الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
التدليس وصورة التدليس
تحرر في المبحث السابق أن التدليس عند جمهور أئمة النقد هو تحديث الراوي عمن عاصره ولم يسمع منه، أو تحديثه عمن سمع منه بشيء لم يسمعه منه.
ومن الملاحظ أن جماعة من الرواة وقع منهم مثل هذا فأطلق عليهم الأئمة المتقدمون وصف التدليس، وفي المقابل جاءت صورة التدليس عن رواة آخرين ولم يوقف على وصف لهم بذلك من أحد الأئمة، والسؤال هو:
هل يصح للمتأخر إذا وقف على راوٍ ورد عنه ارتكاب صورة التدليس وصفه بذلك، وإن لم يفعله المتقدمون
؟
فإن كان الجواب بالإيجاب فلا شك أن الغرض منه هو أن يأخذ هذا الراوي حكم المدلسين، وإن كان الجواب بالنفي فهل المقصود منع إطلاق التسمية فقط، مع أخذ الراوي حكم المدلسين، أو المنع منهما جميعاً؟
ظاهر صنيع جماعة من الأئمة المتأخرين يدل على أنهم يذهبون إلى أن العبرة
بورود صورة التدليس عن الراوي، وإن لم يوصف بذلك من أحد ممن تقدم،
فقد أطلقوا هذا الوصف على جماعة من الرواة غير مسبوقين بذلك، فمثلاً
وصف ابن الجوزي بشير بن زاذان بالتدليس
(1)
، وكذا وصف الذهبي أبا قلابة
(1)
"تعريف أهل التقديس" ص 138.
الجرمي
(1)
، وجبير بن نفير
(2)
، وخالد بن معدان بالتدليس
(3)
، ووصف الهيثمي بذلك شريح بن عبيد الحضرمي
(4)
، غير مسبوقين بذلك، بل إن أبا قلابة ـ بخصوصه قال فيه أبوحاتم:"لا يعرف له تدليس"
(5)
.
وعلى هذا مشى الحافظ ابن حجر حين جمع أسماء المدلسين في كتاب مستقل وهو "تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس"، إلا أنه توسع في ذلك فنحا منحى الجمع والاستقصاء، والتعلق بأدنى سبب، فبلغ عددهم في هذا الكتاب مائة واثنين وخمسين راوياً.
ذكر فيهم من رماه بالتدليس إمام أو أكثر من أئمة هذا الشأن المتقدمين، وهؤلاء لا إشكال فيهم، كما ذكر فيهم من وصفه بذلك أحد الأئمة المتأخرين، مثل من تقدم ذكرهم آنفاً.
وذكر فيهم أيضاً جماعة اعتمد في ذكرهم على مجيء صورة التدليس في رواياتهم، دون أن ينقل عن أحد وصفهم بذلك، مثل أيوب السختياني، ذكره لكونه عاصر أنساً ولم يسمع منه، ثم روى عنه بالعنعنة أحاديث، وكذلك ابنا عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: عبدالرحمن، وأبوعبيدة، بناءً على سماعهما
(1)
"ميزان الاعتدال" 2: 426.
(2)
"تذكرة الحفاظ" 1: 52.
(3)
"تذكرة الحفاظ" 1: 93.
(4)
"مجمع الزوائد" 1: 88.
(5)
"الجرح والتعديل" 5: 58.
من أبيهما شيئاً، وروايتهما عنه أحاديث أخر لم يسمعاها، مع أن في ثبوت سماعهما من أبيهما نظراً كبيراً.
وأكثر من ذلك أن ابن حجر أثبت في هذا الكتاب من وجدت منه صورة التدليس ولو في حديث واحد، مثل زيد بن أسلم، وحماد بن أبي سليمان، وخالد بن مهران الحذاء، وعبدالله بن عطاء الطائفي.
وذكر أيضاً من لم يثبت عنه التدليس كأبي داود الطيالسي، حتى أنه ذكر من هذا الضرب البخاري ومسلماً، لكنه دافع عنهم.
وأثبت فيهم من جَرَّب التدليس ثم رجع عنه، كيزيد بن هارون، فإنه قال:"ما دلست قط إلا حديثاً واحداً عن عوفٍ الأعرابي، فما بورك لي فيه"
(1)
.
وأثبت فيهم من يدلس تدليس الشيوخ فلا يسقط أحداً.
وما سار عليه ابن حجر في هذا الكتاب من أن الاكتفاء بوجود صورة التدليس في روايات الراوي كافٍ للحكم عليه بذلك ـ يوافق تعليله عدم وصف الجمهور للصحابة الذين وقع منهم ذلك بالتدليس، فإنه علل ذلك بأنه تأدب معهم
(2)
.
فكأنه يقرر أن هذا العمل تدليس، وحينئذٍ فما يوجد من الرواة بعدهم من باب أولى أنه تدليس، فما المانع من إطلاق الوصف حينئذٍ؟ .
(1)
"تهذيب الكمال" 32: 268.
(2)
"النكت على كتاب ابن الصلاح" 2: 623.
وبعد ابن حجر تبارى عدد من الباحثين في الاستدراك عليه، سائرين على منهجه، فاستدرك أحد الباحثين عليه ثمانين راوياً، لم يذكرهم في "تعريف أهل التقديس"، ومن الطريف في الأمر أنهم استدركوا الحافظ ابن حجر نفسه، فإنه قد وصف بتدليس الشيوخ.
وحجة هؤلاء الأئمة ومن تابعهم ظاهرة، خلاصتها أن العبرة بالمعاني لا بالألفاظ، فمتى وجدت صورة التدليس فهو تدليس، وكونه لم يرد عن أحد من المتقدمين لا تأثير له، مع احتمال أن يكونوا قد وصفوا بذلك ولم يبلغنا كلامهم.
ولا شك أن هذا التوسع في الوصف بالتدليس من هؤلاء الأئمة، لاسيما من الحافظ ابن حجر في كتابه هذا الذي أصبح مرجعاً معتمداً لدى كثير من المتكلمين في التصحيح والتضعيف، وما صاحب ذلك من تشديد في قبول رواية المدلس إذا لم يصرح بالتحديث، كما سيأتي شرحه في المبحث التالي ـ قد ولَّد ردة فعل قوية لدى باحثين آخرين، فصاروا يعيدون النظر في عمل من قبلهم، ويبرز في هذا الصدد رأيهم في هذه المسألة، إذ توارد عدد من الباحثين على القول بأن من لم يوصف بالتدليس من أحد من الأئمة ـ وإن وجد ذلك في رواياته ـ لا ينبغي أن يوصف بالتدليس، وعليه فلا يأخذ حكم المدلسين، قال أحد الباحثين بعد كلام له: "وعلى هذا فلا يرمى الراوي بالتدليس بمجرد الوقوف على ما يظن أنه دلَّسه
…
، والمعتمد في ذلك على كلام أئمة الجرح والتعديل، وأهل الشأن، هل وصموا هذا الراوي بالتدليس أم لا؟ كما هو الحال في التعديل والتجريح، والله أعلم".
وقال باحث آخر: "من لم يصفه أحد أئمة الجرح والتعديل بالتدليس فلا ينبغي أن يوصف بذلك، فإن بعض الرواة يقع فيما يروونه ما يتطابق مع تعريف التدليس، ولم نجد من الأئمة من وصفهم
…
، فلا يجوز لأحد أن يصف راوياً بالتدليس، إلا من وصفه الأئمة من أهل الحديث بالتدليس".
ومن العجيب أن ابن حجر ـ وهو الذي توسع جداً في حصر المدلسين كما تقدم آنفاً ـ هو السابق إلى هذه الفكرة، أعني قصر الوصف بالتدليس على من وصفه به الأئمة، فقد تصدى لجمعهم في كتاب آخر له وهو "النكت على كتاب ابن الصلاح"، فبلغ عددهم مائة واثني عشر رواياً، وقال بعد أن سردهم: "وكل من ذكر هنا فهو بحسب ما رأيت التصريح بوصفه بالتدليس من أئمة هذا الشأن، على التفصيل
…
"
(1)
.
ولكن لا يظهر لي أن غرضه من هذا ما ذهب إليه هؤلاء الباحثون، بدليل أنه قد نوَّهَ هنا بكتابه الأول "تعريف أهل التقديس".
ومع أن ابن حجر قد أسقط من جمعه الأخير عدداً من الرواة الذين ليسوا على شرطه وقد ذكرهم في الكتاب الأول، إلا أنه أبقى منهم أفراداً لا ينطبق عليهم شرطه، حسب ما ذكره في تراجمهم في الكتاب الأول، مثل أيوب السختياني، لم ينقل عن أحد وصفه بالتدليس، وإنما اعتمد في ذكره على روايته عن أنس وهو قد عاصره ولم يسمع منه، ومثل أبي قلابة الجرمي، إنما وصفه
(1)
"النكت على كتاب ابن الصلاح" 2: 636 - 651.
الذهبي بالتدليس، ولم يذكر ابن حجر أن أحداً من أئمة الجرح والتعديل وصفه بذلك، بل قال أبوحاتم ـ كما تقدم آنفاً ـ:"لا يعرف له تدليس"، وكذلك سالم ابن أبي الجعد، وعكرمة بن خالد، اعتمد ابن حجر في كتابه الأول على وصف الذهبي لهما بالتدليس.
فيحتمل أن يكون ابن حجر قد وقف بعد تأليفه للكتاب الأول على وصفهم بالتدليس من إمام من أئمة هذا الشأن، فأعادهم في الكتاب الثاني، فسالم بن أبي الجعد قد وصفه يعقوب الفسوي بالتدليس
(1)
، ويحتمل أنه أبقاهم سهواً.
فإن قيل: لعله قصد بأئمة هذا الشأن من تأخر أيضاً، فالجواب: أنه قد أسقط رواة آخرين وصفهم المتأخرون بالتدليس، كجبير بن نفير، وخالد بن معدان، وسعيد بن عبدالعزيز، ثم إن هذا التفسير لا ينفع في مثل أيوب السختياني، فإن ابن حجر لم يذكر أن أحداً وصفه بذلك، لا من المتقدمين ولا من المتأخرين.
وصنيعه هنا يشبه عمله في كتابه "التقريب"، فإن كثيراً ممن ذكرهم في "تعريف أهل التقديس" لم يصفه بالتدليس في "التقريب"، وربما وصف بعض الرواة فيه بالتدليس وهو قد أسقطهم من جمعه في "النكت"، مثل أيوب بن النجار، ليس هو على شرطه في "النكت"، فلذلك حذفه، لكنه وصفه في
(1)
"المعرفة والتاريخ" 3: 236.
"التقريب" بقوله: "ثقة مدلس"
(1)
، ووصف في "التقريب" أناساً بالتدليس لم يذكرهم في الكتابين، ولم يوصفوا بالتدليس من أحد من الأئمة، مثل عطاء بن أبي مسلم الخراساني
(2)
، وعثمان بن عاصم أبي حصين
(3)
.
وفي المقابل فإن ابن حجر قد نظر في بعض مؤلفات من سبقه في المدلسين، فجمع من ذكروه فيها، وزاد عليهم من كلام غيرهم ما وقف عليه، لكنه مع ذلك فاته رواة آخرون رماهم الأئمة بالتدليس، استدرك عليه بعض الباحثين رواة على شرطه، وقد فاتهم أيضاً رواة آخرون، ومن هؤلاء سعيد بن جبير، قال المروذي:"وذكر له التدليس - يعني لأحمد بن حنبل رحمه الله، فقال: قد دلس قوم - وذكر الأعمش -، وذكر له مجاهد، وسعيد بن جبير أنه يروى عنهما، فقال: نعم "
(4)
.
وجعفر بن حيان أبوالأشهب، قال أبوداود: "سمعت أحمد قال: أبوالأشهب كانوا يرون أنه يدلس عن الحسن
…
، زعموا كان يأخذ عن أصحاب الحسن، يعني عن الحسن"
(5)
.
(1)
"التقريب" ص 119.
(2)
"التقريب" ص 384.
(3)
"التقريب" ص 392.
(4)
"علل المروذي" ص 38.
(5)
"سؤالات أبي داود" ص 328، وانظر أيضًا:"العلل ومعرفة الرجال" 1: 266 فقرة (394، 396)، و"المعرفة والتاريخ" 2: 633، لكن يتنبه لما وقع في النسخة من سقط واضطراب، فقد تداخل فيها كلام لأحمد في أبي الأشهب مع كلام له في محمد بن إسحاق.
وداود بن الزبرقان، قال فيه أحمد:"إنما كتبت عنه حديثاً، وما أراه يكذب، ولكن كان يدلس"
(1)
.
وعبد السلام بن حرب الملائي، قال ابن محرز:"سمعت ابن نمير يقول: قال أبو نعيم: أحاديث عبد السلام - يعني الملائي - عن سالم إنما هي أحاديث شريك كلها، قال ابن نمير: كان عبد السلام يدلس"
(2)
.
وقال أحمد: " كنا ننكر من عبد السلام بن حرب شيئاً، كان لا يقول: حدثنا إلا في حديث واحد أو حديثين، سمعته يقول فيه: حدثنا "
(3)
.
وجرير بن عبدالحميد، علق له الترمذي حديثاً يرويه عن هشام بن عروة، ثم قال:"وحديث جرير يقال: تدليس، دَلَّس فيه جرير، لم يسمعه من هشام ابن عروة"
(4)
.
وحماد بن سلمة، قال ابن حبان في معرض مناقشته لمن ترك الاحتجاج بحماد:"فإن قال: كان حماد يدلس، يقال له: فإن قتادة، وأباإسحاق السبيعي، وعبدالملك بن عمير، وابن جريج، والأعمش، والثوري، وهشيماً ـ كانوا يدلسون، واحتججت بروايتهم"
(5)
.
(1)
"مسائل إسحاق" 2: 230.
(2)
معرفة الرجال 2: 223.
(3)
" العلل ومعرفة الرجال " 3: 485.
(4)
"العلل الكبير" 1: 515.
(5)
"صحيح ابن حبان" 1: 154.
والحجة لهذا القول ـ أعني الوقوف عند من رماهم أئمة هذا الشأن بالتدليس ـ ترجع في جملتها إلى ما تكرر ذكره مراراً، وهو أننا متبعون لأئمة هذا الفن في كل شيء، فكما نتبعهم في جرح الراوي وتعديله ـ نتبعهم في أحكامهم الأخرى على الراوي، بل إن التدليس نوع جرح في الراوي، وقد تقدم شيء من أقوالهم في ذم التدليس والمدلسين في المبحث الأول.
وهم مع ذمهم للتدليس والمدلسين لم يستحبوا في بادئ الأمر التنويه بمن وصف بالتدليس صراحة، لوقوعه من أئمة كبار، وممن دارت عليهم الرواية، كما قال الحاكم:"ولم أستحسن ذكر أسامي من دلَّس من أئمة المسلمين صيانة للحديث ورواته"
(1)
.
وكره أحمد وجماعة من الأئمة صنيع حسين الكرابيسي حين وضع كتاباً ذكر فيه أسامي المدلسين، وذمُّوه لما فيه من الطعن عليهم وغمزهم
(2)
، وألف الطحاوي كتاباً في نقض كتاب الكرابيسي
(3)
.
على أن بعض أئمة الحديث قد صنف في المدلسين، مع الذب عنهم، وكان غرضهم من ذلك صحيحاً، إذ قصدوا حفظ السنة وصيانتها، فعلى سبيل المثال
(1)
"معرفة علوم الحديث" ص 111.
(2)
انظر: "شرح علل الترمذي" 2: 892 - 893.
(3)
"الفهرست" لابن النديم ص 260.
ألف فيهم ابن المديني كتاباً
(1)
، وكذا الدارقطني
(2)
، ثم الخطيب البغدادي
(3)
، وسمى النسائي عدداً منهم في جزء صغير
(4)
.
وفي أحايين كثيرة يكون الرمي بالتدليس من قبل الأئمة قصد به المنافحة عن الراوي، وذلك بتبرئته من أحاديث منكرة يرويها، فيدفعون عنه تعمد الكذب أو الغلط، كما تقدم آنفاً من كلام أحمد في داود بن الزبرقان.
ومثله وصفه لعبدالله بن واقد أبي قتادة الحراني، قال عبدالله بن أحمد:"قلت لأبي: إن يعقوب بن إسماعيل بن صبيح ذكر أنه كان يكذب، فعظم ذلك عنده جداً، وقال: كان أبوقتادة يتحرى الصدق، وأثنى عليه، وقال: قد رأيته، يشبه أصحاب الحديث، وأظنه كان يدلس، ولعله كبر فاختلط"
(5)
.
وقال ابن المديني: " لم أجد لابن إسحاق إلا حديثين منكرين: نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا نعس أحدكم يوم الجمعة"، والزهري، عن عروة، عن زيد بن خالد: "إذا مس أحدكم فرجه"، هذان لم يروهما عن أحد،
(1)
"الفهرست" لابن النديم ص 286، و"معرفة علوم الحديث" ص 71، و"تاريخ بغداد"
10: 9.
(2)
"النكت على كتاب ابن الصلاح" 2: 650.
(3)
"الكفاية" ص 361، وفيه:"وأخبار المدلسين تتسع، وقد ذكرت أسماءهم، وسقت كثيراً من رواياتهم المدلسة في كتاب "التبيين لأسماء المدلسين"، وانظر أيضاً: ص 357.
(4)
"سؤالات السلمي للدارقطني" ص 367 - 370، و"سير أعلام النبلاء" 7:74.
(5)
"الجرح والتعديل" 5: 191، وانظر:"العلل ومعرفة الرجال" 2: 54 فهو فيه مطول.
والباقون يقول: ذكر فلان، ولكن هذا فيه: حدثنا"
(1)
.
ومراد ابن المديني أن المناكير التي في حديث ابن إسحاق سببها أنه يروي عن ضعفاء، ومجاهيل، ثم يسقطهم تدليساً، فإذا صرح بالتحديث فالمناكير في حديثه قليلة.
وقال الجوزجاني في روح بن جناح: "ذكر عن الزهري حديثاً معضلاً فيه ذكر البيت المعمور، فإن كان قال: سمعت الزهري - أرجئ ونظر في أمره"
(2)
.
وقال عثمان بن أبي شيبة في حميد بن الربيع وقد رمي بالكذب: "أنا أعلم الناس بحميد بن الربيع، هو ثقة، لكنه شره يدلس"
(3)
.
ومثله صنيع عدد من الأئمة مع يحيى بن أبي حية، حيث وصفوه بالصدق وعزوا ما في روايته من المناكير إلى تدليسه
(4)
.
وقال ابن حبان في عيسى بن موسى المعروف بغنجار: "اعتبرت حديثه بحديث الثقات، وروايته عن الأثبات مع رواية الثقات ـ فلم أر فيما يروي عن
(1)
"المعرفة والتاريخ" 2: 27، و"تهذيب الكمال" 24:420.
(2)
"أحوال الرجال" ص 271، وانظر:"الضعفاء الكبير" 2: 59، و"الكامل" 3:1004.
(3)
"ميزان الاعتدال" 1: 611.
(4)
"تاريخ الدوري عن ابن معين" 2: 642، و"الجرح والتعديل" 9: 138، و"الضعفاء الكبير" 4: 398، و"المجروحين" 3: 111، و"ثقات ابن حبان" 7: 597، و"الكامل" 7: 2669، و"تهذيب التهذيب" 11:202.
المتقنين شيئاً يوجب تركه إذا بين السماع في خبره، لأنه كان يدلس عن الثقات ما سمع من الضعفاء عنهم
…
"
(1)
.
وسلك ابن حبان هذه الطريقة في عدد من الرواة
(2)
.
ويستفاد من كل هذا أن وصف الراوي بالتدليس ليس بالأمر الهيِّن، سواء بالنسبة لشخصه، أو لما يترتب على ذلك من إعطائه حكم المدلسين.
ويتأكد هذا إذا عرفنا الأسباب التي من أجلها يصف الأئمة صنيع راوٍ بأنه تدليس، ثم توجد صورة هذا الصنيع عند راوٍ آخر ولا يطلقون عليه ذلك، فإن معرفتها تفيد في الوقوف عند كلام الأئمة في وصف الرواة بالتدليس، وعدم تجاوز ذلك.
وأول من رأيته تعرض لذكر هذه الأسباب هو ابن رشيد، فإنه قال: "فإن قيل: قد وجد الإرسال من الصحابة رضي الله عنهم، وممن بعدهم، ممن يعلم أو يظن أنه لا يدلس عمن لقيه وسمع منه، قلنا: أما حال الصحابة رضي الله عنهم في ذلك، الذين وجبت محاشاتهم عن قصد التدليس ـ فتحتمل وجوهاً:
منها: أن يكونوا فعلوا ذلك اعتماداً على عدالة جميعهم، فالمخوف في الإرسال قد أمن
…
.
(1)
"الثقات" 8: 492.
(2)
انظر مثلاً: "الثقات" 8: 309، و"المجروحين" 1: 200، 2: 12، 97، 117، 3:93.
ومنها: أن يكونوا أتوا بلفظ: قال، أو عن ـ ولفظ: قال أظهر ـ، إذ هو مَهْيَع الكلام قبل أن يغلب العرف في استعمالهما للاتصال.
ومنها: أن يكونوا فعلوا ذلك عند حصول قرينة مفهمة للإرسال، مع تحقق سلامة أغراضهم، وارتفاعهم عن مقاصد المدلسين وأغراضهم.
ومنها: أن يكونوا أتوا بلفظ مفهم لذلك، فاختصره من بعدهم لثقة جميعهم
…
.
وأما من سوى الصحابة فإنما فعل ذلك من فعله بقرينة مفهمة للإرسال في ظنه، وإلا عُدَّ مُدَلِّساً
…
، وبالجملة فلولا ما فهم قصد الإيهام بالإفهام من جماعة من الأعلام ما جاز أن ينسبوا إلى ذلك، ولَعُدُّوا مرسلين، كما عُدَّ من تحقق منه أنه لا يدلس إذا أرسل"
(1)
.
وقيد الإيهام في صنيع الراوي حتى يعدّ مدلساً ورد في كلام أئمة آخرين قبل ابن رشيد، مثل الخطيب البغدادي
(2)
، لكن هل قصد الإيهام يفهم من مجرد صيغة الرواية، وذلك بأن تكون محتملة للسماع وعدمه، أو هو أمر زائد عليها؟
ظاهر صنيع كثير من الأئمة المتأخرين وغيرهم من الباحثين ممن جمع أسماء المدلسين أن الإيهام يقع بمجرد صيغة الرواية، ولهذا ذكروا في المدلسين ـ كما تقدم قريباً ـ من وجدت منه صورة التدليس، وإن لم ينص إمام من أهل هذا
(1)
"السنن الأبين" ص 63 - 65.
(2)
"الكفاية" ص 357، 361.
الشأن على وصفه بذلك.
وكلام ابن رشيد ظاهر في أن الإيهام أمر زائد على مجرد الصيغة، ويمكن أن يستدل له بقول أبي داود:" كان ابن سيرين يرسل وجلساؤه يعلمون أنه لم يسمع، سمع من ابن عمر حديثين، وأرسل عنه نحواً من ثلاثين حديثاً"
(1)
.
وبقول شعبة في التحذير من التدليس: "لأن أقع من فوق هذا القصر - لدار حياله- على رأسي، أحب إلي من أن أقول لكم: قال فلان - لرجل ترون أنه قد سمعت ذاك منه - ولم أسمعه"
(2)
.
وذكر الشيخ عبدالرحمن المعلمي أن هذا هو مقتضى كلام الإمام مسلم، والخطيب البغدادي، قال المعلمي:"وصنيع مسلم يقتضي أن الإرسال على أي الوجهين كان إنما يكون تدليساً إذا كان على وجه الإيهام، ويوافقه ما في "الكفاية" للخطيب، وذكر مسلم أمثلة فيها إرسال جماعة بالصيغة المحتملة عمن سمعوا منه ولم تعد تدليساً، ولا عدوا مدلسين، ومحمل ذلك أن الظن بمن وقعت منهم أنهم لم يقصدوا الإيهام، وأنهم اعتمدوا على قرائن خاصة كانت قائمة عند إطلاقهم تلك الرواية تدفع ظهور الصيغة في السماع
…
"
(3)
.
وإذا كان هذا هو المراد بالإيهام فلا شك أن إدراك المتأخر لغرض الراوي
(1)
"سؤالات الآجري لأبي داود" 2: 55.
(2)
"الجرح والتعديل" 1: 174.
(3)
التنكيل 1: 78.
وهل قصد الإيهام أو لا شبه متعذر في أغلب الأحيان، وعليه فينبغي حينئذٍ الوقوف عند أحكام أئمة النقد الأولين.
ثم إن ابن رشيد قد ذكر من وجوه الاحتمالات في عدم تسمية ما وقع من الصحابة تدليساً ـ أنهم قد يكونون أتوا بلفظ مفهم لذلك ـ يعني للإرسال ـ فاختصره من بعدهم، وهذا المعنى ينطبق تماماً على من بعد الصحابة، وفي نظري أنه أهم سبب مانع من تسمية كل ما جاء على صورة التدليس تدليساً، فقد تكون صيغة الرواية في الأصل صريحة في عدم الاتصال، كأخبرت عن فلان، أو بلغني عن فلان، ثم يتم تغييرها فيما بعد إلى صيغة (عن)، كما يتم ذلك في الصيغ الصريحة في الاتصال، وقد تقدم شرح هذا وبيانه في المبحث الأول من الفصل الأول، وذكرت هناك مثالاً على ذلك وهو قول أحمد إن كل روايات محمد بن سيرين عن ابن عباس فيها: نبئت عنه، لكن الموجود في الكتب أنه يروي عنه بالعنعنة في الغالب، وهو قد عاصره وأمكن سماعه منه، لكن لم يسمع منه، فلا يصح وصفه بالتدليس بمجرد هذا، وإن كانت صورته صورة التدليس، إذ قد تبين أن الرواية بصيغة (عن) من تصرف الرواة بعد ابن سيرين.
ومن الأمثلة أيضاً ما رواه معاذ بن هشام، ووكيع، ويزيد بن هارون، وإسحاق الأزرق، وغيرهم عن هشام بن أبي عبدالله الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أنس قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفطر عند أهل
بيت قال: أفطر عندكم الصائمون
…
" الحديث
(1)
، ويحيى بن أبي كثير رأى أنساً ولم يسمع منه، كما قاله جماعة من الأئمة
(2)
، وقد روى هذا الحديث عبدالله بن المبارك، عن هشام بن أبي عبدالله، عن يحيى بن أبي كثير قال: حدثت عن أنس
(3)
، ورواه خالد بن الحارث ـ في رواية عنه ـ عن هشام، عن يحيى قال: بلغني عن أنس
(4)
، وفي رواية أخرى عن خالد، عن هشام، عن يحيى، أن أنساً حدث ....
(5)
فاتضح من كل هذا أن أصل رواية يحيى لهذا الحديث مرسلة، وأن روايته بالعنعنة من تصرف من بعده تجوّزاً، وربما أطلق عليه بعض الأئمة أنه وهم، كما قال أبوزرعة:(يحيى بن أبي كثير بلغه عن أنس، وحديثه عنه مرسل أصح، وهو وهم، يعني المرفوع، يعني في حديثه عن أنس: " أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار ")
(6)
.
وحديث منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي أمامة قال: " أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة معها صَبِيّان لها، قد حملت أحدهما، وهي تقود الآخر
…
" الحديث،
(1)
"سنن النسائي الكبرى" حديث (6901، 10128)، و"مسند أحمد" 3: 118، 201.
(2)
"المراسيل" ص 240 - 244.
(3)
"سنن النسائي الكبرى" حديث (6902، 10130)، و"معرفة علوم الحديث" ص 117.
(4)
"المراسيل" ص 243.
(5)
"سنن النسائي الكبرى" حديث (10129).
(6)
"المراسيل" ص 243، وانظر:"سنن البيهقي" 4: 239.
رواه هكذا عن منصور جماعة منهم أبوالأحوص سلام بن سليم، وشريك، وزياد البكائي، وسفيان الثوري فيما رواه عنه مؤمل بن إسماعيل
(1)
، ورواه شعبة عن منصور، عن سالم قال: ذكر لي عن أبي أمامة: " أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم
…
" الحديث
(2)
.
وقد توجد صورة التدليس من الراوي لكن يبدو احتمال آخر أنه لم يقصده، ومثاله أن عفان بن مسلم روى عن أبي عوانة، عن أبي إسحاق السبيعي، عن الأغر أبي مسلم، عن أبي هريرة حديثاً، ثم قال عفان:"وكان أبو عوانة حدثنا بأحاديث عن أبي إسحاق، ثم بلغني بعد أنه قال: سمعتها من إسرائيل، وأحسب هذا الحديث منها"
(3)
.
وأبو عوانة لم يوصف بالتدليس، وصورة فعله هذا أنه تدليس، لكن يحتمل أن يكون وقع ذلك منه خطأ، فظن أن هذه الأحاديث مما سمعه من أبي إسحاق مباشرة، وقد وصفوه بأنه يخطئ إذا حدث من حفظه
(4)
.
ويلتحق بهذا ما إذا كان إسقاط شيخ الراوي ليس منه، وإنما وقع ممن بعده،
(1)
"سنن ابن ماجه " حديث 2013، و"مسند أحمد" 5: 257، 269، و"مسند الطيالسي" حديث 1126.
(2)
"مسند أحمد" 5: 252، و"المستدرك" 4:173.
(3)
" مسند أحمد " 2: 383.
(4)
" تهذيب التهذيب " 11: 117 - 120.
إما جزماً أو احتمالاً، فلا عهدة عليه بيقين، مثال ذلك قصة محمد بن القاسم ابن سميع الآتية، فقد سقط من الإسناد رجل واهٍ، بينه وبين ابن أبي ذئب، ثم تبين أن الإسقاط ممن بعده.
وكذلك حديث جعفر بن مسافر، عن كثير بن هشام، عن جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران، عن عمر مرفوعاً: " إذا دخلت على مريض فمره أن يدعو لك
…
" الحديث
(1)
، فقد سقط من إسناده بين كثير بن هشام، وجعفر ابن برقان رجل ضعيف جداً، وهو عيسى بن إبراهيم الهاشمي.
قال ابن حجر بعد أن ذكر ذلك: "فكأن جعفر (يعني ابن مسافر) يدلس تدليس التسوية، إلا أني وجدت في نسختي من ابن ماجه تصريح كثير بتحديث جعفر له، فلعل كثيراً عنعنه، فرواه جعفر عنه بالتصريح، لاعتقاده أن الصيغتين سواء من غير المدلس، لكن ما وقفت على كلام أحد وصفه (يعني كثير بن هشام) بالتدليس، فإن كان الأمر كما ظننت أولاً، وإلا فيسلم جعفر من التسوية، ويثبت التدليس في كثير، والله أعلم"
(2)
.
وهناك احتمالات أخرى في هذا المثال، مثل أن يكون السقط وقع خطأ من أحدهما لا على سبيل التدليس، وقد يكون قد وقع الإسقاط كذلك من ابن ماجه، أو من الناسخ.
(1)
" سنن ابن ماجه " حديث (1441).
(2)
"تهذيب التهذيب" 2: 107.
هذا ما وقفت عليه مما يمكن الاحتجاج به لقول من يقول بوجوب الوقوف عند من وصفهم الأئمة بالتدليس، وعدم رمي من عداهم بذلك، وإن جاءتنا عنه رواية فيها صورة التدليس.
ولا شك أنه قول قوي جداً، به يتبين مدى خطورة المبالغة في جمع أسماء المدلسين التي سلكها بعض من ألف في هذا الموضوع، حتى وصل عددهم عند بعض الباحثين إلى ما يزيد على مائتين وثلاثين راوياً، كما تقدم آنفاً، وكثير منهم لم يصفه أحد من الأئمة بالتدليس، وإنما أُخذ ذلك من روايات جاءت عنهم فيها صورة ذلك، حتى أن بعض الباحثين ذكر أئمة أعلاماً مشهورين، لو عرفوا بالتدليس لاشتهر ذلك، ولنوه به الأئمة، فذكر مثل سعيد بن المسيب، والشعبي، والأوزاعي.
مع ذلك فلابد من تأكيد أمر مهم هنا، وهو أنه لا ينبغي حين البحث عن وصف الأئمة لراوٍ بالتدليس الجمود على هذه الكلمة وما اشتق منها، فإذا كان في كلام الأئمة ما يفيد ارتكابه للتدليس كفى لوصفه به، فهنا يقال: ليست العبرة بالألفاظ، وإنما العبرة بالمعاني.
مثال ذلك قول أحمد في مغيرة بن مقسم: "كان صاحب سنة، ذكياً حافظاً، وعامة حديثه عن إبراهيم مدخول، عامة ما روى عن إبراهيم إنما سمعه من حماد، ومن يزيد بن الوليد، والحارث العكلي، وعن عبيدة، وغيره، وجعل يضعف حديث مغيرة عن إبراهيم وحده"
(1)
.
(1)
"العلل ومعرفة الرجال" 1: 207، و"الجرح والتعديل" 7:229.
وقال العجلي: "كان يرسل الحديث عن إبراهيم، فإذا وقف أخبرهم ممن سمعه، وكان من فقهاء أصحاب إبراهيم"
(1)
.
فهذا هو التدليس وإن لم يصرحا به، فهو وقول من وصفه بالتدليس شيء واحد، فقد قال فضيل بن غزوان فيه:"كان يدلس، وكنا لا نكتب عنه إلا ما قال: حدثنا إبراهيم"
(2)
، وكذا وصفه النسائي، وابن حبان بالتدليس
(3)
.
ومثله عبدالوهاب بن عطاء الخفاف قال فيه أبوزرعة: "روى عن ثور حديثين ليسا من حديث ثور، وذُكر ليحيى بن معين هذان الحديثان فقال: لم يذكر فيهما الخبر"
(4)
.
فهذا وصف بالتدليس، وهو مرادف لقول صالح جزرة بعد أن ذكر أحد الحديثين:"عبدالوهاب لم يقل فيه: حدثنا، ولعله دلس فيه، وهو ثقة"
(5)
، وقول البخاري:"كان يدلس عن ثور وأقوام أحاديث مناكير"
(6)
.
(1)
"الثقات" 2: 294.
(2)
"تهذيب الكمال" 28: 399.
(3)
"سؤالات السلمي للدارقطني" ص 370، و"ثقات ابن حبان" 7: 464، وانظر:"سؤالات الآجري لأبي داود" 1: 175.
(4)
"الجرح والتعديل" 6: 72، و"أسئلة البرذعي لأبي زرعة" ص 496 - 498، وفي النسخة تحريف.
(5)
"تاريخ بغداد" 11: 24، و"تهذيب التهذيب" 6:452.
(6)
"تهذيب التهذيب" 6: 453.
وقد اعتبر ابن حجر قول أحمد في عطاء بن أبي رباح: "رواية عطاء عن عائشة لا يحتج بها إلا أن يقول: سمعت"، وصفاً لعطاء بالتدليس
(1)
، وهو استدلال صحيح، ومع هذا فلم يدخله ابن حجر في أي من كتبه.
وقد أكثر ابن حبان في تراجم الرواة من عبارة: "يعتبر حديثه إذا بين السماع في خبره"، أو نحوها
(2)
، وهي مفيدة للوصف بالتدليس بلا إشكال، ولهذا فإنه ربما زاد عليها:"فإنه كان مدلساً"
(3)
.
وقال في حق محمد بن صدقة الفدكي: "يعتبر حديثه إذا بين السماع في روايته، فإنه كان يسمع من قوم ضعفاء عن مالك، ثم يدلس عنهم"
(4)
.
فالمهم هنا هو أن تأكيد الوقوف عند كلام الأئمة في وصف الراوي بالتدليس يضم إليه تأكيد عدم التنطع في قبول كلامهم أو في تفسيره، وعدم الجمود عند كلمة (التدليس)، واشتراط ورودها في كلام الأئمة.
وقد رأيت من بعض المشايخ والباحثين بوادر ذلك، فذكر أحد المشايخ حديثاً رواه زياد بن الربيع، عن هشام بن حسان، عن محمد بن المنكدر، عن جابر مرفوعاً:"عليكم بالإثمد عند النوم، فإنه يجلي البصر، وينبت الشعر"
(5)
،
(1)
"تهذيب التهذيب" 7: 203.
(2)
انظر مثلاً: "الثقات" 8: 345، 394، 421، 437، 453، 9:61.
(3)
"الثقات" 9: 49.
(4)
"الثقات" 9: 67، وانظر أيضاً: 7: 504، 8:492.
(5)
"الكامل" 3: 1052، أخرجه عن ابن مكرم، عن عمرو بن علي الفلاس، عن زياد بن الربيع به.
ثم قال بعد أن صححه: "وقد أعل بما لا يقدح، فقد ذكره ابن أبي حاتم في "العلل" 2: 260 من هذه الطريق، وأنه سأل عنه أباه، فأجابه بقوله: حديث منكر، لم يروه عن محمد إلا الضعفاء: إسماعيل بن مسلم ونحوه، ولعل هشام ابن حسان أخذه من إسماعيل بن مسلم، فإنه كان يدلس"، ثم قال الشيخ: "لم أر من رماه بالتدليس مطلقاً، وإنما تكلموا في روايته عن الحسن وعطاء خاصة، لأنه كان يرسل عنهما كما قال أبوداود
…
، وهذا الحديث من روايته عن محمد بن المنكدر، فلا مجال لإعلاله".
كذا قال الشيخ، وعلى كلامه مناقشات من وجوه عدة، لكن الشاهد هنا رفضه لوصف أبي حاتم له بالتدليس، فإذا رفض كلام مثل هذا الإمام فمن الذي يقبل كلامه؟ ، ثم إن هشاماً قد سمع من الحسن، وعطاء، فإرساله عنهما هو من التدليس المتفق على تسميته تدليساً، وإن لم يصرحوا بذلك
(1)
.
(1)
والشاهد هنا هو نص أبي حاتم على أن هشام بن حسان كان يدلس، وأما تدليس هشام لهذا الحديث بعينه ففيه ما فيه، فقد أخرجه الطبراني في " الأوسط" حديث (6056)، عن محمد بن يونس العصفري، عن عمرو بن علي الفلاس، عن زياد بن الربيع، عن هشام بن حسان، عن إسماعيل بن مسلم، عن ابن المنكدر به، هكذا بذكر إسماعيل بن مسلم، وهذا يؤيد ما ذكره أبو حاتم أن هشام بن حسان أخذه من إسماعيل بن مسلم، لكن يدل على أن الإسقاط ليس منه، وإنما هو ممن بعده.
وقد رواه عن إسماعيل بن مسلم، عن ابن المنكدر غير هشام بن حسان، انظر:"سنن ابن ماجه" حديث (3496)، و"مسند عبد بن حميد" حديث (1085).
وذكر أحد الباحثين وصف النسائي ليونس بن عبيد بالتدليس
(1)
، ثم قال:"لا نعلم أن أحداً قبله وصفه بهذا"، كذا قال الباحث، ووصف النسائي له بالتدليس كافٍ في اعتماد ذلك، على أن في كلام من تقدم النسائي بل من الرواة عن يونس وصفه بذلك وإن لم يصرحوا به، كما سيأتي في آخر المبحث الرابع، بل قد قال ابن أبي حاتم بعد أن ذكر عن شعبة أن يونس بن عبيد يروي أشياء عن الحسن لم يسمعها منه، وإنما أخذها عن أشعث بن عبدالملك:"يعني أن يونس أخذها من أشعث، عن الحسن، ودلسها عن الحسن، ولم يذكر فيه الخبر"
(2)
.
ومما يوصى به الباحث هنا أن يكون شديد التنقيب والبحث عن كلام النقاد، وألا يكتفي بما جمعه غيره، فلهم كلام كثير لا يزال مفرقاً، مثال ذلك أن ابن حجر قال في ترجمة عمرو بن دينار:"أشار الحاكم في "علوم الحديث" إلى أنه كان يدلس"
(3)
.
وقد أشار إلى تدليس عمرو بن دينار جمع من النقاد المتقدمين، قال عبد الله ابن أحمد: "سئل - يعني أباه - عما روى عمرو بن دينار، عن ابن عباس، وابن الزبير، في القراءات: سماع؟ قال: قال ابن عيينة: كان عمرو لا يقول فيها:
(1)
"سؤالات السلمي للدراقطني" ص 367، و"سير أعلام النبلاء" 7:74.
(2)
"الجرح والتعديل" 1: 135.
(3)
. "تعريف أهل التقديس" ص 42، وانظر:"معرفة علوم الحديث" للحاكم ص 111.
سمعت ابن عباس"
(1)
.
وقال المروذي: "سألته - يعني أحمد - عن عمرو بن دينار في ابن عباس، وابن عمر، فقال: من الثقات، يحكى عن شعبة أنه قال: ما رأيت أثبت من عمرو ابن دينار، قلت: له أشياء يرسلها، قال: إذا قال: سمعت أو حدثنا، وقد كان يحدث بأشياء عن رجل، عن ابن عباس"
(2)
، وعد أحمد ما سمع عمرو من ابن عباس
(3)
.
وكما يوصى الباحث بالعناية بكلام الأئمة في الرواة يوصى أيضاً بالتثبت فيما ينقل عنهم من وصف راو بالتدليس، فقد يكون الخطأ في فهم كلام الناقد، ومما مرَّ بي في هذا الصدد، أن أحد الباحثين في كتاب له في الجرح والتعديل نقل قول ابن عدي في ثابت البناني:"له حديث كثير، وهو من ثقات المسلمين، وما وقع في حديثه من النكرة فليس ذلك منه، إنما هو من الراوي عنه، لأنه قد روى عنه جماعة ضعفاء ومجهولون، وإنما هو في نفسه إذا روى عمن هو فوقه من مشايخه فهو مستقيم الحديث، ثقة"
(4)
.
علق عليه الباحث بقوله: "هل هذا اللفظ إذا قيل في أحد الرواة يدل على
(1)
. "العلل ومعرفة الرجال" 3: 285، وانظر:"مسائل أبي داود" ص 448.
(2)
. "علل المروذي" ص 230.
(3)
. "العلل ومعرفة الرجال" 2: 186.
(4)
. "الكامل" 2: 527.
أن الراوي يدلس؟ ليس ذلك ببعيد، لقوله: "إذا روى عمن هو فوقه من مشايخه
…
"، فإن هذا يدل على أنه يسقط شيخه القريب، ويعنعن عن شيخ بعيد، وإن كان من جملة شيوخه، لكنه ليس بشيخه في هذا الحديث، فمن هنا تكثر المناكير في روايته، أو تقع في روايته، ولو أنه بين شيخه وسماه لكان مستقيم الحديث".
كذا قال هذا الباحث، ولا أظنني بحاجة إلى الإطالة في رد كلامه، فليس في كلام ابن عدي رمي بالتدليس، والعبارة - رغم ما فيها من اضطراب، وهو معروف عن ابن عدي - لا تفيد ذلك، فمراده بيان أن ثابتاً إذا صحت الرواية عنه عن مشايخه فهو مستقيم الحديث ثقة، والخلل يأتي من الرواة الضعفاء الذين يروون عنه.
ونقل أحد الباحثين عن ابن حجر قوله في إسماعيل بن عياش الحمصي: "أشار ابن معين، ثم ابن حبان في "الثقات" إلى أنه كان يدلس"
(1)
.
وأراد الباحث تفسير إشارة ابن معين، وابن حبان، فنقل عن الأول ما رواه عنه محمد بن عثمان بن أبي شيبة:"ثقة فيما روى عن الشاميين، وأما روايته عن أهل الحجاز فإن كتابه ضاع فخلط في حفظه عنهم"
(2)
.
ونقل عن ابن حبان ما ملخصه أن إسماعيل تغير حفظه لما كبر، فما سمع في
(1)
. "تعريف أهل التقديس" ص 82.
(2)
. "تاريخ بغداد" 6: 226.
صباه حفظه، وما سمعه في كبره عن الغرباء خلط فيه
(1)
.
ثم قال الباحث معلقاً على كلامهما: "ومراد الحافظ بإشارة ابن معين - والله أعلم - أنه يروي عن غير أهل الشام ما لم يسمعه منهم على سبيل التخليط، ولما كان قد سمع من أهل الحجاز وأهل العراق في آخر حياته، وضاعت كتبه أو تغير حفظه، فإنه ربما روى عنهم ما ليس من حديثهم، وهذا هو التدليس، وعلى هذا يمكن أن نصف كل من اختلط من الرواة بالتدليس، لأنه ربما روى عمن سمع منه أو لقيه ما لم يسمعه منه
…
، وإذاً فيمكن أن يروي عن العراقيين حديثاً كاملاً ليس عندهم، وهذا من التدليس الذي تقدم تعريفه
…
".
كذا قال هذا الباحث - عفا الله عنه -، بكل سهولة يقرر أن كلام ابن معين، وابن حبان الذي نقله هو مراد ابن حجر بإشارتهما إلى تدليسه، ثم يبني على هذا أنه يمكن أن يوصف كل مختلط بالتدليس، وهذا شيء لم يسبق إليه، وهو من الخطورة بمكان لا يخفى.
وكلام الباحث في القضيتين غير دقيق أبداً، فليس في كلام ابن معين، وابن حبان الذي نقله رمي لإسماعيل بن عياش بالتدليس، وفهم ذلك منه بعيد جداً، فما بني عليه من تقعيد لا يصح كذلك، ومراد ابن حجر بإشارتهما ليس هو ما نقله الباحث عنهما.
(1)
" المجروحين " 1: 125.
والذي دفع الباحث إلى هذا هو أنه لم يقف على كلام الإمامين في رميه بالتدليس، فترجمة إسماعيل من "ثقات ابن حبان" ساقطة من المطبوع، ويحتمل أنه لم يترجم له أصلاً، وكلامه فيه ورد عرضاً في ترجمة غيره.
وأما كلام ابن معين فهو موجود في " التهذيبين " بعد النص الذي نقله الباحث مباشرة، ولعل الباحث لم يتبين له معناه، لكون ابن معين استخدم مصطلحاً غير مصطلح التدليس.
وكلام ابن معين في رميه بالتدليس، ليس في روايته عن أهل الحجاز، بل عمن هو قوي فيهم، وهم أهل الشام، فنقل عنه مضر بن محمد الأسدي قوله:"إذا حدث عن الشاميين وذكر الخبر فحديثه مستقيم، وإذا حدث عن الحجازيين والعراقيين خلَّط ما شئت"
(1)
.
وقد يكون التدليس غير ثابت عمن رمي به، فقد ذكر ابن حجر عمر بن عبيد الطنافسي فيمن وصفهم الأئمة بالتدليس
(2)
، وقال أيضاً:"روينا في "الكامل" لابن عدي وغيره عن عمر بن عبيد الطنافسي أنه كان يقول: حدثنا، ثم يسكت ـ ينوي القطع ـ ثم يقول: هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها"
(3)
.
(1)
" تاريخ دمشق " 9: 49 - 50، و"تهذيب الكمال" 3: 174، و"تهذيب التهذيب" 1: 323، وانظر:"المجروحين" 1: 124.
(2)
"النكت على كتاب ابن الصلاح" 2: 641.
(3)
"النكت على كتاب ابن الصلاح" 2: 617، و"فتح المغيث" 1:213.
وعمر بن عبيد ليس له في "الكامل" ترجمة أصلاً، وليس في ترجمته في الكتب الأخرى شيء مما ذكره ابن حجر، بل لم يرمه أحد بالتدليس مطلقاً، وهشام بن عروة لم يذكر في شيوخه، والصنيع الذي نسبه إليه ابن حجر معروف عن عمر بن علي بن عطاء المقدمي، فلعله اشتبه عليه، فهما بصريان من طبقة واحدة
(1)
، مع أنه قد ذكر المقدمي أيضاً فيمن رماه الأئمة بالتدليس، والخلط بين الترجمتين وارد جداً، فقد وقع ذلك أيضاً للحافظ عبدالغني المقدسي في كتابه "الكمال" حيث ذكر كلمة لأبي حاتم في تدليس المقدمي في ترجمة الطنافسي
(2)
.
وممن رمي بالتدليس ولم يثبت عنه محمد بن عيسى بن القاسم بن سميع الدمشقي، فقد قال فيه ابن حبان:"مستقيم الحديث إذا بين السماع في خبره، فأما خبره الذي روى عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب في مقتل عثمان ـ لم يسمعه من ابن أبي ذئب، سمعه من إسماعيل بن يحيى بن عبيدالله التيمي، عن ابن أبي ذئب، فدلس عنه، وإسماعيل واهٍ"
(3)
.
وكذا أشار جماعة من الأئمة إلى أنه أسقط إسماعيل
(4)
.
(1)
انظر: "تهذيب التهذيب" 7: 480، 485، و"تعريف أهل التقديس" ص 131، و"التدليس في الحديث" لمسفر الدميني ص 322.
(2)
"تهذيب الكمال" 21: 473 حاشية (5).
(3)
"الثقات" 9: 43.
(4)
انظر: "الكامل" 6: 2250، و"تهذيب الكمال" 26:257.
وقد ذكر الحافظ صالح جزرة حكاية ظهر منها أن إسقاط إسماعيل ليس من محمد، وإنما هو ممن بعده
(1)
.
وقد يكون رميه بالتدليس ظاهراً، لكن ارتكابه له نادر جداً بحيث لا يمكن اعتباره وصفاً للراوي، كقول الترمذي المتقدم آنفاً في تدليس جرير بن عبدالحميد لحديث رواه عن هشام بن عروة، فهو حديث واحد، مع أن جريراً إنما ذكره في المناظرة لا على سبيل الرواية، فقد قال البخاري:"قال محمد بن حميد: إن جريراً روى هذا في المناظرة ولا يدرون له فيه سماعاً"
(2)
، والمناظرة نوع من المذاكرة، يتسامح فيها، إذ ليس المقصود فيها الرواية.
وقد سئل أبو خيثمة زهير بن حرب عن جرير بن عبدالحميد هل كان يدلس لكونه لا يصرح بالتحديث كثيراً، فأجاب بأنه لا يدلس، وأوضح ذلك
(3)
، وذكر ابن معين أن جريراً لا يحسن أن يدلس أصلاً، فالتدليس يحتاج إلى مهارة وخبرة
(4)
.
وقد وقع لأبي زرعة الرازي في حديث مثل ما وقع لجرير بن عبدالحميد
(5)
،
(1)
"تهذيب الكمال" 26: 256، وانظر:"سؤالات الآجري لأبي داود" 2: 198 - 199، 200 - 201، و"تهذيب التهذيب" 9:392.
(2)
"العلل الكبير" 1: 515.
(3)
"تاريخ بغداد" 7: 259.
(4)
"تاريخ ابن الهيثم عن ابن معين" ص 47، وانظر:" سنن الدارمي" حديث (422 - 423).
(5)
"لسان الميزان" 3: 87 - 88، وانظر مثالاً آخر في إلجاء المذاكرة الراوي إلى الإرسال، في "أسئلة البرذعي لأبي زرعة" ص 578 - 579.
وتقدمت الإشارة إلى عذرهم في ذلك
(1)
.
وقد يكون نص الناقد فيه احتمال، فيحتاج إلى النظر في كلام غيره، كما في قول أبي الوليد الطيالسي في الربيع بن صبيح:"كان لا يدلس، وكان المبارك بن فضالة أكثر تدليساً منه"
(2)
.
فهذا يحتمل أن يكون أراد به أنه لا يدلس كثيراً كما يفعل المبارك، وإن كان يقع منه التدليس، ويحتمل أنه لا يدلس أبداً، وأفعل التفضيل على غير بابه، ويترجح الثاني بأن أحداً لم يصف الربيع بن صبيح بالتدليس.
وكذلك إذا اختار الباحث أن وصف الراوي بالتدليس يكفي في ثبوته أن يصفه إمام متأخر، أو توجد صورة التدليس في شيء من رواياته، فعليه أيضاً أن يتحقق من ثبوت ذلك عنه، والأمثلة على وقوع الخلل في هذا الجانب كثيرة، تركتها خشية الإطالة
(3)
.
ويتلخص من هذا المبحث أمور:
1 -
لا يصح وصف الراوي بالتدليس وإن جاءت صورته عنه ما لم يصفه
(1)
انظر: المبحث الأول من الفصل الأول من " الجرح والتعديل ".
(2)
" التاريخ الكبير " 3: 279، و"الضعفاء الصغير" ص 44.
(3)
انظر مثلاً: "التدليس في الحديث" ص 202 ترجمة (سعيد بن سويد)، و (سعيد بن عبدالعزيز)، ص 205 ترجمة (عاصم بن عمر بن قتادة)، ص 224 ترجمة (محمد بن حماد الطهراني)، ص 227 ترجمة (محمد بن مهدي)، ص 246 ترجمة (يونس بن عبدالأعلى).
بذلك أحد من أئمة النقد، وعليه فإن كثيراً ممن جمعهم المتأخرون الذين صنفوا في المدلسين ليسوا بمدلسين.
2 -
كلام أئمة النقد في وصفهم الرواة بالتدليس لا ينبغي قصره على لفظ التدليس، بل كل كلام لهم يفهم منه ارتكاب الراوي للتدليس فهو مفيد لذلك.
3 -
بعض الرواة الذين وصفهم أئمة النقد بالتدليس لم يذكرهم المتأخرون الذين جمعوا أسماء المدلسين، ولا شك أننا بحاجة لتضافر الجهود للوقوف على كلام النقاد.
4 -
رمي الناقد للراوي بأنه دلَّس حديثاً ليس معناه وصفه بالتدليس، فقد يقع ذلك من الرواة على سبيل الندرة، أو عند الضرورة، وسيأتي للأمر الرابع هذا زيادة إيضاح في المبحث السادس بعونه تعالى.