الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منه، وهو مثل الأعمش"
(1)
.
وقال أيضاً: "جماعة بالبصرة قد رأوا أنس بن مالك، ولم يسمعوا منه"، وذكر منهم: ابن عون، وقرة بن خالد
(2)
.
وقال أيضاً: "مكحول لم يسمع من واثلة، دخل عليه "
(3)
.
وقال أيضاً: "طاوس لم يسمع من عثمان شيئاً، وقد أدرك - يعني زمن عثمان - لأنه قديم"
(4)
.
القسم الرابع: ما جاء عنهم من نفي السماع دون النص على الإدراك، لكن يعرف ذلك وأن اللقاء بينهما ممكن من ترجمتي الراويين
.
وهو كثير، فمن ذلك نفي شعبة لسماع أبي عبدالرحمن السلمي من عثمان
(5)
، ومجاهد من عائشة
(6)
، وجعفر بن أبي وحشية من مجاهد
(7)
، ومن
(1)
. "المراسيل" ص 14.
(2)
. "المراسيل" ص 113، 177، 244.
(3)
. "المراسيل" ص 213.
(4)
. "المراسيل" ص 99، وانظر أيضاً:"المراسيل" ص 65 فقرة (232)، ص 98 فقرة (348 - 351)، ص 110 فقرة (395)، ص 136 فقرة (490)، ص 146 فقرة (526، 529)، ص 192 فقرة (706)، ص 193 فقرة (710)، ص 244 فقرة (910).
(5)
. "مسند أحمد" 1: 58، و"صحيح البخاري" حديث (5027)، و"المراسيل" ص 106، 108.
(6)
. "العلل ومعرفة الرجال" 1: 508، 2: 94، و"صحيح البخاري" حديث (1775 - 1776)، و"المراسيل" ص 203.
(7)
. "المراسيل" ص 25 و"الجرح والتعديل" 1: 132، 157، 158، و"تهذيب التهذيب" 2:8.
حبيب بن سالم
(1)
.
وقال مالك: "لم يسمع سعيد بن المسيب من زيد بن ثابت"
(2)
.
وقال أحمد حين سئل عن سماع أبان بن عثمان بن عفان من أبيه: "لم يسمع من أبيه، من أين سمع منه؟ "
(3)
، وعلق ابن رجب على كلمة أحمد هذه بقوله:"ومراده: من أين صحت الرواية بسماعه منه؟ وإلا فإن إمكان ذلك واحتماله غير مستبعد"
(4)
.
وقال أبوزرعة في أبي أمامة بن سهل بن حنيف: "لم يسمع من عمر"
(5)
، وعلق ابن رجب على كلامه هذا بقوله:"هذا مع أن أبا أمامة رأى النبي صلى الله عليه وسلم"
(6)
.
وقال البخاري: " أبو الزناد لم يسمع من أنس بن مالك "
(7)
.
فهذه نصوص عن الأئمة قبل عصر مسلم، وفي عصره، تدل دلالة ظاهرة على أنهم يشترطون العلم بالسماع للحكم بالاتصال.
وأما من بعد مسلم من الحفاظ كالبزار، والدارقطني، فالنصوص عنهم
(1)
. "المراسيل" ص 26، و"الجرح والتعديل" 1: 132، 157، 158، 2:473.
(2)
. "علل ابن المديني" ص 48، و"المراسيل" ص 72.
(3)
. "المراسيل" ص 16.
(4)
. "شرح علل الترمذي" 2: 591.
(5)
. "المراسيل" ص 16، 258.
(6)
. "شرح علل الترمذي" 2: 591.
(7)
. "العلل الكبير" 2: 964.
كثيرة أيضاً
(1)
.
والنصوص التطبيقية هذه اعترض على الاستدلال بها، وذلك من ثلاثة أوجه أذكرها مع الجواب عنها:
الوجه الأول: أن ما يتعلق منها بنفي السماع ليس مرجعه إلى أن السماع لم يرد، ولكن قد يكون لأن نفي السماع قد ورد، فقد قال يحيى بن معين في رواية الدوري:"قد رأى حاتم بن إسماعيل: محمد بن المنكدر، وزيد بن أسلم، ولم يسمع منهما شيئاً"
(2)
، ونقله عنه هكذا ابن أبي حاتم
(3)
، لكنه قال مرة أخرى في رواية الدوري أيضاً:"قد أدرك حاتم بن إسماعيل محمد بن المنكدر، وزيد بن أسلم، وقال لنا: قد رأيتهما، ولم أسمع منهما شيئاً"
(4)
.
ومثله قول ابن معين أيضاً: "لم يسمع أبوإسحاق من علقمة شيئاً، ولكنه قد رآه"
(5)
، فإن نفي السماع ثابت عن أبي إسحاق نفسه
(6)
.
وكذا عدم سماع الأعمش من أنس فإنه قد جاء عنه قوله: "رأيت أنساً، وما منعني أن أسمع منه إلا استغنائي بأصحابي"
(7)
.
(1)
. انظر: "موقف الإمامين" ص 284 - 290.
(2)
. "تاريخ الدوري عن ابن معين" 2: 91، 3:167.
(3)
. "المراسيل" ص 51.
(4)
. "تاريخ الدوري " 2: 91، 3:245.
(5)
. "معرفة الرجال" 1: 128.
(6)
. انظر: "المراسيل" ص 145.
(7)
. "تاريخ بغداد " 6: 246.
ونفى أحمد أن يكون عمار الدهني قد سمع من سعيد بن جبير شيئاً
(1)
، وقد جاء النفي عن عمار نفسه، قال أبو بكر بن عياش:" مَرَّ بي عمار الدهني فدعوته، فقلت: سمعت من سعيد بن جبير؟ قال: لا، قلت: فاذهب "
(2)
.
فمثل هذا يدل على أنهم إنما ينفون السماع حين يرد النفي، ولا كلام في ذلك، فإن محل النزاع فيما إذا لم يرد ذلك.
والجواب أن ما ذكره المعترض قد يتهيأ في بعض النصوص، لكنه لا يتهيأ فيها كلها، كما في النص السابق عن ابن معين في عبيدالله بن أبي يزيد مع أبي لبابة، فلم يثبت السماع لكونه لم يرد، لا لوجود نفيه، وقد تقدم مثله عن الأئمة مع عدم وجود الرؤية، فقد نفوا السماع لكونه لم يرد، وأثبتوه لوروده.
الوجه الثاني: نرى الأئمة - وقد تقدم هذا في المبحث الأول من هذا الفصل - حين يسألون عن سماع راوٍ من آخر يقيمون الدليل على أنه لم يسمع منه، فيذكرون مثلاً أنه يدخل بينه وبينه رجلاً، أو أكثر، أو يقولون: إن هذا كان في بلد، والمروي عنه في بلد آخر، أو يذكرون أنه يقول في بعض رواياته عنه: نبئت، أو بلغني عنه، وحينئذٍ فلو كانوا يتطلبون ثبوت السماع للحكم بالاتصال لاكتفوا بالقول: إنه لم يثبت السماع، ولا حاجة لإقامة دليل آخر على ذلك.
والجواب عن هذا سهل جداً، ذلك أنهم يفعلون هذا لسببين:
(1)
. "جامع التحصيل " ص 295.
(2)
. "العلل ومعرفة الرجال " 2: 459، وانظر:"سؤالات الآجري لأبي داود " 1: 175.
الأول: أن وجود قرينة على عدم السماع أقوى في نفي السماع من عدم وجودها، وكلما كثرت القرائن ازداد النفي قوة، لا يجادل في ذلك أحد، فعدم وجود قرينة على النفي مع إمكان السماع لا يكفي لإثبات السماع، وحينئذٍ فعملهم هذا من باب تأكيد حكم ثابت، ويجلي هذا بوضوح نصوص عن النقاد في هذا.
فمن ذلك ما تقدم عن أبي حاتم في إدخال واسطة بين سعيد بن يزيد، والنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فقد تأكد بها أن لا صحبة له، لكن قبل الوقوف عليها لم تثبت له صحبة بمجرد ذلك، ولهذا قال أبو حاتم:"كنا لا ندري له صحبة أم لا "
(1)
.
وقال ابن الجنيد: "قلت ليحيى بن معين: تعلم محمد بن سيرين يدخل بينه وبين عقبة بن أوس أحداً، أو عقبة بن أوس يدخل بينه وبين عبدالله بن عمرو أحداً؟ فقال: لا أعلمه، وعقبة بن أوس يقال له أيضاً: يعقوب بن أوس، قال ابن الغلابي: يزعمون أن عقبة بن أوس السدوسي لم يسمع من عبدالله بن عمرو، إنما يقول: قال عبدالله بن عمرو"
(2)
.
فنلاحظ في هذا النص البحث عن قرينة تدل على عدم السماع، فكان السؤال عن أشهر قرينة في ذلك، وهي إدخال راو بين راويين، وعدم الوقوف عليها لم يغير من الحكم شيئاً، وهو عدم السماع.
ومثل هذا النص قول أحمد حين سئل: هل سمع حميد بن هلال من هشام
(1)
. "المراسيل " ص 68.
(2)
. "سؤالات ابن الجنيد" ص 318، والقائل: قال ابن الغلابي - هو ابن الجنيد، واسم ابن الغلابي المفضل بن غسان، وهو أحد تلاميذ ابن معين.
ابن عامر؟ فقال: "ما أراه سمع منه، وذاك أنه يُدخل بينهما رجل، وبعضهم يقول: أبوالدهماء"
(1)
.
وأما أبوحاتم فقال: "حميد بن هلال لم يلق هشام بن عامر، يدخل بينه وبين هشام: أبوقتادة العدوي، وبعضهم يقول: عن أبي الدهماء، والحفاظ لا يدخلون بينهم أحداً: حميد، عن هشام"، قيل له: فأي ذلك أصح؟ قال: "ما رواه حماد بن زيد، عن أيوب، عن حميد، عن هشام"
(2)
.
فنلاحظ أن أباحاتم يرجح رواية من لم يدخل بينهما أحداً، ومع ذلك وافق أحمد على أنه لم يسمع منه ولم يلقه، فاتضح أن القرينة التي ذكرها أحمد قصد بها تأكيد عدم السماع وعدم اللقي، والحكم بذلك باقٍ حتى مع انتفائها.
السبب الثاني: وجود أخطاء كثيرة في التصريح بالتحديث، فيحرص الأئمة على ذكر القرائن على أنه لم يسمع خشية وقوع خطأ في التصريح بالتحديث، وقد وقع ذلك كثيراً فعالجوه بهذه الطريقة.
فمن ذلك قول علي بن المديني: "قلت ليحيى بن سعيد القطان: الفزاري روى عن ابن أبي خالد، عن هلال بن يساف قال: سمعت أبامسعود، قال يحيى: أنكر أن يكون هلال سمع من أبي مسعود، قال يحيى: مات أبومسعود أيام علي"
(3)
.
(1)
. "مسائل أبي داود " ص 425.
(2)
. "المراسيل" ص 49، وانظر:"تحفة الأشراف" 11: 429.
(3)
. "المراسيل" ص 229.
وروى الأثرم قال: "قال أبوعبدالله أحمد بن حنبل: عبدالله البهي سمع من عائشة! ! ما أرى في هذا شيئاً، إنما يروي عن عروة، وقال (يعني أحمد):
في حديث زائدة، عن السدي، عن البهي قال: حدثتني عائشة - في حديث الخمرة -، وكان عبدالرحمن (يعني ابن مهدي) قد سمعه من زائدة، فكان يدع فيه: حدثتني عائشة، وينكره"
(1)
.
وقال عبد الله بن أحمد: "حدثني أبي، قال: حدثنا حجاج، عن شريك، عن عاصم بن كليب، عن محمد بن كعب، قال: سمعت علي بن أبي طالب، قال أبي: هذا وهم، محمد بن كعب يحدث عن عبدالله بن شداد، عن علي، وعن شبث بن ربعي، عن علي، ولم أر أبي يصحح أن محمد بن كعب سمع من علي"
(2)
.
وروى الأثرم قال: "سمعت أباعبدالله وذكر حديث خالد بن الصلت، عن عراك بن مالك، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((حولي مقعدي إلى القبلة))، فقال: مرسل، فقلت له: عراك ابن مالك قال: سمعت عائشة رضي الله عنها، فأنكره، وقال: عراك بن مالك من أين سمع من عائشة؟ ماله ولعائشة، إنما يروي عن عروة، هذا خطأ، قال لي: من روى هذا؟ قلت: حماد بن سلمة، عن خالد الحذاء، فقال: رواه غير واحد عن خالد الحذاء ليس فيه: سمعت، وقال غير واحد أيضاً عن حماد
(1)
. "المراسيل" ص 115، وانظر "مسائل أبي داود" ص 454، و"تحفة الأشراف" 11: 472 - 474، ومعه "النكت الظراف".
(2)
. "العلل ومعرفة الرجال" 1: 527.
ابن سلمة، ليس فيه سمعت"
(1)
.
وقال الأثرم أيضاً: "قلت لأبي عبدالله - يعني أحمد بن حنبل -: الزهري سمع من عبدالرحمن بن أزهر؟ قال: ما أراه سمع من عبدالرحمن بن أزهر، ثم قال: إنما يقول الزهري: كان عبدالرحمن بن أزهر يحدث، كذا يقول معمر وأسامة: سمعت عبدالرحمن بن أزهر، ولم يصنعا عندي شيئاً، ما أراه حُفظ، وقد أدخل بينه وبينه: طلحة بن عبدالله بن عوف"
(2)
.
وقال محمد بن البراء: "سئل (يعني ابن المديني) عن حديث الأسود - وهو ابن سريع -: ((بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فأكثروا القتل
…
)) - فقال: إسناده منقطع، رواية الحسن عن الأسود بن سريع، والحسن عندنا لم يسمع من الأسود، لأن الأسود خرج من البصرة أيام علي، وكان الحسن بالمدينة، فقلت له: فإن المبارك يقول في حديث الحسن، عن الأسود: ((أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إني حمدت ربي بمحامد
…
)) -: أخبرني الأسود، فلم يعتمد على المبارك في ذلك"
(3)
.
(1)
. "المراسيل" ص 162، وانظر:"تهذيب التهذيب" 3: 98.
(2)
. "المراسيل" ص 191، ومراد أحمد أن معمراً وأسامة بن زيد رويا عن الزهري، عن عبدالرحمن بن أزهر مصرحاً الزهري فيه بالتحديث، وعد أحمد ذلك خطأ من معمر وأسامة، وأقام قرينتين على ذلك.
(3)
. "علل ابن المديني" ص 55، وانظر:"مسند أحمد" تحقيق شعيب الأرنؤوط وآخرين 23: 352 - 357، الأحاديث (15586 - 15589)، و"المراسيل" ص 39.
وقضية الأخطاء في التصريح بالتحديث قضية ضخمة جداً في باب الاتصال والانقطاع، شغلت الأئمة كثيراً، فالراوي المتأخر كما يخطئ في رفع الحديث، وفي وصله، وفي زيادة رجل أو نقصه وغير ذلك - يخطئ في إبدال صيغة الرواية، فيضع الأعلى بدل الأدنى، أي يضع التصريح بالتحديث أو اللقي مكان الصيغة المحتملة للسماع وعدمه، أو التي فيها الانقطاع صراحة، أو يسقط رجلاً، فتكون الرواية عمن فوقه لمن دونه، وقد سخَّر الأئمة لكشف هذه الأخطاء في كثير من الأحيان علم مقارنة المرويات، فانتظمت هذه الأخطاء وبيانها في سلك علم (علل الحديث)
(1)
.
وربما وقع التصريح بالتحديث خطأ من الراوي نفسه، كأن يكون تغير، أو لم يضبط اسم شيخه فسماه بآخر لم يسمع منه، كما ذكر أحمد عن وهيب قال:
(1)
. انظر نماذج من أخطاء التصريح بالتحديث أو اللقي في: "مسند أحمد" 4: 88، و"مسائل أبي داود" ص 405، 453، و"العلل ومعرفة الرجال" 1: 508، 2: 48، 94، و"علل ابن المديني" ص 54، 55، و"تاريخ الدوري عن ابن معين" 2: 550، و"التاريخ الكبير" 1: 278، و"المعرفة والتاريخ" 2: 439، (16)، (431)، (550)، (795)، (799)، (821)، (822)، (908)، (957)، (966)، (988)، و"المراسيل" ص 12، 34، 36، 37، 38، 40، 52، 61، 86، 96، 102، 124، 125، 138، 142، 156، 157، 159، 163، 176، 182، 191، 203، 204، 213، 215، 227، 229، 236، 246، و"علل ابن أبي حاتم" حديث (16)، (431)، (550)، (795)، (799)، (821)، (822)، (908)، (957)، (966)، (988)، و"الجرح والتعديل" 1: 140، 147، 243، 245، و"تهذيب الكمال" 20: 23، و"سير أعلام النبلاء" 4: 437، و"جامع التحصيل" ص 190، 227، و"شرح علل الترمذي" 2: 591، 593 - 594، 789.
"أتيت عطاء بن السائب فقلت له: كم سمعت من عبيدة؟ قال: ثلاثين حديثاً، قال: ولم يسمع من عبيدة شيئاً، قال: ويدل ذلك على أنه قد تغير"
(1)
.
وذكر أحمد، وابن معين، وأبوحاتم أن زهير بن معاوية سمع من صالح ابن حيان، فقلب اسمه إلى واصل بن حيان
(2)
.
وكذلك اعتنى الأئمة بالنص على الراوي الذي يخطئ على شيخه في صيغ الأداء، فيذكر عنه التصريح بالتحديث، وهو لم يسمع ممن روى عنه، مثل المبارك ابن فضالة مع الحسن البصري
(3)
.
وكثيراً ما يشير الأئمة في عباراتهم إلى أخطاء التصريح بالتحديث، فيقولون في الراوي مثلاً: لم يصح له سماع من فلان، أو لا يثبت له سماع من فلان، أو إنما صح له السماع من فلان وفلان، ونحو هذه العبارات، أو يسأل عن سماع شخص من آخر فيقول: أما عن ثقة فلا، أو يسأل عن صحبته فيقول: أما صحيحة فلا، أو ينقل الإمام عن إمام آخر أنه كان ينكر سماع راوٍ من آخر، ونحو ذلك
(4)
.
(1)
. "المراسيل" ص 157، وانظر:"مسائل أبي داود" ص 287.
(2)
. انظر: "سؤالات أبي داود " ص 163، و "تاريخ الدوري عن ابن معين " 2: 263، و "سؤالات الآجري لأبي داود " 1: 308، و "الكامل" 4: 1371، و "ضعفاء الدارقطني" ص 246، و "شرح علل الترمذي " 2: 819، و "تهذيب التهذيب " 4:386.
(3)
. " الجرح والتعديل " 8: 339، و"الضعفاء الكبير" 4:225.
(4)
. انظر مثلاً: "علل ابن المديني" ص 54، 68، و"التاريخ الصغير" 1: 187، 208، 240، و"العلل الكبير" 2: 964، و"المراسيل" ص 16، 26، 38، 42، 50، 51، 52، 63، 102، 104، 146، 185، 192، 211، 216، 230.
ويشبه أخطاء التصريح بالسماع واللقي ما يأتي عن الرواة من ألفاظ موهمة للسماع أو اللقي، ولا يقصد بها ذلك، مثل أن يقول الراوي: قدم علينا فلان، أو خطبنا فلان، وهو يقصد قومه، أو أن فلاناً حدثهم، وهو يقصد الناس.
مثال ذلك: قول أحمد: "الأسود بن سريع ما أرى سمع منه الحسن، وذاك أن يونس يقول: حدثهم"
(1)
.
وقال إسحاق بن منصور: "وسألته - يعني ابن معين - قلت: خليد العصري لقي سلمان؟ قال: لا، قلت: إنه يقول: لما ورد علينا، قال: يعني البصرة"
(2)
.
وقال محمد بن البراء: "قال علي بن المديني: الحسن لم يسمع من ابن عباس، وما رآه قط، كان الحسن بالمدينة أيام كان ابن عباس بالبصرة استعمله عليها علي رضي الله عنهما وخرج إلى صفين، وقال لي عن حديث الحسن: خطبنا ابن عباس بالبصرة - إنما هو كقول ثابت: قدم علينا عمران بن حصين، ومثل قول مجاهد: خرج علينا علي، وكقول الحسن: إن سراقة بن مالك بن جعشم حدثهم، وكقوله: غزا بنا مجاشع بن مسعود"
(3)
.
ويؤكد ما تقدم أن النقاد استخدموا القرائن لنفي السماع مع المدلسين
(1)
. "مسائل أبي داود" ص 448، ووقع في النسخة:"حدثه"، ولا يستقيم بها المعنى.
(2)
. "المراسيل" ص 55.
(3)
. "علل ابن المديني" ص 51، و"المراسيل" ص 33، وانظر أيضاً نماذج أخرى في:"تاريخ أبي زرعة الدمشقي" 1: 632، و "المراسيل " ص 40، 55، 76، 217، و"شرح معاني الآثار" 1: 451، و"نصب الراية" 1: 90، و"تهذيب التهذيب" 2:269.
أيضاً، كما في ترجمة الحسن البصري، وقتادة، وغيرهما، مع أنهم - بالاتفاق - لا يثبت لهم السماع إلا بالعلم به، ولم يكتف النقاد بأن يقولوا في حقهم: لم يرد التصريح بالتحديث.
ثم إن الوجه الثاني هذا يمكن دفعه من أصله، وذلك بقلب السؤال، فيقال: نرى الأئمة حين يريدون إثبات السماع ينصون أحياناً على العلم به، فيقولون مثلاً: يقول في حديثه: سمعت، أو يقول: حدثنا، فلو كان مجرد إمكان اللقي كافياً لكان الناقد يكتفي به، فيثبت سماعه معتمداً عليه، مع عدم وجود ما ينفيه.
فإن قيل في الجواب: إنما ينص الناقد على العلم بالسماع حين يحتاج إلى ذلك، مثل وجود قرينة على عدم السماع، ثم له أن يفعله وإن لم يوجد ذلك، إذ بالاتفاق أن العلم بالسماع أقوى من مجرد الحكم به اعتماداً على إمكان اللقي، وعدم المعارض، وهذا الجواب هو ما نجيب به على الوجه الثاني هذا، وهو أنه يستخدم القرينة للنفي - وإن لم يحكم بالسماع إذا عدمت - لأن النفي مع وجودها أقوى وآكد، ثم قد يحتاج إليها لدفع دليل على السماع لم يره صحيحاً، كالتصريح خطأ بالتحديث.
الوجه الثالث: جاء عن النقاد نصوص كثيرة فيها إثبات السماع بالقرائن، لا ذكر للتصريح بالتحديث فيها، وهذا يدل على أن التصريح بالتحديث دليل من الأدلة، وليس الاعتماد عليه وحده، وذلك كأن يسأل الإمام عن سماع شخص من آخر، فيجيب بأنه قد أدركه، أو بأنه قديم يمكنه السماع منه، أو يذكر أن من هو أصغر منه قد سمع منه، أو يذكر أن المسؤول عنه قد سمع من شخص مات قبل من روى عنه في السؤال، ونحو ذلك.
ولاشك أن هذه النصوص أهم ما يمكن أن يتمسك به من يقول: إن الأئمة يكتفون بالقرائن، وقد رأيتها مشكلة على كثير من الباحثين، مع أن المتمعن فيها وفي سياقها، مقارناً لها بالنصوص الأخرى للنقاد التي تدل على اشتراطهم العلم بالسماع لا يجد فيها إشكالاً، فمنهجهم واحد منضبط لا ينخرم، فهذه النصوص تؤول إلى اشتراط العلم بالسماع، إذ القرائن على إثبات السماع أو نفيه بمثابة التمحيص لورود السماع إذا ورد، قبولاً أو رداً.
وأما شرح ذلك فإن ابن رجب أجاب عن هذه النصوص وأمثالها
(1)
بما ملخصه أنه ليس فيها إثبات السماع بمجرد ما ذكر في أجوبتهم، وإنما يستخدمونها لأمرين:
الأول: تقريب إمكان السماع، فقد يستفاد منه عند الوقوف على تصريح بالتحديث، وأيضاً للتفريق بينه وبين ما لا يحتمل فيه الاتصال، فإذا قالوا: ينبغي أن يكون سمع منه، لأنه قديم، أو قالوا: قد أدركه، ونحو ذلك، فهذا تقريب لإمكان السماع بهذه القرينة.
وعلى هذا حمل ابن رجب قول الترمذي بعد أن أخرج حديثاً لسعيد بن المسيب، عن أنس:" لا نعرف لسعيد بن المسيب رواية عن أنس إلا هذا الحديث، ومات أنس بن مالك سنة 93، ومات سعيد بن المسيب بعده بسنتين، مات سنة 95 "
(2)
.
(1)
. " شرح علل الترمذي " 2: 588 - 599.
(2)
. " سنن الترمذي " حديث (2678)، والنص فيه مطول.
وحمل عليه أيضاً قول أحمد حين سئل عن أبي ريحانة هل سمع من سفينة؟ فقال: " ينبغي، هو قديم، قد سمع من ابن عمر ".
قال ابن رجب: " لم يقل إن حديثه عن سفينة صحيح متصل، إنما قال: هو قديم، ينبغي أن يكون سمع منه، وهذا تقريب لإمكان سماعه، وليس في كلامه أكثر من هذا"
(1)
.
ومن النصوص التي تؤيد ما أشار إليه ابن رجب، من أن ذكرهم للقرائن قد يكون الغرض منه تقريب السماع قول أحمد في رواية خلاس بن عمرو، عن علي، قال أبو داود:"قلت لأحمد: خلاس سمع من علي؟ قال: قد سمع من عمار، وكان في الشرط مع علي، فلا يكون سمع من عمار إلا وقد أدرك علياً"
(2)
.
ومراد أحمد هنا تقريب سماعه من علي، فإنه يروي عنه، وكان في شرطته، وقد سمع من عمار، وعمار مات قبل علي، لكن ليس في كلامه هذا إثبات السماع، فقد قال في رواية:"خلاس، عن علي: كتاب"
(3)
، وفي رواية:"كان من شرطة علي، وروايته عن علي يقال: كتاب"
(4)
.
ومن ذلك أيضاً قول أبي حاتم حين سئل عن سماع الحسن من محمد بن
(1)
. " شرح علل الترمذي " 2: 599.
(2)
. "مسائل أبي داود" ص 426، وانظر:"مسائل صالح" ص 71، و"العلل ومعرفة الرجال" 1:430.
(3)
. " الضعفاء الكبير" 2: 29.
(4)
. "أحوال الرجال" ص 196.
سلمة: "قد أدركه "
(1)
.
وقوله في أبي إدريس الخولاني: "ويحتمل أن يكون أبو إدريس قد سمع من عوف، والمغيرة أيضاً، فإنه من قدماء تابعي أهل الشام، وله إدراك حسن"
(2)
.
وقوله حين سئل عن سماع مقسم من عائشة: "قد أدركها"
(3)
.
ومن ذلك قول البخاري بعد أن أورد قصة ليوسف بن عبد الله بن الحارث مع الأحنف بن قيس: " عبد الله (يعني ابن الحارث) أبو الوليد، روى عن عائشة، وأبي هريرة، ولا ننكر أن يكون سمع منهما، لأن بين موت عائشة، والأحنف بن قيس قريباً من اثنتي عشرة سنة "
(4)
.
وهناك قصة أخرى تدل على إدراك عبد الله بن الحارث لعائشة فيها دخول عبد الله بن الحارث على زيد بن ثابت بالمدينة
(5)
، وموت زيد بن ثابت كان قبل موت عائشة.
ونص البخاري السابق لو استدل به مستدل على أن البخاري لا يثبت السماع بمجرد المعاصرة لم يكن ذلك بعيداً، ذلك أنه لم يخرج لعبد الله بن الحارث عنهما شيئاً، وقد أخرج مسلم له عنهما حديثين
(6)
، وحديث عائشة رجاله على
(1)
. "المراسيل" ص 44.
(2)
. "علل ابن أبي حاتم" 1: 40، وانظر أيضاً: 2: 43 حديث (1607).
(3)
. "علل ابن أبي حاتم" 1: 256.
(4)
. " التاريخ الأوسط " 1: 286.
(5)
. " المعرفة والتاريخ " 2: 58.
(6)
. " صحيح مسلم " حديث (591)، (1613).
شرط البخاري، وهو أصل في بابه، لم يخرج ما يقوم مقامه، وكذلك حديث أبي هريرة أصل في بابه، إلا أنه من رواية يوسف بن عبد الله بن الحارث، عن أبيه، ويوسف لم يخرج له البخاري شيئاً، وأخرج البخاري حديث عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس، وقد صرح بالسماع منه
(1)
، فمراد البخاري إذاً تقريب سماع عبد الله بن الحارث منهما لا إثباته.
ومما يدل على أن ذكرهم للإدراك إنما هو تقريب للسماع استخدامهم له مع من هو كثير الإرسال، كما في قول أبي حاتم في المطلب بن عبد الله وروايته عن جابر، بعد أن عد جماعة من الصحابة غير جابر يرسل عنهم:" يشبه أن يكون أدركه "
(2)
، وفي موضع آخر قال:" لم يسمع من جابر "
(3)
.
فأبو حاتم يقرب سماعه منه من جهة السن، وأنه يشبه أن يكون أدركه، ثم ينفي سماعه منه لعدم ثبوته.
الثاني: استخدام هذه القرائن لتأكيد صحة تصريح بالتحديث قد ورد، فليس الحكم مبنياً عليها وحدها.
وأشار ابن رجب إلى أن القرائن كما تستخدم في الدلالة على خطأ تصريح بالتحديث - وقد تقدم شرح هذا - فكذلك تستخدم في تأكيد صحة تصريح بالتحديث.
قال ابن رجب: "قال الأثرم: سألت أحمد قلت: محمد بن سوقة سمع من
(1)
. " صحيح البخاري " حديث (616)، (668)، (901).
(2)
. " الجرح والتعديل " 8: 359.
(3)
. " المراسيل " ص 210.
سعيد بن جبير؟ قال: نعم، قد سمع من الأسود غير شيء، كأنه يقول: إن الأسود أقدم، لكن قد يكون مستند أحمد أنه وجد التصريح بسماعه منه، وما ذكره من قدم الأسود إنما ذكره ليستدل به على صحة قول من ذكر سماعه من سعيد بن جبير، فإنه كثيراً ما يرد التصريح بالسماع ويكون خطأ، وقد روى ابن مهدي عن شعبة: سمعت أبا بكر بن محمد بن حزم، فأنكره أحمد، وقال: لم يسمع شعبة من أحد من أهل المدينة من القدماء ما يستدل به على أنه سمع من أبي بكر إلا سعيداً المقبري، فإنه روى عنه حديثاً، فقيل له: إن المقبري قديم، فسكت أحمد "
(1)
.
وما استظهره ابن رجب من كون أحمد ذكر القرينة للاستدلال بها على صحة تصريح بالتحديث وقف عليه قوي جداً، يدل عليه جزمه بالسماع منه، ولم يكتف بذكر القرينة، وقد قال أحمد في محمد بن سوقة أيضاً:"قد سمع من نافع ابن جبير، حدثناه ابن عيينة"
(2)
.
وقد جاء تصريحه بالتحديث من نافع بن جبير، وسئل عن مكان لقيه له فأخبر بذلك
(3)
.
وما ذكره ابن رجب من استخدام القرائن لتأكيد صحة تصريح بالتحديث تدل عليه نصوص عن النقاد، فمن ذلك قول أبي داود: " سمعت أحمد قال: أبو الأشهب ثقة قديم، حدثنا يحيى، حدثنا أبو الأشهب، حدثنا أبو الجوزاء،
(1)
. " شرح علل الترمذي " 2: 589.
(2)
. "العلل ومعرفة الرجال" 3: 136.
(3)
. "التاريخ الكبير" 1: 102، و"صحيح ابن حبان" حديث (6755)، و"فتح الباري" 4:340.
ذكرت له قول من قال: أبو الأشهب لم يلق أبا الجوزاء"
(1)
.
ومعنى كلام أبي داود أنه سأل أحمد عن قول من قال: إن أبا الأشهب لم يلق أبا الجوزاء، فرده أحمد بأن أبا الأشهب قديم، وقد جاء تصريحه بالسماع من أبي الجوزاء بإسناد صحيح، وهو ما رواه يحيى القطان عنه.
وكذا جاء تصريح أبي الأشهب بالتحديث من رواية مسلم بن إبراهيم الفراهيدي عنه، وذلك في " صحيح البخاري "
(2)
.
ومن ذلك أن الدارقطني سئل عن سماع ابن لهيعة، عن الأعرج، فقال:"صحيح، قدم الأعرج مصر وابن لهيعة كبير"
(3)
.
فالقرينة التي ذكرها الدارقطني ليس المراد بها إثبات السماع بمجردها، ولا يصح أن يستدل بها على أنهم يثبتون السماع بمجردها، ولابد من النظر في كيفية رواية ابن لهيعة، عن الأعرج، فإذا تبين أنه يصرح بالتحديث عنه، فالاعتماد حينئذ على هذا التصريح، وهذه القرينة تؤكده، وتدل على صحته، ليس فيها أكثر من ذلك، وإن كان الناظر فيها لأول وهلة قد يظن أن الاعتماد في إثبات السماع على هذه القرينة، ولقيا ابن لهيعة للأعرج وسماعه منه معروف
(4)
، وتتبع روايات
(1)
. " سؤالات أبي داود " ص 327.
(2)
. "صحيح البخاري " حديث (4859).
(3)
. " علل الدارقطني" 11: 128.
(4)
. " المعرفة والتاريخ " 2: 442.
ابن لهيعة، عن الأعرج، أفاد أنه يصرح بالتحديث عنه في أحاديث كثيرة
(1)
.
ومثله ما رواه أبو داود، قال:" قيل لأحمد: سمع الحسن من عمران؟ قال: ما أنكره، ابن سيرين أصغر منه بعشر سنين سمع منه، قال أحمد: وقتادة يدخل - يعني الحسن وعمران - بينهما هياج "
(2)
.
فذكر أحمد أولاً قرينة تدل على أنه سمع منه، وهي أن ابن سيرين قد سمع منه في رأي أحمد، وهو أصغر من الحسن بعشر سنين، ولم يرد أحمد إثبات السماع بمجرد ذلك، وإنما أراد بها أن ما ورد من التصريح بسماع الحسن من عمران بن حصين غير مستبعد، ولهذا قال أحمد:" ما أنكره "، وورود لقائه له وتصريحه بالسماع منه مشهور عند الأئمة، إلا أن أكثرهم على تخطئة هذا
(3)
، ولعل أحمد عاد إلى تخطئته في نهاية الجواب، فإنه ذكر قرينة على عدم السماع، وهي إدخال واسطة بينه وبين عمران، وقد جاء عن أحمد روايات أخرى فيها إنكاره لتصريحه بالتحديث عن عمران
(4)
.
(1)
. "سنن ابن ماجه" حديث (4240)، و"مسند أحمد" 2: 349، 350، و"شرح معاني الآثار" 1:15.
(2)
. " مسائل أبي داود " ص 448.
(3)
. انظر: " سؤالات أبي داود " ص 289، و" معرفة الرجال " 1: 130، و " تاريخ الدارمي عن ابن معين" ص 100، و " علل ابن المديني " ص 51، و" المراسيل " ص 38، 39، 45، و " تهذيب التهذيب " 2:268.
(4)
. " مسائل صالح " ص 189، و" المراسيل " ص 38، 45، و " الجرح والتعديل " 8: 339، و " الضعفاء الكبير " 4:225.
ويشبه ذلك في تعارض القرائن عند الناقد لترجيح صواب تصريح بالتحديث أو ترجيح خطأ ذلك - ما رواه سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن أبي مالك الغفاري، عن عبد الرحمن بن أبزى، عن عمار بن ياسر، عن النبي صلى الله عليه وسلم في التيمم
(1)
، ورواه جماعة منهم شعبة، عن حصين بن عبد الرحمن، عن أبي مالك الغفاري، عن عمار في التيمم، غير مرفوع في أكثر الروايات
(2)
، هكذا بدون واسطة بين أبي مالك، وعمار، وصرح أبو مالك بسماعه من عمار في رواية شعبة، فسأل ابن أبي حاتم والده عن سماع أبي مالك من عمار، قال ابن أبي حاتم:" قلت: فأبو مالك سمع من عمار شيئاً؟ فقال: ما أدري ما أقول لك! ، قد روى شعبة، عن حصين: سمعت عماراً، ولو لم يعلم شعبة أنه سمع من عمار ما كان شعبة يرويه، وسلمة أحفظ من حصين، قلت: ما تنكر أن يكون سمع من عمار وقد سمع من ابن عباس؟ قال: بين موت ابن عباس وبين موت عمار قريب من عشرين سنة"
(3)
.
فاستخدم أبو حاتم أولاً قرينة لتصحيح التصريح بالسماع، وهي حرص
(1)
. أخرجه أبو داود (322)، والنسائي حديث (315)، وأحمد 4:319.
(2)
. أخرجه ابن أبي شيبة 1: 159، والطبري 5: 110، وابن المنذر 2: 52، والطحاوي 1: 112، والدارقطني 1: 183، 184.
(3)
. " علل الحديث " 1: 24.
وقوله: " قريب من عشرين سنة " هكذا هو أيضاً في النسخ المخطوطة لكتاب ابن أبي حاتم، والمعروف أن عمار بن ياسر قتل في معركة صفين سنة سبع وثلاثين، وابن عباس مات سنة ثمان وستين، فتكون صحة النص:" قريب من ثلاثين "، والله أعلم.
شعبة على تفقد السماع والتحقق من ثبوته، ثم عاد فذكر قرينتين على تخطئة هذا التصريح، وهما أن سلمة بن كهيل أحفظ من حصين بن عبد الرحمن، وأن عمار ابن ياسر قديم الوفاة.
وكذا رجح الدارقطني عدم ثبوت السماع، فقال:" وأبو مالك في سماعه من عمار نظر، فإن سلمة بن كهيل قال فيه: عن أبي مالك، عن ابن أبزى، عن عمار، قاله الثوري عنه "
(1)
.
ويؤيد ذلك أيضاً أن جماعة - غير شعبة - رووه عن حصين ليس فيه التصريح بالسماع، فيحتمل أن يكون الخطأ ممن دون حصين، فقد ذكر ابن المديني أن شعبة وجدوا له غير شيء يذكر فيه الإخبار عن شيوخه، ويكون منقطعاً
(2)
.
وقد يقول قائل: إذا رأينا الإمام قد استخدم قرينة للدلالة على السماع فمتى نعد هذا تقريباً للسماع، ومتى نعده تصحيحاً للتصريح بالتحديث قد ورد؟
والجواب أن هذا الأمر لا يختلف عن غيره من مسائل هذا الفن، فهو بحاجة إلى النظر في كلام الناقد بمجموعه، فقد يكون في كلامه ما يوضح مراده، وقد يوجد ذلك في كلام النقاد الآخرين، وربما أمكن ترجيح مراد الناقد بالنظر في مرويات الراوي، هل فيها تصريح بالتحديث؟ وهل الأقرب أن يكون الناقد وقف عليه؟
(1)
. " سنن الدارقطني " 1: 183.
(2)
. " شرح علل الترمذي " 2: 594.
مثال ذلك ما تقدم ذكره عن ابن رجب في تعليقه على جواب أحمد حين سئل عن سماع أبي ريحانة من سفينة، وقوله:"ينبغي، هو قديم، قد سمع من ابن عمر"، علق عليه ابن رجب بقوله:"لم يقل إن حديثه عن سفينة صحيح متصل، إنما قال: هو قديم، ينبغي أن يكون سمع منه، وهذا تقريب لإمكان سماعه، ليس في كلامه أكثر من هذا".
وهذا التعليق صحيح لا إشكال فيه، فليس في كلام أحمد هنا أكثر مما ذكره ابن رجب، فإذا وقفنا على كلام آخر لأحمد في إثبات السماع أو في نفيه فهذا قدر زائد على هذا النص، يفسر به، وكذلك لو وقفنا على تصريح بالتحديث من أبي ريحانة، والظن الغالب أن أحمد قد وقف عليه واستحضره في الجواب - فهذا يفسر به كلام أحمد أيضاً، وأن مراده إثبات السماع بالأمرين.
وتصريح أبي ريحانة بالتحديث عن سفينة موجود عند أحمد في "مسنده"
(1)
.
وقد نظرت في النصوص التي استدل بها جمع من الإخوة الباحثين على أن النقاد يكتفون بالقرائن لإثبات السماع، فرأيتها لا تخرج عما تقدم، فهي إما لتقريب السماع، أو لتأييد تصريح بالتحديث قد ورد، وسقت فيما مضى آنفاً بعض هذه النصوص التي يستدلون بها، وسأذكر الآن مجموعة أخرى من هذه النصوص وأتكلم عليها، ولولا خشية الإطالة لسقت كافة ما وقفت عليه، ولكني أكتفي ببعضها ليستدل بها على ما وراءها.
فمن ذلك قول علي بن المديني: "قلت ليحيى بن سعيد: بسر بن سعيد لقي
(1)
. "مسند أحمد" 5: 222.
زيد بن ثابت؟ قال: وما ينكر أن يكون قد لقيه؟ قلت: روى عن أبي صالح، عن زيد بن ثابت، قال: قد روى شقيق عن رجل، عن عبد الله"
(1)
.
علق عليه أحد الباحثين بقوله: "طرأت الشبهة لابن المديني من جهة وقوع رواية لبسر عن زيد بالواسطة، ولم يوقف له على رواية بالسماع منه، فرده القطان بكون الراوي قد يروي عن شيخه بالواسطة، وليس بلازم منه وجودها في كل ما يرويه عنه".
كذا علق عليه الباحث، وقد ذكر قبل ذلك أن إدخال الراوي بينه وبين من يروي عنه رجلاً قرينة على عدم السماع، يراعيها الأئمة، وعلى هذا فلابد من شيء يدفع هذه القرينة، وظاهر جداً هنا أنه ورود السماع، وذلك لأن المثال الذي ضربه القطان لعلي بن المديني هو كذلك، فهو يقول: شقيق قد سمع من عبدالله، وروى عنه شيئاً كثيراً، وقد روى عن رجل عنه، وأراد بذلك أن يدفع ما وقع في نفس ابن المديني من الاستدلال بإدخال الواسطة على تخطئة السماع الوارد.
ويدل عليه أيضاً أنه قد جاء عن بسر بن سعيد رؤيته لزيد بن ثابت
(2)
، فلا يبعد أبداً أن يكون قد جاء عنه التصريح بالسماع، وهو موضع الحوار.
ومما يؤكد هذا أيضاً حال راو آخر مع زيد بن ثابت، وهو عروة بن الزبير، فقد روى عنه، وروى عن رجل عنه، ولكن لكون السماع لم يرد فلم يتردد القطان في الجزم بكونه لم يسمع منه، مع قوة القرائن الأخرى على السماع، نقل
(1)
. "الجرح والتعديل" 1: 244، وانظر:"علل ابن المديني" ص 49، فالنص فيه محرف.
(2)
. "تاريخ أبي زرعة الدمشقي" 1: 644 - 645، و"شرح معاني الآثار" 4:256.
عنه ابن المديني قوله وهو يعدد من روى عن زيد بن ثابت من أهل المدينة ولم يسمع منه: "وعروة بن الزبير، روى عن زيد بن ثابت، وروى عمن روى عنه، وقد روى عن هشام بن عروة، عن أبيه، أنه سمع أبا حميد بحديث الصدقة، فقال أبو حميد: سمع إذنيه، وبصر عينيه، وسلوا زيد بن ثابت فقد سمعه معي، فهذا يدل أن عروة سمع هذا من أبي حميد وزيد حي"
(1)
.
ومن ذلك أيضاً أن أحمد في "المسند" حدث بحديث قال فيه: حدثنا محمد ابن يزيد الواسطي، عن عثمان بن أبي العاتكة
…
، فقال عبدالله بن أحمد:"قلت لأبي: من أين سمع محمد بن يزيد من عثمان بن أبي العاتكة؟ قال: كان أصله شامياً، سمع منه بالشام"
(2)
.
علق عليه أحد الباحثين بقوله: "لعل الشبهة دخلت على عبدالله من جهة أن هذا واسطي، ويروي عن شامي بالعنعنة، فأزاحها عنه أبوه بكون الواسطي إنما كان بالشام، فكأنه جعل من مظنة اللقاء والسماع برهاناً كافياً على إثبات الاتصال".
كذا قال الباحث، وهو قد ذكر قبل هذا أن اختلاف البلدان ولا رحلة لأحدهما دليل على أنه لا سماع بينهما، وكلامه في المكانين ينقض بعضه بعضاً، وبيانه أن عبدالله بن أحمد قبل أن يعرف أن محمد بن يزيد أصله شامي، فهو عنده واسطي قد قام الدليل عنده على أن الرواية بينهما غير متصلة، وأنه لا سماع،
(1)
. "علل ابن المديني" ص 48، والنص فيه محتمل أن يكون من كلام ابن المديني نفسه، ولا يضر هذا في الاستدلال به.
(2)
. " مسند أحمد " 5: 264.
فلابد أن يكون عنده دليل يرفع هذه القرينة، وهو ثبوت السماع، لأنه يقول: من أين سمع محمد بن يزيد من عثمان بن أبي العاتكة؟ فهذه صيغة سؤاله، ولو كان كما يريد الباحث لقال: هل سمع محمد بن يزيد من عثمان بن أبي العاتكة؟ فالسؤال إذاً عن سماع معروف ثابت.
وأيضاً محمد بن يزيد في طبقة متأخرة، شيخ لأحمد، فمن المستبعد جداً أن لا يكون أحمد يعرف أنه سمع من عثمان، وليس يروي عنه فقط، هذا أمر ظاهر، فالحوار كله إذاً عن سماع ثابت معروف.
ومن ذلك أيضاً ما تقدم عن أحمد في ترجيح سماع عمرو بن دينار، من سليمان اليشكري، فقد أوهم أحد الباحثين وهو يستدل به أن الاعتماد على مجرد المعاصرة، وليس كذلك، فإن أحمد إنما اعتمد على كون الراوي عن عمرو هو شعبة، ولهذا ذكره في الجواب، والأئمة يستدلون بهذا على أن شعبة قد علم السماع، كما تقدم آنفاً في كلام أبي حاتم على سماع أبي مالك الغفاري من عمار.
ويؤكد هذا أن أبا بشر جعفر بن إياس قد روى عن سليمان بن قيس، وهو معاصر له، بل قيل إنه في كُتَّاب سليمان بن قيس
(1)
، ومع هذا فلم يثبت أحمد سماعه منه، قال أبو داود:" سمعت أحمد يقول: بعضهم يقول: سليمان - يعني اليشكري - لم يسمع منه أحد، قال: روى عنه أبو بشر، فلا أدري أسمع منه أم لا؟ ، وروى عنه عمرو بن دينار حديثاً، فإن كان سمع أحد - يعني من سليمان - فهو، قال أحمد: قتل سليمان في فتنة ابن الزبير "
(2)
.
(1)
. " العلل ومعرفة الرجال " 3: 436.
(2)
. " مسائل أبي داود " ص 451.
وقال أبو داود: "قلت لأحمد: عباس بن سهل أدرك أبا حميد؟ قال: عباس قديم"
(1)
.
استدل بهذا النص أحد الباحثين كذلك على أن الأئمة يكتفون بالقرائن لإثبات السماع، ولا يصح الاستدلال به أبداً، فإن السؤال عن الإدراك، فالجواب موافق للسؤال، ولو افترضنا أن الإدراك هنا مراد به السماع - وهو أحد معانيه الواردة في كلام النقاد - فلا دلالة فيه أيضاً، فسماع عباس بن سهل من أبي حميد مشهور
(2)
، فالقرينة إذاً تقريب للسماع الوارد وتأييد له.
وقال الدوري: " سمعت يحيى يقول: قد سمع ابن سيرين بالكوفة الحديث، سمع من عبيدة ونحوه، وسمع من شريح، قلت ليحيى: إن ابن شبرمة يروي عن ابن سيرين، قال: دخل الكوفة في وقت لم يكن ابن شبرمة، ولكن لعله سمع منه في الموسم، قال هذا أو نحوه "
(3)
.
علق على هذا النص أحد الباحثين بعد أن ذكر الجزء الأخير منه مستدلاً به على الاكتفاء بالقرائن بقوله: " يقول ابن معين ذلك، لأن ابن سيرين لم يكن مكثراً من الرواية عمن عاصره ولم يلقه ".
كذا قال الباحث، وصوابه: " لأن ابن شبرمة لم يكن مكثراً
…
"، فالرواية لابن شبرمة وليست لابن سيرين، وليس هذا موضع المناقشة، فجلَّ
(1)
. "مسائل أبي داود " ص 454.
(2)
. "صحيح ابن خزيمة" حديث (681)، و"شرح معاني الآثار " 4: 358، و"إتحاف المهرة" 14: 82، 83.
(3)
. " تاريخ الدوري عن ابن معين " 2: 521.
من لا يسهو، وإنما المناقشة في دعوى الاكتفاء بالمعاصرة في هذا النص، ذلك أن الباحث نفسه معترف بأن من القرائن على عدم السماع اختلاف البلدين، ولا رحلة لأحدهما إلى بلد الآخر، أو له رحلة في وقت لم يكن فيه الآخر، فالعنعنة مع وجود هذه القرينة محمولة على الإرسال، وإذا كان الأمر كذلك فلابد أن يكون إثبات السماع بناء على وروده، لا على القرائن.
وقد يجيب بأنه يحتمل أن يكون ابن معين اعتمد على قرينة أخرى أقوى من هذه، وتعارض القرائن أمر وارد، وهذا الجواب غير نافع، إذ للمخالف أن يقول: ابن معين لم يذكر قرينة أخرى، والاحتمال الأقرب أن يكون اعتمد على التصريح بالتحديث، لأنه لو كان الاعتماد على قرينة لذكرها، ليدفع بها قرينة عدم السماع، فالأظهر أنه وقف على تصريح ابن شبرمة بالتحديث، وهذا هو الذي يفهم بداءة من قوله:" لعله سمع منه في الموسم".
على أن النص غير محتاج إلى هذا كله، بعد أن أمكن الوقوف على نصوص في دخول ابن شبرمة على ابن سيرين، وتصريحه بالسماع منه
(1)
، فالسؤال بلا تردد كان عن سماع معروف عندهم.
ومثل هذا النص عن ابن معين نص آخر عنه، استدل به أيضاً هذا الباحث، قال ابن الجنيد: " قلت ليحيى: حماد بن سلمة دخل الكوفة؟ قال: لا أعلمه دخل الكوفة، قلت: فمن أين لقي هؤلاء؟ قال: قدم عليهم عاصم،
(1)
. انظر: "التاريخ الكبير" 5: 117، و"تاريخ قزوين" 1: 474، "وتاريخ دمشق " 53: 200، و"سير أعلام النبلاء" 4:614.
وحماد بن أبي سليمان، والحجاج بن أرطاة، قلت: فأين لقي سماك بن حرب؟ قال: عسى لقيه في بعض المواضع، لو كان دخل الكوفة لأجاد عنهم "
(1)
.
ولم يعلق الباحث على النص بشيء، والاعتماد على هذا النص وأمثاله يدل على أنه يتخبط فيما يستدل به، ولا زلت في حيرة من استدلاله بهذا النص، إذ ظاهر جداً أن السؤال عن لقي معلوم ثابت، فالسؤال عن مكانه، وهؤلاء المذكورون من شيوخ حماد المعروفين، تصريحه بالتحديث عنهم قد ملأ السهل والجبل، ويكفي من ذلك ما في " مسند أحمد "
(2)
، وحماد بن سلمة بصري، وهؤلاء كوفيون فهذه قرينة على عدم السماع، لا يرفعها إلا وروده.
وروى الترمذي حديثاً من رواية عطاء بن يسار، عن أبي واقد الليثي، ثم قال الترمذي:" سألت محمداً عن هذا فقلت له: أترى هذا الحديث محفوظاً؟ قال: نعم، قلت له: عطاء بن يسار أدرك أبا واقد؟ فقال: ينبغي أن يكون أدركه، عطاء بن يسار قديم "
(3)
.
استدل به أكثر من باحث على إثبات السماع بمجرد القرائن، وكأنهم فهموا من الحفظ هنا تصحيح الحديث، وبنوا عليه تصحيح السماع، وليس الأمر كذلك، إذ هذا الحديث قد اختلف فيه على زيد بن أسلم راويه عن عطاء بن
(1)
. " سؤالات ابن الجنيد " ص 107.
(2)
. انظر: " حماد بن سلمة ومروياته في مسند أحمد عن غير ثابت " ص 270 - 291، 301 - 319، 550 - 583، 661 - 745.
(3)
. " العلل الكبير " 2: 632.
يسار، وجعله عن أبي واقد الليثي أحد الأوجه فيه
(1)
، فسأل الترمذي البخاري: هل هذا الوجه محفوظ؟ أي عن زيد بن أسلم، ثم أنشأ الترمذي يسأله عن إدراك عطاء بن يسار لأبي واقد.
ثم إنه ليس فيه إثبات السماع بالإدراك والمعاصرة، وليس هو بمحتاج إلى تأويل، فظاهره يدل على أن البخاري يقرب السماع بالإدراك، ليس فيه أكثر من هذا، وقد ورد تصريحه بالسماع منه
(2)
، فيحتمل أن البخاري يشير بهذه القرينة إلى هذا التصريح الوارد، وأنه يقويه، ويحتمل أنه لم يقف عليه، فكلامه في الحالين ليس فيه إلا تقريب السماع.
ثم إن الاستدلال بنصوص النقاد التي قد يبدو منها اكتفاؤهم بالقرائن مدفوع من أساسه، وذلك إذا لاحظنا أن النقاد استخدموا هذه القرائن في سماع المدلسين من بعض شيوخهم، دون النص على التصريح بالتحديث، وقد جرى الاتفاق على أن المدلس المعروف بالرواية عمن عاصرهم ولم يلقهم خارج محل النزاع، فلابد من مطالبته بالتصريح بالتحديث، فإذا كان النقاد استخدموا هذه القرائن مع المدلس، ولم يكن هذا كافياً لإثبات السماع بالاتفاق، فلا يصح حينئذ الاستدلال ببعض النصوص التي قد يبدو من ظاهرها اكتفاؤهم بالقرائن مع غير المدلس.
(1)
. انظر: "علل ابن أبي حاتم" حديث (1479)، و " علل الدارقطني " 6: 297، 11: 259، و " تحفة الأشراف " 5: 349، 11: 111، و " إتحاف المهرة " 8: 325، 16:324.
(2)
. " سنن الدارمي " حديث رقم (6).
وهؤلاء الإخوة الباحثون الذين ذهبوا إلى أن الأئمة يكتفون بالقرائن ووقفت على كلامهم كلهم - بلا استثناء - يحشدون نصوصاً قالها النقاد في المدلسين، مع إقرار هؤلاء الباحثين أن المدلس لابد من مطالبته بالتصريح بالتحديث.
فمن هذه النصوص التي أوردوها كلام أحمد المتقدم في سماع الحسن البصري من عمران بن حصين.
وقول أبي حاتم في الحسن أيضاً حين سئل هل سمع من محمد بن مسلمة؟ : "قد أدركه"
(1)
.
وكذا قال البزار: " روى الحسن عن محمد بن مسلمة ولا أبعد سماعه منه".
(2)
.
والحسن البصري من أشهر من عرف عنه الإرسال عمن عاصره ولم يسمع منه.
ومن النصوص كذلك قول أحمد حين سأله ابنه عبد الله عن سماع قتادة من عبد الله بن سرجس: " ما أشبهه، قد روى عنه عاصم الأحول"
(3)
، وقال عبد الله مرة أخرى: " قيل: (يعني لأبيه): سمع قتادة من عبد الله بن سرجس؟ قال: نعم، قد حدث عنه هشام - يعني قتادة عن عبد الله بن سرجس - حديثاً
(1)
. " المراسيل " ص 44.
(2)
. " نصب الراية" 1: 90.
(3)
. " العلل ومعرفة الرجال " 3: 86.
واحداً، وقد حدث عنه عاصم الأحول "
(1)
.
وقتادة كذلك مشهور جداً بالإرسال عمن عاصره ولم يسمع منه.
وقول أحمد أيضاً حين سئل عن سماع ابن إسحاق من عطاء بن أبي رباح: "نعم، ابن أبي ذئب أصغر من ابن إسحاق، وقد سمع من عطاء بن أبي رباح"
(2)
، وابن إسحاق مشهور بالتدليس، بل قد جاء عن أحمد نصوص كثيرة فيها أن ابن إسحاق إذا قال: قال فلان، وذكر فلان - فلم يسمعه
(3)
- فكيف يثبت سماعه بمجرد القرينة؟
ويلتحق بالنصوص عن المدلسين ما جاء فيمن هو كثير الإرسال، مثل قول أبي زرعة حين سئل عن سماع المطلب بن عبد الله بن حنطب من عائشة:" نرجو أن يكون سمع منها "
(4)
.
علق عليه أحد الباحثين بقوله: " فلو كان أبو زرعة يقوي احتمال السماع بناء على نص يدل عليه لما أجاب بهذا الجواب، ولقال: نعم، قد سمع منها".
(1)
. " العلل ومعرفة الرجال " 3: 284، وانظر:" المراسيل " ص 168، 175، و"الجرح والتعديل " 7: 133، فقد نفى أحمد في رواية عنه سماع قتادة من عبد الله بن سرجس، بينما أثبته أبو حاتم.
(2)
. "مسائل إسحاق بن هانئ " 2: 239.
(3)
. " مسند أحمد " 2: 216، 217، و"سؤالات أبي داود" ص 224، و"مسائل أبي داود" ص 454، و"علل المروذي" ص 38، 39، و"المنار المنيف" ص 21، و"شرح علل الترمذي" 2:600.
(4)
. " الجرح والتعديل " 8: 359.
كذا قال، ولمخالفه أن يقول: ولو كان أبو زرعة يكتفي بالمعاصرة وإمكان اللقي لما تردد أيضاً، ولقال: نعم سمع منها، فليس في كلام أبي زرعة سوى تقريب السماع وهذا هو موضع المناقشة هنا، فإن المطلب بن عبد الله من أشهر الرواة رواية عمن لم يدركه، وعمن عاصره ولم يلقه، فلو قال قائل: إنه بالنظر إلى ما رواه منقطعاً وما رواه متصلاً هو أشهر من يروي المراسيل، ويحدث عمن لم يلقهم، لما كان قوله بعيداً، ولولا خوف الإطالة لنقلت نصوص النقاد فيه، فإذا كان مثل هذا الراوي يكتفى فيه بالمعاصرة، وإمكان اللقي، وبالقرائن، ولا يشترط أن يصرح بالتحديث انفلتت المسألة، ولم يعد لها زمام، فلابد من حمل كلام أبي زرعة على أنه تقريب للسماع لا إثبات له، ويحتمل على بعد أن يكون وقف على تصريح بالتحديث تردد فيه.
وإنما قلت: على بعد، لأن جمهور النقاد على أنه لا يثبت له سماع من أحد من الصحابة، سوى قوله: حدثني من شهد النبي صلى الله عليه وسلم، نص عليه البخاري، والدارمي، بل نص أبو حاتم على أنه لم يدرك عائشة
(1)
.
وفي ختام الكلام على هذه المسألة العويصة أنبه على مسائل:
المسألة الأولى: قال ابن القطان في كلام له على حديث من رواية مسروق، عن معاذ، ضعفه عبدالحق بأن مسروقاً لم يلق معاذاً، ولا ذكر من حدثه به - ما نصه: "فهما - أعني البخاري وابن المديني - إذا لم يعلما لقاء أحدهما للآخر لا يقولان في حديث أحدهما عن الآخر إنه منقطع، إنما يقولان: لم يثبت سماع
(1)
. " العلل الكبير " 2: 964، و " المراسيل " ص 209، و "تهذيب التهذيب " 10: 178، و " التقريب " ص 534.
فلان من فلان، فإذاً ليس في حديث المتعاصرين إلا رأيان، أحدهما: هو محمول على الاتصال، والآخر: لم يعلم اتصال ما بينهما، وأما الثالث -وهو أنه منقطع- فلا، فاعلم ذلك، والله أعلم"
(1)
.
وإلى مثل هذا مال الباحث الأخ خالد الدريس، وأيده بشيئين، الأول: بقول مسلم في حكاية مذهب مخالفه: "فإن لم يكن عنده علم ذلك، ولم تأت رواية صحيحة تخبر أن هذا الراوي عن صاحبه قد لقيه مرة وسمع منه شيئاً - لم يكن في نقله الخبر عمن روى عنه ذلك - والأمر كما وصفنا - حجة، وكان الخبر عنده موقوفاً حتى يرد عليه سماعه منه لشيء من الحديث قل أو كثر"
(2)
، وقول مسلم أيضاً حكاية عن مخالفه:"فإذا أنا هجمت على سماعه منه لأدنى شيء - ثبت عندي بذلك جميع ما يروى عنه بعد، فإن عزب عني معرفة ذلك أوقفت الخبر، ولم يكن عندي موضع حجة، لإمكان الإرسال فيه"
(3)
.
والثاني: أن عبارة البخاري فيما ثبت عنده الانقطاع جازمة، كأن يقول: لم يسمع منه، وأما ما لم يثبت فيه الاتصال مع إمكانه فليست كذلك، كأن يقول: لا يعرف سماع فلان من فلان، أو لم يذكر سماعاً، ونحو ذلك.
ثم عقب على ذلك بقوله: "ومن تأمل هذا الموضع يتضح له الفرق بين المنقطع المعلوم الانقطاع، وبين ما لم يثبت فيه السماع فلا يسمى منقطعاً، كما قال ابن القطان، لأن من لم يثبت له سماع ممن روى عنه ففي ذلك شبهة عدم اتصال
(1)
. "بيان الوهم والإيهام" 1: 576.
(2)
. "صحيح مسلم" 1: 29.
(3)
. "صحيح مسلم" 1: 30.
السند، أما المنقطع فعدم الاتصال يكون محل يقين وجزم"
(1)
.
وأما الذهبي فإنه تعقب عبارة ابن القطان السابقة بقوله: "قلت: بل رأيهما دال على الانقطاع"
(2)
.
وما قاله الذهبي هو المترجح، بل هو القول الذي لا يصح غيره، والقول بأن هناك أسانيد ليست متصلة ولا منقطعة بعيد جداً، فالإسناد في واقع الأمر إما متصل أو منقطع، وهو كذلك في نقد الناقد، فالأصل أن الراوي لم يلتق بمن روى عنه ولم يسمع منه، حتى يقف الناقد على ناقل عن هذا الأصل، والناقل هو ثبوت السماع، أو إمكانه عند من يقول به، فإذا لم يكن شيء من ذلك بقي على الأصل وهو الانقطاع.
وما نقله الباحث خالد الدريس عن مسلم إنما يتعلق بالاحتجاج بالحديث، وأنه يتوقف فيه ولا يحتج به، ولو قيل إن المقصود به درجة الحديث فهذا لا يؤثر شيئاً أيضاً، فالتوقف فيه حتى يوقف على السماع، فإذا لم يوقف بعد بحث رجع الأمر إلى الانقطاع.
ومن تأمل ما ينص الأئمة فيه على التوقف في هذه القضية وغيرها تبين له أن مآل التوقف إما إلى القبول إن انزاحت العلة، أو إلى الرد إن بقيت، لا ثالث لهما.
وأما ما استدل به من اختلاف عبارة البخاري، وكذا ما عقب به فمقتضاه
(1)
. "موقف الإمامين" ص 251 - 253.
(2)
. "نقد بيان الوهم والإيهام" ص 83.
أن ما حكم الأئمة عليه بعبارة جازمة كقولهم: لم يلق فلاناً، أو لم يسمع منه، أو هو مرسل، أو منقطع فإنه خارج عن موضع الخلاف، وأنه مما لا يمكن فيه سماع الراوي ممن روى عنه، ولذا عبروا بالعبارات التي تفيد الجزم واليقين، وعكسه كذلك، ما عبروا فيه بالعبارات غير الجازمة فالسماع فيه ممكن، وغير خافٍ أن طرد هذا بعيد جداً، يدل عليه أنهم يقولون العبارات غير الجازمة مع المدلسين، ومع المجاهيل الذين لم تعلم معاصرتهم لمن رووا عنه أصلاً، فهل يقال إن أحكامهم هذه أيضاً لا تفيد الانقطاع؟
ولو سلم بهذا الفرق - ولا يسلم به - فغاية ما فيه أنهم أرادوا أن تحمل عباراتهم دليل الانقطاع، إذ قد يكون الدليل هو ثبوت عدم السماع، وقد يكون عدم ثبوت السماع، وكله انقطاع.
المسألة الثانية: رأيت كثيراً من الباحثين في كلامهم النظري، وفي أحكامهم التطبيقية حين النظر في إسناد ما، يأسرهم في تعاملهم مع قضية الإسناد المعنعن بين متعاصرين لم يعلم اللقاء بينهما - استبعاد أن يكون الراوي قد أدرك من حياة من روى عنه قدراً كافياً للسماع منه، وهما جميعاً في بلد واحد، ثم لا يسمع منه، ولا يأخذ عنه، مع حرصهم المعروف على الرواية، وطلب العلم، ومع كون مدنهم في ذلك الوقت غير متسعة، وسكانها ليسوا بالكثرة التي يتصور معها عدم اللقاء بينهما.
فإذا قيل إن فلاناً أدرك من حياة من روى عنه ثلاثين سنة، ثم نفى بعض الأئمة سماعه منه، أو قال: لم يصح له سماع منه، كبر ذلك في عين الباحث، واستغربه، فتجد الباحث مقتنعاً بضرورة اشتراط العلم بالسماع، لكنه يتوقف كثيراً حين تمر به مثل هذه الحالة.
والخطأ الذي يقع فيه هؤلاء هو توحيد نمط الرواية والبحث عنها في جميع العصور، ففي أذهان كثير من الباحثين أن الرواة في العصور الأولى للرواية كان شأنهم كشأن الرواة في العصور اللاحقة، بعد اتساع الرواية، وانتشارها، وتميزها عن غيرها من الفنون، واعتناء الرواة بالرحلة، وبالعلو، والتبكير بالسماع، وغير ذلك، وليس الأمر كذلك قطعاً، وإنما كان الرواة ينقلون المرويات في العصور الأولى بصورة عفوية في الغالب، فالتلميذ هو المنشئ لنفسه، لا يبكر به أحد للسماع، كما صارت الحال فيما بعد، وعليه فلا يستغرب أن يكون طلبه للعلم أصلاً في وقت متأخر.
ثم قد يكون في طلبه للعلم قد اتجه أولاً إلى علوم أخرى، كاللغة، والأدب، وغيرهما.
وقد يلازم الراوي شيخاً له، ومن عداه فإنما يأخذ عنهم دون تقصد، مع كونهم في بلده، فربما أخذ عن بعضهم، ولم يأخذ عن البعض الآخر، فكيف بمن هم في البلدان الأخرى؟ .
ولترسيخ هذه النظرة المهمة جداً في التعامل مع هذه القضية يحسن بالقارئ أن يعود إلى ما تقدم نقله عن الأئمة في إثبات إدراك الراوي لمن روى عنه، لكنه لم يلقه، بل ربما يثبتون رؤيته له، أو دخوله عليه، وينفون أخذه عنه، ومن هذه النصوص ما هو عن الرواة أنفسهم.
وأذكر الآن شيئاً من هذه النصوص مما لم يتقدم ذكره، فقد روى أحمد بإسناده عن ابن عون قوله:"قد رأيت عطاء، وطاوساً"
(1)
، قال أحمد: "ولم
(1)
. "سؤالات أبي داود" ص 240.
يحمل عنهما"
(1)
.
وقال ابن المديني في مسروق بن الأجدع: " صلى خلف أبي بكر، ولقي عمر، وعلياً - ولم يرو عنهم شيئاً - وزيد بن ثابت، وعبد الله بن المغيرة"
(2)
.
وروى محمد بن عبد الرحمن، عن ابن المديني أنه أثبت سماع ابن سرين من أبي هريرة، وابن عمر، وجندب، وأنس، قال محمد:"فقلت له: رافع، فقال: لا، ولا من زيد بن ثابت سماع شيء - إلا أنه قد رآه حين دخلوا عليه، فقال: هذا وهذا لأم - قط- ولم يحفظ عنه شيئاً "
(3)
.
وقال أبو حاتم: " كان عمر بن عبدالعزيز والياً على المدينة، وسلمة بن الأكوع، وسهل بن سعد حيين، فلو كان حضرهما لكتب عنهما"
(4)
.
وقال الذهبي: "ولقد كان (يعني هشام بن عروة) يمكنه السماع من جابر، وسهل بن سعد، وأنس، وسعيد بن المسيب، فما تهيأ له عنهم رواية"
(5)
.
وقال أيضاً في أيوب السختياني: "وقد رأى أنس بن مالك، وما وجدنا له عنه رواية، مع كونه معه في بلده، وكونه أدركه وهو ابن بضع وعشرين سنة"
(6)
.
وروى وكيع، عن الأعمش قوله: "رأيت أنس بن مالك، وما منعني أن
(1)
. "تهذيب التهذيب" 5: 349.
(2)
. "علل ابن المديني" ص 60.
(3)
. "المعرفة والتاريخ" 2: 60، وانظر قصة الدخول في 2:58.
(4)
. "المراسيل" ص 136.
(5)
. "سير أعلام النبلاء" 6: 35.
(6)
. "سير أعلام النبلاء" 6: 16، وانظر أيضاً: 3: 287.
أسمع منه إلا استغنائي بأصحابي"
(1)
.
وروى أبو داود الطيالسي، عن شعبة قوله:"لولا الشعر لجئتكم بالشعبي"
(2)
.
ومراده أنه أولاً كان يطلب الشعر ويتتبعه، ثم بعد ذلك طلب الحديث، فلو كان ابتدأ بطلب الحديث لأخذ عن الشعبي، لأنه يمكنه ذلك
(3)
.
وروى ابن معين، عن عباد بن عباد قوله:" لم يمنع هشيماً من أن يسمع من سعيد بن أبي عروبة إلا الكبر والأنفة"
(4)
.
وروى صالح بن أحمد، عن علي بن المديني قوله:" قلت لسفيان: كنت جالست عمارة بن غزية؟ قال: نعم، جالسته كم من مرة، فلم أحفظ عنه شيئاً"
(5)
.
وقال عمرو بن علي: " سألت أبا الوليد هشام بن عبد الملك، عن حرب ابن سريج، فقال: كان جارنا، لم يكن به بأس، ولم أسمع منه شيئاً"
(6)
.
(1)
. " تاريخ بغداد " 9: 4.
(2)
. "الكامل" 1: 88، و"تاريخ بغداد" 9:257.
(3)
. انظر: "تاريخ الدوري عن ابن معين" 2: 253، و"معرفة الرجال" 2: 74، و" تاريخ بغداد" 9: 257، وينظر أيضاً ترجمة (محمد بن عبدالرحمن بن أبي ذئب)، في "تاريخ بغداد" 2:302.
(4)
. "تاريخ الدوري عن ابن معين" 2: 620.
(5)
. "الضعفاء الكبير" 3: 315.
(6)
. "الكامل" 2: 824.
ومن نظر في ترجمة (صالح بن كيسان) وكون كثير من شيوخه أصغر سناً منه، بسبب تأخره في طلب الحديث، واشتغاله بالشعر واللغة رأى عجباً
(1)
.
وقال عبد الله بن أحمد: "سألته (يعني أباه) عن أيوب سمع من أبي عثمان النهدي وقلت له: إن خلفاً البزار يقول: عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي عثمان، فقال: روى عنه حديثين، وقال: حدثنا مؤمل، عن حماد بن زيد، عن أيوب قال: كان أبو عثمان لي صديقاً، فما حفظت عنه إلا حديثين"
(2)
.
وحال الرواية في العصور الأولى يلخصه هشام بن يوسف قاضي صنعاء - مع تأخر عصره نسبياً - بقوله: " كان معمر هاهنا عندنا عشرين سنة، حي صحيح، وما كتبنا عنه إلا اليسير، ولو علمنا أنه يكتب عنا، ويرحل إلينا لكنا أشد طلباً، وأحرص عليه "
(3)
.
ومما يؤكد ما تقدم أن هذا الأمر ظل موجوداً حتى في عصر ازدهار الرواية، والحرص على السماع، والرحلة إلى البلدان.
فمن ذلك قول أبي الوليد هشام بن عبد الملك، عن حرب بن سريج:"كان جارنا، لم يكن به بأس، ولم أسمع منه شيئاً "
(4)
.
وقال أحمد: "رأيت الأشجعي - ونحن عند أبي بدر - ولم أكتب عنه شيئاً
…
، ورأيت بشر بن عمر - يعني الزهراني - وكان إنساناً غلقاً سيئ الخلق، فلم يقدر أن أكتب عنه شيئاً
…
، ورأيت زافر بن سليمان، ولم أكتب عنه شيئاً
…
،
(1)
. انظر: "تهذيب الكمال " 13: 79 - 84، و "تهذيب التهذيب " 4: 399 - 401.
(2)
. " العلل ومعرفة الرجال" 2: 497.
(3)
. "معرفة الرجال" 2: 38.
(4)
. "الكامل" 2: 824.
ورأيت عبد الله بن معاذ الصنعاني ولم أكتب عنه شيئاً، ورأيت مبارك بن سعيد ابن مسروق أخا الثوري - من ذاك الجانب - فلم أكتب عنه شيئاً، ورأيت عمران ابن عيينة، ولم أكتب عنه شيئاً، ورأيت نهشل بن حريث العدوي، ولم أكتب عنه شيئاً، قلت: كيف هو؟ قال: ليس به بأس"
(1)
.
وقال عبد الله: "سألت أبي عن أبي زيد الهروي، فقال: شيخ ثقة، ليس به بأس، لم أكتب عنه شيئاً، وجعل يتلهف عليه"
(2)
.
وقال عبد الله أيضاً: "سألت يحيى عن إبراهيم بن خالد الصنعاني، فقال: كان صديقاً لي، وكان ثقة، وما كتبت عنه حديثاً "
(3)
.
وقال ابن معين في محمد بن إبراهيم والد أبي بكر وعثمان ابني أبي شيبة: "رأيته ببغداد، وكان رجلاً جميلاً، ثقة، كيساً، أكيس من يزيد بن هارون، وكان على قضاء فارس، مات قديماً، ولم أكتب عنه شيئاً"
(4)
.
وسأل البرذعي أبا زرعة إن كان قد لقي إسماعيل بن أبي أويس، فقال: "دخلت المدينة ثلاث مرات، وهو حي، ولم يقدر لي أن أكتب عنه شيئاً، كان مرة
(1)
. "العلل ومعرفة الرجال" 3: 129.
(2)
. "العلل ومعرفة الرجال" 2: 99.
(3)
. "العلل ومعرفة الرجال" 2: 605.
(4)
. "تهذيب التهذيب" 9: 12.
وانظر نصوصاً أخرى عن ابن معين في: "سؤالات ابن الجنيد" ص 379 فقرة (434)، و"العلل ومعرفة الرجال" 2: 605 فقرة (3879).
عليلاً، ومرة متوارياً، وكان مرة غائباً "
(1)
.
وروى الآجري قال: " سمعت سليمان بن الأشعث أبا داود يقول: ولدت سنة اثنتين ومئتين، وصليت على عفان ببغداد سنة عشرين
…
، وتبعت عمر بن حفص بن غياث إلى منزله ولم أسمع منه شيئاً، ورأيت خالد بن خداش ولم أسمع منه شيئاً
…
، قلت: سمعت من يوسف الصفار؟ قال: لا، قلت: سمعت من ابن الأصبهاني؟ قال: لا، قلت: سمعت من عمرو بن حماد بن طلحة؟ قال: لا، ولا سمعت من مخول بن إبراهيم، ثم قال: هؤلاء كانوا بعد العشرين، - والحديث رزق - ولم أسمع منهم"
(2)
.
ومراد أبي داود بقوله: والحديث رزق - أن سماع الحديث من راو كالرزق، قد يرزقه الشخص، وقد يحرمه، مع قربه منه، وقد سبقه إلى ذلك عمرو بن علي الفلاس، حيث قال:" السماع من الرجال أرزاق"
(3)
.
ومما يزيد القضية وضوحاً في ذهن القارئ وقوفه على آراء الأئمة في سماع الصغار من آبائهم، وآل بيتهم
(4)
.
المسألة الثالثة: كان مسلم رحمه الله دقيقاً جداً حين حرر محل النزاع، وأنه في رواية راوٍ توافر فيها عدة شروط، كونه ثقة، غير مدلس، عاصر من
(1)
. "أسئلة البرذعي لأبي زرعة" ص 775.
(2)
. "سؤالات الآجري لأبي داود" 2: 294.
(3)
. "تاريخ بغداد" 12: 209.
(4)
. انظر مثلاً: " العلل ومعرفة الرجال " 2: 86 فقرة (1633) 2: 150 فقرة (1834)، و"التمييز" ص 215، و"الجرح والتعديل" 1: 147، و"علل الدارقطني" 5: 308، و"تهذيب الكمال" 7:364.
روى عنه، وأمكن له لقاؤه والسماع منه، ولم يثبت ذلك صريحاً، ولم يكن هناك دلالة بينة على أنه لم يلقه، أو لم يسمع منه.
وهذه شروط محكمة جداً، تضيق دائرة الخلاف بين مسلم ومخالفه، فإذا لم تتوافر الشروط أو بعضها فإن مسلماً لا يثبت السماع، ولا يحكم بالاتصال.
ومن ذلك قوله في رواية محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن جده عبد الله بن عباس:" ومحمد بن علي لا يعلم له سماع من ابن عباس، ولا أنه لقيه أو رآه "
(1)
.
ومحمد بن علي كان له من العمر عشر سنوات حين وفاة جده
(2)
، فالإمكان الحديثي للسماع غير متوافر، وانضم إلى ذلك أنه يروي عنه بواسطة والده
(3)
.
وقد رأيت بعض الأئمة والباحثين ممن اختار مذهب مسلم، أو اختار مذهب الجمهور، أو ذهب إلى أنه لا خلاف أصلاً، والإجماع على ما ذكره مسلم، ربما أغفل بعض هذه الشروط، فلم يتحرر عنده محل النزاع، سواء في ذلك حين عرض القولين وأدلتهما، أو حين التطبيق، فربما لم يراع ثقة الراوي، أو تدليسه، أو إمكان سماعه ممن روى عنه، أو معاصرته له، أو وجود التصريح بالتحديث من عدمه.
وقد ذكرت في رسالة " اشتراط العلم بالسماع في الإسناد المعنعن " أمثلة
(1)
. "التمييز " ص 215.
(2)
. "تهذيب التهذيب " 5: 278، 9:355.
(3)
. "صحيح مسلم " حديث (763)، وانظر:"بيان الوهم والإيهام " 2: 558.
كثيرة لهذا.
ومن ذلك أيضاً أن أحد الباحثين وهو ممن يذهب إلى أن الجمهور على اشتراط العلم بالسماع ذكر قول أبي زرعة: "عكرمة، عن علي - مرسل"
(1)
، في معرض سرده لنصوص الأئمة الدالة على الاشتراط، وهذا النص لا يصلح لذلك، فإن عكرمة كان سنه نحو 15 عاماً حين قتل علي، وكان علي بالكوفة، وعكرمة بالبصرة، ثم بالمدينة
(2)
، فمثل هذا خارج محل النزاع، وروايته مرسلة على جميع الآراء، إذ الإمكان الحديثي الذي ذكره مسلم غير موجود فيها.
ومن ذلك - في دراسة أسانيد معينة - أن عبدالحق الإشبيلي في كتابه "الأحكام" قد اختار مذهب مسلم - فيما حرره عنه ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" -، لكنه يضعف أحاديث بعدم معرفة سماع بعض الرواة من بعض، فيتعقبه ابن القطان بأن هذا لا يتمشى مع المذهب الذي اختاره، وإنما يتمشى مع مذهب ابن المديني والبخاري، والملاحظ أن ابن القطان لا يراعي في تعقبه شروط مسلم، كما في حديث ركانة بن عبد يزيد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس))
(3)
، قال ابن القطان متعقباً عبدالحق حين أعله بذلك بعد أن بيّن ابن القطان أن إعلاله بعدم السماع من كلام البخاري: "البخاري إذا قال ذلك في هؤلاء فعلى
(1)
. "المراسيل" ص 158.
(2)
. "المراسيل" ص 158.
(3)
. "سنن أبي داود" حديث (4078)، و" سنن الترمذي" حديث (1784).
أصله، وأما أنت إذا قلته فقد تركت أصلك، إذ الزمان محتمل للقاء"
(1)
.
وبالنظر في إسناد الحديث - وهو من رواية أبي الحسن العسقلاني، عن أبي جعفر بن محمد بن ركانة، عن أبيه، عن ركانة - يتضح أن فيه مجاهيل، مع اضطراب في تسمية شيخ أبي جعفر، وفي ذكر أبي جعفر وحذفه، ولذا قال الترمذي:"حديث حسن غريب، وإسناده ليس بالقائم، ولا نعرف أباالحسن العسقلاني، ولا ابن ركانة"
(2)
.
فقد تخلف شرطان مهمان لمذهب مسلم، وهما ثقة الرواة، والعلم بالمعاصرة.
وقال عبدالحق في حديث للمطلب بن عبدالله، عن جابر:"لا يعرف للمطلب سماع من جابر"، فتعقبه ابن القطان بقوله:"وهذا لم تجر به عادته، أن يضعف أحاديث المتعاصرين اللذين لم يعرف سماع أحدهما من الآخر، وإنما يجيء ذلك على رأي البخاري وابن المديني"
(3)
.
والناظر في المطلب بن عبدالله يدرك أنه لا يحكم لروايته هنا بالاتصال على جميع الآراء، فإنه كثير الإرسال عمن أدركه، ومن لم يدركه
(4)
.
ومن ذلك قول ابن تيمية بعد أن نقل عن البخاري تضعيفه لإسناد حديث فيه رواية يعقوب بن سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة بقوله: "لا يعرف لسلمة
(1)
. "بيان الوهم والإيهام" 3: 287.
(2)
. "سنن الترمذي" 4: 248.
(3)
. "بيان الوهم والإيهام" 5: 105.
(4)
. "المراسيل" ص 209، و "تحفة التحصيل " ص 307.
سماع من أبي هريرة، ولا ليعقوب سماع من أبيه"
(1)
، - قال ابن تيمية:"وهذا غير واجب في العمل، بل العنعنة مع إمكان اللقاء ما لم يعلم أن الراوي يدلس .... "
(2)
.
ويعقوب بن سلمة ووالده كلاهما غير معروف
(3)
، فلم يتوافر شرط الثقة، ولا العلم بالمعاصرة.
ولما ذكر المزي قول البخاري في إسناد حديث من رواية سالم بن أبي الجعد، عن نبيط، عن جابان، عن عبدالله بن عمرو بن العاص، - وقد روي أيضاً بإسقاط نبيط -:"لا يعرف لجابان سماع من عبدالله بن عمرو، ولا لسالم من جابان، ولا من نبيط"
(4)
- عقبه بقوله: "وهذه طريقة قد سلكها البخاري في مواضع كثيرة، وعلل بها كثيراً من الأحاديث الصحيحة، وليست هذه علة قادحة، وقد أحسن مسلم وأجاد في الرد على من ذهب هذا المذهب في مقدمة كتابه بما فيه كفاية، وبالله التوفيق"
(5)
.
كذا قال المزي، مع أن هذا الإسناد منقطع على رأي الجميع، فجابان،
(1)
. "التاريخ الكبير" 4: 76.
(2)
. "شرح العمدة"(الطهارة) ص 171، والنقط من عندي، فإن الكلام لم يتم، وربما كان الساقط كلمة (متصلة) أو نحوها.
(3)
. ينظر "ثقات ابن حبان" 4: 317، و"ميزان الاعتدال" 4: 452، و"الكاشف" 3: 291، و"تهذيب التهذيب" 4: 162، 11:388.
(4)
. "التاريخ الكبير" 2: 257.
(5)
. "تهذيب الكمال" 4: 433.
ونبيط غير معروفين
(1)
، فلم يتوافر شرط الثقة، ولا العلم بالمعاصرة.
وذكر العلائي قول أبي زرعة في حميد بن عبد الرحمن بن عوف: "حديثه عن أبي بكر، وعلي - مرسل "
(2)
، ثم قال العلائي:"قد سمع من أبيه، وعثمان رضي الله عنهما، فكيف يكون عن علي مرسلاً وهو معه بالمدينة؟ "
(3)
.
وسماع حميد من أبيه، ومن خاله عثمان فيه خلاف كبير، ومن يثبته لا ينكر أنه كان صغيراً حين وفاتهما
(4)
، وقد جاء تصريحه بالسماع منهما، فلا ينقل هذا إلى سماعه من علي، وليس بينه وبينه قرابة، فالإمكان الحديثي غير موجود هنا، فلابد من التصريح بالتحديث على جميع الآراء.
ومثل ما تقدم صنيع ابن التركماني في بعض تعقباته على البيهقي، فعند قول البيهقي:"علي بن رباح لم يثبت سماعه من ابن مسعود"
(5)
- قال ابن التركماني: "قدمنا أن مسلماً أنكر في ثبوت الاتصال اشتراط السماع، وادعى اتفاق أهل العلم على أنه يكفي إمكان اللقاء والسماع، وعلي هذا ولد سنة خمس عشرة، كذا ذكره أبوسعيد بن يونس، فسماعه من ابن مسعود ممكن بلا شك، لأن ابن
(1)
. انظر: "تهذيب التهذيب" 2: 37، 10:418.
(2)
. "المراسيل" ص 49.
(3)
. "جامع التحصيل" ص 202.
(4)
. "تهذيب التهذيب" 3: 45، و"التابعون الثقات المتكلم في سماعهم من الصحابة" رسالة ماجستير ص 378.
(5)
. "سنن البيهقي" 1: 110.
مسعود توفي سنة اثنتين وثلاثين، وقيل: سنة ثلاث وثلاثين"
(1)
.
كذا قال، ورواية علي بن رباح عن ابن مسعود منقطعة حتى على مذهب مسلم، فاللقاء بعيد جداً، لأن علياً مصري، وابن مسعود مات بالمدينة، وقيل: بالكوفة
(2)
، وكان عمر علي سبع عشرة سنة، أو ثماني عشرة سنة، وقد روى عنه ابنه موسى أنه قال:"كنت خلف معلمي (وفي رواية: مع عمي مسلم بالشام) فبكى، فقلت له: ما لك؟ فقال: قتل عثمان"
(3)
، فمثل هذا لا يحتمل لقاؤه لابن مسعود.
ومثله تعقب ابن التركماني للبيهقي لما قال عن إسناد حديث من طريق عمرو بن دينار، عن أبي هريرة:"هو منقطع بين عمرو بن دينار، وأبي هريرة"
(4)
.
قال ابن التركماني: "ولد عمرو سنة ست وأربعين، فسماعه منه ممكن"
(5)
.
وأبوهريرة مدني، وعمرو مكي، كان له من العمر حين وفاة أبي هريرة نحو اثنتي عشرة سنة، لأن أباهريرة مات سنة سبع، أو ثمان، أو تسع
(1)
. "الجوهر النقي" 1: 110.
(2)
. "تهذيب الكمال" 16: 126.
(3)
. "تهذيب الكمال" 20: 428.
(4)
. "سنن البيهقي" 6: 40، وانظر:"المراسيل" ص 144، و"الجرح والتعديل" 6: 231، فقد نقل ابن أبي حاتم عن أبي زرعة أنه لم يسمع منه.
(5)
. "الجوهر النقي" 6: 40.
وخمسين
(1)
، فالإمكان الحديثي الذي يعنيه مسلم غير موجود هنا.
ومن التساهل أيضاً ما رجحه ابن حجر في رواية التابعي عن الصحابي الذي لم يُسَمَّ بالعنعنة، كأن يقول: عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أو عمن سمع النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه اختار الحكم بالاتصال
(2)
.
وكذا أشار الشيخ عبدالرحمن المعلمي إلى إمكانية ترجيح هذا القول، لكنه عاد فذكر أن عنده فيه توقفاً
(3)
.
وغير خافٍ أن شرط العلم بالمعاصرة هنا مفقود، ويلزم منه أيضاً فقد إمكان اللقاء، فهو منقطع على جميع الآراء
(4)
.
ومن ذلك قول أحمد شاكر في رده لقول أبي زرعة: " عكرمة، عن علي - مرسل"
(5)
، قال أحمد شاكر: "وهذا قول هو دعوى، والعبرة في صحة الرواية - بعد الثقة والضبط - بالمعاصرة، وعكرمة أهداه سيده حصين بن أبي الحر العنبري لابن عباس حين ولاه علي البصرة، وعلي أمَّر ابن عباس على البصرة سنة 36
…
، فقد عاصر عكرمة علياً أربع سنين أو أكثر مملوكاً لابن عباس ابن عم علي، ثم قد كان يافعاً إذ ذاك، فإنه مات على الراجح سنة 105، عن ثمانين
(1)
. "تهذيب الكمال" 34: 378.
(2)
. "النكت على كتاب ابن الصلاح" 2: 562.
(3)
. "النكت على كتاب ابن الصلاح" 2: 562.
(4)
. وانظر: "التقييد والإيضاح" للعراقي ص 74، و "موقف الإمامين" ص 324.
(5)
. "المراسيل" ص 158.
سنة، كما قالت ابنته، فكان عمره حين مقتل علي 15 سنة"
(1)
.
كذا قال أحمد شاكر، ورواية عكرمة - على ما حرره أحمد شاكر - منقطعة على جميع الآراء، فإن لقاءه لعلي رضي الله عنه غير ممكن، والدلالة البينة قد قامت على أنه لم يسمع منه لو كانا في بلد واحد، وذلك لصغر سنه، فكيف وهذا بالبصرة ثم بالمدينة، وعلي بالكوفة؟
(2)
.
ومنه أيضاً قول أحد المشايخ المعاصرين في كلام له على حديث من رواية بسر بن سعيد، عن عثمان، وقد نقل قول أبي حاتم:"بسر بن سعيد عن عثمان: مرسل"
(3)
، فقال بعد علامة التعجب:"مع أن بسر بن سعيد كان له من العمر عند ما قتل عثمان شهيداً ثلاث عشرة سنة".
ومثل هذا يوجد كثيراً في نقد الباحثين المعاصرين، بل وفي كلام الأئمة المتأخرين، وهو تساهل غير مرضي، وهو أحد الأبواب التي ضعف جداً عن طريقها نقد السنة النبوية.
المسألة الرابعة: اختيار رأي من الآراء، وترجيح مذهب على آخر - يقتضي من فاعله التزام هذا المذهب وتطبيقه، وهو أمر لا جدال فيه، لكني أنبّه هنا إلى دقة هذه المسألة، وضرورة تحاشي الباحث - ما أمكنه - تجنب الاضطراب فيها، من جهة التنظير أو التطبيق، أو كليهما.
(1)
. "مسند أحمد" تحقيق أحمد شاكر 1: 317.
(2)
. وانظر مثالاً آخر من صنيع أحمد شاكر في تعليقه على "مسند أحمد" 3: 127 - 128.
(3)
. "علل ابن أبي حاتم" 1: 55.
وقد دعاني إلى هذا التنبيه ما رأيته من بعض الأئمة المتأخرين، وبعض الباحثين من التذبذب في ترجيح أو تطبيق أحد المذهبين، وسأذكر هنا بعض النماذج على سبيل التمثيل.
فمن ذلك أن ابن الصلاح قد رد قول مسلم فقال في كتابه "صيانة صحيح مسلم": "والذي صار إليه مسلم هو المستنكر، وما أنكره قد قيل: إنه القول الذي عليه أئمة هذا العلم
…
"
(1)
.
لكنه عند كلامه على حديث عائشة: ((أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم))، الذي ذكره مسلم في المقدمة معلقاً عنها بلفظ: وقد ذكر عن عائشة رضي الله عنها، عند هذا الحديث ذكر ابن الصلاح أن أباداود أخرجه من طريق ميمون بن أبي شبيب، عن عائشة، وأنه ذكر بعد تخريجه له أن ميموناً لم يدرك عائشة
(2)
، ثم تعقبه ابن الصلاح بقوله:"وفيما قاله أبوداود توقف ونظر، فإنه كوفي متقدم، قد أدرك المغيرة بن شعبة، ومات المغيرة قبل عائشة، وعند مسلم التعاصر مع إمكان التلاقي كافٍ في ثبوت الإدراك، فلو ورد عن ميمون أنه قال: لم ألق عائشة استقام لأبي داود الجزم بعدم إدراكه، وهيهات ذلك"
(3)
.
كذا صنع ابن الصلاح، وأبوداود إنما جزم بذلك تمشياً مع مذهبه في ضرورة ثبوت اللقاء والسماع، ولا سيما مع قرينة اختلاف البلدان، وهو القول
(1)
. "صيانة صحيح مسلم" ص 128.
(2)
. "سنن أبي داود" حديث (4842).
(3)
. "صيانة صحيح مسلم" ص 84.
الذي رجحه ابن الصلاح أولاً.
ولم ينفرد أبو داود بذلك، بل نفى سماعه أيضاً أبو حاتم
(1)
، وقال عمرو بن علي الفلاس في ميمون: "كان يحدث عن أصحاب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم .... ، وليس عندنا في شيء منه يقول: سمعت، ولم أخبر أن أحداً يزعم أنه سمع من أصحاب
النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم "
(2)
.
ومن ذلك أن العلائي وهو ممن رد على مسلم قوله وناقشه فيه
(3)
، لكنه رجح سماع حميد بن عبدالرحمن بن عوف من علي على رأي مسلم، كما تقدم آنفاً في المسألة الثالثة.
وذكر قول ابن المديني في قيس بن أبي حازم: " لم يسمع من أبي الدرداء، ولا من سلمان، وروى عن بلال ولم يلقه، وروى عن عقبة بن عامر، ولا أدري سمع منه أم لا "
(4)
، ثم قال:"في هذا القول نظر، فإن قيساً لم يكن مدلساً، وقد ورد المدينة عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة بها مجتمعون، فإذا روى عن أحد الظاهر سماعه منه"
(5)
.
ولا شك أن هذا تطبيق لرأي مسلم، فإن قيساً وإن كانت هذه صفته فإنما يثبت الأئمة سماعه من صحابي إذا ورد ذلك صريحاً، كما تقدم نقل ذلك عن ابن
(1)
. "المراسيل" ص 214.
(2)
. "تهذيب الكمال" 29: 207.
(3)
. "جامع التحصيل " ص 134 - 141، 145.
(4)
. "علل ابن المديني" ص 50.
(5)
. "جامع التحصيل" ص 316.
المديني في أول هذا المبحث.
وممن رجح مذهب جمهور الأئمة أيضاً من المتأخرين: ابن حجر، لكنه في مسألة رواية التابعي عن صحابي غير مسمى بالعنعنة اختار ترجيح الحكم بالاتصال، كما تقدم ذكره آنفاً، وقد علق على ذلك المعلمي بقوله:"والعجب من الحافظ رحمه الله كيف مشى معهم في ترجيح رد عنعنة من علمت معاصرته دون لقائه، مع أنها قد تقوم القرائن على اللقاء، وتوقف عن ردها - بل احتج لقبولها - في حق من لم يعلم معاصرته أصلاً، وكان العكس أقرب كما هو واضح"
(1)
.
وهذا التردد من بعض الأئمة يجعل الباحث ينسب القول إلى الإمام مع خوفه من أن يكون مال إلى القول الآخر أو طبقه في مكان آخر، وهذا وإن كان غير مستنكر في مسائل كثيرة، لكنه في هذه المسألة ظاهر جداً، لاسيما في وجود فرق بين التنظير والتطبيق، فقد قال ابن رجب عن قول مسلم:"وكثير من العلماء المتأخرين على ما قاله مسلم رحمه الله من أن إمكان اللقي كافٍ في الاتصال من الثقة غير المدلس، وهو ظاهر كلام ابن حبان وغيره"
(2)
.
وما ذكره ابن رجب يحتمل أن يكون أخذه استقراء من صنيع ابن حبان في "صحيحه"، لكن لابن حبان كلام قوي جداً في اشتراط العلم بالسماع، كرره في كتابه " الثقات "
(3)
.
(1)
. "عمارة القبور" ص 251.
(2)
. "شرح علل الترمذي" 2: 588.
(3)
. "الثقات " 1: 11، 6: 2، 9:209.
وأوسع ما يكون التناقض في هذه المسألة - مع خفاء فيه - أن يلفق الباحث بين القولين عند التطبيق، وذلك بأن يبحث عن كلام الأئمة في سماع راوٍ من آخر، فإذا وجد قولاً لإمام بنفي السماع أعمله، وإن لم يجد لجأ إلى قول مسلم فطبقه، مع أن نفي الإمام للسماع قد يكون بناه على عدم وجود السماع، فهو متصل على رأي مسلم، وتطبيقه لرأي مسلم فيما إذا لم يجد نفياً للسماع يناقض أخذه بقول ذلك الإمام الذي نفى السماع لكونه لم يرد، مع أنه ممكن.
ومع أن هذا الصنيع أسلم في النهاية، إذ هو تطبيق للرأي الراجح - رأي الجمهور - على عدد غير قليل من الروايات، وفيه أيضاً احترام لأقوال أئمة النقد، وتسليم لهم، وبعد عن معارضتهم - إلا أنه من الناحية العلمية البحتة تناقض، لا ينفك عنه الباحث إلا بطرد الرأي الذي يختاره، فإن طبق مذهب الجمهور، وبحث عن كلامهم، وسلم لهم إذا وجده، فعليه أن يلتزمه فيما إذا لم يجد لهم كلاماً، وذلك بحمل الرواية على عدم الاتصال حتى يثبت السماع، وإن اختار رأي مسلم ومن وافقه فعليه دراسة كل حالة على حدة، بعيداً عن أقوال الأئمة فيها، فإن تبيّن له أنها متصلة على هذا الرأي فعليه التزام ذلك.
وقد فعل مسلم ذلك حين أخرج أسانيد لم يرد فيها السماع، وقد نفاها إمام أو أكثر ممن سبقه
(1)
، ويفعله أيضاً بعض من تابعه على رأيه، كابن دقيق العيد حين ذكر قول أحمد، وموسى بن هارون في عدم سماع عراك من عائشة، ثم قال: "وقد ذكروا سماع عراك من أبي هريرة ولم ينكروه، وأبوهريرة توفي هو وعائشة
(1)
. انظر: "موقف الإمامين" ص 435 - 460.
في سنة واحدة، فلا يبعد سماعه من عائشة مع كونهما في بلدة واحدة"
(1)
.
وعلق على قول الدارقطني: "أبورافع لم يثبت سماعه من ابن مسعود"
(2)
بقوله: "لا ينبغي أن يفهم منه أنه لا يمكن إدراكه وسماعه منه، فإن أبارافع جاهلي إسلامي
…
، ومن كان بهذه المثابة فلا يمتنع سماعه من جميع الصحابة، اللهم إلا أن يكون الدارقطني يشترط في الاتصال ثبوت السماع ولو مرة، وقد أطنب مسلم في الكلام على هذا المذهب"
(3)
.
ومثله صنيع ابن التركماني في تعقباته على البيهقي، فإنه يحتج على نفي السماع أو عدم ثبوته بإمكان اللقاء، ويصرح بأنه مذهب مسلم
(4)
.
ولما ذكر الشيخ أحمد شاكر قول أبي زرعة: "عمرو بن شرحبيل أبوميسرة، عن عمر: مرسل"
(5)
- تعقبه بقوله: "وقول أبي زرعة إن أباميسرة لم يسمع من عمر لا أجد له وجهاً، فإن أباميسرة لم يذكر بتدليس، وهو تابعي قديم مخضرم، مات سنة 63 هـ-"
(6)
.
وذكر أحمد شاكر أيضاً قول ابن المديني في عطاء بن فروخ: "لم يلق عثمان
(1)
. "نصب الراية" للزيلعي 2: 106.
(2)
. "سنن الدارقطني" 1: 77، و"العلل" 5:346.
(3)
. "نصب الراية" للزيلعي 2: 141.
(4)
. انظر: "الجوهر النقي" 1: 9، 110، 6: 40، 7: 118، 438.
(5)
. "المراسيل" ص 143.
(6)
. "مسند أحمد" تحقيق أحمد شاكر 1: 317.
- رضي الله عنه"
(1)
، فتعقبه بقوله:"ولم أجد ما يؤيد هذا"
(2)
.
وخصص الباحث الأخ مبارك بن سيف الهاجري رسالتيه في الماجستير، والدكتوراه، للثقات من التابعين الذين تكلم في سماعهم من الصحابة، ولهم رواية في الكتب الستة، لكنه لطول الموضوع وقف عنه، وقد مشى في الرسالتين على مذهب مسلم في الجملة، في عدم اشتراط العلم بالسماع، والتزمه.
وهكذا فإن من يرجح رأياً أو يقول بقول فعليه أن يكون مدركاً لما يترتب عليه من تبعات، وما ينبغي عليه أن يلتزمه من أجله.
ومن جهة ثانية فإن وقوف الباحث على ما يظنه تناقضاً ينبغي أن يتأمله كثيراً قبل إطلاق هذا الحكم عليه، فقد لا يكون كذلك بعد التأمل والنظر.
ومن أمثلة ذلك أنني كدت أرمي الإمام النووي بالتناقض في هذه المسألة، تقليداً لأحد الباحثين، فقد ذكر الباحث النووي فيمن اختار رأي ابن المديني والبخاري وجمهور المتقدمين، ونقل عنه قوله في "شرح صحيح مسلم":"وهذا الذي صار إليه مسلم قد أنكره المحققون، وقالوا: هذا الذي صار إليه ضعيف، والذي رده هو المختار الصحيح الذي عليه أئمة هذا الفن: علي بن المديني، والبخاري، وغيرهما"
(3)
، وأحال أيضاً إلى كتاب آخر للنووي وهو "التقريب"، وذكر أن النووي عزاه للمحققين.
(1)
. "مسند أحمد" تحقيق أحمد شاكر 1: 317.
(2)
. "مسند أحمد" تحقيق أحمد شاكر 1: 335.
(3)
. "شرح صحيح مسلم" 1: 128.
وهذا كله لا إشكال فيه، لكن الباحث عاد مرة أخرى في ذكره للعلماء الذي تابعوا مسلماً على رأيه فنقل عن النووي قوله في "التقريب":"والصحيح الذي عليه العمل وقاله الجماهير من أصحاب الحديث والفقه والأصول أنه متصل، بشرط أن لا يكون المعنعن مدلساً، وبشرط إمكان لقاء بعضهم بعضاً".
ولا شك أن كلام النووي في هذا النص يوهم تناقضه مع ما قاله في "شرح مسلم"، ولكن بعد التأمل تبين لي أن رأيه في الكتابين واحد لا اختلاف فيه، وهو ترجيحه القول بعدم الاتصال، وأما ما نقله الباحث من "التقريب" فهو ناقص، وغرض النووي منه الرد على من ذهب إلى عدم قبول العنعنة مطلقاً، واشترط التصريح بالتحديث دائماً، فبين النووي أن جماهير العلماء على قبول العنعنة، وأنهم اتفقوا على اشتراط بعض الشروط، وهما الشرطان اللذان في النص السابق، ثم ذكر بعد ذلك من اكتفى بهما، ومن زاد عليهما، ونسب اشتراط ثبوت اللقاء إلى البخاري، وابن المديني، والمحققين.
وهذا نص النووي تاماً ليتضح منه عدم التناقض بين كلاميه: "الإسناد المعنعن - وهو فلان عن فلان - قيل: إنه مرسل، والصحيح الذي عليه العمل وقاله الجماهير من أصحاب الحديث والفقه والأصول أنه متصل، بشرط أن لا يكون المعنعن مدلساً، وبشرط إمكان لقاء بعضهم بعضاً، وفي اشتراط ثبوت اللقاء، وطول الصحبة، ومعرفته بالرواية عنه - خلاف، منهم من لم يشترط شيئاً من ذلك، وهو مذهب مسلم بن الحجاج، وادعى الإجماع فيه، ومنهم من شرط اللقاء وحده، وهو قول البخاري، وابن المديني، والمحققين
…
"
(1)
.
(1)
. "التقريب" 1: 214، وانظر أيضاً:"إرشاد طلاب الحقائق" ص 86.
وذكر الباحث أيضاً عن ابن جماعة في "المنهل الروي"
(1)
، والطيبي في "الخلاصة"
(2)
أنهما رجحا مذهب مسلم، ونقل عنهما نحو عبارة النووي التي نقلها من "التقريب"، ويقال فيهما ما تقدم عن النووي، بأن الأمر ليس كذلك، وإنما غرضهما حكاية مذهب الجماهير في قبول الإسناد المعنعن بشروط، رداً على من عده مرسلاً بإطلاق، وإن كان الثاني لم يذكر من زاد على الشرطين المجمع عليهما.
ثم إنهم نصوا جميعاً على أنه قد أودعه البخاري ومسلم وغيرهما ممن ألف في الصحيح كتبهم، مع أن الذي يكتفي بإمكان اللقاء هو مسلم وحده، وقد نسبه إليه في نفس الموضع النووي وابن جماعة، فدل هذا على أن حديثهم في الرد على من حكم على كل معنعن بأنه غير متصل.
وأصل الكلام لابن الصلاح، فالثلاثة اختصروا كتابه، إلا أن عبارته كما في المطبوع:"وهذا بشرط أن يكون الذين أضيفت العنعنة إليهم قد ثبتت ملاقاة بعضهم بعضاً، مع براءتهم من وصمة التدليس"
(3)
.
فإما أن يكون الثلاثة ينقلون من نسخة أخرى لابن الصلاح، فيها التعبير بالإمكان بدل الثبوت، ويكون غرضه حينئذٍ النص على ما هو مجمع عليه من الشروط، ثم ذكر الاختلاف فيما زاد عليه، وإما أن يكون التغيير في العبارة من المختصرين، وذلك لأنهم ذكروا الاختلاف فيما زاد على الإمكان في نفس
(1)
. "المنهل الروي " ص 48.
(2)
. "الخلاصة " ص 50.
(3)
. "الخلاصة " ص 50.
الموضع، وكان ابن الصلاح قد فصله عن الكلام في أصل الإسناد المعنعن
(1)
.
والباحث حين وقع في هذا لا شك أنه معذور، فإن المسألة برمتها من دقائق العلم، ويزداد الأمر دقة في جمع الأئمة بين الكلام في أصل قبول العنعنة، وبين الكلام في الإسناد المعنعن بين متعاصرين لم يعلم اللقاء بينهما.
(1)
. "مقدمة ابن الصلاح" ص 152، 157.