الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس
تعليل الإسناد بتدليس غير مدلس
ربما تشتد نكارة الحديث، فيحتاج الباحث إلى الطعن في الإسناد بأمور خفية، وفيما يتعلق بالتدليس، عليه أن يستحضر إذا واجهه مثل هذا ما تقدم في المبحث الأول من الفصل الأول عن بعض الأئمة كشعبة بن الحجاج من توقفهم في الإسناد غير المصرح فيه بالتحديث، وإن لم يكن الراوي مدلساً.
ويستحضر كذلك ما نقل عن بعض الأئمة من ارتكاب جمع كثير من الرواة للتدليس دون تحديد، كقول شعبة:"ما رأيت أحداً إلا وهو يدلس، إلا عمرو بن مرة، وابن عون"
(1)
، وقول يزيد بن هارون:"قدمت الكوفة فما رأيت بها أحداً إلا وهو يدلس، إلا مسعر بن كدام، وشريكاً"
(2)
.
وقد تقدم في المبحث الثاني من هذا الفصل أن التدليس والإرسال ربما لجأ إليهما الراوي لعارض، كالمذاكرة، وأن النقاد يرمون الراوي بالتدليس دفاعاً عنه، لئلا يتحمل عهدة ما رواه من أحاديث منكرة، وأن معرفتنا بكون الراوي مدلساً إنما هو بحسب وقوفنا على كلام النقاد، وقد فات الذين جمعوا من رمي بالتدليس جماعة من الرواة، وأن صورة التدليس قد تقع من الراوي دون أن يقصده.
وبناء على ما تقدم فقد يلجأ الباحث إلى تضعيف الإسناد باحتمال وقوع
(1)
"التمهيد" 1: 34.
(2)
"الكفاية" ص 361.
التدليس فيه، وإن لم يكن في رواته من وقف عليه أنه رمي بالتدليس، ولا غرابة في ذلك، فكما منع الباحث من الطعن في الإسناد بالتدليس ـ مع وجود مدلس فيه، كأن يكون نادر التدليس، والمتن والإسناد لا نكارة فيهما، ونحو ذلك ـ يطالب الباحث بالتضعيف بالتدليس، وإن لم يكن فيه مدلساً، متى ألجأت الضرورة لذلك.
والباحث إذا صنع ذلك إنما يقتدي بأئمة النقد، فقد فعلوا ذلك كثيراً.
فمن أمثلة تعليل النقاد بالتدليس والراوي لم يوصف بذلك أن النقاد ضعفوا رواية معمر بن راشد، عن ثابت البناني، وأشاروا إلى أن فيها غرائب مناكير، وتقدمت نصوصهم فيها في الفصل الثاني من "الجرح والتعديل".
وسئل أحمد عن حديث منها، وهو ما رواه معمر، عن أبان، وثابت وغير واحد، عن أنس مرفوعاً:"لا شغار في الإسلام"
(1)
، فقال:"هذا عمل أبان - يعني أنه حديث أبان -، وإنما معمر - يعني لعله دلسه -"
(2)
.
ومراد أحمد أن الحديث يرويه معمر عن أبان، وهو حديثه، وهو متروك الحديث، وأما روايته للحديث عن ثابت فالظاهر أنه لم يسمعه منه، وإنما دلسه عنه.
وقال البرذعي: "قال لي أبو زرعة: خالد بن يزيد المصري، وسعيد بن أبي هلال صدوقان، وربما وقع في قلبي من حسن حديثهما، قال أبو حاتم: أخاف أن يكون بعضها مراسيل، عن ابن أبي فروة، وابن سمعان "
(3)
.
(1)
. "مسند أحمد" 3: 165، و"مصنف عبدالرزاق" حديث (10434).
(2)
. "شرح علل الترمذي" 2: 865.
(3)
. "أسئلة البرذعي لأبي زرعة" ص 361، و"شرح علل الترمذي" 2: 867، وفيه:"وقال لي أبو حاتم".
فقد استنكر أبو زرعة بعض ما يحدث به هذان، مع كونهما صدوقين، فاضطر أبو حاتم إلى رميهما بالتدليس - وإن لم يكونا معروفين به - عن رواة متروكين، قال ابن رجب معلقاً على هذا النص:"ومعنى ذلك أنه عرض حديثهما على حديث ابن أبي فروة، وابن سمعان، فوجده يشبهه، ولا يشبه حديث الثقات الذين يحدثان عنهم، فخاف أن يكونا أخذا حديث ابن أبي فروة، وابن سمعان، ودلسا عن شيوخهما"
(1)
.
وروى عبدالله بن صالح كاتب الليث بن سعد، عن معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي أمامة مرفوعاً: "عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم
…
"
(2)
.
قال ابن أبي حاتم: "سمعت أبي وذكر حديثاً رواه معاوية بن صالح
…
، قال أبي: هو حديث منكر، لم يروه غير معاوية، وأظنه من حديث محمد بن سعيد الشامي الأزدي، فإنه يروي هذا هو بإسناد آخر"
(3)
.
ومحمد بن سعيد هذا هو المعروف بالمصلوب، وهو وضاع للحديث مشهور
(4)
، وقد روى هذا الحديث بإسناد آخر ـ كما قال أبوحاتم ـ، فرواه عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن بلال به مرفوعاً
(5)
.
(1)
. "شرح علل الترمذي" 2: 867.
(2)
"صحيح ابن خزيمة" حديث (1135)، و"المعجم الكبير" حديث (7466)، و"المستدرك" 1: 308، و"سنن البيهقي" 2:502.
(3)
"علل الحديث" 1: 125.
(4)
"تهذيب التهذيب" 9: 184.
(5)
"سنن الترمذي" حديث (3549).
ومعاوية بن صالح لم يوصف بالتدليس، وإنما كان يغرب بحديث أهل الشام جداً، وقد روى عنه عبدالله بن صالح مائتي حديث غريب
(1)
، فرجح أبوحاتم أن يكون قد سقط من الإسناد محمد بن سعيد المصلوب، إما خطأ، أو عمداً، وقد يكون سقط معه غيره، ويحتمل أن يكون هذا من قبل عبدالله بن صالح الراوي عنه، فهو متكلم فيه أيضاً، وقد ذكر ابن عدي هذا الحديث في ترجمته
(2)
.
وقال ابن أبي حاتم: "سألت أبي عن حديث رواه أبو بكر بن أبي عتاب الأعين، عن أبي صالح، عن الليث، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من مضر وبني تميم، فقيل: من هو يا رسول الله؟ قال: "أويس القرني".
قال أبي: هذا الحديث ليس هو في كتاب أبي صالح، عن الليث، نظرت في أصل الليث وليس فيه هذا الحديث، ولم يذكر أيضاً الليث في هذا الحديث خبراً، ويحتمل أن يكون سمعه من غير ثقة، ودلسه، ولم يروه غير أبي صالح "
(3)
.
قال أبو حاتم هذا مع أن الليث بن سعد من أثبت الناس في سعيد المقبري
(4)
، ولم يوصف بالتدليس.
وروى الأوزاعي، عن محمد بن الوليد الزبيدي، عن سعيد المقبري، عن
(1)
"تهذيب التهذيب" 10: 211.
(2)
"الكامل" 4: 1524.
(3)
" علل الحديث " 2: 353.
(4)
" شرح علل الترمذي" 2: 670.
القعقاع بن حكيم، عن عائشة حديث وطء الأذى بالنعل
(1)
.
والحديث مشهور لعبد الله بن زياد بن سمعان، عن سعيد المقبري، وهو متروك الحديث، وقد اختلف عليه فيه
(2)
، فقال العقيلي في نقد طريق الزبيدي:"لعل الزبيدي أخذه عن ابن سمعان"
(3)
.
وروى جرير بن حازم، عن عبدالله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس:"أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى في بدنه بعيراً كان لأبي جهل، في أنفه بُرَّة من فضة"
(4)
.
والحديث معروف بابن إسحاق، عن ابن أبي نجيح، ولذا قال البيهقي في نقد رواية جرير بن حازم:"هذا إسناد صحيح، إلا أنهم يرون أن جرير بن حازم أخذه من محمد بن إسحاق ثم دلسه، فإن بين فيه سماع جرير من ابن أبي نجيح صار الحديث صحيحاً، والله أعلم"
(5)
.
وابن إسحاق قد دلسه أيضاً على ابن أبي نجيح، وإن كان قد جاء عنه التصريح بالتحديث، لكنه خطأ عليه، وقد تقدم هذا في المبحث الرابع.
وروى الحسن بن الربيع، عن عبد ربه بن نافع أبي شهاب الحناط، عن
(1)
. "سنن أبي داود" حديث (387)، و"الضعفاء الكبير" 2: 257، و"سنن البيهقي" 2:430.
(2)
. "مصنف عبدالرزاق" حديث (104)، و"مسند أبي يعلى"(4869)، و"الضعفاء الكبير" 2: 256، و"المعجم الأوسط" حديث (2759)، و"الكامل" 4:1445.
(3)
. "الضعفاء الكبير" 2: 257، وانظر مثالاً آخر للعقيلي في 2:11.
(4)
. "مسند أحمد" 2: 273، و"سنن البيهقي" 5:230.
(5)
. "سنن البيهقي" 5: 230.
عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي، عن جرير بن عبدالله مرفوعاً: " تبنى مدينة بين دجلة ودجيل
…
"، وهو حديث موضوع، وظاهر إسناده القوة، فقال الخطيب في نقده: "أحسب أنه وقع إليه (يعني إلى أبي شهاب) حديث عاصم، من جهة عمار بن سيف، أو سيف بن محمد، أو محمد بن جابر، فرواه عن عاصم مرسلاً، لأن الحسن بن الربيع لم يذكر عنه الخبر فيه، والله أعلم"
(1)
.
وعبد ربه بن نافع لم يوصف بالتدليس، وهو يروي عن عاصم الأحول، لكن الحديث موضوع، فلجأ الخطيب إلى رميه بأنه ارتكب التدليس في هذا الحديث
(2)
.
وأعيد ما ذكرته آنفاً من أن الرمي بالتدليس عند ترجيح وقوعه لأمر ظاهر لا ينبغي أن يقصر على المدلسين، وهو أمر في غاية الأهمية، ومن المواضع التي يحس فيها الناقد بذوق هذا الفن، ويبتعد فيه عن الاكتفاء بظواهر الأمور.
وقد يقول قائل: هذا الموضوع لا جديد فيه، لأن الناقد المتقدم إذا ضعف حديثاً بتدليس معنعن فهذا هو وصفه بالتدليس، ويكون الراوي مدلساً، فيعود الأمر إلى التعليل بتدليس مدلس، وليس بوقوع التدليس من غير المدلس.
والجواب: أن من لم يعرف بالتدليس إذا عنعن، وظهر للناقد أن الحديث خطأ، ولجأ إلى تعليله بتدليس الراوي، فإنه يفعل ذلك التماساً لعلة يسقط بها الحديث، وهو يفعل ذلك مع تردده في وقوع التدليس، لاحتمال أن يكون وقع
(1)
"تاريخ بغداد 1: 36، وانظر: " العلل ومعرفة الرجال " 2: 50.
(2)
"تهذيب التهذيب" 6: 128.
منه خطأ ولم يقصده، أو وقع الإسقاط ممن بعده، ونحو ذلك، ولهذا يقول الناقد: لعله دلسه، أو لعله أخذه من فلان، أو أظنه، كما تقدم في كلام أحمد، وأبي حاتم، والعقيلي، فلا يكون هذا وصفاً للراوي بالتدليس، وإن أعل به بعض حديثه.
ومما يتضح به ما تقدم أيضاً ما رواه مهنا، قال:" سألت أحمد عن حديث رواه أبو قتادة الحراني، عن الأوزاعي، عن مكحول: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بترس فيه تمثال عقاب، فوضع يده عليه فأذهبه الله"، قال أبو قتادة: فقلت للأوزاعي: أسمعته منه؟ قال: أو رجل عنه، فقال: (يعني أحمد): ليس بصحيح عن مكحول، قلت: أتراه من قبل الأوزاعي؟ قال: ينبغي، قلت: تراه دلسه عليه؟ قال: لا أدري، بعضهم يقول: الأوزاعي، عن خصيف، وبعضهم يقول: الأوزاعي، عن عبدالرحمن بن القاسم، عن أبيه، وليس هو صحيحاً"
(1)
.
(1)
" المنتخب من علل الخلال" ص 174.