الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
شرط الاتصال والحديث الصحيح
ذكر عدد من الباحثين أسانيد من "صحيح البخاري" أخرجها مع أن السماع بين بعض رواتها لم يعلم، أي لم يرد السماع، أو ورد لكنه لا يثبت، ورأيت بعضهم يستدل بها على أن البخاري لا يشترط العلم بالسماع، وإنما يكتفي بالقرائن، ويستدل بها بعضهم على أن البخاري وإن كان يشترط العلم بالسماع، إلا أنه ربما اكتفى بالقرائن في بعض الأحوال، وذلك حين تقوى القرائن جداً على إثبات السماع.
ولا أتردد لحظة واحدة في القول بأن هذا الاستدلال غير صحيح، وأن هؤلاء الباحثين - ومثلهم كثير - لم يتضح في أذهانهم أن شروط الحديث الصحيح بابها واحد، فالناقد ربما نزل عن شرط من شروط الصحيح لسبب يراه، مع علمه بتخلف هذا الشرط.
وهذا الأمر مشهور متداول عند الأئمة والباحثين في الشرطين المتعلقين بالرواة، وهما العدالة والضبط، فصاحب الصحيح قد يخرج لأناس ليسوا على شرط الصحيح، يخرج لهم مقرونين بغيرهم، وفي المتابعات والشواهد، وفي المعلقات، بل قد يسوق أسانيد فيها من ليس على شرط الصحيح دون قصد التخريج له، وقد مضى شرح هذا في "الجرح والتعديل"، في الفصل الثاني منه.
وأما الشروط الثلاثة الباقية - وهي الاتصال، وعدم الشذوذ، وعدم العلة - فالكلام في إيضاح موقف النقاد منها في الأحوال الخاصة قليل جداً، ولهذا يظن بعض الباحثين أن كل ما في "الصحيحين" في شرط الاتصال - مثلاً
- هو على شرط الصحيح، وبنوا عليه ما تقدم من الاستدلال بالأسانيد التي أخرجها البخاري والسماع لم يعلم فيها على أنه لا يشترطه، وربما يخرج علينا بعض الباحثين فيلتقط أسانيد في "الصحيحين" وقع فيها شذوذ أو علل، فيستدل بها على أن الأئمة لا يشترطون في الحديث الصحيح خلو الإسناد منها.
وفي هذا المقام سأقصر الحديث عن شرط الاتصال، وأما ما يتعلق بالشذوذ والعلل فسيأتي الحديث عنه بإذاً الله تعالى في القسم الثالث "مقارنة المرويات"، وسأجعل نقطة الانطلاق في هذا الحديث من تلك الأسانيد التي يستدل بها بعض الباحثين على صنيع البخاري، وأنه لا يشترط العلم بالسماع، إما مطلقاً، أو في بعض الأحوال، وهي أربعة أسانيد:
1 -
حديث عروة بن الزبير، عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها:" إذا أقيمت صلاة الصبح فطوفي على بعيرك والناس يصلون"
(1)
.
ذكر بعض الباحثين أن هذا الحديث قال عنه الدارقطني: " هذا مرسل "، وبين الدارقطني أنه جاء من طريق عروة، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة
(2)
، وقال الطحاوي في كلامه على هذا الحديث:" عروة لم نعلم له سماعاً من أم سلمة "
(3)
.
فهذا إسناد اكتفى فيه البخاري بالمعاصرة، وإمكان اللقي، لأن عروة
(1)
. " صحيح البخاري " حديث (1626).
(2)
. " التتبع " ص 246 - 247.
(3)
. " شرح مشكل الآثار " 9: 141.
أدرك من حياة أم سلمة نيفاً وثلاثين سنة، وهو معها في بلد واحد.
والجواب عن هذا الإسناد أختصره في أمرين:
الأول: لو بحث من يذهب إلى أن الأئمة يشترطون العلم بالسماع عن نصوص تؤيد قوله لم يجد أفضل من هذا المثال، ذلك أن حال عروة مع أم سلمة ما ذكر، ومع هذا قال الطحاوي كلمته السابقة، وكذلك حكم الدارقطني بأنه مرسل، فأين الاكتفاء بالمعاصرة؟
الثاني: من المعلوم أن إدخال راو بين راويين لم يعلم السماع بينهما من أقوى القرائن على الانقطاع بينهما، كما تقدم في المبحث الأول من الفصل الثاني، ويتأكد هذا جداً إذا كان إدخال الراوي بينهما في الحديث نفسه الذي جاء من طريق آخر بالرواية بينهما مباشرة، كما في هذا الحديث، ذلك أن إدخال راو بين راويين هو دليل على الانقطاع، ولو كان السماع بينهما ثابتاً معلوماً في أحاديث أخرى
(1)
.
وهذه مسائل معروفة مقررة، وعلم السنة حلقة مترابطة، قواعده يخدم بعضها بعضاً.
إذا تقرر هذا فرواية عروة بن الزبير عن أم سلمة منقطعة جزماً، عند البخاري وغيره، والبحث ينبغي أن يكون حول إخراج البخاري لإسناد منقطع في " صحيحه ".
2 -
رواية عبد الله بن بريدة، عن أبيه، وقد أخرج البخاري بهذا الإسناد
(1)
. انظر: " بيان الوهم والإيهام " 2: 435.
حديثين، أحدهما حديث: " بعث النبي صلى الله عليه وسلم علياً إلى خالد ليقبض الخمس
…
" الحديث، والثاني حديث: " غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ست عشرة غزوة "
(1)
.
والبخاري ذكر في ترجمة عبد لله بن بريدة أنه روى عن أبيه بالعنعنة، وسمى البخاري من سمع منه عبد الله بن بريدة، فهذا يدل على أن البخاري لم يقف على تصريح له بالسماع من أبيه، ومع هذا أخرج له في " صحيحه " عن أبيه هذين الحديثين، فدل على أنه لا يشترط العلم بالسماع، هذا تقرير الاستدلال بهذا الإسناد.
والجواب: أن سماع عبد الله بن بريدة من أبيه معلوم، فقد جاءت عدة أحاديث فيها التصريح بالسماع، وهي من طريق علي بن الحسين بن واقد، عن أبيه، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه
(2)
.
وهذا التصريح وإن كان محل نظر من جهة ثبوته، فلا بعد أن يكون البخاري اطلع عليه فيما بعد واعتمده، فعلي بن الحسين بن واقد قد رآه البخاري في حياة شيخه إسحاق بن راهويه، ولم يكتب عنه، لأن إسحاق كان سيئ الرأي فيه بسبب الإرجاء، ثم كتب عن إسحاق عنه
(3)
.
وعلى افتراض أن البخاري لم يقف على هذا التصريح، أو لم يره صحيحاً فلا دلالة في تخريجه للحديثين على حكمه باتصال الإسناد، ويكون السؤال هو: كيف أخرج هذين الحديثين بهذا الإسناد وهو منقطع؟ .
(1)
. " صحيح البخاري " حديث (4350)، (4473).
(2)
. " سنن أبي داود " حديث (2572)، (2843)، (5242)، و " سنن الترمذي " حديث (2773)، (3689 - 3690)، (3774)، و " الشمائل المحمدية " حديث (20).
(3)
. " الضعفاء الكبير " 3: 226، و " ثقات ابن حبان " 8:460.
3 -
رواية أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي الكوفي، عن عثمان ابن عفان، أخرج البخاري بهذا الإسناد حديثين، أحدهما: حديث: " خيركم من تعلم القرآن وعلمه "، والثاني: حديث: (حصار عثمان)
(1)
.
وقد نفى شعبة، وابن معين سماع أبي عبد الرحمن من عثمان، وروى أحمد نفي شعبة ولم يعترضه بشيء، وقال أبو حاتم حين سئل عن سماعه من عثمان:" قد روى عنه، ولم يذكر سماعاً "
(2)
.
وهذا يدل على اكتفاء البخاري بالمعاصرة وإمكان اللقي ولا يشترط العلم بالسماع.
والجواب: في هذا الإسناد دليل قوي جداً على أن النقاد يشترطون ثبوت السماع، فالقرائن قوية على احتمال سماع أبي عبد الرحمن من عثمان، فكان في زمنه مقرئاً للقرآن، كما أخرجه البخاري تتمة للحديث الأول، وكان إقراؤه للقرآن بسبب هذا الحديث، ولفظ الراوي عنه بعد أن ساق المرفوع:" وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان حتى كان الحجاج، قال: وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا "، ومع كل هذا نفى الجمهور سماعه، وعلل أبو حاتم ذلك بأنه لم يذكر سماعاً.
وإخراج البخاري له عن عثمان لا يدل على الاكتفاء بالمعاصرة، لسببين:
الأول: جزم البخاري في ترجمة أبي عبد الرحمن السلمي أنه سمع من
(1)
. " صحيح البخاري " حديث (2778)، (5027).
(2)
. " مسند أحمد " 1: 58، و " المنتخب من علل الخلال " ص 120، و " تاريخ الدوري عن ابن معين " 2: 301، و " المراسيل " ص 106 - 108، و " فتح الباري " 9:75.
عثمان، فقال: " سمع علياً، وعثمان، وابن مسعود
…
، عن أبيه "
(1)
، ولا يبعد أن يكون البخاري يأخذ بما ورد أنه قرأ على عثمان بن عفان، وإن كانت الأسانيد فيها مقال
(2)
، وإلى هذا مال ابن حجر في بحثه سبب إخراج البخاري لهذا الإسناد مع قول الأئمة السابق ذكرهم: إنه لم يسمع منه
(3)
، وبعض الباحثين لم يحكم النظر في كلام ابن حجر، فحمله على أنه يقرر على البخاري إخراجه لمعاصر لم يصرح بالتحديث عن من روى عنه.
وقد يكون غير البخاري يثبت هذا السماع أيضاً، فقد ذكر أبو عوانة أن أهل العلم من أهل التمييز اختلفوا في سماع أبي عبد الرحمن من عثمان
(4)
، وذكر الذهبي نفي شعبة لسماعه من عثمان، ورده
(5)
.
الثاني: على افتراض أن يكون البخاري لا يصحح هذا السماع، ويريد بما ذكره في ترجمته بيان ورود السماع فقط - فلا دليل في إخراجه لهذين الحديثين على إثبات السماع بالمعاصرة، ويبعد جداً أن يخالف البخاري جمهور النقاد الذين نفوا سماعه منه وهو لا يصحح السماع، فالمتتبع لمخالفات البخاري للجمهور يراه فيها معتمداً على تصريح بالسماع، وغيره لا يصححه.
(1)
. " التاريخ الكبير " 5: 73، و " التاريخ الصغير " 1:201.
(2)
. انظر: " علل الدارقطني " 3: 60، و" معرفة القراء الكبار " 1: 52 - 57، و " سير أعلام النبلاء " 4: 267 - 272.
(3)
. " فتح الباري " 9: 76.
(4)
. " إتحاف المهرة " 11: 55.
(5)
. " معرفة القراء الكبار " 1: 54، 57، و " سير أعلام النبلاء " 4:269.
بل في الحديث الثاني دليل قوي على أنه يرى هذا الإسناد منقطعاً، فإنه أخرجه معلقاً، فالاحتمال القوي أن يكون فعل ذلك لهذا السبب، نعم يحتمل أن يكون فعل ذلك للاختلاف في إسناده، لكن الاحتمال الأول باق.
وعلى هذا فالنظر في سبب إخراج البخاري للحديث الذي رواه مسنداً، ولم يعلقه، وهو الحديث الأول، مع كونه يراه منقطعاً.
4 -
رواية قيس بن أبي حازم: " أن بلالاً قال لأبي بكر: إن كنت إنما اشتريتني لنفسك فأمسكني، وإن كنت إنما اشتريتني لله فدعني وعمل الله".
ذكره بعض الباحثين هكذا: حديث قيس بن أبي حازم، عن بلال بن رباح رضي الله عنه أنه قال لأبي بكر، ثم ذكر قول ابن المديني: " روى عن بلال، ولم يلقه
(1)
"، ثم استدل بهذا على أن البخاري يكتفي بالمعاصرة، حيث أخرج لقيس رواية عن بلال، وهو قد عاصره، ولم يرد له سماع منه.
وهذا الصنيع مثال لما ذكرته في الفصل الأول، من أن كثيراً من الباحثين لا يفرقون بين صيغة: عن فلان أنه قال لفلان كذا، فهذه رواية عنه، وبين صيغة: أن فلاناً قال لفلان كذا، فهذه حكاية للقصة، وليست رواية عنه، فقيس بن أبي حازم لا يروي عن بلال حكايته لموقف جرى بينه وبين أبي بكر، وإنما قيس يحكي هذا الموقف بنفسه، فينظر في إدراكه لهذا الموقف وحضوره من عدمه، وإدراكه لهذا الموقف يعرف بإدراكه لأصحابه ولقيه لهم، وابن المديني ينفي أن يكون لقي بلالاً، وحجته ظاهرة، فإن بلالاً خرج من المدينة إلى الشام بعيد
(1)
. " علل ابن المديني " ص 50.
وفاته صلى الله عليه وسلم، ولم يؤذن لأبي بكر، هذا هو الراجح في ذلك
(1)
، وقيس قدم المدينة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم
(2)
، ولم يرد سماعه من بلال، فالظاهر أنه لم يلقه، وعلى هذا فالإسناد إذاً منقطع، وثبوت لقيه لأبي بكر لا يكفي للحكم بالاتصال، إذ هو لا يسند النص عنه، وإنما يحكي قصة وقعت لبلال معه، فلابد من إدراكه لهذه القصة.
لكن النظر لم ينته بعد، فالسؤال هو: لم أخرج البخاري هذا الإسناد وهو منقطع؟ .
وأبدأ الآن بالجواب عن هذا السؤال الذي تكرر مع الأسانيد الأربعة كلها، وهو: لم أخرجها البخاري وهي أسانيد منقطعة؟
والجواب عن هذا السؤال يتعلق بالقضية التي أشرت إليها في أول هذا المبحث، وهي قضية الشرط، والنزول عن الشرط، فإذا عرفنا أن شروط الحديث الصحيح هي ثقة الرواة، واتصال الإسناد، وخلوه عن الشذوذ، والعلل، لابد أن نضم إلى هذا إدراك أن الالتزام الدقيق بهذه الشروط بالقدر الذي يصلح لشرط الصحيح أمر غير موجود، فما من شرط من هذه الشروط إلا وقد نزل فيه صاحبا الصحيح عن الشرط.
(1)
. انظر: " مصنف عبد الرزاق " حديث (1827)، (20412)، و " طبقات ابن سعد " 3: 235 - 238، و " أعلام الحديث " 1: 456، و " المحلى " 3: 202، و " سنن البيهقي " 1: 419، و " سير أعلام النبلاء " 1: 357، و" التحقيق في أحاديث التعليق " لابن الجوزي (مسائل الأذان) بتحقيقي، ص 134.
(2)
. " تهذيب التهذيب " 8: 387.
والذي يهمنا هنا في النظر إلى هذه الأسانيد الأربعة هو شرط الاتصال، والإرسال منه على وجه الخصوص، وسأحاول تلخيص الكلام فيه بحيث يدرك القارئ بسهولة انتظامه مع القضية العامة، وهي النزول عن الشروط كلها.
وخلاصة الكلام أن إخراج البخاري لأسانيد قليلة لم يعلم فيها سماع الراوي ممن روى عنه إنما هو نزول عن شرطه وهو العلم بالسماع، ولا دلالة فيه مطلقاً على أنه لا يشترطه، فمن الجناية على هذا الإمام أن تذهب جهوده العظيمة التي تمثلت في الحرص على تتبع السماع، وفي التزامه بذلك في " صحيحه "، حتى أنه ربما ذكر أسانيد الغرض منهما إثبات السماع
(1)
، وفي إعراضه عن عشرات الأسانيد التي هي على شرط الصحيح لولا عدم العلم بالسماع، من الجناية عليه أن تذهب هذه الجهود بمجرد وقوفنا في أثناء مئات الأسانيد على بضعة أسانيد لم يعلم فيها السماع، مع وجود مخارج صحيحة لها غير كونه لا يشترط العلم به.
وعندما أقول بأنه أخرج هذه الأسانيد القليلة نازلاً بها عن شرطه فإني لا أقول ذلك جزافاً، بغرض التخلص منها، وإنما أقوله اعتماداً على دليل ظاهر جداً، وخلاصته أننا نجد أسانيد في " صحيح البخاري " ظاهرة الانقطاع بالاتفاق، ويلزم على صنيع هؤلاء الباحثين في استدلالهم بإخراج البخاري للأربعة الأسانيد السابقة على أن البخاري لا يشترط العلم بالسماع - أن يكون البخاري لا يشترط الاتصال أصلاً، وقد وقع إلزام البخاري بهذا فعلاً، كما
(1)
. " صحيح البخاري " حديث (10)، (4841 - 4842)، وانظر:" هدي الساري "
ص 14.
سأوضحه، وأوضح أنه غير لازم له، فالنزول عن الشرط مختلف تماماً عن التخلي عن الشرط.
فقد أخرج البخاري من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:" تعرق رسول الله صلى الله عليه وسلم كتفاً، ثم قام فصلى ولم يتوضأ "، وعن أيوب، وعاصم، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:" انتشل النبي صلى الله عليه وسلم عرقاً من قدر فأكل ثم صلى ولم يتوضأ "
(1)
.
ومحمد بن سيرين لم يسمع من ابن عباس، وإنما سمع من عكرمة عنه، لم يخالف في ذلك أحد
(2)
.
قال ابن حجر: " اعتماد البخاري في هذا المتن إنما هو على السند الثاني
…
، وكأن البخاري أشار بإيراد السند الثاني إلى ما ذكرت من أن ابن سيرين لم يسمع من ابن عباس، وما له في البخاري عن ابن عباس غير هذا الحديث، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق محمد بن عيسى بن الطباع، عن حماد بن زيد، فأدخل بين محمد بن سيرين، وابن عباس: عكرمة، وإنما صح عنده لمجيئه من الطريق الأخرى الثانية، فأورده على الوجه الذي سمعه"
(3)
.
وأخرج البخاري عدداً من الأسانيد، يروي فيها التابعي حكاية وقعت
(1)
. " صحيح البخاري " حديث (5404 - 5405).
(2)
. " مسائل أبي داود " ص 455، و " العلل ومعرفة الرجال " 1: 487، 2: 534، و " تاريخ الدوري عن ابن معين " 2: 520، و" علل ابن المديني " ص 60، و " المعرفة والتاريخ " 2: 55، و " مسند البزار " 1: 73، و " المراسيل " ص 187.
(3)
. " فتح الباري " 9: 545.
للصحابي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، دون أن يسندها إلى الصحابي، وقد تقدمت الإشارة إلى قيام الإجماع على أن هذا مرسل غير متصل في المبحث الثاني من الفصل الأول.
والبخاري يتسامح في هذا إذا كان التابعي معروفاً بالرواية عن الصحابي صاحب القصة، فالاحتمال الكبير أن يكون أخذها عنه، مع ضميمة أمر آخر، كأن يكون هناك طرق أخرى للقصة أو لأصلها في " صحيح البخاري"، أو خارج " الصحيح "، أو يكون الحديث المرسل ليس فيه حكم شرعي.
فمن ذلك أنه أخرج من طريق الزهري، عن عروة أن عائشة أخبرته:" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهي بينه وبين القبلة على فراش أهله، اعتراض الجنازة "
(1)
.
ثم أعقبه بطريق عراك بن مالك، عن عروة:" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي وعائشة معترضة بينه وبين القبلة، على الفراش الذي ينامان عليه "
(2)
.
قال ابن حجر: " صورة سياقه بهذا: الإرسال، لكنه محمول على أنه سمع ذلك من عائشة، بدليل الرواية التي قبلها، والنكتة في إيراده أن فيه تقييد الفراش بكونه الذي ينامان عليه
…
، بخلاف الرواية التي قبلها فإن قولها:"فراش أهله " أعم من أن يكون هو الذي ناما عليه أو غيره "
(3)
.
(1)
. " صحيح البخاري " حديث (383)، وانظر: الأحاديث (382)، (508)، (511 - 515)، (519)، (997)، (1209)، (6276).
(2)
. " صحيح البخاري " حديث (384).
(3)
. " فتح الباري " 1: 492.
وأخرج من طريق مالك، عن وهب بن كيسان قال: " أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بطعام ومعه ربيبه عمر بن أبي سلمة
…
"
(1)
.
وهذا مرسل، فإن وهب بن كيسان تابعي، ولم يحضر القصة، قال ابن حجر بعد أن تحدث عن الاختلاف فيه على مالك في وصله وإرساله: " وإنما استجاز البخاري إخراجه، وإن كان المحفوظ فيه عن مالك الإرسال، لأنه تبين بالطريق الذي قبله صحة سماع وهب بن كيسان، عن عمر بن أبي سلمة
…
"
(2)
.
ويعني بالذي قبله رواية الوليد بن كثير، عن وهب، أنه سمع عمر بن أبي سلمة بالقصة، ورواية محمد بن عمرو بن حلحلة، عن وهب، عن عمر بن أبي سلمة بالقصة
(3)
.
وأخرج من طريق طلحة بن مصرف، عن مصعب بن سعد، قال:
" رأى سعد أن له فضلاً على من دونه، فقال صلى الله عليه وسلم: هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟ "
(4)
.
وتعقبه الدارقطني بأنه مرسل
(5)
، وقال ابن حجر في الجواب عن ذلك: " صورته صورة المرسل، إلا أنه موصول في الأصل، معروف من رواية مصعب ابن سعد، عن أبيه، وقد اعتمد البخاري كثيراً من أمثال هذا السياق، فأخرجه
(1)
. " صحيح البخاري " حديث (5387).
(2)
. " فتح الباري " 9: 524.
(3)
. " صحيح البخاري " حديث (5376 - 5377).
(4)
. " صحيح البخاري " حديث (2896).
(5)
. " التتبع " ص 243.
على أنه موصول، إذا كان الرواي معروفاً بالرواية عمن ذكره، وقد رويناه في " سنن النسائي "
…
من حديث مصعب بن سعد، عن أبيه: " أنه رأى
…
" فذكره، وقد ترك الدارقطني أحاديث في الكتاب من هذا الجنس لم يتتبعها "
(1)
.
وأخرج من طريق عراك بن مالك، عن عروة:" أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب عائشة إلى أبي بكر، فقال له أبو بكر: إنما أنا أخوك، فقال له: أنت أخي في دين الله وكتابه، وهي لي حلال "
(2)
.
وتعقبه الإسماعيلي، والدارقطني بأنه مرسل، زاد الإسماعيلي:" فإن كان يدخل مثل هذا في الصحيح فيلزمه في غيره من المراسيل "
(3)
.
وأجاب ابن حجر عن الإرسال بأن الظاهر أنه حمله عروة عن خالته عائشة، أو عن أمه أسماء بنت أبي بكر، وأجاب عن الإلزام بقوله:" القصة المذكورة لا تشتمل على حكم متأصل، فوقع فيها التساهل في صريح الاتصال، فلا يلزم من ذلك إيراد جميع المراسيل في الكتاب الصحيح "
(4)
.
والجواب عن الإلزام ظاهر، وأما الجواب عن الإرسال ففيه ما فيه، إذ
(1)
. " هدي الساري " ص 362، وانظر:" سنن النسائي " حديث (3178)، و " مسند البزار " حديث (1159)، و " مسند الشاشي " حديث (70)، و " علل الدارقطني " 4: 314، و " حلية الألياء " 5: 26، 8: 290، و " فتح الباري " 6: 88، و " النكت الطراف " 3:319.
(2)
. " صحيح البخاري " حديث (5081).
(3)
. " التتبع " ص 514، و " فتح الباري " 9:124.
(4)
. " فتح الباري " 9: 124.
هناك احتمال أن يكون حمله عن تابعي آخر، والبخاري لم يخرجه متابعاً أو شاهداً، فلا مناص من القول بالتسامح في النزول عن الشرط.
فإذا عدنا إلى الأسانيد الأربعة الماضية التي أخرجها البخاري مع أن السماع لم يعلم بين التابعي والصحابي، وجدناها لا تخرج عما ذكره من توجيه لما أخرجه البخاري وهو بالاتفاق مرسل.
فرواية عروة بن الزبير، عن أم سلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها:" إذا أقيمت صلاة الصبح فطوفي على بعيرك والناس يصلون " - إنما ذكره البخاري متابعة، وقد ساق هذا الإسناد من " صحيح البخاري " أحد الإخوة الباحثين، مستدلاً به على أن البخاري لا يشترط العلم بالسماع، وقد تبين لي وأنا أنظر في كلام هذا الباحث أن المسألة شائكة جداً، وأنه قد اقتحم الكلام فيها من لم يتهيأ للنظر فيها وفي أمثالها.
فقد تكلم الباحث على هذا الإسناد بما مفاده أنه حديث أصل، واستشهد على ذلك بكلام لابن حجر، وأنا أسوق الإسناد بتمامه، ليتضح للقارئ هل هو إسناد أصل عند البخاري، أو متابعة؟ قال البخاري:" حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن محمد بن عبد الرحمن، عن عروة، عن زينب، عن أم سلمة رضي الله عنها: " شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وحدثني محمد بن حرب، حدثنا أبو مروان يحيى بن أبي زكريا الغساني، عن هشام، عن عروة، عن أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو بمكة، وأراد الخروج، ولم تكن أم سلمة طافت بالبيت، وأرادت الخروج، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أقيمت صلاة الصبح فطوفي على بعيرك والناس يصلون "، ففعلت ذلك، فلم تصل حتى خرجت "
(1)
.
فالمبتدئ يدرك أن البخاري إنما ساق طريق عروة، عن أم سلمة مقروناً، فاعتماده على الطريق الموصول الأول الذي فيه زينب، وفي السياق كله ما يشعر بأن البخاري يرى الثاني منقطعاً، فلم يثبت السماع بمجرد المعاصرة.
غير أن الباحث أصر على أن البخاري أخرج الإسناد الثاني - إسناد عروة، عن أم سلمة - أصلاً لا متابعة، فإنه لما نقل عن ابن حجر أن البخاري أخرجه متابعة، قال:" مع اعتراف الحافظ أن لفظ الروايتين مختلف، بل قد رجح الحافظ أنهما حديثان مختلفان: أحدهما: في طواف الإفاضة يوم النحر، والآخر في طواف الوداع، بل يظهر أن البخاري كان معتمداً على رواية عروة، عن أم سلمة، لأنه أورد إسناد حديث عروة، عن زينب، عن أم سلمة، ثم لم يذكر لفظه، وأحال على لفظ حديث عروة، عن أم سلمة، وأورده بإسناده ومتنه كاملاً، إذاً فهذا الحديث داخل في أصل موضوع كتاب البخاري، الذي يشترط فيه الصحة ".
ثم نقل عن الحافظ أن سماع عروة من أم سلمة ممكن غير مستبعد، فهما من بلد واحد، وأدرك من حياتها نيفاً وثلاثين سنة.
فالخلاصة من كل هذا أن ابن حجر يقر ويعترف بأن البخاري يكتفي بالمعاصرة لإثبات السماع.
(1)
. " صحيح البخاري " حديث (1626).
والحقيقة أن ما توصل إليه هذا الباحث قد آلمني كثيراً، أن يتولى دراسة مثل هذه المسألة من يهبط إلى هذا المستوى: ابن حجر معترف بأن لفظ الروايتين مختلف، ويرجح أنهما حديثان مختلفان، أحدهما في طواف الإفاضة يوم النحر، والآخر في طواف الوداع، فالبخاري أخرج - إذاً - بالإسنادين قصتين مختلفتين، كلتاهما أصل.
خطأ في الفهم، ومجازفة في الاستدلال، أما الاستدلال فظاهر، فإننا لو افترضنا - جدلاً - أن ابن حجر يقرر هذا فهل يصح أن يحاسب البخاري بما يقرره ابن حجر؟ ولنقطع النظر عن كلام ابن حجر، وكأننا في العصر الذي قبله: ما صفة إخراج البخاري للإسناد الثاني أصل أم متابعة؟ المبتدئ في هذا العلم - كما قدمت - يدرك لأول وهلة أنه أخرجه متابعة، وأنه ساق الإسناد المتصل أولاً ليوضح اعتماده عليه، وأن الواسطة بين عروة، وأم سلمة معروفة، وهي زينب بنت أم سلمة، وقد ساق الإسناد المتصل في مواضع من " صحيحه"
(1)
، وأما الإسناد الذي ليس فيه زينب فلم يخرجه إلا في هذا الموضع، وساق لفظه من أجل زيادة فيه، وهي أن أم سلمة لم تصل ركعتي الطواف حتى خرجت، فإن هذه الزيادة ليست في الإسناد الأول في جميع مواضعه، وهي جزء موقوف من الحديث من فعل أم سلمة.
فظهر من هذا أن البخاري لا غرض له من سوق الإسناد الأول إلا ليبين فيه الواسطة بين عروة، وأم سلمة، وأنه تسامح في إخراج الإسناد الثاني لهذا السبب، ولا سيما أن ما فيه من الزيادة موقوف.
(1)
. " صحيح البخاري " حديث (464)، (1619)، (1633)، (4853).
وأما الخطأ في الفهم فقد أبعد الأخ الباحث النجعة جداً في فهم مراد ابن حجر، فليس مراده أنهما قصتان مختلفتان، بالإسنادين المذكورين، وبيان ذلك أن الدارقطني تعقب البخاري لتخريجه الإسناد الثاني - وقد أخرجه البخاري عن محمد بن حرب، عن أبي مروان يحيى بن زكريا الغساني، عن هشام، عن عروة، عن أم سلمة بقصة طوف الوداع - وأنه منقطع، واستدل الدارقطني على ذلك بأن حفص بن غياث قد رواه عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أم سلمة، عن أم سلمة بالقصة، وكذلك رواه أبو الأسود يتيم عروة، عن عروة، عن زينب، عن أم سلمة
(1)
.
فتعقبه ابن حجر في استدلاله برواية حفص بن غياث، عن هشام بن عروة، واستظهر ابن حجر خطأ حفص بن غياث أو من دونه على هشام بن عروة، بذكر زينب في قصة طواف الوداع، فالمحفوظ عن هشام هو ما رواه الجماعة من أصحابه: يحيى بن زكريا الغساني، وعبدة بن سليمان، وعلي بن هاشم، ومحاضر بن المورع، بإسقاط زينب.
ثم بين ابن حجر أن الإسناد الذي يرويه هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب، عن أم سلمة، إنما هو بقصة أخرى، وهي تعجل أم سلمة ليلة مزدلفة، وصلاتها صلاة الصبح بمكة يوم النحر، وليس في قصة طواف الوداع هكذا رواه عن هشام أبومعاوية الضرير، ورواه معه عن هشام جماعة منهم: وكيع، ويحيى القطان، وكذلك رواه أيضاً عن هشام: الثوري، وابن عيينة، وعبدة بن
(1)
. " التتبع "359.
سليمان، وجماعة آخرون إلا أنهم اختلفوا في إسناده
(1)
.
وأما الشق الثاني من استدلال الدارقطني على الانقطاع، وهو أن أبا الأسود يتيم عروة، رواه عن عروة عن زينب، عن أم سلمة - فلم يدفعه ابن حجر، وكيف يدفعه مع قاعدة أن الإسناد المعنعن بين راويين، إذا جاء بزيادة راو بينهما، فالحكم للزيادة، حتى وإن كان السماع ثابتاً بينهما، فأما إذا كان السماع غير ثابت - كما هنا - فهو أدل على الانقطاع.
لكن ابن حجر في معرض كلامه أوضح أن ما ذكره الدارقطني من الاستدلال بإسناد أبي الأسود عين ما فعله البخاري، فالبخاري لم يفته أن الإسناد الثاني منقطع، ولهذا ذكره مقروناً بالإسناد المتصل، فهما لقصة واحدة، والإسناد الثاني مع انقطاعه ليس بفاحش الانقطاع، فإن السماع قريب جداً، فعروة وأم سلمة في بلد واحد، وأدرك من حياتها نيفاً وثلاثين سنة.
هذا توضيح كلام ابن حجر في " فتح الباري "، وفي " هدي الساري".
ومن المناسب هنا أن أذكر حديثاً من " صحيح البخاري " صنع فيه البخاري نحو صنيعه في حديث أم سلمة، والانقطاع فيه مأخوذ من كلام البخاري نفسه، وليس من تصرفه، فقد أخرج من طريق الأعمش عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس قصة صاحبي القبرين، وأخرجها أيضاً من طريق منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس، ليس فيه طاوس
(2)
، ومجاهد قد سمع من
(1)
. انظر أيضاً: " التمييز" ص 186 - 187، وتحقيق الأرناؤط " مسند أحمد" 44: 96 - 98، حديث (26492).
(2)
. " صحيح البخاري " حديث (216)، (218)، (1361)، (1378)، (6055).
ابن عباس، لكن في هذا الحديث بعينه دلت رواية الأعمش على أنه لم يسمعه منه، وقد سأل الترمذي البخاري عن هذا الاختلاف أيهما أصح؟ فقال:"حديث الأعمش "
(1)
، وكذا قال الترمذي:" حديث الأعمش أصح "
(2)
.
وهذا المثال لا يحتاج إلى تعليق، وهو يؤكد ما ذكرته وما سأذكره من أن البخاري قد يخرج أسانيد وهي منقطعة.
وهكذا يقال في حديثي عبد الله بن بريدة، عن أبيه، فحديث بعث النبي صلى الله عليه وسلم علياً إلى خالد باليمن قصته مشهورة، ساق البخاري في بابها مع حديث بريدة أربعة أحاديث أخر
(3)
، وحديث عدد غزوات النبي صلى الله عليه وسلم أخرج البخاري مع حديث بريدة حديثين آخرين
(4)
.
ومما يؤكد انتقاء البخاري لهما وإخراجه لهما في الشواهد أن رواية عبد الله ابن بريدة، عن أبيه نسخة، لم يخرج منها سوى هذين الحديثين، وأخرج منها مسلم خمسة أحايث، بعضها في الأصول وبعضها في الشواهد
(5)
، ورواية سليمان بن بريدة، عن أبيه نسخة أيضاً، ولم يخرج منها البخاري شيئاً، مع أنه
(1)
. " العلل الكبير " 1: 139، و " عمدة القاري " 3: 115، لكن وقع في " العلل الكبير " أن الأعمش هو الذي يسقط طاوساً، ولعل الخطأ فيه من الناسخ.
(2)
. " سنن الترمذي " حديث (70).
(3)
. " صحيح البخاري " حديث (4349 - 4354).
(4)
. " صحيح البخاري " حديث (4471 - 4473).
(5)
. " صحيح مسلم " حديث (793)، (977)، (1149)، (1695)، (1814).
أقوى من أخيه عبد الله، وأصح حديثاً عند الأئمة
(1)
، وأخرج منها مسلم عشرة أحاديث بعضها في الأصول، وبعضها في الشواهد، ومن الأصول ما هو من أحاديث الأحكام
(2)
.
وأما رواية قيس بن أبي حازم قول بلال لأبي بكر، فيحتمل أن يكون البخاري اعتمد على كون قيس قد لقي أبا بكر - كما تقدم تقريباً - فتسامح فيه، فإن قيل: إنما يتسامح البخاري في مثل هذا: إذا كان الراوي معروفاً بصحبة من حكى قصته، كما في حال مصعب بن سعد مع أبيه، وعروة بن الزبير مع عائشة، وليس كذلك بالنسبة لقيس مع أبي بكر، فالجواب - بعد التسليم بهذا -: أن البخاري تسامح فيه لكونه ليس من أصل كتابه، فهو موقوف من كلام بلال، لا ذكر فيه للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ظاهر.
ويبقى حديث أبي عبد الرحمن السلمي، عن عثمان، فهذا يقال فيه ما قاله ابن حجر في قصة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة، وهو أن الحديث ليس فيه حكم، وإنما هو في الترغيب في تعليم القرآن، وفي سياقه ما يدل على أن أبا عبد الرحمن السلمي أخذه عمن يثق به، فإنه عمل به، ومن أجله مكث يعلم القرآن من عهد عثمان إلى زمن الحجاج.
فتلخص مما تقدم أن نزول البخاري عن شرط الاتصال، سواء في الإرسال الظاهر، أو في الإرسال الخفي، أو في التدليس عمن سمع منه - في مواضع من
(1)
. " تهذيب التهذيب " 4: 174، 5:157.
(2)
. "صحيح مسلم" حديث (277)، (613)، (975)، (1149)، (1695)، (1731)، (1897).
" صحيحه " أمر مشهور معروف، ولم أستوف فيما تقدم ما جرى فيه بحث مع البخاري
(1)
، والبخاري إنما يفعل ذلك لسبب، فليس فيها دلالة على نزول البخاري عن شرط الاتصال.
ومما يؤكد ما نحن فيه - وهو تسامح البخاري في شرط العلم بالسماع لسبب - أن مسلماً أخرج أسانيد نزل فيها عن شرطه، فهل يستدل بها على أن شرطه الذي شرحه غير معتبر عنده أيضاً؟
فمن ذلك أنه أخرج من طريق عكرمة بن عمار، حدثنا شداد بن عبدالله أبو عمار، ويحيى بن أبي كثير، عن أبي أمامة - قال عكرمة: ولقي شداد أبا أمامة، وواثلة، وصحب أنساً إلى الشام، وأثنى عليه فضلاً وخيراً - عن أبي أمامة قال: قال عمرو بن عبسة
…
الحديث
(2)
.
ورواية يحيى بن أبي كثير، عن أبي أمامة منقطعة، فإنه لم يسمع منه بالاتفاق، فإنه لم ير أحداً من الصحابة سوى أنس بن مالك رآه رؤية
(3)
، وهو مشهور بالإرسال، موصوف بالتدليس، فلا تقبل عنعنته عمن عاصره إلا أن يصرح بالتحديث بنص مسلم، وساق مسلم روايته لاعتماده على رواية شداد بن
(1)
. ينظر: مثلاً: " هدي الساري " ص 356، 358، 368، 377، 379، 382، الفصل الثامن، الأحاديث التي انتقدها الدارقطني وغيره على البخاري، الأحاديث (18)، (25)، (62)، (87)، (92)، (93)، (108).
(2)
. " صحيح مسلم " حديث (832).
(3)
. " المراسيل " ص 241 - 244، و " ثقات ابن حبان " 7: 592، و " تهذيب الكمال " 31:506.
عبد الله.
وأخرج مسلم من طريق يزيد بن حميد أبي التياح، عن موسى بن سلمة، عن ابن عباس حديث (البدن المعطوبة)، ثم أخرجه من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سنان بن سلمة، عن ابن عباس، عن ذؤيب أبي قبيصة
(1)
.
وقتادة لم يسمع من سنان بن سلمة، قال ابن الجنيد:" قلت ليحيى بن معين: إن يحيى بن سعيد يزعم أن قتادة لم يسمع من سنان بن سلمة الهذلي حديث ذؤيب الخزاعي في (البدن)، فقال ابن معين: ومن يشك في هذا، أن قتادة لم يسمع منه، ولم يلقه؟ "
(2)
، وكذا روى ابن أبي خيثمة، عن ابن معين قوله:" قتادة لم يدرك سنان بن سلمة، ولم يسمع منه شيئاً "
(3)
.
وقتادة مشهور بالتدليس أيضاً، وما ذكره ابن عبد البر من أن شعبة قد روى هذا الحديث عنه
(4)
، وعليه فيحتمل أنه قد صرح بالتحديث، لأن شعبة كان لا يحمل عنه إلا ما صرح فيه بالتحديث - لا يفيد شيئاً، فإن ابن عبد البر ذكر هذا الإسناد معلقاً، فلابد من النظر في طريقه إلى شعبة، وقد قال رشيد الدين العطار عن إسناد قتادة عن سنان هذا: " وهذا الإسناد غير متصل عند جماعة من أهل النقل
…
والعذر لمسلم رحمه الله أنه إنما أخرج هذا الحديث بهذا
(1)
. " صحيح مسلم " حديث (1325 - 1326).
(2)
. " سؤالات ابن الجنيد " ص 284.
(3)
. " نصب الراية " 3: 162.
(4)
. " التمهيد " 22: 267، و " الاستذكار " 12:279.
الإسناد في الشواهد
…
"
(1)
.
وأخرج مسلم من طريق قتادة، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن عائشة:"أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ست ركعات وأربع سجدات"
(2)
.
قال ابن عبد البر في نقد هذا الإسناد: "يرويه قتادة، عن عطاء، عن عبيد ابن عمير، عن عائشة، وسماع قتادة عندهم من عطاء غير صحيح، وقتادة إذا لم يقل: سمعت، وخولف في نقله، فلا تقوم به حجة؛ لأنه يدلس كثيراً عمن لم يسمع منه، وربما كان بينهما غير ثقة
…
"
(3)
.
ومسلم أخرج هذا الإسناد في المتابعات، فقد ساق قبله من طريق ابن جريج، قال: سمعت عطاء يقول: سمعت عبيد بن عمير يقول: حدثني من أصدق (حسبته يريد عائشة)
…
فذكر الحديث مطولاً
(4)
.
وفي " صحيح مسلم " أسانيد كثيرة ليست على شرط مسلم في الاتصال، ويكون أخرجها إما في المتابعات، والشواهد، أو لم يقصد تخريجها، وإنما جاءت هكذا في الإسناد، وهو يريد آخر معه، وربما اعتذروا عن بعضها بأنها وجدت موصولة خارج " صحيحه "، وقد أوردها رشيد الدين العطار في كتابه:" غرر الفوائد المجموعة في بيان ما وقع في صحيح مسلم من الأسانيد المقطوعة ".
وأكثر من ذلك، أن مسلماً ربما نزل عن شرطه في حديث أصل، فقد
(1)
. " غرر الفوائد المجموعة " ص 261، وانظر:" نصب الراية " 3: 162.
(2)
. "صحيح مسلم" حديث (901).
(3)
. "التمهيد" 3: 307.
(4)
. "صحيح مسلم" حديث (901).
أخرج من طريق حميد بن هلال قال: قال أبو رفاعة: " انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، قال: فقلت: يا رسول الله رجل غريب جاء يسأل عن دينه، لا يدري ما دينه، قال: فأقبل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترك خطبته، حتى انتهى إلي، فأتي بكرسي حسبت قوائمه حديداً، قال: فقعد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته فأتم آخرها "
(1)
.
وقد قال ابن المديني: " حديث أبي رفاعة: " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو على كرسي من حديد " رواه سليمان بن المغيرة، عن أبي هلال (كذا في النسخة) عن أبي رفاعة، ولم يلق عندي أبا رفاعة "
(2)
.
وكل الدلائل تشير إلى ما قاله ابن المديني، فأبو رفاعة صحابي مقل جداً، لم يرو عنه سوى حميد بن هلال، وصلة بن أشيم
(3)
، وليس له في الكتب الستة سوى هذا الحديث عند مسلم، والنسائي، وليس هو معنعناً، فلا يرد احتمال أن يكون حميد بن هلال صرح بالتحديث - فأبدلت الصيغة ممن بعده، وحميد بن هلال يظهر من ترجمته أنه يرسل
(4)
، والأقرب أنه لم يدرك أبا رفاعة أصلاً
(5)
، وفي حديثه هذا ما يدل على ذلك، فقد اعترض على أبي رفاعة بقوله: "أراه رأى
(1)
. " صحيح مسلم " حديث (876)، وأخرجه النسائي حديث (5392)، وأحمد 5:80.
(2)
. " علل ابن المديني " ص 86.
(3)
. " تهذيب التهذيب " 12: 96.
(4)
. " تهذيب التهذيب " 3: 52.
(5)
. انظر: " التابعون الثقات الذين تكلم في سماعهم من الصحابة " ص 389 - 391.
خشباً أسود حسبه حديداً"
(1)
.
ومثل ما يقال في الإرسال يقال في تدليس الراوي عمن سمع منه، سواء بسواء، ففي "الصحيحين" أحاديث للمدلسين ليس فيها تصريح بالسماع، وإنما أخرجها الشيخان لأسباب خاصة، كأن تكون في المتابعات، أو الشواهد، أو في غير المرفوع، ولا يبعد أيضاً أن يكون فاتهما فأخرجا شيئاً وقع فيه تدليس، وقد تقدم في المبحث الرابع من الفصل الثالث أنهما أخرجا أحاديث فيها تصريح بالسماع، وأعلت مع ذلك بالتدليس.
وقد تقدم أيضاً في المبحث الخامس من الفصل الثالث شرح طريقة البخاري في تخريج أحاديث المعروفين بالتدليس، مثل هشيم، والأعمش، وقتادة.
وعلى هذا فلا يصح أبداً أن يلتقط باحث بضعة أسانيد في "الصحيحين" فيها عنعنة مدلس، ثم يبني عليه أن منهج النقاد في تعاملهم مع أحاديث المدلسين أنهم لا يلتفتون للتدليس إلا إذا ظهر ذلك في الحديث المعين.
وقد رأيت أحد الإخوة الباحثين ممن ينتصر لهذا الرأي يفعل هذا، ومن أمثلة ما ذكره والاستدلال به غير صحيح أنه ذكر أن جمهور النقاد وصفوا عمر ابن علي المقدمي بالتدليس
(2)
، وأن البخاري قال:"لا أعرف أن عمر بن علي يدلس"
(3)
، ثم قال الباحث: "وقد احتج (يعني البخاري) بأحاديث له معنعنة لم
(1)
. "مسند أحمد" 5: 80، 456، و"الأدب المفرد" حديث (1168).
(2)
. "طبقات ابن سعد" 7: 291، و"تاريخ الدوري عن ابن معين" 2: 433، و"الجرح والتعديل" 6: 124، و"علل ابن أبي حاتم" 1:166.
(3)
. " العلل الكبير" 1: 191.
يجد لها الحافظ نفسه طريقاً آخر مصرحاً فيه بالتحديث"، ثم عزا للتمثيل إلى "صحيح البخاري" المطبوع مع فتح الباري 11: 239 حديث (6056).
وقصد الباحث بذلك الرد على ابن حجر حيث وضع عمر بن علي في المرتبة الرابعة من مراتب المدلسين، وهم من اتفق على أنه لا يحتج بشيء من حديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع
(1)
.
وصنيع الباحث غير مستقيم أبداً، وابن حجر لم يقل إنهم لم يخرجوا له، وإنما قال: إنهم لم يحتجوا إلا بما صرح فيه بالسماع، وقد ذكر في "هدي الساري" أنه لم ير له في "الصحيح" إلا ما توبع عليه
(2)
، ولم يأت الباحث بشيء ينقض به كلام ابن حجر، وقول الباحث: إن البخاري احتج به في أحاديث معنعنة لم يجد لها الحافظ نفسه طريقاً آخر مصرحاً فيه بالتحديث - كلام مرسل لا معنى له، والمثال الذي عزا إليه لتأييد قوله لم يتمعنه الباحث، فلم يحتج به البخاري، وإنما أخرجه متابعة، والباحث عزا إلى الحديث برقم (6056)، ولم أجده بهذا الرقم، وإنما هو برقم آخر، وهذا نص البخاري:
" حدثنا عبد السلام بن مطهر، حدثنا عمر بن علي، عن معن بن محمد الغفاري، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أعذر الله إلى امرئ أخَّر أجله حتى بلغه ستين سنة"، تابعه أبو حازم، وابن عجلان، عن المقبري"
(3)
.
(1)
. " تعريف أهل التقديس" ص 130.
(2)
. " هدي الساري " ص 431.
(3)
. "صحيح البخاري" حديث (6419).
فهذا البخاري قد ذكر متابعين لعمر بن علي، في شيخ شيخه، فهي متابعة قاصرة، ولا يشترط في الاعتضاد أن تكون متابعة تامة، مع أن ابن حجر حين بحث هذا الإسناد، وأوضح أن عمر بن علي مدلس لم يصرح بالتحديث، ذكر أنه قد توبع في شيخه، وإن كانت غير صريحة، قال: "هذا الحديث أخرجه أحمد، عن عبدالرزاق، عن معمر، عن رجل من بني غفار، عن سعيد المقبري بنحوه، وهذا الرجل المبهم هو معن بن محمد الغفاري، فهي متابعة قوية لعمر بن علي
…
"
(1)
.
وأختم هذا المبحث بتأكيد ما بدأت به، وهو أن شروط النقاد التي وضعوها لقبول الحديث لا ينبغي لباحث أن يستعجل في نفيها لمجرد وقوفه على بعض الأسانيد في "الصحيحين" لا تتوافر فيها تلك الشروط، والله أعلم.
(1)
. "فتح الباري" 11: 239.