الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكم مرتكب الكبيرة:
أهل السنة والجماعة لا يسلبون وصف الإيمان من العبد إذا عمل عملاً ما من المحذورات لا يكفر الله فاعله، أو ترك ما لا يكفر تاركه من الواجبات، ولا يخرجونه من الإيمان إلا بفعل ناقض من نواقضه.
ومرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان؛ فهو في الدنيا مؤمن ناقص الإيمان؛ مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، وفي الآخرة تحت مشيئة الله تعالى، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه.
أي: إن مرتكب الكبيرة - عندهم - له حكمان؛ حكم في الدنيا، وحكم في الآخرة.
حكمه في الدنيا: أنه مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، ولا يصح أن يعطى اسم الإيمان المطلق؛ بل يكون معه مطلق الإيمان، وهو حد الإسلام.
فإن كان الذنب الذي ارتكبه، لا حد فيه، وتاب منه، قبل الله تعالى توبته بفضله ومنه - سبحانه - أو فيه حد، وأقيم عليه الحد؛ فهو كفارة له، ويصبح حكمه حكم عامة المسلمين.
حكمه في الآخرة: أنه يكون تحت المشيئة، إن لم يتب من كبيرته؛ فأمره إلى الله تعالى إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة برحمته
وفضله، وإن شاء عذبه بقدر ذنبه وذلك بعدله سبحانه وتعالى؛ لأنه مستحق للعقاب، ولكنه لا يستحق الخلود في النار؛ بل يخرج من النار بما معه من الإيمان، وإن كان مثقال ذرة.
لأن الإيمان عند أهل السنة والجماعة؛ يقبل التبعيض والتجزئة، وبقليله يخرج الله من النار من دخلها بفضله ورحمته.
ولذلك فإنهم لا يكفرون أحداً من أهل القبلة بكل ذنب؛ إلا بذنب يزول به أصل الإيمان، قال الله تعالى:{إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} (1)(2) .
أي: إن العبد إذا مات على الشرك؛ فإن الله تعالى لا يغفر له، والمشرك مخلد في نار جهنم - والعياذ بالله - وإذا مات على ما دون الشرك من المعاصي من الكبائر؛ فإنه يدخل تحت مشيئة الله سبحانه، قال الله تبارك وتعالى:
(1) سورة النساء، الآية: 48، 116.
(2)
(() للبسط في تفسير هذه الآية الكريمة؛ انظر: (تفسير الطبري) و (تفسير ابن كثير) و (فتح الباري) لابن حجر العسقلاني: ج 1، ص 84.
(3)
سورة الزمر، الآية:53.
فسمى الله المقتول أخاً للقاتل: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} .
أي: أن القتل كبيرة من الكبائر، ومع ذلك فإن الله تعالى لم يسلب عن هؤلاء المقاتلين اسم الإيمان وسماهم المؤمنين وإخوة في الدين رغم الاقتتال وبغي بعضهم على بعض؛ فالإيمان والأخوة الإيمانية لا يزولان مع القتال كغيره من الكبائر التي هي دون الشرك. وقال الله تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ
(1) سورة البقرة، الآية:178.
(2)
سورة الحجرات، الآية:9.
(3)
(() للبسط في تفسير هذه الآية الكريمة؛ انظر: (تفسير الطبري) و (تفسير ابن كثير) و (فتح الباري) لابن حجر العسقلاني: ج 1، ص 210 و (تفسير البغوي) .
سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ} (1)(2) .
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة خردل من كبرياء)(3) .
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وكان شهد بدراً، وهو أحد النقباء ليلة العقبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، وحوله عصابة من أصحابه:(بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان، تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف؛ فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه هـ، وإن شاء عاقبه) فبايعناه على ذلك (4) .
(1) سورة الأنفال، الآية:38.
(2)
(() قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: (ومعلوم أن هذا بعد الموت لمن لم يتب؛ لأن الشرك ممن تاب منه - قبل الموت 0 وانتهى عنه غفر له، كما تغفر الذنوب كلها بالتوبة جميعاً، قال الله عز وجل: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} (التمهيد) ج 17، ص 16.
(3)
(رواه مسلم) في (كتاب الإيمان) باب: (تحريم الكبر وبيانه) .
(4)
(رواه البخاري) في (كتاب الإيمان) باب: (علامة الإيمان حب الأنصار) .
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(أتاني جبريل عليه السلام فبشرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة) . قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: (وإن زنى وإن سرق)(1)(2) .
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؛ لا يلقى الله بهما عبد غير شاك، فيحجب عنه الجنة)(3) .
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يقول الله عز وجل:.. من لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئاً، لقيته بمثلها مغفرة)(4)(5) .
(1)(رواه مسلم) في (كتاب الإيمان) باب: (من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة) .
(2)
(()(وجه الدلالة من الحديث: أن من مات على التوحيد، وكان عليه بعض الذنوب كالزنا، والسرقة؛ فإنه لا تخرجه من الإيمان بالكلية بل يكون ناقص الإيمان، والدليل على ذلك أنه يدخل الجنة، ولكنه تحت المشيئة) وانظر (شرح مسلم) للنووي: ج2، ص 41 و (فتح الباري) ج3، ص 111.
(3)
(رواه مسلم) في (كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار) باب: (أفضل الذكر والدعاء والتقرب إلى الله تعالى) .
(4)
سورة الأنفال، الآية:38.
(5)
(() قال الإمام ابن رجب رحمه الله: (فمن جاء مع التوحيد بقراب الأرض، وهو ملؤها أو ما يقارب خطايا لقيه الله بقرابها مغفرة؛ لكن هذا مع مشيئة الله عز وجل، فإن شاء غفر له، وإن شاء أخذه بذنوبه ثم كان عاقبته أن لا يخلد في النار بل يخرج منها ثم يدخل الجنة)(جامع العلوم والحكم) : ص 374.
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه:
(إياكم والكذب؛ فإن الكذب مجانب الإيمان)(1) .
وقال أبو هريرة رضي الله عنه:
(الإيمان نزه؛ فمن زنا فارقه الإيمان، فإن لام نفسه وراجع؛ راجعه الإيمان)(2) .
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه:
(ما الإيمان؛ إلا كقميص أحدكم يخلعه مرة ويلبسه أخرى، والله ما أمن عبد على إيمانه إلا سلبه فوجد فقده)(3) .
وقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يدعو غلاماً غلاماً، فيقول:(ألا أزوجك؟ ما من عبد يزني إلا نزع الله منه نور الإيمان)(4) . وسأله عكرمة؛ كيف ينزع الإيمان منه؟ قال: (هكذا - وشبك بين أصابعه ثم أخرجها - فإن تاب عاد إليه هكذا - وشبك بين أصابعه)(5) .
(1)(شرح أصول اعتقاد أهل السنة) اللالكائي: ج6، ص 1090 (1873) .
(2)
(شرح أصول اعتقاد أهل السنة) اللالكائي: ج6، ص 1090 (1870) .
(3)
(شرح أصول اعتقاد أهل السنة) اللالكائي: ج6، ص 1090 (1871) .
(4)
(فتح الباري) ج12، ص 59، و (شرح أصول الاعتقاد) اللالكائي:(1866) .
(5)
(رواه البخاري) في (كتاب المحاربين) باب: (إثم الزناة) .
وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى:
(ولا نكفر مسلماً بذنب من الذنوب، وإن كانت كبيرة، إذا لم يستحلها)(1) .
وقال الإمام مالك رحمه الله تعالى:
(لو أن رجلاً ركب الكبائر كلها بعد أن لا يشرك بالله؛ ثم تخلى من هذه الأهواء والبدع؛ دخل الجنة)(2) .
وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:
(من تولى يوم الزحف، لا منحرفاً لقتال، ولا متحيزاً إلى فئة؛ خفت عليه - إلا أن يعفو الله - أن يكون قد باء بسخط من الله)(3) .
وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى:
(يخرج الرجل من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرجه من الإسلام شيء إلا الشرك بالله العظيم، أو برد فريضة من فرائض
(1)(متن الفقه الأكبر) الإمام أبو حنيفة.
(2)
(حلية الأولياء) أبو نعيم الأصفهاني: ج 6، ص 325.
(3)
(منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة) الدكتور محمد بن عبد الوهاب العقيل: ج1، ص 202؛ وأحاله إلى كتاب:(الأم) ج4، ص 169.
الله عز وجل جاحداً بها؛ فإن تركها كسلاً، أو تهاوناً كان في مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه) (1) .
وقال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله تعالى:
(إن المعاصي والذنوب لا تزيل إيماناً، ولا توجب كفراً، ولكنها إنما تنفي من الإيمان حقيقته وإخلاصه، الذي نعت الله به أهله واشترط عليهم في مواضع من كتابه)(2) .
وعقد الإمام البخاري رحمه الله باباً في (صحيحه) قطع فيه بأن المعاصي لا يكفر مرتكبها، قال:(باب: المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنك امرؤ فيك جاهلية) وقول الله تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء:48] ) (3) .
وقال الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله في عقيدته:
(ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله) .
(1)(طبقات الحنابلة) ابن رجب الحنبلي: ج1، ص 343 ضمن رسالة مسدد بن مسرهد.
(2)
(كتاب الإيمان) : ص 40 تحقيق الألباني.
(3)
(صحيح البخاري) : (كتاب الإيمان) باب: (المعاصي من أمر الجاهلية..) .
وقال الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى:
(وندين بأن لا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب يرتكبه؛ كالزنا والسرقة وشرب الخمر، كما دانت بذلك الخوارج وزعمت أنهم كافرون. ونقول: إن من عمل كبيرة من هذه الكبائر؛ مثل الزنا والسرقة وما أشبهها، مستحلاً لها غير معتقد لتحريمها؛ كان كافراً)) (1) .
وقال الإمام أبو بكر الإسماعيلي رحمه الله اعتقاد أهل الحديث وأهل السنة والجماعة، وقال:
(ويقولون: إن أحداً من أهل التوحيد ومن يصلي إلى قبلة المسلمين؛ لو ارتكب ذنباً، أو ذنوباً كثيرة، صغائر، أو كبائر مع الإقامة على التوحيد لله، والإقرار بما التزمه وقبله عن الله؛ فإنه لا يكفر به، ويرجون له المغفرة، قال تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} )(2) .
(1)(الإبانة عن أصول الديانة) الإمام الأشعري: باب: (في إبانة قول أهل الحق والسنة) .
(2)
(اعتقاد أهل الحديث) الإمام الإسماعيلي: ص 43 تحقيق د. محمد الخميس.
وقال الإمام ابن بطة العكبري رحمه الله تعالى:
(وقد أجمعت العلماء - لا خلاف بينهم - أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بمعصية؛ نرجو للمحسن، ونخاف على المسئ)(1) .
ونقل الإمام أبو إسماعيل الصابوني رحمه الله اعتقاد أئمة السلف، أصحاب الحديث، أهل السنة والجماعة، وقال:
(ويعتقد أهل السنة: أن المؤمن وإن أذنب ذنوباً كثيرة صغائر كانت، أو كبائر؛ فإنه لا يكفر بها، وإن خرج من الدنيا غير تائب منها، ومات على التوحيد والإخلاص؛ فإن أمره إلى الله عز وجل إن شاء عفا عنه، وأدخله الجنة يوم القيامة سالماً غانماً، غير مبتلى بالنار، ولا معاقب على ما ارتكبه من الذنوب، واكتسبه ثم استصحبه - إلى يوم القيامة - من الآثام والأوزار، وإن شاء عاقبه وعذبه مدة بعذاب النار، وإذا عذبه لم يخلده فيها؛ بل أعتقه وأخرجه منها إلى نعيم دار القرار)(2) .
(1)(الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة) المسمى بـ (الإبانة الصغرى) : ص 292 تحقيق د. رضا بن نعسان معطي.
(2)
عقيدة السلف وأصحاب الحديث) : ص 276 تحقيق د. ناصر بن عبد الرحمن الجديع.
وقال الإمام البغوي رحمه الله تعالى:
(اتفق أهل السنة على أن المؤمن لا يخرج عن الإيمان بارتكاب شيء من الكبائر، إذا لم يعتقد إباحتها، وإذا عمل شيئاً منها؛ فمات قبل التوبة، لا يخلد في النار؛ كما جاء به الحديث؛ بل هو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه بقدر ذنوبه، ثم أدخله الجنة برحمته)(1) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
(من أصول أهل السنة والجماعة: أن الدين والإيمان قول وعمل: قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. وهم مع ذلك:
لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر، كما يفعله الخوارج؛ بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي؛ كما قال سبحانه في آية القصاص:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} ..
(1)(شرح السنة) الإمام البغوي: ج1، ص 103.
ولا يسلبون الفاسق الملي الإسلام بالكلية، ولا يخلدونه في النار، كما تقوله المعتزلة؛ بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان المطلق؛ كما في قوله تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} .
وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق؛ كما في قوله تعالى:
ونقول: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته؛ فلا يعطى الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم) (1) .
وقال الإمام ابن أبي العز رحمه الله تعالى:
(إن أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفراً ينقل عن الملة بالكلية، كما قالت الخوارج؛ إذ لو كفر كفراً ينقل عن الملة؛ لكان مرتداً يقتل على كل حال، ولا يقبل عفو ولي القصاص، ولا تجري الحدود في الزنى والسرقة وشرب الخمر، وهذا القول معلوم بطلانه وفساده بالضرورة من
(1)(العقيدة الواسطية) بحاشية الشيخ ابن مانع: ص 81 تحقيق أشرف عبد المقصود.
دين الإسلام. ومتفقون على أنه لا يخرج من الإيمان والإسلام، ولا يدخل في الكفر، ولا يستحق الخلود في النار مع الكافرين) (1) .
(1) شرح (العقيدة الطحاوية) ابن أبي العز الحنفي: ص 442 تحقيق شعيب الأرناؤوط.