الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
التدليس والإرسال
تدليس الإسقاط نوع من الإرسال، إذ الإرسال في اصطلاح المتقدمين يشمل كل انقطاع في الإسناد أياً كان موضعه، فكل تدليس إرسال
(1)
، لكن هل كل إرسال يعدّ تدليساً؟
للإجابة على هذا لابدّ من ذكر أنواع الإرسال، ثم النظر فيما يشمله اسم التدليس منها ـ باختصار ـ، ثم الغرض من بحث هذا هنا.
فإذا أرسل الراوي عن شخص وروى عنه ما لم يسمعه منه فلا يخلو من ثلاث حالات:
الأولى: أن يكون لم يدرك زمانه.
الثانية: أن يكون أدرك زمانه وعاصره، لكنه لم يسمع منه.
الثالثة: أن يكون لقيه وسمع منه، لكن هذا الحديث بعينه لم يسمعه منه، أو تلك الأحاديث بعينها لم يسمعها منه.
فأما النوع الأول فذكر ابن عبدالبر أن قوماً ـ ولم يسمهم ـ ذهبوا إلى أنه تدليس، وأن الجمهور ذهبوا إلى أنه إرسال فقط، قال:"وعلى القول الأول فما سلم من التدليس أحد لا مالك ولا غيره، سوى شعبة ويحيى القطان"
(2)
.
(1)
انظر: "الكفاية" ص 357.
(2)
"التمهيد" 1: 15.
وممن وقفت على كلام له يسمي فيه رواية الراوي عمن لم يدركه تدليساً ابن حبان، فقد قال في عبدالجبار بن وائل بن حجر:"مات أبوه وائل وأمه حامل به، كل ما روى عن أبيه مدلَّس، وإن كان لا يصغر عن صحبة الصحابة"
(1)
.
وعلى هذا مشى الذهبي في تعريف التدليس فقال: "ما رواه الرجل عن آخر ولم يسمعه منه، أو لم يدركه"
(2)
، وقال في ترجمة أبي قلابة:"ثقة في نفسه، إلا أنه يدلس عمن لحقهم ومن لم يلحقهم، وكان له صحف يحدث منها ويدلس"
(3)
.
ويحتمل ـ على بُعد ـ أن يفسر الإدراك واللحاق في كلام الذهبي باللقي والسماع.
ومن نصوص الجمهور في هذا وأن رواية الراوي عمن لم يدركه لا تعد تدليساً قول أبي حاتم في أبي قلابة عبدالله بن زيد الجرمي: "لا يعرف له تدليس"
(4)
، مع أن أبا قلابة قد روى عن أناس لم يدركهم
(5)
، فتفسير ذلك أن يكون
(1)
"مشاهير علماء الأمصار" ص 163.
(2)
"الموقظة" ص 47.
(3)
"الميزان" 2: 426.
(4)
"الجرح والتعديل" 5: 58.
(5)
انظر: "المراسيل" ص 109.
حيث عرف واشتهر أنه لم يلقهم، فحينئذٍ لا إيهام في روايته، وعليه فلا تدليس.
ويحتمل أن يكون أبوحاتم أراد أنه لا يتعمد الإسقاط، لكنه يحفظ شيئاً عن بعض الصحابة فيرويه عنهم غير مستحضر لمن حدثه، قال الذهبي معلقاً على كلمة أبي حاتم:"معنى هذا أنه إذا روى شيئاً عن عمر أو أبي هريرة ـ مثلاً ـ مرسلاً لا يدري من الذي حدثه به، بخلاف تدليس الحسن البصري فإنه يأخذ عن كل ضرب، ثم يسقطهم، كعلي بن زيد تلميذه"
(1)
.
فهذا النوع لا إشكال إذاً في عدم دخوله في التدليس إلا على سبيل التوسع كما نقله ابن عبدالبر عمن لم يسمهم، ومشى عليه ابن حبان، وكذا الذهبي في ظاهر كلامه.
وأما النوع الثالث - وهو الإرسال عمن سمع منه - فلا إشكال في دخوله في التدليس، فكل من عرَّف التدليس أدخله فيه، وهو أيضاً موجود بكثرة في استعمال أئمة النقد، فمن ذلك قول أحمد:"كان أبوحُرَّة صاحب تدليس عن الحسن، إلا أن يحيى القطان روى عنه ثلاثة أحاديث يقول في بعضها: حدثنا الحسن، منها حديث سعد بن هشام، وحديث عائشة في الركعتين"
(2)
.
(1)
"سير أعلام النبلاء" 4: 473.
(2)
"علل المروذي" ص 38، وانظر:"العلل ومعرفة الرجال" 1: 266، 310، 2: 595، 3: 9، 229، 242، و"مسند أحمد" 6: 30، 203، و"صحيح مسلم" حديث (767)، و"مصنف ابن أبي شيبة" 2: 272، و"المعرفة والتاريخ" 2:633.
وقال عباس الدوري: "سمعت يحيى يقول في حديث: "من وسع على عياله
…
"ـ قال: حدثنا أبوأسامة، عن جعفر الأحمر، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، قلت ليحيى: قد رواه سفيان بن عيينة، عن إبراهيم بن محمد، قال يحيى: إنما دلسه سفيان عن أبي أسامة، فقلت ليحيى: فلم يسمع سفيان من إبراهيم بن محمد بن المنتشر، فقال: بلى، قد سمع منه، ولكن لم يسمع هذا منه"
(1)
.
وقال إبراهيم بن عبدالله الهروي في هشيم: "كان يدلس عن أبي بشر أكثر مما يدلس عن حصين"
(2)
.
وأبوبشر هو جعفر بن إياس، وحصين هو ابن عبدالرحمن، وقد سمع منهما هشيم.
وسيأتي في ثنايا هذا البحث نصوص كثيرة في هذا المعنى.
وأما النوع الثاني - وهو الإرسال عمن عاصره ولم يسمع منه - فهل يدخل في التدليس؟
عرف ابن الصلاح التدليس بقوله: "هو أن يروي عمن لقيه ما لم يسمعه منه موهماً أنه سمعه منه، أو عمن عاصره ولم يلقه موهماً أنه قد لقيه وسمعه منه"
(3)
،
(1)
"تاريخ الدوري " 1: 290.
(2)
"المراسيل" ص 232.
(3)
"مقدمة ابن الصلاح" ص 165.
فأدخل ابن الصلاح هذا النوع في التدليس، وهو يحكي بذلك اصطلاح أهل الحديث.
وذكر العراقي أن غير واحد من الحفاظ ـ وسمى منهم البزار، وابن القطان ـ أخرجوا هذا النوع من التدليس، فخصوه بالنوع الثالث فقط، وهو رواية الراوي عمن لقيه وسمع منه ما لم يسمعه منه، ثم قال العراقي:"وما ذكره المصنف ـ يعني ابن الصلاح ـ في حد التدليس هو المشهور بين أهل الحديث، وإنما ذكرتُ قول البزار وابن القطان لئلا يغترّ بهما من وقف عليهما فيظن موافقة أهل هذا الشأن لذلك، والله أعلم"
(1)
.
وقد تعقب ابن حجر كلام شيخه العراقي، ونسب قول البزار وابن القطان أيضاً إلى الشافعي، وأن كلام الخطيب يقتضيه أيضاً، وذكر أن الصواب أن رواية الراوي عمن عاصره ولم يسمع منه ليس بتدليس، وإنما هو إرسال خفي، ثم قال:"ويدل على أن اعتبار اللقي في التدليس دون المعاصرة وحدها لابد منه إطباق أهل العلم بالحديث على أن رواية المخضرمين كأبي عثمان النهدي، وقيس بن أبي حازم، عن النبي صلى الله عليه وسلم من قبيل الإرسال لا من قبيل التدليس، ولو كان مجرد المعاصرة يكتفى به في التدليس لكان هؤلاء مدلسين؛ لأنهم عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم قطعاً، ولكن لم يعرف هل لقوه أو لا"
(2)
.
(1)
"التقييد والإيضاح" ص 96، وانظر:"بيان الوهم وإيهام" 5: 493.
(2)
"نزهة النظر" ص 114 - 115، و"النكت على كتاب ابن الصلاح" 2: 614 - 615.
وسبق ابن حجر إلى تخصيص التدليس برواية الراوي عن شيخه حديثاً لم يسمعه منه ـ ابن رشيد، فإنه قال في معرض كلام له:"وأما المعاصر غير الملاقي إذا أطلق: (عن) فالظاهر أنه لا يعدّ مدلساً، بل هو أبعد عن التدليس؛ لأنه لم يعرف له لقاء ولا سماع، بخلاف من علم له لقاء أو سماع"
(1)
.
وكذا العلائي في "جامع التحصيل" عند تعريفه للتدليس
(2)
، لكنه في تراجم الرواة في الكتاب ربما رجع عنه، من ذلك قوله معقباً على كلمة البخاري في ابن جريج وأنه لم يسمع من عمرو بن شعيب شيئاً:"قد روى عنه عدة أحاديث، وهي عن جماعة ممن تقدم ذكرهم، ولكنه مدلس كما سبق ذكره فيهم"
(3)
.
والدليل الذي ذكره ابن حجر لتخصيص التدليس بهذه الصورة غير ناهض، فإنها موجودة أيضاً في بعض روايات الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم كابن عباس وأبي هريرة وغيرهما، فإنهم يروون عنه ما لم يسمعوه منه، ولم يسم العلماء ذلك تدليساً، وإن سماه بعضهم بذلك
(4)
، وقد ذكر هذا ابن حجر
(5)
، وذكر أن مسلك العلماء هذا يفسر بأنه تأدب مع الصحابة، وإذا كان
(1)
"السنن الأبين" ص 65.
(2)
"جامع التحصيل" ص 110، وانظر أيضاً: ص 139.
(3)
"جامع التحصيل" ص 280، وانظر أيضاً ص 111.
(4)
"سير أعلام النبلاء" 2: 608.
(5)
"النكت على كتاب ابن الصلاح" 2: 623.
ذلك كذلك فلم لا يفسر بهذا عدم إطلاقهم التدليس على رواية المخضرمين وأنه تأدب معهم؟ .
ثم هناك جواب آخر في عدم إطلاق التدليس على صنيع الصحابة وعلى صنيع المخضرمين، وهو أن من شرط التدليس أن يكون بغرض إخفاء عيب في الإسناد، ولم يكن غرض أولئك هذا، وإنما كان غرضهم التخفيف، كما قال الحاكم:"ففي هؤلاء الأئمة المذكورين بالتدليس من التابعين جماعة وأتباعهم، غير أني لم أذكرهم، فإن غرضهم من ذكر الرواية أن يدعوا إلى الله عزوجل، فكانوا يقولون: قال فلان ـ لبعض الصحابة ـ، فأما غير التابعين فأغراضهم مختلفة"
(1)
، وسيأتي شرح هذا مطولاً في المبحث التالي.
فلما انتشر قصد إخفاء عيب في الإسناد عند من بعدهم سمي عملهم كله تدليساً، وإن لم يتحقق وجود هذا الغرض أحياناً.
ثم إن جزم ابن حجر بأن الصواب أن رواية الراوي عمن عاصره ولم يسمع منه ليس بتدليس ـ إن كان يعني تصويب ذلك من جهة النظر والاجتهاد فهذا شأن، لكن القضية الآن في حكاية اصطلاح الأئمة، فإن كانوا يطلقون على هذا تدليساً لم يكن للتصويب هنا كبير فائدة، إذ هو لا يغير من الواقع شيئاً، فهو اصطلاح قد مضى وانتهى فلا يمكن تغييره، وهذه قاعدة عامة في قضايا مصطلح الحديث ينبغي أن تستقر في أذهان الدارسين، وهي (أن اختيار المتأخر
(1)
"معرفة علوم الحديث" ص 104.
لرأي ما في قضية ما لا يلغي ما تقدم مادام موجوداً في اصطلاحهم)
(1)
.
والمتأمل في كلام أئمة النقد في موضوع التدليس يدرك بسهولة أن ما ذكره العراقي من أن حد ابن الصلاح للتدليس هو المشهور بين أهل الحديث ـ هو الأقرب للواقع، فمن ذلك قول ابن أبي حاتم: " قلت لأبي: أبو وائل سمع من أبي الدرداء؟ قال: أدركه ولا يحكي سماع شيء، أبو الدرداء كان بالشام، وأبو وائل بالكوفة، قلت: كان يدلس؟ قال: لا، هو كما قال أحمد بن حنبل
(2)
"، فقوله: "كان يدلس؟ " - يدل على أنه قد تقرر عندهم اعتبار رواية الراوي عمن عاصره ولم يسمع منه تدليساً، وقد نفى والده عنه التدليس، ولعل ذلك لكونه لا يمكن سماعه منه، فقد ذكر أبوحاتم أن أبا الدرداء بالشام وأبا وائل بالكوفة، فهو بحكم من لم يدركه، أو لكونه لم يكن غرضه التدليس، أو لكون الذي أسقط الواسطة هو من دون أبي وائل، وقد يكون فعل ذلك خطأً.
وسئل أحمد وابن معين، عن حديث يرويه عبدالمجيد بن أبي رواد، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، فقالا:"ليس بصحيح، وليس يعرف هذا الحديث من أحاديث عبيد الله، ولم يسمع عبدالمجيد بن أبي رواد من عبيدالله شيئاً، ينبغي أن يكون عبدالمجيد دلسه، سمعه من إنسان فحدث به"
(3)
.
(1)
وهي من ضمن قواعد عامة كنت قد ألقيتها في بعض الدروس العلمية، يراعيها الدارس لمصطلح الحديث، وعلى الأخص أساتذة هذا الفن في تدريسهم له، لعل الله تعالى ييسر كتابتها وتحريرها بعونه وتوفيقه.
(2)
. " المراسيل " ص 88.
(3)
. "المنتخب من علل الخلال" ص 227.
ومن ذلك أيضاً قول ابن معين: "دلس هشيم عن زاذان أبي منصور، ولم يسمع منه"
(1)
.
وقال أيضاً: " لم يلق يحيى بن أبي كثير زيد بن سلام، وقدم معاوية بن سلام عليهم، فلم يسمع يحيى بن أبي كثير، أخذ كتابه عن أخيه ولم يسمعه، فدلسه عنه"
(2)
.
وقال البخاري: "لا أعرف لابن أبي عروبة سماعاً من الأعمش، وهو يدلّس ويروي عنه"
(3)
.
وقال العجلي في الحجاج بن أرطاة: "كان جائز الحديث، إلا أنه صاحب إرسال، وكان يرسل عن يحيى بن أبي كثير ولم يسمع منه شيئاً، ويرسل عن مجاهد ولم يسمع منه شيئاً، ويرسل عن مكحول ولم يسمع منه شيئاً، ويرسل عن الزهري ولم يسمع منه شيئاً، فإنما يعيب الناس منه التدليس"
(4)
.
وقال الفسوي: "وقد روى سعيد بن أبي عروبة عن عبيدالله بن عمر، وعن هشام بن عروة، وعن أبي بشر، ولم يسمع منهم، إنما دلس عنهم، ولعمري إن ما روى عنهم مناكير"
(5)
.
(1)
"تاريخ الدوري عن ابن معين" 2: 620.
(2)
. "تاريخ الدوري عن ابن معين" 2: 652.
(3)
. "العلل الكبير" 2: 262.
(4)
. "الثقات" 1: 284.
(5)
"المعرفة والتاريخ" 2: 123.
وقال أيضاً: "لم يسمع سالم من ثوبان، إنما هو تدليس"
(1)
.
وقال ابن حبان في ترجمة يحيى بن أبي كثير: "فكل ما روى عن أنس فقد دلس عنه، ولم يسمع من أنس ولا من صحابي شيئاً"
(2)
.
وقال أيضاً وهو يذكر أنواع جرح الضعفاء: "المدلس عمن لم يره، كالحجاج بن أرطاة، وذويه، كانوا يحدثون عمن لم يروه ويدلسون حتى لا يعلم ذلك منهم"
(3)
.
وقال ابن عدي في سعيد بن أبي عروبة: "ثَبْت عن كل من روى عنه، إلا من دلس عنهم، وهم الذين ذكرتهم ممن لم يسمع منهم"
(4)
.
وقال الدارقطني: "لم يسمع ابن جريج من المطلب بن عبدالله بن حنطب شيئاً، ويقال: كان يدلسه عن ابن أبي سبرة أو غيره من الضعفاء"
(5)
.
وقال الحاكم ـ وهو يعد أجناس المدلسين ـ: "الجنس السادس من التدليس: قوم رووا عن شيوخ لم يروهم قط، ولم يسمعوا منهم إنما قالوا: قال
(1)
"المعرفة والتاريخ" 3: 236.
(2)
"ثقات ابن حبان" 7: 592، وانظر أيضاً: 6: 98، و"المجروحين" 1: 229، و"مشاهير علماء الأمصار" لابن حبان ص 145 ترجمة (1145)، ص 179 ترجمة (1415)، ص 191 ترجمة (1537)، ص 195 ترجمة (1566).
(3)
"المجروحين" 1: 80.
(4)
"الكامل" 3: 1233.
(5)
"تحفة التحصيل" ص 212.
فلان، فحمل ذلك عنهم على السماع، وليس عندهم عنهم سماع عالٍ ولا نازل"
(1)
.
ولما ذكر الذهبي قول أحمد في سعيد بن أبي عروبة: "لم يسمع من الحكم بن عتيبة
…
" وعد أحمد أناساً عاصرهم سعيد، وحدث عنهم ولم يسمع منهم، قال الذهبي: "وقد حدث عن هؤلاء على التدليس، ولم يسمع منهم"
(2)
، وقال مرة:"يعني: يقول: عن، ويدلس"
(3)
.
وقال الذهبي أيضاً: "ومن أمثلة التدليس: الحسن، عن أبي هريرة، وجمهورهم على أنه منقطع"
(4)
.
بل عَدَّ الإمام يعقوب بن شيبة رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه أشد تدليساً من روايته عمن سمع منه ما لم يسمعه منه، فقال: "التدليس ـ جماعة من المحدثين لا يرون به بأساً، وكرهه جماعة منهم، ونحن نكرهه، ومن رأى التدليس منهم فإنما يجوّزه عن الرجل الذي قد سمع منه، ويسمع من غيره عنه ما لم يسمعه منه، فيدلسه، يري أنه قد سمعه منه، ولا يكون ذلك أيضاً عندهم
(1)
"معرفة علوم الحديث" ص 109، وانظر أيضاً:"تعريف أهل التقديس" ص 144، 145.
(2)
"سير أعلام النبلاء" 6: 415، وانظر:"العلل ومعرفة الرجال" 2: 331.
(3)
"الميزان" 2: 152.
(4)
"الموقظة" ص 49، وانظر أيضاً:"سير أعلام النبلاء" 5: 277، 6: 141، 227، 336، 8:289.
إلا عن ثقة، فأما من دلَّس عن غير ثقة، وعمن لم يسمع هو منه، فقد جاوز حد التدليس الذي رخص فيه من رخص من العلماء"
(1)
.
وكذا قال ابن عبدالبر: "إن حدث عمن لم يسمع منه فقد جاوز حد التدليس الذي رخص فيه من رخص من العلماء إلى ما ينكرونه ويذمونه ولا يحمدونه"
(2)
، وقال أيضاً:"وإذا وقع ذلك فيمن لم يلقه فهو أقبح وأسمج"
(3)
.
ولما ذكر ابن رجب كلمة يعقوب بن شيبة عقب عليها بقوله ـ موافقاً له على تسميته تدليساً ـ: "وقد كان الثوري وغيره يدلسون عمن لم يسمعوا منه أيضاً، فلا يصح ما قال يعقوب"
(4)
، يعني لا يصح قوله: إن هذا لم يرخص فيه العلماء.
في أشياء كثيرة جداً عن المتقدمين والمتأخرين فيها إطلاق ذلك.
وأما ما نسب إلى الشافعي، والبزار، وابن القطان مما يخالف ذلك فنعم، إذ كلامهم يحتمل ما رجحه ابن حجر، على أنه يمكن للناظر المتأمل بنوع تأويل أن يرد قولهم إلى قول الجمهور فيدخل صورة تحديث المعاصر عمن لم يلقه.
(1)
"الكفاية" ص 362.
(2)
"التمهيد" 1: 28.
(3)
"التمهيد" 1: 27.
(4)
"شرح علل الترمذي" 2: 585، وانظر أيضاً في ذم هذا النوع من التدليس، وكونه أشد من التدليس عمن سمع منه:"جامع التحصيل" ص 111.
وأما قول ابن حجر: إن كلام الخطيب يقتضيه ـ يعني يقتضي ما رجحه ـ فليس الأمر كذلك، فإن للخطيب كلاماً آخر لم يذكره ابن حجر يجلي رأيه بوضوح، قال:"والمدلَّس: رواية المحدث عمن عاصره ولم يلقه، فيتوهم أنه سمع منه، أو روايته عمن قد لقيه ما لم يسمعه منه، هذا هو التدليس في الإسناد"
(1)
.
وقد عقد الخطيب فصلاً في أخبار المدلسين ذكر فيه من دلس عمن لم يسمع منه، وعمن سمع منه، ثم كلامه عن التدليس يدل على إدخال هذه الصورة ـ وهي رواية المعاصر عمن لم يسمع منه ـ فيه
(2)
.
وابن حجر معترف بأن من الأئمة من يسمي هذا تدليساً، ولكنه اختار أن يخرجه من التدليس، ويسميه باسم خاص به، وهو الإرسال الخفي، تمييزاً للأنواع، كما قال
(3)
، مع أنه هو ربما سماه تدليساً
(4)
.
وغرضي من بحث هذه المسألة هنا عدد من الأمور:
الأمر الأول: رأي ابن حجر ـ باعتبار تأخر عصره وتحريره لمصطلحات أهل الحديث على طريقة التعاريف ـ هو المشهور في كتب المصطلح المتأخرة بعده
(1)
"الكفاية" ص 22.
(2)
"الكفاية" ص 355 - 364.
(3)
"تعريف أهل التقديس" ص 25.
(4)
. "إتحاف المهرة" 14: 181.
أنه الراجح، فإذا رجحه الباحث فلابد أن يستحضر القاعدة السابقة المتضمنة أن هذا الترجيح لا يلغي استخدام الأئمة بحال، فإذا وقف الباحث على كلمة لأحد الأئمة يصف فيها شخصاً بالتدليس عن شخص لم يسمع منه فلا يعد هذا تناقضاً؛ لأنه اختار أن التدليس من شرطه أن يكون عمن سمع منه، فهم سائرون على اصطلاحهم، فلا تناقض.
وأهم من ذلك أنه لا يجوز أن نجعل وصف إمام لراوٍ بالتدليس عن شخص إثباتاً لسماعه منه، بناءً على ترجيح ابن حجر لمعنى التدليس، وهو رواية الراوي عمن سمع منه حديثاً لم يسمعه منه، فقد اتضح بجلاء أن الأئمة يطلقون التدليس أيضاً على رواية المعاصر الذي لم يسمع ممن روى عنه.
مثال ذلك أن أباحاتم قال في نقده لحديث رواه زياد بن الربيع، عن هشام ابن حسان، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالإثمد عند النوم، فإنه يجلي البصر، وينبت الشعر "، قال:"هذا حديث منكر، لم يروه عن محمد إلا الضعفاء: إسماعيل بن مسلم، ونحوه، ولعل هشام بن حسان أخذه من إسماعيل بن مسلم، فإنه كان يدلس"
(1)
.
فقد سألتني إحدى الباحثات الفاضلات عن قول أبي حاتم: "فإنه كان يدلس"، ما معنى تدليسه عن محمد بن المنكدر وهو لم يذكر في الرواة عنه؟
(1)
"العلل" 2: 260، وانظر:"الكامل" 3: 1052.
فقلت لها: ما الذي تعرفينه من تعريف للتدليس؟ قالت: هو ما أخذناه في الدراسة: رواية الراوي عمن سمع منه ما لم يسمعه منه، فقلت لها: لكن الأئمة يطلقون التدليس كثيراً على غير هذه الصورة أيضاً، فيطلقونه على من روى عن معاصر له لم يسمع منه أبداً، كما في كلمة أبي حاتم هذه، فلا غرابة إذاً، ولا ينبغي أيضاً أن تثبتي منها سماع هشام من محمد بن المنكدر، بناءً على ما كنت تعرفينه عن معنى التدليس.
ومثل ذلك صنيع أحد المشايخ، فإنه ذكر كلمة أبي حاتم هذه ثم أجاب عنها، وصحح الإسناد، قال في الجواب: "لم أر من رماه بالتدليس مطلقاً، وإنما تكلموا في روايته عن الحسن، وعطاء خاصة؛ لأنه يرسل عنهما، كما قال أبوداود
…
، وهذا الحديث من روايته عن محمد بن المنكدر، فلا مجال لإعلاله".
وعلى هذا الكلام مناقشات من عدة أوجه، لكن موضع الشاهد هنا هو أن الباحث فهم من رمي أبي حاتم له بالتدليس: أنه دلَّس عمن سمع منه، وليس الأمر كذلك، ويحتاج إلى إثبات سماعه من محمد بن المنكدر، وكلمة أبي حاتم هذه لا تفيد هذا ـ كما تقدم ـ، فإنهم يطلقون التدليس على رواية الراوي عن معاصر لم يسمع منه. وقضية الانتباه لاختلاف الاصطلاح مهمة جداً، فلا يصح حمل كلام إمام على كلام إمام آخر يخالفه في الاصطلاح، في هذا العلم وغيره، ومثال ذلك ما وقع فيه أحد الباحثين في مسألتنا هذه، فإنه فسر مراد مسلم بأن الأئمة يتفقدون السماع إذا كان الراوي معروفاً بالتدليس مشهوراً به ـ فسره بأن يصفه أكثر من إمام بالتدليس ولا يلزم إكثاره منه، ومن ضمن ما استدل به على
ذلك أن ابن جريج مشهور بالتدليس، وقد صرح ابن حجر بأن تدليسه قليل
(1)
.
كذا استدل الباحث بكلام ابن حجر، مع أنه ذكر أن ابن حجر قد خص التدليس برواية الراوي عمن سمع منه شيئاً لم يسمعه منه، وأن المشهور عند أئمة النقد خلاف ما ذكره ابن حجر، فرواية الراوي عمن عاصره ولم يسمع منه تدليس أيضاً، وحينئذٍ فكلام ابن حجر عن تدليس ابن جريج ـ بعد التسليم به ـ مراد به فقط تدليسه على الصورة الأولى التي اختارها ابن حجر لتعريف التدليس، يدل عليه أيضاً أن نوع التدليس في الأحاديث التي ذكر ابن حجر في كلامه عليها أن فيها دلالة على قلة تدليس ابن جريج هو على هذه الصورة، وأما إذا ضم إلى ذلك تدليسه على الصورة الثانية فيبعد ـ كما يلاحظ من ترجمته ـ وصفه بأنه قليل
(2)
، وابن حجر نفسه قد عدّ ابن جريج من المكثرين من التدليس المعروفين به
(3)
.
الأمر الثاني: كل المسائل اللاحقة في موضوع التدليس ـ ولاسيما مبحث حكم رواية المدلس إذا لم يصرح بالتحديث ـ متعلقة بما إذا روى عن شخص سمع منه شيئاً لم يسمعه منه، فهو الذي يتصور فيه ذلك، أما الذي نازع ابن
(1)
"فتح الباري" 3: 412، 4: 233، 409، 5: 25، 10:364.
(2)
انظر: "المراسيل" ص 133، و"جامع التحصيل" ص 280، و"تهذيب التهذيب" 6: 405، و"تحفة التحصيل" ص 211.
(3)
"تعريف أهل التقديس" ص 95، و"النكت على كتاب ابن الصلاح" 2:641.
حجر في تسميته تدليساً ـ وهو رواية الراوي عمن عاصره ولم يسمع منه ـ فهذا مضى حكمه في الفصل الأول، وعلى هذا فإذا وقف الباحث على كلام لبعض الأئمة يصف شخصاً بالتدليس عن شخص لم يسمع منه ـ فلا ينشغل الباحث بالبحث عن تدليس المدلس في هذا الحديث بعينه، فذلك لا يتصور، إذ هو لم يسمع منه أصلاً، وإنما يطبق عليه قواعد (الانقطاع) الماضية في الفصل الثاني، ولذا قال ابن رجب: "وأما من يدلس عمن لم يره فحكم حديثه حكم المرسل
…
"
(1)
.
مثال ذلك أن ابن جريج معروف بالتدليس، وهو يروي عن عمرو بن شعيب أحاديث
(2)
، فإذا كان مع الباحث واحد منها، وأراد نقده، فعليه أن يبحث أولاً في سماعه من عمرو بن شعيب، وسيجد أن البخاري نص على أنه لم يسمع منه
(3)
، وقال البيهقي:"لا يرون له سماعاً منه"
(4)
.
وعلى هذا فالحكم على الإسناد يكون بالجزم بالانقطاع، ولا يقال - كما يفعله بعض الباحثين -: ابن جريج مدلس، ولم يصرح بالسماع، فإن هذا الحكم على الإسناد يوهم أنه يحتمل الوقوف على رواية يصرح فيها بالسماع، والحال أنه
(1)
"شرح علل الترمذي" 2: 584.
(2)
" تحفة الأشراف " 6: 324.
(3)
" العلل الكبير " 1: 325.
(4)
" سنن البيهقي " 6: 8.
لم يسمع منه أصلاً، وغير المدلس هذا حكمه، فالمدلس من باب أولى.
وكون الأئمة يسمون عمل ابن جريج هذا تدليساً لا يبرر قول الباحث هنا: إن ابن جريج مدلس، ولم يصرح بالسماع، لأن هناك نوعاً من التدليس يكون المدلس قد سمع من شيخه في الأصل، والأئمة إذا وصفوا ابن جريج - مثلاً - بالتدليس عن عمرو بن شعيب يذكرون أنه لم يسمع منه، فالحكم على الحديث المعين إذاً هو النص على الانقطاع والجزم بأنه لم يسمعه.
وقد رأيت بعض الباحثين يضعف بالتدليس رواية مدلس لشيء لم يدركه أصلاً، فقد قال أحد الباحثين عن أثر قتادة:"أن زيد بن ثابت ترك ذهباً وفضة كسر بالفؤوس"-. قال الباحث: " إسناده ضعيف لتدليس قتادة".
وقتادة فوق أنه لا يروي هذا الأثر عن زيد بن ثابت، وإنما يرسله، كما هو ظاهر من صيغة الرواية - فإنه لم يدرك زيد بن ثابت، فلا معنى لتعليل الإسناد بتدليس قتادة.
الأمر الثالث: اتضح مما تقدم أن التدليس عند أكثر الأئمة له صورتان: إحداهما تحديث الراوي عمن عاصره ولم يسمع منه، والثانية: تحديثه عمن سمع منه بشيء لم يسمعه منه، فإذا ارتكب الراوي واحدة منهما وصف بأنه مدلس.
وكثير من المدلسين يرتكب الصورتين جميعاً، وهؤلاء لا إشكال فيهم بأنهم يعاملون بأحكام المدلسين في الحالتين، أما في الأولى فالمقصود بذلك
اشتراط تصريح المدلس بالتحديث ليحكم له بالاتفاق أنه سمع ممن روى عنه، ولا يكفيه إمكان اللقاء الذي يقول به مسلم ومن وافقه، لأن مسلماً اشترط عدم التدليس، كما تقدم شرح هذا في الفصل الماضي، وأما في الثانية فالمقصود أحكام المدلسين التفصيلية الآتية في المبحث الثالث.
والإشكال قائم فيمن عرف بارتكاب إحدى الصورتين هل يعطى حكم المدلس في الصورة الأخرى؟ فإذا وصف شخص بالتدليس والمراد بذلك تدليسه عمن عاصره ولم يسمع منه هل تقبل روايته عمن سمع منه مطلقاً وإن لم يصرح بالتحديث؟ وإذا وصف شخص بالتدليس عمن سمع منه هل يشترط مسلم ومن وافقه تصريحه بالتحديث إذا روى عمن عاصره وأمكن لقاؤه له، لكي يحكموا له بأن هذا من شيوخه الذين سمع منهم؟
بالنسبة للحالة الأخيرة لم أجد أحداً تكلم عليها، رغم كثرة طرق الباحثين المعاصرين لموضوع التدليس، وقد يكون ذلك لكون الأمر فيها ظاهراً، إذ سيعود الأمر إلى مطالبة المدلس بالتصريح بالتحديث في كل حديث حديث حتى وإن ثبت له أصل السماع بمجرد إمكان اللقاء، فكأننا طالبناه من البداية بالتصريح بالتحديث.
لكن يبقى مع ذلك إشكال، خلاصته أن اشتراط التصريح بالتحديث في كل حديث حديث ممن روى عن شيخه الذي سمع منه أمر غير متفق عليه، وله أحكام تفصيلية سيأتي شرحها في المبحث الخامس، فإن عاملناه بهذه الأحكام كنا قد أثبتنا له سماعاً ممن روى عنه بمجرد إمكان اللقاء، ولم يؤثر تدليسه عمن
سمع منه على إثبات أصل سماعه ممن أمكن لقاؤه له، ولا أدري هل يلتزم بهذا من يذهب مذهب مسلم أو لا؟ فإن مسلماً اشترط عدم التدليس، ولم يفصّل، وإن لم نثبت له سماعاً ممن روى عنه لكونه يدلس عمن سمع منه كنا قد نقلناه إلى النوع الأشد والأقبح من التدليس، وهو روايته عمن عاصره ولم يسمع منه، مع أن الثابت عنه التدليس من النوع الأدنى.
ومما ينبغي ذكره هنا أن هذا الإشكال لا يرد على ما تحرر عن جمهور العلماء أنهم لا يثبتون سماع الراوي ممن روى عنه مع إمكان اللقاء إلا بوجود التصريح بالتحديث، سواء كان الراوي مدلساً أو غير مدلس على ما مضى شرحه في الفصل الثاني، فتوقفهم إذا لم يوجد تصريح بالتحديث ليس سببه التدليس، بل لأن السماع لم يثبت، وليس كل راوٍ عمن عاصره ولم يسمع منه يعدّ مدلساً، كما سيأتي شرحه في المبحث الثاني.
وأما الحالة الأولى ـ وهي ما إذا وصف شخص بالتدليس والمراد تدليسه عمن عاصره ولم يسمع منه هل تقبل روايته عمن سمع منه مطلقاً؟ ـ فأول من رأيته أشار إلى هذه المسألة الحافظ ابن حجر، فإنه قال حين ذكر المرتبة الأولى من مراتب المدلسين، وهم الذين وصفوا بالتدليس على الندرة:"والغالب أن إطلاق من أطلق ذلك عليهم تجوّز من الإرسال إلى التدليس"
(1)
.
وأطلق عليه تجوّزاً لأنه رجح أن التدليس خاص بمن روى عمن سمع منه
(1)
"النكت على كتاب ابن الصلاح" 2: 636.
شيئاً لم يسمعه منه، وقد تقدم آنفاً مناقشته في ذلك، لكن الشاهد هنا هو أنه أشار إلى نوع التدليس الذي رمي به الراوي حين البحث في روايته المعينة.
وفي العصر الحاضر رأيت بعض الباحثين صرح بما أشار إليه ابن حجر، فذهبوا إلى أن الراوي إذا رمي بالتدليس والمقصود بذلك تحديثه عمن عاصره ولم يسمع منه، فروايته عمن سمع منه مقبولة مطلقاً، وإن لم يصرح بالتحديث.
وهذه المسألة مرتبطة أيضاً ارتباطاً قوياً بمسألة كيفية ثبوت أصل سماع الراوي ممن روى عنه الماضي بحثها في الفصل الثاني، ومن لم يتفطن لذلك وقع في التناقض، فأحد الباحثين خصص بحثاً مطولاً مستوعباً بحث فيه كيفية ثبوت أصل سماع الراوي الثقة ممن روى عنه، ورجح فيه أن كبار الأئمة ـ كشعبة، ويحيى القطان، وعبدالرحمن بن مهدي، وأحمد، وعلي بن المديني، والبخاري، وأبي حاتم، وأبي زرعة ـ يشترطون لذلك في المدلس وغير المدلس ثبوت التصريح بالسماع، وبعضهم اكتفى بثبوت اللقاء، خلافاً لمسلم في اكتفائه بإمكان اللقاء مع سلامة الراوي من التدليس، ثم قطع الباحث هنا بأن من رمي بالتدليس والمقصود به تدليسه عمن عاصره ولم يسمع منه، إذا ثبت سماعه ممن روى عنه ولو مرة واحدة فباقي رواياته لا تحتاج إلى تصريح بالتحديث، وعلى هذا فليس هناك فرق بين المدلس على هذه الصورة وغير المدلس، فإذا صرحا بالتحديث ولو مرة واحدة قبلت رواياتهما مطلقاً وإن لم يصرحا بالتحديث، مع أن كلام الأئمة كله يدور حول وجود فرق بينهما، وهذا الفرق لا يتحقق إلا بأحد أمرين، إما بترجيح رأي مسلم في الاكتفاء بإمكان اللقاء من غير المدلس،
واشتراط التصريح بالتحديث من المدلس، وإما بأن يشترط فيهما جميعاً التصريح بالتحديث لإثبات أصل السماع، ثم يفرق بينهما بأن عنعنة غير المدلس بعد ذلك مقبولة، وأما المدلس فيتوقف فيه، ويحتاج إلى نظر خاص.
ولا شك أن التدليس ـ وهذه المسألة بخصوصها ـ من مضايق مسائل هذا الفن، والذي أراه هنا أن التدليس بابه واحد، وأن من عرف بالتدليس واشتهر به في الصورتين أو إحداهما أخذ حكم المدلس بصفة عامة، وذلك لسببين:
الأول: من العسير جداً بالنسبة للمعروفين بالتدليس إثبات أن ذاك المدلس لا يرتكب سوى التدليس الذي هو الرواية عن معاصر لم يسمع منه، وقد ذكر أحد الباحثين مثالاً لذلك: الحسن البصري، وقتادة بن دعامة، وذكر باحث آخر أبا إسحاق السبيعي، وذكر باحث ثالث سعيد بن أبي عروبة.
وهؤلاء الأربعة تبين بالتتبع أنهم ارتكبوا التدليس بالصورة الثانية أيضاً، وهي التدليس عمن سمع منه، وسيأتي في ثنايا مباحث التدليس أمثلة لهذا.
الثاني: كلام الأئمة في حكم رواية المدلس ليس فيه التفصيل المذكور، فمن ذكر منهم حكم رواية المدلس ذكره بإطلاق، ولم يفرق بين تدليس وتدليس، ويتأكد ذلك إذا عرفنا أن إطلاق التدليس على من روى عمن عاصره ولم يسمع منه مشتهر عندهم جداً، بل نص بعض الأئمة على أنه أكثر شناعة من التدليس عمن سمع منه كما تقدم في أول هذا المبحث، فلو كان هذا التفصيل الذي ذكره بعض الباحثين موجوداً لنصوا عليه.
وإذا كان الأمر كذلك فالأصل أن نبقى على هذا حتى يقوم دليل قوي على خلافه، وما ذكره الباحثون من أدلة لا ينهض لذلك، ولولا خشية الإطالة لذكرتها بمناقشاتها، وأخاف أن يكون جزم هؤلاء الباحثين بما توصلوا إليه سببه ما رأوه من إسراف في رد الأحاديث وتضعيفها بالتدليس، فصاروا يتمسكون بأدنى شبهة لدفع ذلك.
وقد رأيت بعضهم يستدل على التفصيل المذكور بأدلة لا يليق الاستدلال بها لولا أن الباحث مندفع لما يريد ترجيحه، فقد ذكر أحدهم أن من الأدلة على عدم تفتيشهم عن سماع قتادة من شيوخه الذين ثبت سماعه منهم قول شعبة:"كنت أعرف حديث قتادة ما سمع مما لم يسمع، فإذا جاء ما سمع قال: حدثنا أنس، وحدثنا الحسن، وحدثنا سعيد (يعني ابن المسيب)، وحدثنا مطرف، وإذا جاء ما لم يسمع كان يقول: قال سعيد بن جبير، وقال أبوقلابة"، وفي رواية ذكر سليمان بن يسار مع الأخيرين
(1)
.
فالأربعة الأولون قد سمع منهم قتادة، والآخرون لم يسمع منهم، فدلّ ذلك على أن شعبة إنما يتفقد السماع لقتادة ممن لم يسمع منه.
كذا يقرر الباحث، وهو كلام ينقض بعضه بعضاً، ذلك أن قتادة إذا كان قد سمع من الأولين فعنعنته عنهم مقبولة مطلقاً كما يذهب إليه الباحث، ولم
(1)
"طبقات ابن سعد" 7: 229، و"تاريخ أبي زرعة الدمشقي" 1: 456، و"الجعديات"
1: 311، و"الكفاية" ص 363، و"التمهيد" 1:35.
يسمع من الآخرين فيحتاج إلى التصريح بالتحديث، وشعبة يعرف ذلك في الأمرين، فما الحاجة إلى التفقد حينئذٍ؟
وقد جاءت عنه رواية أخرى أطلق فيها ولم يسم أحداً، وأنه لا يحفظ عن قتادة حتى يقول: حدثنا، وأهم من ذلك النصوص المتضافرة على أن شعبة كان يتفقد سماع قتادة ممن سمع منه، بل من أخص شيوخه، وهو أنس بن مالك، وفوق هذا هناك أحاديث يقول فيها قتادة: حدث مطرف، وحدث الحسن، وسيأتي هذا كله في المبحثين الرابع والخامس.
ويكون شعبة قد ذكر الثلاثة الأولين لأن قتادة قد سمع منهم، فروايته عنهم هي التي يمكن أن يقول فيها: حدثنا، ثم لما أراد شعبة أن يضرب مثالاً لما لم يسمعه قتادة مثل بروايته عن أناس لم يسمع منهم أصلاً، ليكون أبلغ في التمثيل، ولا يدل على أنه لا يقول ذلك فيمن سمع منهم.
ومثل ما تقدم استدلال الباحث أيضاً على قبول عنعنة الحسن البصري مطلقاً ممن ثبت سماعه منهم بأحاديث أخرجها البخاري، عن الحسن، عن أبي بكرة، وهو لم يصرح بالتحديث إلا في حديث واحد، والبخاري أخرج ثلاثة أخرى بالعنعنة، فدل على قبوله عنعنته مطلقاً.
ومع أن قول الباحث إن الثلاثة الأحاديث الباقية جاءت بالعنعنة عن الحسن، عن أبي بكرة ـ فيه نظر، إذ واحد منها ورد التصريح بالسماع فيه في "صحيح البخاري" نفسه، والثاني ورد التصريح بالسماع فيه خارج "الصحيح"، ويبقى الثالث موضع بحث، إلا أن المهم هنا هو أن
الباحث نفسه قد استدل في بحث آخر له بهذه الأحاديث الأربعة بعينها على أن البخاري يكتفي بالمعاصرة وإمكان اللقي، كما هو مذهب مسلم، ولا يشترط ثبوت التصريح بالتحديث، بدليل أن بعض الأئمة ـ كالدارقطني وغيره ـ تعقب البخاري في إخراجه أحاديث الحسن، عن أبي بكرة، وأنه لم يسمع منه، فهذا ـ كما ترى ـ تناقض في الاستدلال، فأحاديث الحسن، عن أبي بكرة إن صح الاستدلال بها على إحدى القضيتين ـ امتنع الاستدلال بها على القضية الثانية، ويبقى النظر في دلالتها على المراد في القضية التي يُسْتَدَلُّ بها عليها.
وقد رأيت كلاماً لباحث آخر يناقش فيه وصف ابن حجر في كتابه "التقريب" لمجموعة من الرواة بأنهم مدلسون، وهذا نص كلام الباحث:"ومن ذلك أيضاً (يعني من الجوانب التي هل محل انتقاد في كتاب ابن حجر) وصف عدد من التابعين الذين لم يدركوا أحداً من الصحابة أو بعضهم وأرسلوا أحاديثهم ـ بالتدليس، مثل سليمان بن مهران الأعمش، وحبيب بن أبي ثابت، ويحيى بن أبي كثير، والحسن البصري، وأبي إسحاق السبيعي، ونحوهم، فهؤلاء وأمثالهم إذا رووا عن الصحابة لم يقبل حديثهم إلا إذا صرحوا بالسماع فيقبل حديثهم".
كذا قال الباحث، وقد قلبت كلامه هذا على النار طويلاً فلم ينضج، ولست أجزم بمراده على التحديد، لكن أقرب ما وقع في ذهني في تفسيره هو ما تقدم من أن هناك عدداً من الرواة أرسلوا عمن عاصروه ولم يسمعوا منه،
فوصف الأئمة عملهم هذا بالتدليس، وحينئذٍ فلا يكونون مدلسين فيما عنعنوا فيه مما رووه عن مشايخهم الذين سمعوا منهم، فإن كان فهمي للعبارة صحيحاً فلا تحتاج إلى تعليق لنقدها، إذ المجازفة فيها ظاهرة جداً.