الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاستثناء في الإيمان
أهل السنة والجماعة: يرون جواز الاستثناء في الإيمان في أحوال، وذهب إلى هذا جمهور أئمتهم من السلف والخلف.
أي: قول الإنسان عن نفسه إذا سئل هل (أنت مؤمن؟) فيقول بإجابة ليس فيها ما يوهم الجزم والقطع بكمال الإيمان:
(أنا مؤمن إن شاء الله) أو (أرجو
…
) أو نحو ذلك.
لأن الذي يقول: إن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص؛ ينبغي عليه إذا قال (أنا مؤمن) أن يستثني؛ لأنه لا يستطيع أن يجزم بأن معه كمال الإيمان، وإن جزم! فقد زكى نفسه؛ لأن الإيمان شامل للاعتقادات والأقوال والأعمال.
وأهل السنة والجماعة: يرون الاستثناء في الإيمان؛ لشدة خوفهم من الله تعالى، وإثباتاً لأقداره، ونفياً لتزكية أنفسهم، لا شكاً فيما يجب عليهم الإيمان به، ولكن خوفاً أن لا يكونوا قاموا بحقائقه، ورجاء أن يأتوا بواجباته وكمالاته.
ويمنعون الاستثناء إذا كان على وجه الشك في الإيمان؛ لأن
الشك في ذلك كفر؛ بل يقصدون من ذلك: نفي الشك في إيمانهم من جهة، وعدم الجزم بكماله من جهة أخرى.
- لإن الإيمان النافع هو المتقبل عند الله تعالى، إذ أن من قام بالعمل الصالح وأتى به، لا يدري هل يقبل منه عمله أم لا؟ فالاستثناء هنا معناه عدم العلم بالعاقبة.
- فأهل السنة والجماعة لا يجزمون لأنفسهم بالإيمان المطلق؛ لأن الإيمان يشمل فعل جميع الطاعات، وترك جميع المنهيات، ولن يستطيع أحد أن يدعي لنفسه أنه جاء بذلك كله على التمام والكمال، وإن قال؛ فقد شهد لنفسه بأنه من الأبرار المتقين، وأولياء الله الصالحين! وضمن لنفسه دخول الجنة ابتداءً، وهذا من التألي على الله تعالى - والعياذ بالله - ولا يقولها مسلم عاقل.
- وهم بعيدون عن تزكية أنفسهم، ولا أعظم للنفس تزكية وراء الشهادة لها بالإيمان الشامل لكل شعبة.
- الاستثناء - عندهم - في الأمور المتيقنة غير المشكوك فيها؛ فما كان مقطوعاً به؛ فلا يجوز الاستثناء.
- ومن حكمتهم وتأدبهم مع الله - جل وعلا - يعلقون الأمور كلها بمشيئته سبحانه وتعالى.
- وهم يفضلون الاستثناء ولم يوجبوه؛ لما في تركه من الإيهام بتزكية النفس، والشهادة لها بالكمال.
ويكرهون تركه ولم يحرموه؛ وأجازوه على معنى الدخول في الإيمان، لا على كماله؛ فهم يجوزون الأمرين لعدم ورود الدليل على التحريم، أو الوجوب، والله أعلم.
- وهم يرون أن السؤال: (هل أنت مؤمن؟) بدعة أحدثها أهل البدع من المرجئة؛ ليحتجوا بها على قولهم في الإيمان: إنه التصديق، وإن العمل ليس من الإيمان؛ خلافاً لعقيدة السلف الصالح.
والأدلة على جواز الاستثناء كثيرة في الكتاب، والسنة، وآثار السلف الصالح، وأقوال الأئمة والعلماء منها:
قوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} (1) .
(1) سورة الكهف، الآيتان: 23، 24.
(2)
سورة الفتح، الآية:27.
وقوله: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (1) .
وقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} (2) .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول حين يدخل المقبرة: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غداً مؤجلون. وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد)(3) .
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:
(من شهد على نفسه أنه مؤمن؛ فليشهد أنه في الجنة)(4) .
وقال رجل عند ابن مسعود رضي الله عنه: (أنا مؤمن) . فقال ابن مسعود: (أفأنت في الجنة؟) فقال: (أرجو) . فقال ابن مسعود: (أفلا وكلت الأولى كما وكلت الأخرى؟)(5) .
(1) سورة النجم، الآية:32.
(2)
سورة المؤمنون، الآية:60.
(3)
(رواه مسلم) في (كتاب الجنائز) باب: (ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها) .
(4)
(شرح أصول اعتقاد أهل السنة) اللالكائي: 5/1048 (1779) . و (كتاب الإيمان) ابن أبي شيبة: ص 49 (138) . و (السنة) عبد الله بن الإمام أحمد: 1/322 (656) .
(5)
(كتاب الإيمان) الإمام أبو عبيد القاسم: ص 20 (9) .
وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله:
(أذهب إلى حديث ابن مسعود في الاستثناء في الإيمان؛ لأن الإيمان قول وعمل، والعمل الفعل، فقد جئنا بالقول، ونخشى أن نكون قد فرطنا في العمل؛ فيعجبني أن نستثني في الإيمان، نقول: أنا مؤمن إن شاء الله)(1) .
وقال الوليد بن مسلم: سمعت أبا عمرو - يعني الأوزاعي - ومالك بن أنس، وسعيد بن عبد العزيز؛ لا ينكرون أن يقول: أنا مؤمن، ويأذنون في الاستثناء أن أقول:(أنا مؤمن إن شاء الله)(2) .
وقال الإمام يحيى بن سعيد القطان رحمه الله:
(ما أدركت أحداً من أصحابنا ولا بلغنا إلا على الاستثناء)(3) .
وعن جرير بن عبد الحميد قال: سمعت منصور بن المعتمر، والمغيرة بن مقسم، والأعمش، وليث بن أبي سليم، وعمارة بن القعقاع، وابن شبرمة، والعلاء بن المسيب، وإسماعيل بن أبي خالد، وعطاء بن السائب، وحمزة بن حبيب الزيات، ويزيد بن أبي زياد، وسفيان الثوري، وابن المبارك، ومن أدركت:
(1)(السنة) الإمام الخلال: 3، 600 (156) .
(2)
(السنة) عبد الله بن الإمام أحمد: 1/347 (744) .
(3)
(السنة) الخلال: 3/ 595 (1053) .
(يستثنون في الإيمان، ويعيبون على من لا يستثني)(1) .
وقال الإمام البيهقي رحمه الله:
(وقد روينا هذا - يعني الاستثناء - عن جماعة من الصحابة والتابعين والسلف الصالح رضي الله عنهم أجمعين)(2) .
وسئل الإمام أحمد بن حنبل عن الإيمان؟ فقال: (قول وعمل ونية) قيل له: فإذا قال الرجل: مؤمن أنت؟ قال: (هذه بدعة) قيل له: فما يرد عليه؟ قال: (يقول: مؤمن إن شاء الله؛ إلا أن يستثني في هذا الموضع)(3) .
وقال الإمام إبراهيم النخعي رحمه الله:
(سؤال الرجل الرجل: أمؤمن أنت؟ بدعة)(4) .
وقال الإمام سفيان بن عيينة رحمه الله:
(إذا سئل: أمؤمن أنت؟ إن شاء لم يجبه، أو يقول: سؤالك إياي بدعة، ولا أشك في إيماني، ولا يعنف من قال: إن
(1)(شرح أصول اعتقاد أهل السنة) اللالكائي: 5/1050 (1785) .
(2)
(شعب الإيمان) البيهقي: 1/ 212.
(3)
(شرح أصول اعتقاد أهل السنة) اللالكائي: 5/1057 (1798) .
(4)
(الإبانة) ابن بطة: 2/880 (1212) .
الإيمان ينقص، أو قال: مؤمن إن شاء الله، وليس يكره وليس بداخل في الشك) (1) .
وقال الإمام الآجري رحمه الله:
(من صفة أهل الحق ممن ذكرنا من أهل العلم: الاستثناء في الإيمان، لا على جهة الشك - نعوذ بالله من الشك في الإيمان - ولكن خوف التزكية لأنفسهم من الاستكمال للإيمان، لا يدري أهو ممن يستحق حقيقة الإيمان أم لا؟
…
هذا طريق الصحابة والتابعين بهم بإحسان، عندهم أن الاستثناء في الأعمال لا يكون في القول والتصديق في القلب، وإنما الاستثناء في الأعمال الموجبة لحقيقة الإيمان، والناس عندهم على الظاهر مؤمنون، به يتوارثون به، يتناكحون به، تجري أحكام ملة الإسلام، ولكن الاستثناء منهم على حسب ما بيناه لك، وبينه العلماء من قبلنا، روي في هذا سنن كثيرة، وآثار تدل على ما قلنا) (2) .
(1)(الإبانة) ابن بطة: 2/881 (1213) .
(2)
(كتاب الشريعة) الآجري: 2/656 (باب ذكر الاستثناء من الإيمان من غير شك فيه) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
(إن الإيمان المطلق؛ يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله، وترك المحرمات كلها؛ فإذا قال الرجل: أنا مؤمن بهذا الاعتبار فقد شهد لنفسه بأنه من الأبرار المتقين القائمين بفعل جميع ما أمروا به، وترك كل ما نهو عنه؛ فيكون من أولياء الله، وهذا من تزكية الإنسان لنفسه، وشهادته لنفسه بما لا يعلم، ولو كانت هذه الشهادة صحيحة؛ لكان ينبغي له أن يشهد لنفسه بالجنة إن مات على هذه الحال، ولا أحد يشهد لنفسه بالجنة؛ فشهادته لنفسه بالإيمان؛ كشهادته لنفسه بالجنة إذا مات على هذه الحال، وهذا مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون، وإن جوزوا ترك الاستثناء بمعنى آخر)(1) .
وقال: (والمأثور عن الصحابة، وأئمة التابعين، وجمهور السلف، وهو مذهب أهل الحديث، وهو المنسوب إلى أهل السنة: أن الإيمان قول وعمل؛ يزيد وينقص، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وأنه يجوز الاستثناء فيه)(2) .
(1)(مجموع الفتاوى) ج7، ص 446.
(2)
(مجموع الفتاوى) ج7، ص 505.