُ مِنْ دُيُونِهِ (4) وَيَرُدُّ الْوَدَائع (5)

= بأمرٍ فاستخر ربك فيه سبع مرات ثم انظر إلى الذي سبق إلى قلبك، فإن الخير فيه) جرى على الغالب. أما لو فرض عدم انشراحه مع تكرار الصلاة فإنْ أمكن تأخير أخر وإلاّ شَرَع فيما تيسر لأنه علامة الإذن والخير والله أَعلم.

(1)

يدل صريح كلام المصنف رحمه الله على تأخير التوبة عن الاستخارة واستقرار العزم بعدها، وجرى ابن جماعة رحمه الله تعالى على تقديمها وأيده بأنْ كان المستخير عاصياً كعبد متمادٍ على إباقه، ويرسل إلى سيده بأن يختار له من خيار ما في خزائنه فيعدّ بذلك أحمق بين الحمق.

(2)

وجوباً بالنظر للمعاصي، وندباً بالنظر إلى المكروهات. وأركان التوبة: الإقلاع عن الذنب حالاً والعزم على عدم العودة إليه رأساً، والندم على ما باشر منه خوفاً من الله تعالى ورد ظلامة إن كانت وبدلها إن تلفت وقدر عليه، فإن لم يقدر كميت بلا وارث، أو غائب انقطع خبره وأيس من حياته، سلمها أو أرسلها لقاضٍ أمين، وإلا فرقها بنفسه في المصالح إن عرف أو سلمها لعالم عارف بذلك بنية الغرم إن وجد صاحبها، والمعسر ينوي وفاء الدين كالعاجز عن تمكين القصاص من نفسه إذا قدر، وكتب في التوبة من نحو غيبة أو قذفٍ: إخبار المغتاب بعين ما قاله فإنْ تعذر عزم على فعله عند إمكانه فإن تعذر أصلاً استغفر الله لنفسه، ودعا له، والمرجو من الله حينئذ أن يرضي خصماءه عنه بكرمه، أسأله تعالى أن يعفو عني وعن المسلمين والمسلمات ويرضى عنا خصماءنا آمين.

وإن كان عليه قضاء نحو صلاة صرف سائر وقته في قضائها ما عدا الوقت الذي يحتاج لصرفه في تحصيل ما عليه من مؤنة نفسه وعياله وكذا يقال في نسيان القرآن بعد البلوغ. أسأله تعالى التوفيق لي وللمسلمين والمسلمات آمين.

(3)

صرح بالخروج من مظالم الخلق مع دخولها في المعاصي اهتماماً بشأنها وتنبيهاً على المحافظة عليها لأنها مبنية على المشاحّة والمضايقة.

(4)

أي الحالة وجوباً والمؤجلة ندباً.

(5)

فيها تفصيل، وهو أنه إن علم رضا مالكها بأمر عمله وإلا فحيث قيل بتضمينه بترك شيء وجب عليه فعله لما فيه من ضياعها وإلا فلا.

ص: 48

وَيَسْتَحِلُّ (1) كلّ مَنْ بَيْنَهُ وَبينهُ مُعَامَلَةٌ في شَيْء أَوْ مُصَاحَبةٌ.

وَيَكْتُبُ وَصيتهُ (2) وَيُشْهِدُ عَلَيْه بِهَا (3) وَيُوَكلُ مَنْ يقْضِي عَنْهُ (4) مَا لَمْ يَتَمَكنْ مِنْ قَضَائه مِنْ دُيُونهِ وَيَتْرُكُ لأهْله وَمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ (5) نَفَقَتَهُم (6) إلى حين رجوعِهِ (7) فلو كَانَ عَلَيْه دَيْنٌ حَالّ وهُوَ مُوسرٌ (8) فَلصَاحب (9) الدَّيْن مَنْعُه منَ الْخُرُوج (10)

(1) أي وجوباً فيما يعلم أنه عليه، وندباً فيما لا يعلمه.

(2)

أي بحقوق الله وحقوق العباد.

(3)

أي من تثبت به وجوباً إن لم تكن ثابتة قبل وإلا فندباً، ولا يكتفي بعلم الورثة مطلقاً لأن النفس تشح بالأموال إذا استولت عليها.

(4)

أي وجوباً في الحالة وندباً في المؤجلة.

(5)

معطوف على الأهل ليشمل غيرهم من رقيقه ودوابه.

(6)

أي مؤنتهم من كسوة وأجرة مسكن وطبيب وثمن أدوية.

(7)

محل ذلك في الواجب حالاً أما المستقبل فعند العلامة ابن حجر المكي رحمه الله: عليه ذلك أيضاً كما في الحاشية في غير نحو الزوجة والمملوك، لأن في غيبته ضياع ممونه فيترك لهم كفايتهم عند من يثق به لينفق عليهم، أما الزوجة والمملوك فعليه ذلك أيضاً، أو يطلق الزوجة أو يخرج المملوك عن ملكه ويحكم به الحاكم الشرعي دفعاً للضرر وجمعاً بين المصلحتين ويفرّق بين هذا وما يأتي في المؤجل بأن الدائن مقصر بالتأجيل فلم يكن له مطالبته بترك ما يفي بحقه إذا حَلَّ بخلاف ممونه، فإنه لا تقصير منه بوجه، وأيضاً فممونه في حبسه فلو لم نلزمه بذلك لضاع بخلاف الدائن.

أقول: وقيل عليه ذلك فيما بينه وبين الله تعالى ديانةً لا حكماً، فلا يجبره عليه الحاكم لأنه لم يدخل وقت وجوب النفقة الذي هو طلوع كل يوم فأشبه الدين المؤجل.

(8)

أي ولم يستنب من يوفيه من مال حاضر.

(9)

أي ولو كان ذمياً.

(10)

أي ويحرم عليه السفر وإن قصر بغير إذنه، واطردت العادة بالمسامحة وإنْ ضمنه موسر كما هو ظاهر لأن له مطالبته وإن ضمنه الموسر وولي المديون مثله لأنه المطالب.

ص: 49

وَحَبْسُهُ (1) وَإِنْ كَانَ مُعْسراً لَمْ يَمْلُكْ مُطَالَبَتَهُ (2) وَلَهُ السَّفَرُ بغَيْرِ رِضَاه (3) وَكَذَا إنْ كَانَ الديْنُ مُؤَجلاً فَلَهُ السفَرُ بِغَيْرِ رِضَاهُ وَلَكِنْ يُسْتَحَب أَنْ لا يَخْرُجَ حَتى يُوكلَ مَنْ يقْضِي عَنْهُ عِنْدَ حُلُولهِ (4) وَاللَّهُ أعْلَمُ.

الرَّابِعَةُ: يَجْتَهِدُ في إرْضَاء وَالِدَيْهِ وَمَنْ يَتَوَجهُ عَلَيْهِ بِرُّه (5) وَطَاعَتُهُ وإنْ كَانَتْ زَوْجَةَ اسْتَرْضَتْ (6) زَوْجَهَا وَأَقارِبهَا وَيُسْتَحَب للزوْجِ أنْ يَحُج بها (7) فإنْ مَنَعَهُ أحدُ الْوَالِدَيْن (8) نَظَرَ فَإنْ مَنَعَهُ مِنْ حَج الإِسْلَامِ (9) لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى مَنْعِهِ (10) بَلْ لَهُ الإِحْرَامُ به وإنْ كَرِه الْوَالِدُ لأنَّهُ صَارَ عَاصياً بِمَنْعِهِ وَإِذَا أحْرَمَ لَمْ يَكُنْ لِلْوَالِدِ تَحْلِيلُهُ وإن منعه من حج التطوع لم يجز له الإِحرام فإن أحرم فللوالد تحليله عَلَى الأَصَحِّ.

(1) أي ما لم يكن الدائن مسافراً معه في ركبه.

(2)

لوجوب إنظاره وحرمة ملازمته.

(3)

أي ولو كان السفر مخوفاً.

(4)

وإن عجله فهو أولى.

(5)

أي من الأقارب والأشياخ.

(6)

أي ندباً على تفصيله الآتي في الزوج.

(7)

اتباعاً له صلى الله عليه وسلم حيث حج بأزواجه رضوان الله تعالى عليهن، وفيه أيضاً تحصيل عبادة للزوجة أو قيامها بما لا يطلع عليه غيرها من باطن أمر زوجها فعلى الأول كالحج في ذلك كل سفر لعبادة، وعلى الثاني لا فرق بل حيث جاز له السفر واحتاج لمن يقوم بما ذكر سن للزوج استصحاب الزوجة، كما كان صلى الله عليه وسلم يستصحب معه بعض أزواجه رضوان الله عليهن في غزواته.

(8)

أي مَنْ له عليه ولادة، ولو جداً أو جدة وإن وجد من هو أدنى منهما.

(9)

أي من نسكه الواجب حج أو عمرة.

(10)

وإن لم تجب حجة الإسلام على الفرع لكونه فقيراً لأنه لا طاعة لمخلوق في ترك طاعة الخالق.

ص: 50

وَأَمَّا الزوْجَةُ (1) فَلِلزَّوْجِ مَنْعُهَا مِنْ حَج التطَوُع فَإِنْ أحْرمَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلَهُ تَحْليلُهَا وَلَهُ أيْضاً مَنْعُهَا مِنْ حَج الإسْلَامِ عَلَى الأَظهَرِ (2) لأَنَ حَقهُ عَلَى الفَوْر وَالحَج عَلَى التَّرَاخِي وَإِنْ أحْرَمَتْ فَلَهُ تَحْلِيلُهَا عَلَى الأَظْهَرِ.

وإنْ كَانَتْ مُطَلَّقَةَ حبَسَهَا للْعِدَّة (3) وَليسَ لَهُ التَّحْلِيلُ (4) إلا أنْ تكُونَ رَجْعيهَ فَيُرَاجِعُهَا ثمَ يُحَللُهَا (5) وَحَيْثُ قُلْنَا يُحَللُهَا فمعناه يأمُرُها بِذَبْح شاةٍ فَتَنْوِي هي بها التَّحَلُّلَ وتُقَصرُ مِنْ رأسها ثَلَاثَ شَعَرَات فصَاعِداً وإِنْ امَتَنْعَتْ مِنْ التَّحَلُّلِ فَلِلزوجِ وَطْؤهَا وَالإثْمُ عليها (6) لِتَقْصيرِها.

الخَامِسَة: ليحْرصْ عَلَى أنْ تكُونَ نَفَقَتُه حَلَالاً خَالِصَةً مِنَ الشُّبْهَةِ فإنْ خَالَفَ وحَجَّ بما فيه شُبْهَة أوْ بِمَال مَغْصُوب صَحَ حَجه في ظَاهرِ الحُكْمِ لكنَّهُ لَيْس حَجاً مَبْرُوراً (7) وَيَبْعُدُ قَبُولُهُ. هذا مَذْهَبُ الشَّافِعِي وَمَالك وأبي حَنيفَةَ

(1) أي ولو أمة وأذن لها سيدها.

(2)

أي في غير صورة منها: إذا سافرت معه بإذنه وأحرمت بعد إحرامه وكان إحرامها يفرغ مع إحرامه لأنه لم يفت به الإستمتاع، ومنها إذا لزمها القضاء فوراً بإِنْ أفسد الزوج حجتها بالوطء، أو لزمتها حجة الإسلام بأن قال لها طبيبان عدلان إن لم تحجي في هذه السنة تُعضبي.

(3)

أي رجعية كانت أو بائنة.

(4)

أي لعدم ترتب ثمرته من التمتع بها.

(5)

حاصل هذا أن لزوم العدة متى سبق الإحرام لم تخرج قبل انقضاء العدة وإن فات الحج كما لو أحْرمت بعد الطلاق بغير إذن مقدم فإن انقضت العدة أتمت نسكها إن بقي وقته وإلا تحللت بعمل عمرة ولزمها القضاء ودم للفوات وإنْ أحرمت بإذن أو دونه ثم فورقت بموت أو غيره فإنْ خافت الفوات خرجت وجوباً للنسك لتقدم الإحرام، وإنْ أمنته جاز لها الخروج لما في تعين الصبر من مشقة مصابرة الإحرام.

(6)

أي مع الكفارة كما في الحاشية هذا في حكم الحرة، وأما التحلل في الأمة فهو التقصير مع النية.

(7)

ظاهره أن الحج بما فيه شبهة مجزوم بعدم كونه مبروراً وليس كذلك كما في =

ص: 51

رَحِمَهُمُ اللهُ وَجَمَاهير الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَف وَالخَلَفِ، وَقَال أحمد بن حَنْبَل لا يُجْزيه الحَجُ بِمَالٍ حَرَامٍ (1).

السَّادِسَةُ: يُسْتَحَب أنْ يَسْتكثِرَ مِنْ الزادِ وَالنَّفَقَةِ (2) لِيُواسِيَ مِنْهُ الْمُحْتَاجِين وَلْيَكُنْ طَيباَ لِقَوْلهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا (3) الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] وَالمُرَادُ بالطيبِ هُنَا (4) الْجَيد (5) وِبالْخَبيثِ الرَديء ويَكُونُ طَيبَ النَّفْس بِمَا يُنفقُهُ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى القَبول.

السَّابعةُ: يُسْتَحَب تَرْكُهُ المُمَاحَكَة (6) فيمَا يَشْتَرِيه لأسْبَابِ حَجه وكَذَا كل

= الحاشية فلعل قوله رحمه الله تعالى المذكور عائد إلى الحرام، فقط، وأما ما فيه شبهة فإنه يخشى عليه أن تكون تلك الشبهة حراماً فلا يكون حجاً مبروراً وحيث وجدت الشبهة فليجتهد في حل قوته ذهاباً وإياباً، وإلا فذهاباً فقط، وإلا فمن الإِحرام إلى التحلل، وإلا فيوم عرفة، وإلا فليلزم قلبه الخوف، لما هو مضطر إليه من تناول ما ليس بطيب فعسى الله أن ينظر إليه بعين الرحمة ويتجاوز عنه بسبب حزنه وخوفه وكراهته.

(1)

لما أخرجه الطبراني من جملة حديث: (وإذا خرج بالنفقة الخبيثة فوضع رجله في الغرز (أي الركاب) فنادى لبيك لبيك ناداه منادٍ من السماء لا لبيك ولا سعديك زادك حرام ونفقتك حرام وحجك مأزور غير مبرور) وقال الشاعر رحمه الله تعالى:

إذا حججت بمال كله سُحُت

فما حججت ولكن حَجت العِير

(2)

أي بلا تكلف، وفي الحديث:"النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف".

(3)

أي لا تقصدوا.

(4)

أي في هذا الموضع احترز به عن الطيب في غيره فإنه كثيراً ما يستعمل بمعنى الحلال فقط.

(5)

الجيد أي المستحسن عند أهل تلك الناحية فيما يظهر ومحله إن لم يعلم محبة المعطَي لشيء بخصوصه، وإلا فإعطاؤه ما يحبه أولى وإن لم يكن جيداً عند غيره.

(6)

المماحكة في الأصل الخصومة وهنا معناها المشاحة فيما يعامل فيه: أي إذا =

ص: 52

شَيْء يَتَقَرّبُ به إلَى الله تَعَالَى كَذَا قَالَهُ الإِمَامُ الجَليلُ أبُو الشَّعْثَاء جَابرُ بنُ زَيد التابِعِي وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاء.

الثامِنَةُ: يُسْتَحَب أنْ لا يُشَارِكَهُ غَيْرُهُ في الزَّادِ والرَّاحِلَة (1) وَالنفَقَةِ لأَنَّ تَرْكَ المُشَارَكَة أَسْلَمُ لَهُ فَإِنَّهُ يَمْتَنعُ بِسَبَبِهَا مِنَ التصَرُفِ في وُجُوهِ الْخَيْرِ والبرّ والصَّدَقَةِ وَلَوْ أذِنَ لَهُ شَريكُهُ لم يُوثَقْ باسْتِمْرارِ رِضَاه فإنْ شارَكه جَازَ (2) وَيُسْتَحَبُّ أن يقْتصرَ على دُونِ حَقهِ (3). وأما اجْتِمَاعُ الرفقَةِ عَلَى طَعَامِ يَجْمَعُونَهُ يَوْماً يومَاً فَحَسَن (4) ولا بأسَ بأكْل بعْضهم أكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ إذا وَثق بأنّ أصْحَابه لَا يَكْرَهُونَ ذلك (5) فإنْ لم يَثِقْ فَلَا يَزِدْ (6) عَلَى قَدْرِ حِصَّتِهِ وَلَيْسَ هَذا مِنْ بابِ الرِّبَا في شَيْءِ (7) فَقَدْ صَحَّتْ الأحَادِيثُ في خَلْطِ الصَّحَابةِ رضي الله عنهم زَادَهُم.

= اشترى أو استأجر مثلاً لنفسه أما ما يفعله لغيره بولاية أو وكالة فيجب عليه الاجتهاد في الشراء أو الاستئجار بثمن المثل أو أجرته فأقل كما لا يخفى.

(1)

الواو في قوله (الزاد والراحلة) بمعنى "أو".

(2)

أي إن كان كل من الشريكين مكلفاً مختاراً رشيداً غير نائب عن غيره.

(3)

أي ولا يلحظه بقلبه، ولا يرى لنفسه قدراً لبعد ذلك عن مكارم الأخلاق وحُسْن الصحبة.

(4)

قال الجمال الطبري رحمه الله: واجتماع الرفقة كل يوم على طعام أحدهم على المناوبة أليق بالورع من المشاركة. اهـ.

أقول كما قال في الحاشية: هذا فيمن يتوهم منه شح، وكلام المصنف فيمن لا يتوقع منه ذلك، والسلف الصالح كان كل منهم يخرج بنفقته ويدفعها لمن يتولى عليهم ويأكلون جميعاً، لبعدهم عن الشح لإيثارهم على أنفسمهم، ولو أدى إلى تلفها.

(5)

ولو بالظن أخذاً من قولهم يجوز الأكل من مال الغير إذا علم رضاه أو ظنه.

(6)

أي وجوباً.

(7)

لأن الربا إنما يكون في ضمن عقد.

ص: 53

التاسِعَةُ: يُسْتَحَبُّ أنْ يُحْصلَ مَرْكُوباً قَوِياً (1) وَطِيئاً (2) والرُّكُوبُ (3) في الحَج (4) أفْضَلُ مِنَ المَشْي عَلَى المَذْهب الصحِيْحِ وَقَدْ ثَبَتَ في الأَحَادِيثِ الصَّحيْحَةِ أَن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم حَج رَاكباً (5).

وَكَانَتْ رَاحِلَتُهُ زَامِلتهُ (6) وَيُسْتَحَب الحَجُّ عَلَى الرَّحْلِ (7) وَالقَتبِ دُوْنَ

(1) ظاهره حل ركوب الضعيف حيث لا يحصل به ضرر لا يحتمل عادة.

(2)

أي لأن ركوب غير الوطىء يضره ويشوش عليه خشوعه.

(3)

أي ولو على الضعيف وغير الوطىء.

(4)

أي والعمرة إلا ما استثني كالسعي ودخول مكة.

(5)

وورد في المشي في النسك فضل عظيم منه ما أخرجه الحاكم رحمه الله تعالى وصححه من حديث ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حج من مكة ماشياً حتى يرجع إليها كتب له بكل خطوة سبعمائة حسنة من حسنات الحرم وحسنات الحرم الحسنة بمائة ألف حسنة". وتضعيف البيهقي له بأن عيسى بن سوادة أحد رواته تفرد به وهو مجهول مردود بأنه لم ينفرد به لأن الحافظ ابن مسدد وغيره أخرجوه من حديث سفيان بن عيينة عن إسماعيل ابن أبي خالد الذي رواه عنه ابن سوادة. وقال ابن منده: هذا حديث حسن غريب ومن ثم رواه الحاكم من الوجه الذي رواه البيهقي وصحح إسناده كما مَر.

وممن قال بقضية هذا الحديث الحسن البصري وغيره، وارتضاه المحب الطبري وغيره، ومع ذلك فهو لا يقتضي أفضلية المشي لأن ثواب الاتباع يربو على ذلك أخذاً من كلام السبكي رحمه الله تعالى:(صلاة الظهر بمنى يوم النحر أفضل منها بالمسجد الحرام، وإن قلنا إن المضاعفة تختص به لأن في الاقتداء بأفعاله صلى الله عليه وسلم ما يربو على المضاعفة). اهـ.

ومحل الخلاف فيما يظهر فيمن استوى خشوعه في حال مشيه وركوبه، ولم يطلب منه الركوب لظهوره لاستفتاء ونحوه. وإلا تعين الجزم بأن الركوب أفضل والعمرة كالحج فيما ذكر والله أعلم. اهـ مختصراً من الحاشية.

(6)

أي لم يكن معه صلى الله عليه وسلم راحلة أخرى لحمل متاعه وطعامه بل كانا معه على الراحلة، فالزاملة بعير يحمل عليه المتاع من الزمل وهو الحمل، فالحج على الزاملة أفضل منه على غيره لأنه الأليق بالتواضع.

(7)

الرحل: هي العدة الكبيرة التي توضع على جميع ظهر البعير، والقتب هو =

ص: 54

الْمَحَامِلِ وَالهَوَادج لِما ذَكَرْناهُ مِنْ الحَديثِ الصحيح (1)، ولأَنَّهُ أشْبَهُ بالتواضُع، ولَا يَلِيقُ بالْحَاج غَيْرُ التواضُع في جَمِيعِ هَيْئَاتِهِ وَأحْوَالِهِ في جَمِيعِ سَفَرِهِ وَسَوَاء فيما ذَكَرْنَاهُ الْمَرْكُوبُ الذي يَشْتَرِيه (2) أوْ يَسْتأجرُهُ. وَيَنْبَغِي (3) إذا اكْتَرَى أنْ يُظْهِرَ للجَمَّالِ جَمِيعَ مَا يُرِيدُ حَمْلَهُ مِنْ قَليل أوْ كَثِير وَيَسْتَرْضِيهِ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ يَشُق عَلَيْهِ الرَحْلُ لِعُذْر كَضَعْفِ أوْ عِلَّةِ في بَدَنِهِ أوْ نَحْوِ ذَلِكَ فلا بأسَ بالمَحْملِ بَلْ هُوَ في هَذَا الْحَال مُسْتَحَب وإنْ كَانَ يَشُق عَلَيْهِ الرَحْلُ وَالْقَتَبُ لرياسَتِهِ وارْتِفَاعِ مَنْزِلَتِهِ أوْ نَسَبِهِ أوْ عَمَلِهِ أوْ شَرَفِهِ أوْ جَاهِهِ أوْ ثَرْوَتِهِ أوْ مُرُوءَتِهِ أوْ نَحْوَ ذلك مِنْ مَقَاصِدِ أهْلِ الدُّنْيا لَمْ يَكُنْ ذلكَ عُذْراً في تَرْكِ السُنةِ في اخْتِيَارِ الرَّحْلِ وَالْقَتَبِ فَانَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَيْرٌ من هذا الجَاهِلِ بِمِقْدَار نَفْسِهِ (4) واللهُ أَعْلَمُ.

= الإكاف الصغير على قدر سنام البعير، فركوب الإِبل أفضل من غيرها للاتباع. فإن قيل: روى الامام أحمد والطبري رحمهما الله تعالى: "إذا ركبتم الإبل فتعوذوا بالله واذكروا اسم الله فإن على سنام كل بعير شيطاناً" فكيف مع ذلك يكون ركوبها أفضل؟

أجيب كما في حاشية العلامة ابن حجر رحمه الله تعالى: ملحوظ الأفضلية الاتباع وهذا الحديث لا يقتضي كراهة ركوبها ولا أنه خلاف الأفضل، وإنما الذي يقتضيه تأكد ندب التعوذ والذكر عند ركوبها ليندفع بذلك ضرر ذلك الشيطان الذي على سنامها.

(1)

وهو قوله رحمه الله: (وكانت راحلته زاملته) لأنه معطوف على خبر معمول ثبت.

(2)

والشراء أفضل من الاستئجار إلا بعذر لأنه يتصرف في المركوب على حسب اختياره، فيسلم من كثرة الخصومات والتبعات الواقعة بسبب الاستئجار، والله أعلم.

(3)

أي يجب حيث لم يشترط على من يكتري منه حمل أوزان معلومة من جنس معلوم ولا عبرة بالعرف في ذلك لاضطرابه وكثير يعولون عليه، وهو خطأ صريح كما في الحاشية.

(4)

قد يستشكل هذا بقول الفقهاء رحمهم الله تعالى في باب صلاة الجماعة لو لم يَلِقْ به العري لنحو منصب سقطت عنه كالجمعة فلِمَ لَمْ يقولوا هنا بمثل ذلك، بل هو أولى لأنه مجرد سنة ليس فيها حق لآدمي. =

ص: 55

وَيُكْرَهُ رُكُوبُ الجَلالَة وَهِيَ النَّاقَةُ أو البَعِيرُ (1) الذِي يَأْكُلُ العَذِرَةَ (2) لِلْحَدِيْثِ الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَر رضي الله عنهما قَالَ: نَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ الْجَلَالَةِ مِنَ الإِبلِ أَنْ يُرْكَبَ عَلَيْهَا.

العَاشِرَةُ: إِذَا أرَادَ الحَجَّ أنْ يَتَعَلَمَ كَيفيتهُ (3) وَهَذَا فَرْضُ عَيْنٍ (4) إذْ لَا تَصحُّ العبادةُ ممَنْ لا يَعرفُها (5) وَيُسْتَحَب أنْ يَسْتَصْحِبَ مَعَهُ كِتَاباً (6) وَاضِحاً في المَنَاسِكِ جَامِعاً لِمَقاصِدِهَا وأنْ يُدِيمَ مُطَالَعَته وَيُكَررُها في جَميعِ طَريقِهِ لتَصِيرَ

= أجيب كما في الحاشية: بأنه لا يلزم من المسامحة في ذلك لكثرة ما يترتب عليه من الضرر المسامحة في هذا لما فيه من إِظهار السنة الذي لا ضرر فيه بوجه إذ الغالب في الأسفار عدم الالتفات إلى الرياسة والمناصب بخلاف الحضر.

(1)

تفسيره للجلالة باعتبار الغالب، وإلا فكل ما اعتيد عليه الركوب من المأكولات كفرس قد تغير ريحه بالنجاسة فهو جلالة يكره ركوبه سفراً وحضراً بغير حائل إن كان عرقه متغيراً بريح النجاسة ولم يعلف بطاهر أزال تغيره، وإلا لم يكره ركوبها.

(2)

العذرة: هي فضلة الإنسان الغليظة (الغائط) ومثلها كل نجس.

(3)

أي المشتملة على أركانه وشرائطه وواجباته ومفسداته. ومعنى كيفيته هو أن يعرف كيفية كل عمل عند الشروع فيه، لا معرفتها عند الإِحرام، قال العلامة ابن حجر المكي رحمه الله تعالى:(الواجب عند نية الحج تصور كيفيته بوجه، وكذا عند الشروع في كل من أركانه). اهـ. ولا يضر هنا إذا قصد بفرض معين النفلية إذ لو طاف مثلاً بقصد النفل انصرف للطواف الفرض عليه تبعاً لأصله إذ لو كان عليه نسك مفروض فنوى نسك تطوع انعقد المفروض دون ما نواه ولا يضر نيته فكذا أركانه ولا كذلك الصلاة.

(4)

أي بعد الإِحرام.

(5)

قال صاحب الزبد رحمه الله تعالى:

وكل مَنْ بغير علم يعمل

أعماله مردودة لا تقبل

(6)

أي من الكتب المعتمدة ككتاب "الإيضاح" هذا وقد مزجته ولله الحمد والمنة هو وحاشيته للعلامة ابن حجر المكي وزدت عليه ذكر آيات الحج ومنافعه وأسراره وأدعية الأماكن المقدسة التقطت معظمها من كتاب "عدة المسافر" للعلامة باسودان وجعلت الجميع في كتاب مختصر سميته "مرشد الحاج والمعتمر والزائر إلى أعمال الحج والعمرة =

ص: 56

مُحَققَةً عِنْدَهُ وَمَنْ أَخَلَّ بِهذا خِفْنَا عَلَيْهِ أنْ يَرْجِعَ بِغَيْر حَج لإخْلَالهِ بشَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهِ أوْ رُكْنٍ مِنْ أركَانِهِ أوْ نَحْو ذَلِكَ وَرُبَّما قَلدَ كَثير مِنَ النَاس بَعْضَ عَوَام مكة وَتَوَهَمَ أَنهُمْ يَعْرِفُونَ الْمَنَاسِكَ فَاغْتَرَّ بِهِمْ وذلكَ خَطَأ فاحشٌ.

الحادية عشرة: يَنْبَغِي أنْ يَطْلُبَ لَه رَفِيْقاً (1) مُوَافِقاً رَاغِباً في الخَيْرِ كَارِهاً للشَّرِّ إنْ نَسِيَ ذَكَّرَه (2) وإنْ ذَكَرَ أعَانَهُ (3) وإنْ تَيَسَّرَ معَ هَذَا كَوْنُهُ مِنَ العُلمَاءِ فَلْيَتَمَسَّكْ به فإنه يُعِينُهُ عَلَى مَبَار الْحَج وَمَكَارمِ الأَخْلَاقِ وَيَمْنَعُهُ بِعِلْمِهِ وعَمَله مِنْ سُوءِ مَا يَطْرَأُ عَلَى الْمُسَافِرِ مِنْ مَسَاوىء الأخلَاقِ والضجَرِ، وَاسْتَحَبَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أنْ يَكُونَ مِنَ الأَجَانِبِ لَا مِنَ الأَصْدِقَاءِ وَالأَقَارِب وهذَا فيهِ نَظَر بَلْ الاخْتِيارُ أن الْقَرِيبَ أوْ الصدِيقَ المَوثُوق بهِ أَوْلَى (4) فَإِنَّهُ أَعْوَنُ له على مُهِمَّاتِهِ

= والزيارة" وهو مطبوع وهو جدير بالقنية، نفع الله به وبجميع كتبي، ورحمني الله وجميع مؤلفي أصولها ووالدي ومشايخي وكافة المسلمين والمسلمات، آمين.

(1)

أي لقوله صلى الله عليه وسلم لخفَاف بن ندبة رضي الله عنه: "يا خفاف ابتغ الرفيق قبل الطريق، فإنْ عَرَضَ لك أمْر نصرك، وإن احتجت إليه رفدك". رواه ابن عبد البر وغيره رحمهم الله تعالى.

(2)

أي فالذكرى تنفع المؤمنين.

(3)

وفي الحديث: "خير الأصحاب صاحبٌ إذا ذكرتَ الله أعانك وإذا نسيتَ ذَكَرَكَ" رواه ابن أبي الدنيا وفي مثل هذا كان عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى كثيراً ما ينشد:

وإذا صاحبت فاصحب صاحباً

ذا حَياءٍ وعفاف وكرمْ

قوله للشيء لا إن قلت لا

وإذا قلت نعم قال نعمْ

(4)

فإنْ قيل ورد قوله صلى الله عليه وسلم لأكثم بن جون رضي الله عنه: "اغز مع غير قومك يحسن خلقك" قَدْ يقال في رَده: إنما اختص الغزو بذلك لأن المطلوب فيه مزيد الشجاعة وظهور الآثار الحميدة وهي مع حضور الأجانب أقوى لأن خشية العار منهم أشد من خشيته من الأقارب.

ص: 57

وَأشْفَقُ عليهِ في أمُورِهِ (1) ثُمَّ يَنْبَغِي (2) له أنْ يَحْرِصَ على رِضَا رفيقِهِ في جَميعِ طَريقِهِ وَيَحْتَمِلُ كُل وَاحِدِ صَاحِبه وَيَرَى لصاحبه عَلَيْهِ فَضْلاً وَحُرْمَةً وَلَا يَرَى ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَيَصْبِرُ عَلَى مَا وَقَعَ منه فِي بَعْضِ الأَحْيَانِ مِنْ جَفَاءِ وَنَحْوهِ فَإِنْ حَصَلَ بَيْنَهُمَا خِصَامٌ دَائمٌ وَتنكَّدَتْ حَالتهُمَا وَعَجَزَ عَنْ إصْلَاحِ الحَالِ اسْتُحِبّ لَهُمَا تَعْجِيلُ الْمُفَارَقَةِ (3) ليَسْتَقِرَّ أمْرُهُمَا وَيَسْلَم حَجهُمَا مِنْ مُبْعِدَاتِهِ عَنْ الْقَبُولِ وَتَنْشَرِحَ نُفُوسُهُمَا لِمَنَاسِكِهِمَا وَيَذْهَبَ عَنْهُمَا الحِقْدُ (4) وَسُوءُ الظَنِّ والكَلَامُ في الْعِرضِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ النقَائِصِ الَّتي يَتَعَرّضان لَهَا.

الثانِيةَ عشرة: يُسْتَحَبُّ أَنْ تكونَ يَدُهُ فَارغَةً مِنْ مَالِ التِّجَارَة ذاهباً وَرَاجعاً فَإن ذَلِكَ يَشْغَلُ القَلْبَ، فَإنْ اتَّجَرَ لَمْ يُوَثِّرْ ذَلِكَ في صِحَةِ حَجِّهِ (5) وَيَجِبُ عَلَيْهِ تَصْحِيحُ الإِخْلاصِ في حَجهِ وَأَنْ يُريدَ به وَجْهَ اللهِ تَعَالَى. قَالَ اللهُ تَعَالَى:

(1) أي محل اختيار تقديم القريب إذا وثق منه العون والشفقة وإلا استوى هو والأجنبي بل ربما يكون الأجنبي أولى إلا أن يكون للقريب مبرة تصل إليه فيقدمه لأن الصدقة عليه أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح" أي العدو أو نحوه.

(2)

أي يندب وربما يجب في بعض الصور وينبغي له أيضاً أن يصحب مماثله أو دونه في الإِنفاق. قال الإِمام سفيان الثوري رحمه الله تعالى: (لا تصحب من هو أكثر شيئاً منك فإنك إنْ ساويته في النفقة أضَر بك، وإنْ تفضل في الإِنفاق عليك استذلك).

(3)

وقد تجب المفارقة في بعض الصور، كما إذا غلب على ظنه وقوع محذور، إلا إنْ أدتْ المفارقة إلى خطر أعظم كضياع عديله العاجز عن المشي والركوب في غير محمل فتمتنع.

(4)

الحقد: هو الانطواء على العداوة والبغضاء.

(5)

أي والثواب بقدر باعث الدين، وإنْ غَلَبَ باعث الدنيا قيل لا شيء له من الأجر مطلقاً، وهذا إنْ كان قَصْد التجارة لأجل نمو المال هو الغرض، فلو قَصَدَ بالتجارة كفاية أهله والتوسعة عليهم أو على أهل الحرم، فله الثواب كاملاً لأنه ضم أخرَوِياً إلى أخْرَوِي. اهـ عمدة.

ص: 58

{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] وَثَبَتَ في الْحَديث المُجْمَعِ عَلَى صِحَّتِهِ أنَّ رَسُولَ اللَّهَ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنيات" ويَنْبَغِي لِمَنْ حَج حَجةَ الإِسْلَامِ وَأَرَادَ الْحَج أن يحج مُتبَرعاً مُتَمَحضاً لِلْعِبَادةِ فَلَوْ حَج مُكْرياً جِمالَهُ أوْ نَفْسَهُ لِلْخِدْمَةِ جَازَ لَكِنْ فَاتَتْهُ الْفَضِيلَةُ.

وَلَوْ حَج عَنْ غَيْرِهِ كَانَ أعْظَمَ لأجْرِهِ (1) وَلَوْ حَج عَنْهُ بأُجْرَةِ فَقَدْ تَرَكَ الأَفْضَلَ لَكِنْ لَا مَانع مِنْهُ وَهُوَ مِنْ أطْيَبِ الْمَكَاسِبِ فَإِنهُ يَحْصُلُ لِغَيْرِهِ هَذِهِ الْعِبَادَةُ العَظيمَةُ ويحصلُ لَهُ حُضُورُ تِلْكَ الْمَشَاهِدِ الشَريفة فَيَسْألُ اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ.

الثالثة عشرة: يُسْتَحَب أنْ يَكُونَ سَفَرُهُ يَوْمَ الْخَمِيس فَقَدْ ثَبَتَ في الصَحيحَيْنِ عَنْ كَعْب بن مَالك رضي الله عنه قَال: (قَلَّمَا خَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم في سَفَر إلا يَوْمَ الخَمِيس فَإنْ فَاتَهُ فَيَوم الاثنين (2) إذ فيه هَاجَرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم

(1) من دلائله ما رواه الهروي رحمه الله تعالى عن ابن عباس رضي الله عنهما: (من حَج عن ميت يكتب للميت حجة، وللحاج سبع حجات)، وللدارقطني رحمه الله تعالى أنه صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ حج عن أبيه أو عن أمه فقد قضى عنه حجته، وكان له فضل عشر حجج).

(2)

فإنْ فاته يوم الاثنين، قال في الحاشية: فالذي يظهر أن الأولى يوم السبت لما روي من أنه صلى الله عليه وسلم: خرج في بعض أسفاره يوم السبت. ومن قول عمرو بن أم مكتوم يرفعه: لو سافر الرجل يوم السبت: (منْ شرق إلى غرب لرده الله تعالى إلى موضعه).

قيل: ويكره السفر ليلة الجمعة لخبر: (إذا سافر الرجل ليلة الجمعة دعا عليه ملكاه).

ذكره الغزالي في الخلاصة، وفي الكراهة نظر، وقد يقال: تحتمل الكراهة إنْ قصد الفرار من الجمعة، ويحرم السفر بعد فجرها على من لزمته ما لم يخش انقطاعاً عن رفقته أو تمكنه من طريقه.

ثم نصهم على ندب السفر في هذه الأيام صريح في عدم ندبه في غيرها لكن لا من جهة تطير ونحوه، لحرمة رعاية ذلك، فقد قال ابن جماعة: (ولا يكره السفر في يوم من =

ص: 59

مِنْ مَكَّةَ) ويُسْتَحب أنْ يكُون باكراً لحديث صخْر الغَامدي رضي الله عنه أن النبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اللهُمَّ بَارِكْ لأُمتي في بُكُورِهَا" وَكَانَ إذَا بَعَثَ جَيْشاً أوْ سَرِية بَعَثَهُمْ مِنْ أول النهار وَكَانَ صَخْرٌ تَاجراً فَكَانَ يَبْعَثُ بتِجَارَته أول النهَارِ فَأَثْرَى وكَثُرَ مَالُهُ. رَوَاهُ أبُو دَاوُدَ والترْمذِي (1) وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.

الرَّابِعَةِ عَشرة: يُسْتَحَبُّ إذَا أرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ مَنْزلهِ أنْ يُصَليَ ركْعَتَيْن (2) يقْرأ في الأولَى بَعْدَ الْفَاتِحَة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] وفي الثَّانِية {قُل هُوَ

= الأيام بسبب كون القمر في العقرب أو غيره، ولَمَّا قِيْلَ لعلي كرم الله وجهه ورضي عنه:(أتلقى الخوارج والقمر في العقرب، قال: فَأَيْن قمرهم). وقال له مُنَجم: سِرْ ساعة كذا تظفر. فقال: (ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم مُنَجم ولا لنا مِنْ بعده)، واحتج بآيات ثم قال:(فمنْ صَدقَكَ في هذا القول لم يأمنْ أنْ يكون كمن اتخذ من دون الله نِدَّاَ، اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، نكذبك، ونخالفك، ونسير في الساعة التي نهيتنا عنها)، ثم قال للناس: ألا إياكم وتَعَلم النجوم إلا ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر، المنجم كالكافر، ثم توعد المنجم بأنه إنْ لم يتب ليخلدنه في الحبس، وليحرمنه العطاء، ثم قاتل الخوارج في الساعة التي نهاه عنها فظفر بهم، وهي وقعة "النهروان الثانية".

ونقل ابن رُشْد رحمه الله تعالى أن الإمام مالكاً رحمه الله لم يكن يكره شيئاً في يوم من الأيام بل كان يتحرى الأربعاء والسبت رداً على مَنْ يتشاءم بهما وأراد مَلِكٌ غزواً في وقتٍ، فحذره المنجمون منه. فأنشد:

دع النجوم لطرقي يعيش بها

وانهض بعزم صحيح أيها الملك

إن النبي وأصحاب النبي نهوا

عن النجوم وقد أبصرتَ ما ملكوا

فخالفهم وظفر وغنم.

وهذا الخليفة المعتصم العباسي رحمه الله أراد غزو عامورية في وقت فنهاه المنجمون عن غزوها في هذا الوقت فلم يلتفت لقولهم بل غزاها وانتصر وفي هذا يقول البحتري رحمه الله في قصيدته التي مطلعها:

السيف أصدق أنباء من الكتب

في حده الحدُّ بين الجد واللعب

(1)

أي والنسائي وابن ماجه.

(2)

كيفية نيتهما أنْ ينوي بقلبه سنة الخروج من البيت للسفر.

ص: 60

اللَّهُ أَحَد}. فَفِي الحَدِيث عَن النَبِي صلى الله عليه وسلم: "مَا خَلَّف أحَد عِنْدَ أَهْلِهِ أفْضَلَ مِنْ رِكْعَتَيْنِ يَرْكَعُهُمَا عِنْدَهُمْ حينَ يُرِيدُ السَّفَرَ". ويُسْتَحَب أنْ يقْرَأ بَعْدَ سَلَامه آيةَ الكُرْسي ولإيلَاف قُرَيْش فَقَدْ جَاءَ فيهِمَا آثَارٌ للسلَف مَعَ مَا عُلِمَ مِنْ بَرَكَةِ الْقُرْآنِ في كُل شَيْء وكُل وَقْت. ومِنَ الآثَارَ: (أَنَّ مَنْ قَرَأَ آيةَ الْكُرْسي (1) عِنْدَ خُرُوجه مِنْ مَنْزلهِ لَمْ يُصبْهُ شَيْء يكْرَهُهُ حَتى يَرْجعَ مِنْ مَنْسَكه) عَنْ جَمَاعَةٍ، ثُمَّ يَدْعُو بِحُضُور قَلْب وإخْلَاص بِمَا تَيَسَّرَ مِنْ أُمُور الدُنْيَا والآخِرَة وَيَسْألُ اللَّهَ الإِعَانَةَ والتَّوْفِيقَ في سَفَره وغَيْرِهِ مِنْ أمُوره فَإذَا نَهَض (2) مِنْ جُلُوسه قَالَ مَا رَوَيْنَا مِنْ حديث أنس رضي الله عنه: "اللَهم إلَيْكَ تَوَجهْتُ وبكَ اعْتَصَمْتُ اللَّهُم اكْفني مَا أَهَمَني وَمَا لَمْ أَهْتَمَّ به اللَّهُمَّ زَودْني التقْوَى وَاغْفِرْ لي ذَنْبي (3)

(1) وجه المناسبة في آية الكرسي افتتاحها بالحي القيوم الذي لا تأخذه سنَةٌ ولا نوم، وذلك هو المتكفل بحفظ من يخلفه وعدم ضياعه إذْ لا يستحفظ في الحقيقة إلاّ مَنْ اتصَفَ بما ذكر، وهو الله سبحانه دون غيره، ومن الآثار في لإيلاف قريش:(مَنْ أراد سفراً ففزع من عدوٍ أو وحشٍ فليقرأ لإيلاف قريش فإنها أمان من كل سوء). وجه المناسبة في لإيلاف قريش ما فيها من نعمتي الإطعام من الجوع والأمن من الخوف المناسبين لذلك أيَّ مناسبة.

(2)

أي للخروج. ولم يشرع فيه لأن المصنف رحمه الله تعالى سيذكر في السادسة عشرة دعاء آخر وهو قوله: (اللهم إني أعوذ بك من أنْ أضل

) إلى آخره. فيقوله عند شروعه في الخروج ويحتمل أن يجمع بين ما ذكره هنا وما سيأتي في السادسة عشرة عند إرادته الخروج فيقدم ما في الرابعة عشرة لأنه نص في المقصود لخصوصه بخلاف ما سيأتي في السادسة عشرة فإنه يعم كل خروج ولهذا جمعت بينهما مقدماً: (اللهم بك انتشرت) وملحقاً به: (اللهم إني أعوذ بك أنْ أضل

) إلخ في كتابي "مرشد الحاج والمعتمر والزائر" نفع الله به وبجميع كتبي آمين.

(3)

وأكمله كما ورد في بعض الروايات بزيادات: (اللهم بك انتشرت وبك اعتصمت، أنت ثقتي، ورجائي، اللهم إليك توجهت، وبك اعتصمت، اللهم اكفني ما أهمني، وما لم أهتم به، وما أنت أعلم به مني، اللهم زودني التقوى، واغفر لي ذنبي، =

ص: 61

اللهم إني أعوذ بِك مِنْ أنْ أضلّ أو أُضَل، أو أزِل أو أزَلّ، أو أَظلِم أو أُظلَم، أو أجهل أو يُجْهَلَ عَلَيّ، توكلتُ على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله".

الخَامسة عشرة: يُسْتَحَب أَنْ يُوَدع (1) أهْلَهُ وجيرَانَهُ وأصْدقَاءَهُ وأَنْ يُودِّعُوهُ وَيقُولُ كُل واحد مِنْهُمْ لصَاحبِهِ: أَسْتَوْدع اللَّهَ دِينكَ وَأَمَانتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ زَوَّدَكَ اللَّهُ التقْوَى وَغَفَرَ ذَنْبَكَ وَيَسَّرَ لَكَ الْخَيْرَ حَيْثُ كُنْتَ (2).

= ووجهني إلى الخير حيثما توجهت). ويضم إليه: (اللهم بك أستعين، وعليك أتوكل، اللهم ذلل لي صعوبة أمري، وسَهل علي مشقة سفري، وارزقني من الخير أكثر مما أطلب، واصرف عني كل شر، رب اشرح لي صدري ونَوَر قلبي ويَسر أمري، اللهم إني أستحفظك وأستودعك نفسي وديني وأهلي وأقاربي وكل ما أنعمت به علي وعليهم من آخرةٍ ودنيا واحفظنا أجمعين من كل سوءِ، يا كريم، اللهم إني أعوذ بك من أن أضل أو أضل أو أزل أو أزل أو أظلِم أو أظلَم أو أجهل أو يجهل عليّ توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله).

(1)

أي أنْ يذهب إلى مَنْ يودعهم لما وَرَدَ أنه صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أتى أصحابه فَسَلَّم عليهم، وإذا قَدِمَ من سفر أتوا إليه فسلموا عليه، وإنما كان هو المودع لأنه المُفارق، والتوديع منه والقادم يُؤتى إليه ليُهَنأَ بالسلامة.

(2)

هذا الدعاء الذي ذكره المصنف رحمه الله تعالى مجموعٌ من حديثين صحيحين، زاد النسائي عليه آخره: واقرأ عليك السلام، وينبغي للمقيم أنْ يزيد عليه إذا ولَّى المسافر:(اللهم اطوِ له البُعْدَ، وهَوَن عليه السفر) لأنه صلى الله عليه وسلم قال لمريد سفر، قال: يا رسول الله إني أريد أنْ أسافر، فأوصني. قال:"عليك بتقوى الله والتكبير على كل شَرَف (أي مرتفع) ". فلما وَلَى، قال: اللهم اطو له البُعْد. رواه أحمد والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجه رحمهم الله تعالى. وأنْ يطلب من المسافر الدعاء، لما صَحَّ أنه صلى الله عليه وسلم طلبه من عمر رضي الله عنه لَمَّا أراد العمرة بقوله:(يا أخي لا تنسنا من دعائك)، وفي رواية:(يا أخي أشركنا في دعائك)، وأنْ يُشَيِّعَه بالمشي معه كما قاله جمع للاتباع، رواه أبو داود رحمه الله وكذا الحاكم وصححه، وأنْ يصافحه عند مفارقته فيما يظهر للاتباع =

ص: 62

السادسة عشرة: السُّنةُ إذَا أرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ بيتِهِ أنْ تقُولَ مَا صَحَّ أن رَسُولَ اللَّهَ صلى الله عليه وسلم كَانَ يقُولُ إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ: "اللَهُمَّ إنَّي أعُوذُ بِكَ مِنْ أضِلَّ أوْ أُضَلَّ أَوْ أَزِلَ أَوْ أُزلَ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عليّ"، وعن أنس أنَ النَبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إذَا خَرَجَ الرَجلُ مِنْ بيته فَقَالَ: بِسْم الله تَوَكَلْتُ عَلَى الله لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَاّ بالله يقالُ لَهُ: هُدِيتَ وكفيتَ ووُقيت" ويُسْتَحَب هَذَا الدُّعَاءُ لكُلِّ خَارج مِنْ بَيْتِهِ ويُسْتَحَب له أنْ يَتَصدَّقَ بِشَيْء عِنْدَ خُرُوجه، وَكَذاَ بَيْنَ يَدَيْ كُل حَاجَة يُريدُهَا.

السابعة عشرة: إذَا خَرَجَ وَأَرَادَ الرُّكُوبَ (1) اسْتُحِبَّ أَنْ يقُولَ: بِسْمِ الله، وَإذَا اسْتَوَى على دَابته قال: الحَمْدُ لله سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لنا هَذَا وما كُنَّا لَهُ مُقْرنينَ (2) وإِنَّا إلى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (3) ثُمَ يقُولُ: الحَمْدُ لله ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ يقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثَ مَرَّات ثُمَّ يقُولُ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَ إنِّي ظَلَمْتُ نفْسِي فاغْفِرْ لي فَإِنّه لا يَغْفِرُ الذُنُوبَ إِلَا أنْتَ. لِلْحَدِيث الصَّحيح في ذَلِكَ. وَيُسْتَحَب أن يَضُمَّ إليه: اللَّهُمَّ إنَّا نَسألُكَ في سَفَرِنَا هذا البرَّ والتقْوَى ومِنَ الْعَمَلِ مَا تُحِب وَتَرْضَى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرِنَا واطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللهُمَّ أَنْتَ الصاحِبُ في

= أيضاً، رواه أبو داود والنسائي، وأنْ يواسيه بشيء إنْ كان مُحتاجاً أخْذاً من اعتذار ابن عمر رضي الله عنهما لمن وَدَعه، بقوله:(ليس لي ما أعطيكه). ويُسَن للخارج طلب وصاية المقيم له بالخير للحديث السابق ودعاؤه له لما رواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا خرجت إلى سفر فقل لمن خلفته: أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه" ويقاس به الدعاء المتقدم فيقول لهم: "أستودع الله دينكم

" إلى آخره كما صَرح به المصنف بقوله: ويقول كل واحد

إلى آخره.

(1)

ويُسَنُّ أنْ يبدأ برجله اليمنى.

(2)

أي مُطيقين.

(3)

أي لمبعوثون.

ص: 63

السفَر والخَلِيفَةُ في الأَهْلِ وَالمَالِ، اللَّهُم إنَا نَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَر وَكَآبةِ المُنْقَلَبِ (1) وَسُوء المَنْظَرِ في الأَهْلِ وَالمَالِ والْوَلَدِ، لِلْحدِيثِ الصَّحيح في ذلك.

الثامنة عشرة: يُسْتَحَب إِكْثَارُ السَّيْرِ في اللَّيْلِ لِحَدِيثِ أَنسٍ (2) أن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "عَلَيْكُم بالدُّلْجَة (3) فَإِن الأَرْضَ تُطْوَى باللَيْلِ"(4).

وَيُسْتَحَبُّ أنْ يرِيحَ دَابتَهُ بالنُّزُولِ عَنْهَا غُدْوَةً (5) وَعَشِيةً وَعِنْدَ كُلِّ عَقَبة

(1) قال في الحاشية: ويزيد بعد قوله: (وكآبة المُنْقَلَب): (والحَوْر بعد الكور، ودعوة المظلوم) ثم قال: (ووعثاء السفر بالمد شدته، والكآبة بالمد أيضاً تغير النفس مِن حزن ونحوه، والحور بمهملتين: النقص والتأخر، والكور بالراء من تكوير العمامة أي لفها وجمعها. ورواه مسلم وغيره بالنون مصدر "كان" إذا وجد واستقر، وهو الأكثر: الرجوع من الاستقامة أو الزيادة إلى النقص. كذا نقل تفسير هذه الثلاثة عن العلماء، وفيه وقفة إذْ يصير المعنى عليه: وأعوذ بك من النقص بعد الرجوع إلى النقص، فالوجه أنْ يقال: المراد بالكور هنا نفس الاستقامة أو الزيادة، لا الرجوع منها، ليلتئم المعنى.

ثم رأيت ابن خليل ذكر نحو ذلك فقال: والكور التقدم والزيادة والكون من قولهم كان فلان على حالة جميلة فحار عنها أي رجع، وقولهم حار بعدما كان. اهـ.

أقول: فيكون معنى (الحور بعد الكور) بالراء، النقص بعد الزيادة، ومعنى (الحور بعد الكون) بالنون الرجوع من الحالة الجميلة إلى الحالة القبيحة. والله أعلم.

(2)

رواه أبو داود والحاكم وصححه.

(3)

الدُلْجة: بضم الدال فسكون أو بفتحتين، قال في الصحاح: السيْر في أول الليل وآخره.

(4)

أي طَيَّاً حقيقياً يكرم الله به مَنْ أتى بهذا الأدب امتثالاً لذلك، إذ في رواية:"عليك بالدلجة، فإن لله ملائكة موكلين يطوون الأرض للمسافر كما تطوى القراطيس".

(5)

دليله حديث البيهقي رحمه الله تعالى: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر مضى وناقته تُقاد.

ص: 64

وَيَتَجَنَّبَ النَّوْمَ (1) على ظَهْرِها وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيها فَوْقَ طَاقَتِها (2) وَأَنْ يُجيعَهَا (3) من غَيْرِ ضَرُورَةِ فَإنْ حَمَّلَهَا الجَمَّالُ فَوْقَ طَاقَتِهَا لَزِمَ المُسْتَأْجرَ الامتنَاعُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا بَأسَ بالإِرْتِدافِ عَلَى الدابةِ إذَا أَطَاقَتْهُ (4) فقَدْ صَحَّتْ الأَحَاديثُ المَشْهُورَةُ في ذلك ولا يَمْكُثُ على ظَهْرِ الدابة إِذَا كَانَ واقفاً لشُغْل يَطُولُ زَمَنُهُ بَلْ يَنْبَغِي أنْ يَنْزِلَ إلى الأَرْضِ فإِذا أَرادَ السَّيْرَ رَكِبَ إِلاّ أنْ يَكُون لَهُ عُذْرٌ مَقْصُودٌ في تَرْكِ النزُولِ (5) والحديثُ مَشْهُورٌ في النَّهْيِ عن اتخاذِ ظُهُورِ الدَّوَابِ مَنَابِرَ. وَفِي الصحيحيْنِ أَنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم خَطَبَ على راحِلته وَهَذَا للحَاجَة كما ذَكَرْنَاهُ.

(1) أي كثرته عرفاً لغير عُذْر فقد صَحَّ أنه صلى الله عليه وسلم نام على راحلته، وإذا نام في غير وقته فللمؤجر منعه منه لأن النائم يثقل كذا قيل والله أعلم، والمراد بوقت النوم الوقت المعتاد لغالب الناس ولا يضر النعاس لبقاء نوع من الشعور معه. قال الجمال الطبري رحمه الله تعالى: ويسن أن لا ينزل حتى يحمى النهار وأنْ ينام فيه نومة يستعين بها على دفع الوسن، وقال غيره رحمه الله تعالى: يسن الإسراع في المشي عند الإعياء للحديث الصحيح: "أنهم شكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم المشي، فدعاهم فقال: عليكم بالتّسلان" أي الإسراع في العَدْو، فتسلوا فوجدوه أخف عليهم، والرفق بالإبل، أي إنْ سافر في الخصب مثلاً لتنال منه حظها، والإسراع بها عند الجدب لتصل إلى المقصد وفيها فضل قوتها لحديث بذاك.

(2)

الذي يظهر في ضبطه أن يقال هو ما يقتضي أهل الخبرة أنْ مثل هذه الدابة سِناً ونوعاً تعجز عن حمل مثله أو يترتب ضرر يلحقها منه في المستقبل كقلة مشيها عن عادتها.

(3)

أي إجاعة يترتب عليها الضرر السابق في تحميل الدابة فوق طاقتها.

(4)

أي إنْ مَلَكَ الدابة أو ظَن رضا مالكها، ومالك منفعتها أحق بمقدمها إلا أنْ يقدمه، ويجوز التعاقب عليها ويُسَن أنْ يركب غلامه.

(5)

كأنْ كان ممن يطلب ركوبه ليستَفْتَى.

ص: 65

التَّاسِعَةَ عَشرة: أنْ يَتَجَنَّبَ الشَّبَعَ المُفْرِط (1) وَالزينَةَ والتَّرَفُّه (2) والتَّبَسُّطَ في ألْوَانِ الأَطْعِمَةِ (3) فَإِنَ الحَاجَ أشْعَثُ أغْبَرُ وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَعْمِلَ الرِّفْقَ وَحُسْنَ الْخُلقِ مع الْغُلَام والجَمّالِ والرَفِيقِ وَالسَّائِلِ وَغَيْرهم وَيَتَجَنَّب الْمُخَاصَمَةَ وَالْمُخَاشَنَةَ وَمُزَاحَمَةَ النَاسِ فِي الطَّرِيقِ وَمَوارِدِ المَاءِ إِذا أمْكَنَهُ ذَلِكَ وَيَصُونُ لِسَانَهُ مِنَ الشَّتْمِ وَالْغَيْبَةِ وَلَعْنَة الدَوَاب (4) وَجَمِيعِ الأَلْفَاظِ الْقَبيحَةِ. وَلْيُلَاحِظْ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَج فَلَمْ يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُه" وَيَرْفُقُ بالسَّائِلِ وَالضعِيفِ ولا يَنْهَرُ أحَداً مِنْهُمْ وَلَا يُوَبخُهُ عَلَى خُرُوجهِ بلا زَادَ ولَا رَاحِلَة بَلْ يُوَاسِيهِ بشَيء مِمَّا تَيَسَّرَ فَإنْ لم يَفْعَلْ رَدَّهُ رَدَّا جَمِيلاً وَدَعَا لَهُ بالمَعُونَةِ (5).

العِشْرُون: كَرِهَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الوحْدَةَ في السَّفَرِ، وَقَالَ: "الرَّاكِبُ (6)

(1) ضابط الشبع أن يصير بحيث لا يشتهي لا أنْ لا يجد له مساغاً وقوله: المفرط: قيد به لتأكد تجنبه حينئذ وإلا فأصْل الشبع مطلوب تجنبه للوارد: "نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع" أو كما ورد.

(2)

الترفه والتنعم هنا الزينة والتبسط: ألفاظ مَعَانيها متقاربة أخذاً من القاموس وغيره.

(3)

محله إذا كان يفعل التبسط لنفسه أما لنحو ضيف فلا بأس به.

(4)

لما رواه مسلم رحمه الله تعالى: بينما جارية على ناقة عليها بعض متاع القوم إذ بصرت بالنبي صلى الله عليه وسلم وتضايق بهم الجبل، فقالت: حل اللهم إلعنها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تصحبنا ناقة عليها لعنة".

(5)

قال تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة: 263]، وأما قول بعضهم في قوله تعالى وهو:{وَأَما اَلسائلَ فَلا تنْهَرْ (10)} محله ما لم يزد على ثلاث وإلا نهره ينبغي حمله على ما إذا ألح ولم يمكن دفعه إلا بذلك فحينئذ لا منع من أن ينهره لكن بما لا شتم فيه ولا إثم بل بنحو لا تجوز لك كثرة الإلحاح وخف الله في إلحاحك وما شابه ذلك مما لا يخفى على الموفق.

(6)

ومثل الراكب الماشي وآثر الراكب جرياً على الأغلب وظاهر الحديث: أن =

ص: 66

الوَاحِدُ شَيْطَانٌ، وَالاثْنَان شَيْطَانَان، وَالثَّلَاثَةُ رَكْبٌ" فَيَنْبَغِي أنْ يَسيرَ مَعَ النَّاسِ وَلَا يَنْفَرِدُ بَطِريق ولا يَرْكَبُ بنياتَ (1) الطَّريقِ فإنَّهُ يخافُ عليه الآفاتُ بسبَبِ ذَلِكَ وإِذَا تَرَافَقَ ثَلَاثَةٌ أوْ أكْثَرُ فَيَنْبَغِي أنْ يُؤَمِّرُوا على أَنْفُسِهِمْ أَفْضَلَهُمْ وَأَجْوَدهمْ (2) رَأياً ثُمَّ ليُطيعوهُ، لحَدِيثِ أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه أن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كانُوا ثَلَاثَةً فَلْيُؤَمِّرُوا أحَدهمْ" رَوَاهُ أبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَن.

الْحَادِيَةُ والعِشْرُون: يُكْرَهُ أنْ يَسْتَصْحِبَ كَلْباً أو جَرَساً لحديث أمِّ الْمُؤْمِنين أم حَبيبةَ رضي الله عنها أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ العِيرَ التي فيها الجَرَسُ لا تَصْحَبُهَا الْمَلَائِكَةُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بإسْنَادٍ حَسَنٍ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله تعالى عنه أن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا كَلْب أو جَرَسٌ". حَدِيثٍ صَحيحٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَفِي الحديث في سُنن أبي دَاوُدَ وَغَيْرُهُ أنْ النَبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "الْجَرَسُ مِزمَارُ الشَّيْطَانِ" قَالَ الشَّيْخُ أبُو عَمْرو بن الصَّلَاح رَحِمَهُ الله تعالى: فَإنْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِك مِنْ جِهَةِ غيْرِه ولم يَستْطعْ إزَالتهُ فَلْيقُلْ: اللَهُمَّ إِنَي أَبْرَأُ إلَيْكَ مِمَّا فَعَلَهُ هَؤُلَاءِ فَلَا تَحْرِمَني ثَمَرَةَ صُحْبةِ ملائِكَتِكَ (3) وَبَرَكَتَهُم.

= الكراهة لا تزول إلا بثلاثة وهو كذلك ومحله فيمن أنس بالناس، وأما مَنْ استوحش منهم واستأنس بالله في كثير من أوقاته فلا كراهة، ومحله أيضاً كما هو ظاهر إذا تيسر استصحاب أحد له، وإلا كانْ احتاج للسفر ولم يخشَ بتفرده على نفسه ضرراً فلا كراهة أيضاً والله أعلم.

(1)

بنيات الطريق: يمناها ويسراها، بل يمشي وسطها لئلا يغتال فيبعد عليه الغوث، وينبغي ألا ينام بعيداً عن الطريق والركب سائر.

(2)

وإذا تعارض الأفضل والأجود رأياً قدم الأجود رأياً لأن حفظ مضار السفر هو المقصود بالذات لأن التأمير إنما طلب لذلك.

(3)

أي ملائكة الرحمة والبركة، قال في الحاشية: والظاهر أن من قال ما ذكره =

ص: 67

الثَّانِيَةُ والعِشْرُون: السُّنةُ إِذا عَلَا شَرَفاً مِنَ الأَرْض كَبَّرَ وإذا هَبَطَ وادياً وَنَحْوه سَبَّحَ (1) وَتكْرَهُ المُبَالغَة بِرَفْعِ الصَّوْت في هذَا التكْبيرِ وَالتَّسْبيح (2) لِلْحَدِيثِ الصَحِيحِ فِي النَّهْي عَنْهُ (3).

الثالِثَةُ والعِشْرُون: يُسْتَحَبُّ إذا أشْرَفَ عَلَى قَرْية أو مَنْزلٍ يقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أسْألُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ أهْلهَا وَخَيْرَ ما فيها وَأعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّها وَشَر أهْلِهَا وَشَر مَا فِيهَا (4).

الرابِعَةُ والعِشْرُون: السُّنَّة إذَا نَزَلَ مَنْزلاً أنْ يقُولَ ما رَوَاهُ مُسْلم في صَحِيحهِ عَنْ خَولَةَ بِنْت حَكِيمٍ رضي الله عنها قالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقُولُ: "مَنْ نزل مَنْزلاً ثُمَّ قال: أعُوذُ بكلمات الله التاماتِ مِنْ شَرَ ما خَلَقَ لم

= العلامة ابن الصلاح وغيره رحمهم الله تعالى: لا تنقطع عنه ثمرة صحبة الملائكة بل ينبغي أنه لو أنكره بما قدر عليه مِنْ قلبه أو لسانه أو يده أنْ لا ينقطع عنه ذلك أيضاً وإن لم يقل ما ذكر لعذره، وصَح عنه صلى الله عليه وسلم أنه أرسل رسولاً يقول:"لا تبقين في رقبة بعير قلادة من وتر -أو قال قلادة- إلا قطعت". قال الإمام مالك رحمه الله: أرى ذلك من العين فيكره أنْ تقلد الدابة وتراً أو نحوه لذلك. اهـ.

(1)

لما رواه البخاري رحمه الله تعالى عن جابر رضي الله عنه قال: "إذا صَعدنَا كَبرْنَا وإذا نزلنا سَبحْنَا".

(2)

ومثلهما كل ذكر ندب فيه الجهر.

(3)

أي في قوله صلى الله عليه وسلم: "ارْبِعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصماً، ولا غائباً إنه معكم إنه سميع قريب" ومعنى ارْبعوا: ارفقوا بأنفسكم.

(4)

ويزيد: "رب أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين، رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق، واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً".

ص: 68

يَضُرهُ شَيْءٌ حتى يَرْتحل مِنْ مَنْزلهِ ذلك"، وَيُسْتَحَبُّ أنْ يُسَبحَ في حال حَطِّه الرَّحْلَ (1) لَما رَوَيْنَاهُ عَنْ أنَس رضي الله عنه قالَ: كُنا إذَا نَزلْنَا سَبحْنَا حتى نَحُط الرحَالَ (2) وَيُكْرَهُ النُّزُولُ في قارِعَة الطَرِيقِ (3) لحديث أبي هُرَيْرَةَ: "لَا تُعَرسُوا عَلَى الطَّريق فَإنَّهَا مَأوَى الْهَوَام باللَّيْل".

الخَامسَةُ والعِشرون: السُّنة إذا جَنَّ (4) عليه اللَّيلُ أنْ يقُولَ ما رَوَيْنَاهُ في سُنَن أبي دَاوُدَ وَغَيْرِه عن ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قَال: كان رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا سَافَرَ فَأقْبَلَ الليْلُ قَالَ: "يَا أرْضُ ربي وَرَبكِ اللهُ أعُوذُ بالله مِنْ شَرّكِ (5) وَشَرِّ ما فيكِ (6) وَشَرِّ ما خُلِقَ فيك (7) وَشَرِّ ما يَدِب عَلَيْكِ (8)، أعُوذُ بالله مِنْ أَسَدٍ

(1) كلامه رحمه الله تعالى شامل للمحرم والذي يتجه حينئذ استثناؤه، فإن شعاره التلبية، ويحتمل غيره، قال في الحاشية: والأول أقرب. اهـ.

(2)

لا ينافي هذا الحديث رواية أبي داود وغيره رحمهما الله تعالى عن أنس رضي الله عنه: "كنا إذا نزلنا منزلاً لا نسبح حتى نحل الرحال" لأن معنى لا نسبح: لا نصلي الضحى، وبه يعلم أن الأولى في غير مزدلفة لما يأتي فيها تقديم حل الرحل على الصلاة حيث اتسع وقتها لأنه من الإحسان للدابة.

(3)

قارعة الطريق: أعلاه وليس هي المراد بل المراد الطريق، ويؤيده لفظ حديث مسلم رحمه الله تعالى الذي ساقه المصنف إذ فيه الطريق فقط وظاهر كلامه أنه لا فرق في الكراهة بين النزول ليلاً أو نهاراً، لكن قضية الحديث الذي ذكره اختصاص ذلك بالليل إلا أنْ يقال إنما ذكر الليل لأن الكراهة فيه أشد لأن الضرورة فيه أقرب.

(4)

إذا جَنَّ الليل: أي أظلم، والتعبير بأقبل الليل كما في الحديث أعَم وأوضح لأنه صادق بجميع أجزاء الليل ولو عقب الغروب وبالليالي المقمرة.

(5)

أي شر نفس الأرض بأنْ لا يقع في وَهْدَة، أو يتعثر بشيء منها.

(6)

بأن لا يَتَعَثر بشجرة أو نحوها.

(7)

أي مِن شر ما خلق فيك ولم يغلب عليه عنصرك كالجن.

(8)

ما يدب عليها أي من جميع المخلوقات.

ص: 69

وَأَسْودَ، والْحَية والعَقْرب ومِنْ سَاكنِ الْبَلَدِ ومِنْ وَالدٍ وَمَا وَلَدَ". قُلْتُ: الْمُرَادُ بالأَسْوَدِ الشَخْصُ. قَال أَهْلُ اللُّغَة: كل شَخْص يقالُ له أَسْوَدُ قال الإِمَامُ أبو سُلَيْمان الخَطَابي: سَاكِن الْبَلَد هُم الْجنُ، وَالْبَلَدُ الأَرْضُ التي هي مأوَى الْحَيَوَان وإنْ لم يكن فيها بناء قالَ: ويُحْتَمَلُ أنَ الْمُرَادَ بالْوَالِدِ إِبْلِيسُ وَمَا وَلَد الشَّيَاطِين (1).

السَّادسة والعشرون: إذَا خَافَ قَوْماً أَو شَخْصاً آدمِيَّاً أَوْ غَيْرَهُ قال مَا رَوَيْنَاه بالإِسناد الصَحيح في سنن أَبي داوُدَ والنَّسائي وَغَيْرِهما عن أَبي مُوسَى الأَشْعَرِي رضي الله عنه أن النَبِي صلى الله عليه وسلم كَان إذا خافَ قَوْماً قَالَ: "اللَهُمَّ إنَّا نَجْعَلُكَ في نُحُورِهم ونَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهم"(2) وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ دُعاء الْكَرْبِ هُنَا وفي كُلِّ مَوْطِن وَهُوَ مَا ثَبَتَ في صَحِيحَيْ البُخَارِي وَمُسْلِم عن ابنِ عَبَّاس رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كانَ يقُولُ عند الْكَرْبِ: لَا إِلهَ إِلَا اللهُ العَظِيمُ الحليمُ، لا إِلَهَ إلا الله رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم، لا إِلهَ إلَا الله رَبُّ السَمَوَات وَرَبُّ الأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمُ". وفي كتاب التِّرْمذيِّ عَنْ أَنس بن مَالكٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كَرَبَهُ أَمْر قَال:"يا حَي يَا قَيُّوم بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ" قال الْحَاكِمُ: إِسْنَادُهُ صحيح.

السابعة والعشرون: في أُمُور يَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْمُسَافِرُ جاءت فيها أحاديثٌ وآثَار قَدْ جَمَعْتُهَا في كِتَابِ الأَذْكَار بِشَوَاهِدَ واضحة أذْكُرُ منها هُنَا أطْرَافاً

(1) أخذ هذا من قوله تعالى: {أَفَتَتخِذُونَه وَذُريتهُ} الآية فإنها تدل على أنّ إبليس يلد.

(2)

زاد غيره: "اللهم رب السموات السبع، ورب العرش العظيم كن لي جاراً مِنْ شر هؤلاء، وشر الجن، والإِنس، وأعوانهم، وأتباعهم، عَزّ جارك وجَل ثناؤك، ولا إله

غيرك".

ص: 70

مُخْتَصَرَةً منها: إذَا اسْتَصْعَبَتْ دَابتُهُ قيلَ: يقْرَأ في أذُنَيْهَا {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ [يُرْجَعُونَ]} (1).

وَإِذَا انْفَلَتَتْ دَابَّتُهُ نَادَى يا عبادَ اللهِ احْبِسُوا مَرَّتَيْنِ أوْ ثَلَاثاً (2) وَيُسْتَحَبُّ الْحُدَاءُ (3) للسُّرْعَةِ في السَّيْر وَتَنْشِيط الدَّوابِّ والنُفُوس وَتَرْوِيحِها وَتَسْهِيلِ السَّيْرِ وفيه أحاديثُ صحيحةٌ كثيرةٌ فإِذا رَكِبَ سَفِينَةً قَال: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)} [هود: 41](4){وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الآيةَ (5).

الثامنة والعشرون: يُسْتَحَب الإِكْثَارُ مِنَ الدُّعَاء في جَميع سَفَرِهِ لِنَفْسِهِ وَلِوَالِدَيْه وَأَحبَّائه وَوُلَاة الْمُسْلِمين وَسَائر الْمُسلمين بِمُهمَّات أَمُور الآخرة

(1) أخرجه الثعلبي رحمه الله تعالى في تفسيره من ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك وسنده ضعيف، وأخرج الطبراني رحمه الله بسند منقطع:"إذا أضَل أحدكم شيئاً أو أراد عوناً، وهو بأرض ليس بها أنيس فليقل: يا عباد الله أعينوني، يا عباد الله أعينوني، فإن لله عباداً لا يراهم أحد"، وهو مجرب كما قال الراوي رحمه الله، وقال بعضهم: إذا ضاع منك شيء فقل: يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد اجمع بَيْني وبين كذا، فإنه مجرب، قال المصنف رحمه الله تعالى:(قد جربته فوجدته نافعاً سبباً لوجود الضالة عن قرب غالباً). أقول: لا يستغرب هذا فإنه من كتاب الله قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38].

(3)

الحداء: بضم الحاء وكسرها ويقال له "الحدو" تحسين الصوت الشجي بنحو الرجز المباح.

(4)

ورد عنه صلى الله عليه وسلم أن قراءة ذلك أمان من الغرق، ووجه المناسبة في الآية ظاهر.

(5)

كأن وجه مناسبة: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ} [الزمر: 67] ما في رواية، أن قائل ذلك يتذكر به عتو قوم نوح عليه السلام على الله الموجب لغرقهم فكان في ذكر ذلك الحمل على الرجوع إلى الله المتكفل بالخلاص من الشدائد وإن كانت لو وقعت اقتضت الشهادة ألا ترى أنه يقنت لنازلة الطاعون على المعتمد، وإن كان مَنْ مات به يموت شهيداً كما يقنت لنازلة هجوم الكفار على بلادنا -نسأل الله السلامة- وإنْ كان من قتلوه يموت شهيداً-. اهـ حاشية.

ص: 71

وَالدُّنْيَا للْحَديث (1) الصَّحيح في سُنَن أبي دَاوُدَ وَالتِّرمذي وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبي هُرَيْرَة رضي الله عنه عَنِ النَبى صلى الله عليه وسلم قالَ: "ثَلَاثُ دَعَوَات مُسْتَجَابَات لَا شَك (2) فيهِن: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ (3) وَدَعْوَةُ الْمُسَافر وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ (4) على وَلَدِهِ" وَلَيْسَ في روَايه أبي دَاوُدَ عَلَى وَلَده.

التاسعة والعشرون: يُسْتَحَبُّ لَهُ الْمُداوَمَةُ عَلَى الطَّهَارَةِ (5) والنَّوْمُ عَلَى

(1) هو استدلال لطلب الدعاء للمسافر من حيث هو، وأما الدليل على طلب خصوص الدعاء للمؤمنين فهو ما رواه المستغفري رحمه الله تعالى مرفوعاً:(ما من دعاء أحب إلى الله عز وجل مِنْ قول العبد اللهم اغفر لأمة محمد رحمة عامة). اهـ حاشية.

(2)

لا شك: تأكيد للحكم المستفاد من قوله: "ثلاث دعوات مستجابات".

(3)

أي بالنوع الذي ظلم به فقط إذ لا يجوز له الدعاء على ظالمه بغير ذلك.

واستشكل بما في مسلم رحمه الله تعالى عن سعيد بن زيد رضي الله عنه أن امرأة خاصمته فقال: (اللهم إنْ كانت كاذبة فأعم بصرها، واقتلها في أرْضها). فكان كذلك، ويُجاب عن ذلك بأنه مذهب صحابي واستجابته كرامة له مع اعتقاد جوازه، وأُجيب بغير ذلك، وبَحَثَ العلامة الزركشي رحمه الله تعالى جواز الدعاء على الظالم بالفتنة في دينه، وسوء الخاتمة -نسأله تعالى السلامة- كقول "سعد" في الدعاء على مَنْ ظلمه، وعرضه للفتن فاستجيب له، وورد نظير ذلك عن الأنبياء والرسل والصحابة وأعلام الأمة سلفاً وخلفاً.

وقيل يمتنع، وحمل الجواز على المتمرد لعموم ظلمه، أو كثرته أو تكرره أو فحشه أو إماتته لحق أو سنة أو إعانته على باطل أو بدعة، والمنع على من لم يظلم، أو ظلم في عمره مرة، وفي الحديث: إن الدعاء على الظالم يذهب أجر المظلوم، وأخرج الترمذي:(مَنْ دعا على ظالمه فقد انتصر). قال بعضهم: والدعاء على مَنْ ظلم المسلمين لا يذهب أجر الداعي لأنه لم يدع لحظ نفسه.

(4)

محله إنْ كانت دعوة الوالد بحق كأن كان الولد عاقاً بأنْ فعل مع والده ما يتأذى به تأذياً ليس بالهين وحينئذ فالوالد مظلوم، فيكون داخلاً في دعوة المظلوم، لكن صَرح به للاعتناء بشأنه.

(5)

لأنه ربما يفجؤه الموت فيكون على كمال حاله.

ص: 72

الطهَارَةِ (1) وَمِمَا يَتَأكَّدُ الأمْرُ به الْمُحَافَظَةُ عَلَى الصَلاة في أَوْقَاتِها (2) الْمَشْرُوعَة وَلَهُ أنْ يقْصُرَ وَيَجْمَعَ (3) وَلَهُ تَرْكُ الْجَمْعِ وَالْقَصْرِ (4) وَلَهُ فِعلُ أحَدِهِمَا وَتَرْكُ الآخرِ (5) لَكن الأَفضَلُ أنْ تقْصُرَ وَأنْ لَا يَجْمَعَ للخروج مِنْ خِلَاف الْعُلَمَاء في ذَلِكَ فانَ أبَا حَنيفَةَ وَغَيْرَه رَحِمَهُم الله تَعَالَى قَالُوا: الْقَصْرُ وَاجب (6) وَالْجَمْعُ حَرَامٌ إِلا في عَرَفَاتِ وَالْمُزْدَلِفَةِ، وإذا أراد القصر فلا بد من نية القصر (7) عند الإِحرام بالصلاة.

وإنما يجوز الْقَصْرُ في الطهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشاء كُل وَاحِدَة رَكْعَتَانِ وَلَوْ فَاتَتْهُ مَقْصُورَة فَقَضَاهَا في السَّفَر (8) فَالأَوْلَى أنْ يقْضِيَها تَامَّة فَإنْ قَصرَهَا جَازَ عَلَى الأَصَحِّ وَإذَا أَرَادَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فَإِنَّمَا يَجُوزُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ (9) في وقْت

(1) ليكون النوم على الطهارة سبباً لاستغفار الملائكة، وحفظ الروح من الشياطين، وينبغي أيضاً لمريد النوم آخر الليل نصب ذراعه وحمل رأسه على كتفه للاتباع، ولئلا يستثقل في النوم فيفوته الصبح، أو أول وقته.

(2)

من الأوقات وقت العذر في المجموعتين.

(3)

أي إذا كان السفر طويلاً مباحاً، وله مقصد معلوم.

(4)

بأن يؤدي كل صلاة في وقتها تامة.

(5)

بأن يقصر بلا جمع وبالعكس.

(6)

أي إذا كان السفر ثلاث مراحل فأكثر.

(7)

هذا واحد من شروط القصر، الثاني: كون السفر طويلاً، الثالث: كونه جائزاً، الرابع: كونه لغرض صحيح، الخامس: كونه لمقصد معلوم، السادس: مجاوزة السور إنْ وُجد، وإلا فمجاوزة العمران، وخراب لم يهجر، السابع: أن لا يقتدي بمتم في جزء من صلاته، الثامن: دوام السفر حتى تنقضي الصلاة، التاسع: العلم بجواز القصر.

(8)

أي ولو في سفر آخر.

(9)

قال في الحاشية: المعتمد كما قاله جمع متأخرون أنه يجوز جمع الجمعة، والعصر تقديماً، لا تأخيراً، سواء قلنا إنها ظُهْر مقصورة، أو صلاة على حيالها. وهو الأصح، والمعتمد أيضاً أنه لو سافر أثناء الظهر مثلاً، ثم نوى الجَمْع جمع كما قاله جَمْعٌ =

ص: 73

أحَدِهِمَا وَبينَ الْمَغْرب والْعِشَاء في وَقْتِ أحَدهما فَإن شَاءَ قَدَّمَ الثَّانِيةَ إِلَى الأوْلَى وَإِنْ شَاءَ أخرَ الأولَى إِلى وَقْتِ الثانِيَةِ لَكِن الأَفْضَلُ إِنْ كان نَازِلاً في وَقْتِ الأُولَى أنْ يقَدِّمَ الثَّانِيةَ وإنْ كان سَائراً في وَقْتِ الأوْلَى أَخرَهَا (1) فَإِنْ أرَادَ الْجَمْع في وَقْت الأُوْلَى فَلَهُ ثَلَاثَةُ شُرُوط: أَنْ يَبْدَأ بالأُوْلَى وأَنْ يَنْوِيَ الْجَمْعَ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْهَا (2) والأَفْضَلُ أنْ تكونَ النيةُ عِنْدَ الإِحرَامِ بها وأَنْ لا يُفَرِّقَ بَيْنَ الصَلَاتين بِصَلَاة سُنَة ولا غيْرها فَإِنْ فُقد أحَدُ هَذِهِ الشُّرُوط بَطَلَ الْجَمعُ وَوَجَبَ أن يُصَلِّي الثانِيةَ في وَقْتِهَا وَلَوْ فَرَقَ بينَ الصَلَاتَين بِنَحْو الكَلِمَتَيْن أو الثلَاث لم يَضُر وإنْ فَرقَ بالتَّيَمُّم (3) بأن تَيَمَّمَ للأولَى ثُم سَلمَ مِنْهَا ثُمَّ تَيَمَّمَ للثانِيةِ وَشَرعَ فيهَا مِنْ غَيْر تأخير جَازَ على المَذْهب الصَّحيح وإنْ أرَادَ الجَمْع في وَقْت الثانِية وَجَبَ عَلَيْه أنْ يَنْوِيَ تأخيرَ الأُوْلَى إِلَى الثَّانِيةِ للْجَمْع وَتكونُ هَذه النية بَعْدَ دُخُول وَقْت الأولَى وَلَهُ تأخيرُ هذِهِ النية ما دام مِنْ وَقْتِ الأُولَى ما يَسَعُهَا فإنْ لم يَنْو تأخيرَهَا حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ أثم (4) وصَارَتْ قَضَاءً وَقَدْ سَبَقَ حُكْمُهَا في الْقَصْر وَيُسْتَحَب أنْ يَبْدَأ بالأولَى وأن لَا يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا فَإنْ خَالَفَ وَبَدأ بالثانِية أوْ فَرقَ جَازَ على الأَصَحِّ بِخَلاف مَا سَبَقَ مِنَ الجَمْع في وَقْت الأُوْلَى.

= متقدمون، ونقله في المجموع، وأقره واعتمده الأذرعي وغيره، وقول ابن الرفعة بخلافه

بحث مخالف للمنقول وذلك لوجود السفر وقت النية.

(1)

بقي أن لو كان المسافر سائراً وقتهما أو نازلاً وقتهما استوى جمع التقديم والتأخير حيث لم يوجد مُرَجح حينئذ إلا أنْ يقال: إن المبادرة لبراءة الذمة الموجودة في جمع التقديم ترجحه.

(2)

أي ولو مع السلام أو بعد نية الترك.

(3)

أي والطلب الخفيف.

(4)

أي إنْ تَعمد التأخير، فإنْ أخرها لنوم أو شُغْل سها بسببه عنها، وقد عُذر به فلا إثم، وإنْ كانت قضاء.

ص: 74