المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الطريقة الثانية: كلام أئمة النقد في سماع بعض الرواة ممن رووا عنه نفيا وإثباتا - الاتصال والانقطاع

[إبراهيم اللاحم]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل الأولصفة رواية الراوي عمن روى عنه

- ‌المبحث الأولصيغ الأداء ودلالالتها

- ‌القسم الأول: الصيغ الصريحة في الاتصال

- ‌المبحث الثانيالرواية عن الشخص والرواية لقصته

- ‌الفصل الثانيسماع الراوي ممن روى عنه

- ‌المبحث الأولالطريق إلى معرفة سماع الراوي ممن روى عنه

- ‌الطريقة الأولى: النظر في ترجمة الراويين في كتب الجرح والتعديل، للوقوف على أنه يروي عنه

- ‌الطريقة الثانية: كلام أئمة النقد في سماع بعض الرواة ممن رووا عنه نفياً وإثباتاً

- ‌المبحث الثانياشتراط العلم بالسماع في الإسناد المعنعن

- ‌القسم الثاني: ما فيه إثبات السماع أو اللقي لوجود التصريح به، أو نفي ذلك لعدم وجوده

- ‌القسم الرابع: ما جاء عنهم من نفي السماع دون النص على الإدراك، لكن يعرف ذلك وأن اللقاء بينهما ممكن من ترجمتي الراويين

- ‌الفصل الثالثالتدليس

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأولالتدليس والإرسال

- ‌المبحث الثانيالتدليس وصورة التدليس

- ‌ هل يصح للمتأخر إذا وقف على راوٍ ورد عنه ارتكاب صورة التدليس وصفه بذلك، وإن لم يفعله المتقدمون

- ‌المبحث الثالثالتدليس والنص على السماع أو نفيه

- ‌المبحث الرابعالتدليس والتصريح بالتحديث

- ‌المبحث الخامسرواية المدلس بصيغة محتملة للسماع

- ‌ إذا أعل الأئمة إسناداً بعلة، وأغفلوا نقده بالتدليس، فهل يعني هذا انتفاءه عندهم

- ‌القرينة الثانية: أن يكون في متن الحديث أو إسناده نكارة وشذوذ

- ‌القرينة الثالثة: أن يخالف المدلس غيره، في الإسناد أو المتن

- ‌المبحث السادستعليل الإسناد بتدليس غير مدلس

- ‌الفصل الرابعموضوعات متفرقة في الاتصال والانقطاع

- ‌المبحث الأولشرط الاتصال والحديث الصحيح

- ‌المبحث الثانيدرجات الاتصال والانقطاع

- ‌المبحث الثالثمصطلحات في الاتصال والانقطاع

- ‌1 - التوقيف:

- ‌2 - التصحيح:

- ‌3 - الخبر:

- ‌4 - الألفاظ:

- ‌5 - حديثه يهوي:

- ‌6 - أحاديث بتر:

- ‌7 - الإلزاق:

- ‌المبحث الرابعالحكم على الإسناد بعد دراسة الاتصال والانقطاع

- ‌فهرسالمصادر والمراجع

الفصل: ‌الطريقة الثانية: كلام أئمة النقد في سماع بعض الرواة ممن رووا عنه نفيا وإثباتا

وتقوى هذه القرينة إذا كان صاحب الكتاب عرف عنه بالاستقراء حرصه على ذكر من سمع منهم المترجم له، ومن سمعوا منه، مثل "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم.

‌الطريقة الثانية: كلام أئمة النقد في سماع بعض الرواة ممن رووا عنه نفياً وإثباتاً

، فقد تكلموا في هذا كثيراً، وتصدى أئمة للتأليف في هذا، وجمع كلامهم، فألف ابن أبي حاتم كتابه "المراسيل"، والعلائي كتابه "جامع التحصيل في أحكام المراسيل"، ثم أبوزرعة بن العراقي كتابه:"تحفة التحصيل بأحكام المراسيل"، وكلها مطبوعة.

كما يوجد كلامهم في الكتب التي جمعت أقوالهم في الراوي مثل "تهذيب الكمال" للمزي، و " إكمال تهذيب الكمال " لمغلطاي، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر.

وبعض كلامهم في ذلك لا يزال منثوراً في كتب العلل، والسؤالات، وتواريخ الرجال، والجوامع، والسنن، وغيرها.

وعلى الباحث أن يبذل جهده ما استطاع في الوقوف على كلامهم، فقد اختصروا لنا الطريق، ورأيت من بعض الباحثين الذي يتصدون للتصحيح والتضعيف تقصيراً واضحاً في هذا الجانب.

وأعلى ذلك أن يقف الباحث على نص عن الراوي أنه لم يسمع ممن روى عنه، كما في قول عاصم بن أبي النجود: "قلت لأبي العالية: من أكبر من رأيت؟

ص: 59

قال: أبوأيوب، غير أني لم آخذ منه"

(1)

.

وقال مشاش: "قلت للضحاك: سمعت من ابن عباس؟ قال: لا، قلت: رأيته؟ قال: لا"

(2)

، وقال عبدالملك بن ميسرة:"قلت للضحاك: سمعت من ابن عباس شيئاً؟ قال: لا، قلت: فهذا الذي تحدث به؟ قال: عنك، وعن ذا، وعن ذا"

(3)

.

وقال سفيان بن عيينة: "قلت لعمرو بن دينار: رأيت الأسود بن يزيد؟ قال: نعم، قلت: حفظت عنه شيئاً؟ قال: لا"

(4)

.

وقال شعبة: "كنت عند أبي إسحاق الهمداني فقال له رجل: إن شعبة يزعم أنك رأيت علقمة، ولم تسمع منه، قال: صدق شعبة"

(5)

.

وروى حسين المعلم قال: "لما قدم علينا يحيى بن أبي كثير وَجَّه إليَّ مطر: أنِ احمل الدواة والقرطاس وتعال، قال: فأتيته، فأخرج إلينا صحيفة أبي سلام، فقلنا له: سمعت من أبي سلام؟ قال: لا، قلت: فمن رجل سمعه من أبي

(1)

. "المراسيل" ص 58.

(2)

. "أسئلة البرذعي لأبي زرعة" ص 683، و"المراسيل" ص 94، و"الجرح والتعديل" 3:458.

(3)

. "أسئلة البرذعي لأبي زرعة" ص 683، و"المراسيل" ص 95، و"الجرح والتعديل" 3: 459، 8:333.

(4)

. "تاريخ أبي زرعة الدمشقي " 1: 511.

(5)

. "العلل ومعرفة الرجال" 3: 365، و"المعرفة والتاريخ" 2: 562، و"المراسيل" ص 145، و"الكامل" 1:86.

ص: 60

سلام؟ قال: لا"

(1)

.

وقال هشيم: "قال لي الحجاج بن أرطاة: سمعت من الزهري؟ قلت: نعم، قال: لكني لم أسمع منه شيئاً"

(2)

.

وروى أحمد عن سفيان بن عيينة قوله حين أراد أن يروي عن آدم بن علي: "ذُكر عن آدم بن علي، قال (يعني سفيان): وقد رأيته ولم أسمع منه"

(3)

.

في أشياء كثيرة من هذا القبيل.

ويلي ذلك أحكام أئمة النقد بأن فلاناً سمع من فلان، أو لم يسمع منه.

وربما لم يقف الباحث على كلام لهم في خصوص رواية الراوي عمن روى عنه في إسناده المعين، لكن يجد من كلامهم ما يفيده في هذا، وذلك مثل الكلمات المجملة في بعض الرواة، كقول ابن معين حين سئل عن محمد بن إبراهيم بن الحارث هل لقي أحداً من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام؟ فقال:"لا، لم أسمعه"

(4)

، فعلى هذا فكل ما يأتي عن محمد من روايته عن أحد من الصحابة فهو منقطع.

ومثله قول ابن معين وسئل عن عطاء الخراساني هل لقي أحداً من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام؟ فقال: "ما سمعت"

(5)

، وفي رواية:

(1)

. "المراسيل" ص 240.

(2)

. "المراسيل" ص 47.

(3)

. "العلل ومعرفة الرجال" 2: 64، و"المراسيل" ص 85.

(4)

. "معرفة الرجال" 1: 129.

(5)

. "معرفة الرجال" 1: 129.

ص: 61

"لا أعلمه"

(1)

.

وقول ابن المديني: "إبراهيم النخعي لم يلق أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم

، وقد رأى أباجحيفة، وزيد بن أرقم، وابن أبي أوفى، ولم يسمع منهم"

(2)

.

وكذا قال أبوحاتم في إبراهيم: "لم يلق أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا عائشة، ولم يسمع منها شيئاً، فإنه دخل عليها وهو صغير، وأدرك أنساً، ولم يسمع منه"

(3)

.

وقال البخاري في سليمان بن موسى الدمشقي: "لم يدرك أحداً من أصحاب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم "

(4)

.

وقال أبوحاتم في محمد بن عبدالله الشعيثي: "لم يدرك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً"

(5)

.

ويشبه هذا ما إذا نص الإمام على من سمع منهم الراوي ونفى من عداه، أو في قوة كلامه نفي ذلك، كما في قول أحمد حين سئل عن سماع أبي الزناد من أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "نعم، سمع من ربيعة

(1)

. "المراسيل" ص 157.

(2)

. "العلل" ص 65، و"المراسيل" ص 9.

(3)

. "المراسيل" ص 9، و"الجرح والتعديل" 1:11.

(4)

. "العلل الكبير" 1: 313.

(5)

. "المراسيل" ص 182.

ص: 62

بن عباد"

(1)

.

وقال ابن المديني: "لم يلق القاسم بن عبدالرحمن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم غير جابر بن سمرة"

(2)

.

وقال ابن أبي حاتم: "سمعت أبي يقول: قد سمع زرارة من عمران بن حصين، ومن أبي هريرة، ومن ابن عباس، قلت: ومَنْ أيضاً؟ قال: هذا ما صح له"

(3)

.

وقال أبوحاتم أيضاً: "عمرو بن مرة لم يسمع من أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من ابن أبي أوفى"

(4)

.

وإذا لم يجد الباحث نصاً لإمام يستفيد منه مباشرة في إثبات أو نفي السماع لراو ممن روى عنه فبإمكانه أن يستخدم طريقة التخريج على أقوال النقاد، وقد جاءت نصوص عن النقاد، استخدم النقاد أنفسهم فيها هذه الطريقة، والتخريج هنا له صورتان:

الصورة الأولى: أن يعرف أنه لم يدرك راوياً ولم يسمع منه، فمن باب أولى أن لا يدرك من مات قبله، فقد سأل أبو طالب أحمد عن سماع محمد بن علي من أم سلمة، فقال:"لا يصح أنه سمع"، ثم سأله عن سماعه من عائشة، فقال: "لا،

(1)

. "مسائل إسحاق" 2: 199.

(2)

. "العلل" ص 63، و"المراسيل" ص 175.

(3)

. "المراسيل" ص 63.

(4)

. "المراسيل" ص 147، وانظر أيضاً: ص 211 فقرة (789)، و"الجرح والتعديل" 6:257.

ص: 63

ماتت عائشة قبل أم سلمة"

(1)

.

وقال البخاري لما سأله الترمذي عن سماع أبي البختري من سلمان: "لا، لم يدرك أبو البختري علياً، وسلمان مات قبل علي"

(2)

.

ومراد البخاري أن عدم إدراك أبي البختري لعلي ثابت لا شك فيه - كما سيأتي قريباً في كلام شعبة، وكذا غيره من النقاد -

(3)

فعدم إدراكه لسلمان - وقد مات قبل علي - من باب أولى.

وعلى هذه الصورة في التخريج يعول المتأخرون كثيراً، كالعلائي، والذهبي، وابن رجب، وابن حجر، كما في قول العلائي بعد أن ذكر عن ابن معين أن محمد بن المنكدر لم يسمع من أبي هريرة، وعن أبي زرعة أنه لم يلقه

(4)

: "وروى له النسائي عن أبي أيوب، وأبي قتادة رضي الله عنهما، والظاهر أن ذلك مرسل"

(5)

.

وروى خليد بن عبد الله العصري، عن علي، وسلمان، وأبي ذر وغيرهم، فقال إسحاق بن منصور: "وسألته (يعني ابن معين) قلت: خليد العصري لقي

(1)

. "المراسيل" ص 185.

(2)

. "العلل لكبير" 2: 964.

(3)

. "المراسيل" ص 74، 76 - 77.

(4)

. "تاريخ الدوري عن ابن معين " 2: 540، و" المراسيل" ص 189.

(5)

. "جامع التحصيل" ص 332، وانظر أيضاً:"سير أعلام النبلاء" 5: 353، و" تهذيب التهذيب" 9:474.

ص: 64

سلمان؟ قال: لا، قلت: إنه يقول: لما ورد علينا، قال: يعني البصرة"

(1)

.

قال ابن حجر بعد أن ساق هذا: "وعلى هذا فيبعد سماعه من علي، وأبي ذر"

(2)

.

وذكر المزي في ترجمة (عمر بن الحكم بن ثوبان) أنه يروي عن أسامة بن زيد، وسعد بن أبي وقاص، وكعب بن مالك، وذكر جماعة

(3)

، فنقل ابن حجر عن ابن المديني قوله:" لم يسمع من أسامة بن زيد، ولم يدركه "، ثم قال ابن حجر:" وإذا لم يدرك أسامة فهو لم يدرك سعد بن أبي وقاص أيضاً، ولا كعب بن مالك "

(4)

.

وسماعه من سعد بن أبي وقاص جاء إنكاره عن يحيى بن سعيد القطان

(5)

، فالظاهر أن ابن حجر لم يقف عليه، فاستدل عليه بكلمة ابن المديني.

وأخرج ابن ماجه من طريق ميمون بن مهران، عن أبي هريرة، وعائشة:((أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً ثلاثاً))

(6)

.

فمن السهل جداً تعليله بالانقطاع، وأن ميموناً لم يدركهما، أخذاً من قول

(1)

. "المراسيل" ص 55.

(2)

. "تهذيب التهذيب" 3: 159.

(3)

. "تهذيب الكمال " 21: 307.

(4)

. "تهذيب التهذيب " 7: 436، وكلمة ابن المديني ذكرها أيضاً ابن العراقي في "تحفة التحصيل " ص 239، وزاد فيها:"روى عن مولى أسامة، عن أسامة ".

(5)

. "المراسيل " ص 138، و "الجرح والتعديل " 1:245.

(6)

. "سنن ابن ماجه" حديث (415).

ص: 65

أحمد في نفي لقي ميمون لحكيم بن حزام، وأنه إنما يروي عن ابن عباس، وابن عمر

(1)

.

الصورة الثانية - وهي عكس التي قبلها -: أن يعلم أن شخصاً لم يدرك آخر، فيستدل بذلك على أن من هو أصغر منه لم يدركه من باب أولى، كما في قول شعبة:"كان أبو إسحاق أكبر من أبي البختري، لم يدرك أبو البختري علياً، ولم يره"

(2)

.

ومراده أن أبا البختري لم يدرك علياً، بدلالة أن أبا إسحاق -وهو أكبر منه- لم يدركه.

وقال ابن معين: " سعيد بن أبي عروبة لم يسمع من مجاهد، وقتادة لم يسمع من مجاهد فكيف يسمع منه سعيد؟ "

(3)

.

ومن الأهمية بمكان أن يستحضر الباحث ضرورة اعتمادنا على أئمة النقد في معرفة الاتصال والانقطاع، وضرورة التسليم لهم في أحكامهم، كما هي الحال في باقي قضايا هذا الفن، ويتأكد هذا فيما إذا وقف الباحث على إجماع لهم، أو ما يشبه الإجماع، كأن يتوارد على الحكم بالاتصال أو الانقطاع أكثر من إمام، فيتجنب الباحث الاعتراض عليهم.

ومن هذا الباب قول أبي حاتم: "الزهري لم يسمع من أبان بن عثمان شيئاً،

(1)

. "المراسيل" ص 206.

(2)

. "المراسيل" ص 74، 76، و"الجرح والتعديل" 1:131.

(3)

. "تاريخ الدوري عن ابن معين" 2: 204.

ص: 66

لا أنه لم يدركه، قد أدركه، وأدرك من هو أكبر منه، ولكن لا يثبت له السماع منه، كما أن حبيب بن أبي ثابت لا يثبت له السماع من عروة بن الزبير، وهو قد سمع ممن هو أكبر منه، غير أن أهل الحديث قد اتفقوا على ذلك، واتفاق أهل الحديث على شيء يكون حجة"

(1)

.

وأرى أنه يلتحق بهذا ما إذا وقف الباحث على كلام إمام واحد من أئمة النقد، في إثبات الاتصال أو نفيه، فإنه ينبغي له التسليم بهذا، وإن بدا للباحث أن الأمر محتمل لغير ذلك، من خلال دراسة قام بها، وذلك في حال عدم وجود قول من إمام آخر معارض له.

وإذا وقف الباحث على كلام لإمام أو أكثر من أئمة النقد فعليه أن يتحقق جيداً من صحة نسبة القول إلى صاحبه، إذ قد يقع في النقل اضطراب، لسبب من الأسباب، يلزم معه البحث والتحري في نسبة القول إلى من روى عنه، مثل ما أخرجه ابن أبي حاتم بإسناده إلى بهز بن أسد أنه قال في الحسن البصري:"لم يسمع من عمران بن حصين شيئاً"

(2)

، ثم أخرج فيما ثبت للحسن البصري سماعه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإسناد نفسه عن بهز قوله:"وسمع من عمران بن حصين شيئاً"

(3)

.

وجاء في "سؤالات أبي داود للإمام أحمد" ما نصه: "حفص - أعني ابن غياث - لم يسمع من أشعث بن عبدالملك؟ قال: نعم، وأشعث بن سوار،

(1)

. "المراسيل" ص 192.

(2)

. "المراسيل" ص 38.

(3)

. "المراسيل" ص 45.

ص: 67

وربما لم يبين"

(1)

.

وبسبب هذا النص كدت أذكر في كلام على حديث أن أحمد نص على أن حفص بن غياث لم يسمع من أشعث بن سوار، ثم تبين لي أن النص وقع فيه اضطراب، فإن حفص بن غياث قد سمع منهما جميعاً وإن كانت روايته عن أشعث بن سوار أكثر وأشهر

(2)

.

ومراد أحمد أنه ربما حدث عن أحدهما ولم ينسبه، فهذا معنى عدم البيان، ويكون صواب النص:"حفص - أعني ابن غياث - سمع من أشعث بن عبدالملك؟ قال: نعم، وأشعث بن سوار، وربما لم يبين".

وأخرج ابن أبي حاتم عن حرب بن إسماعيل قوله: "قلت لأبي حفص - يعني عمرو بن علي -: القاسم بن عبدالرحمن لقي أحداً من الصحابة؟ قال: لا، ولكنه يروي عن ابن عمر، ولا أشك إلا أنه قد لقيه"، كذا في إحدى المطبوعات من "المراسيل"

(3)

، وفي أخرى "ولا أشك أنه ما لقيه"

(4)

.

ومن هذا الباب أيضاً ما وقع في المصادر من اختلاف في حكاية أقوال ثلاثة من الأئمة، وهم: أحمد، وابن معين، ومصعب الزبيري، في عامر بن

(1)

. "سؤالات أبي داود" ص 164.

(2)

. انظر: "تاريخ الدوري عن ابن معين" 2: 122، و"معرفة الرجال" 1: 68، و"المجروحين" 1: 58، و"الكامل" 1: 360، 361، و"تهذيب الكمال" 3:279.

(3)

. "المراسيل" تحقيق شكر الله قوجاني ص 175، وانظر:"جامع التحصيل" ص 310، و "تحفة التحصيل " ص 259.

(4)

. "المراسيل" تحقيق أحمد عصام ص 42.

ص: 68

مسعود الجمحي هل هو صحابي أو تابعي؟

(1)

.

ومن ذلك أيضاً ما وقع في "علل ابن المديني" في حكاية قوله عن لقي سعيد بن المسيب لزيد بن ثابت، ففي مكان إثبات لقائه له، وفي مكان آخر نفي ذلك

(2)

.

ونحو ذلك اضطراب المصادر في تحرير رأي ابن المديني في سماع عكرمة مولى ابن عباس من عائشة

(3)

، وفي سماع أبي قلابة من سمرة بن جندب

(4)

.

وذكر ابن أبي حاتم في كتاب "المراسيل" عن أبيه أن عكرمة لم يسمع من عائشة، وفي "الجرح والتعديل" أنه سمع منها

(5)

.

وحينئذٍ فعلى الباحث أن يجيل نظره في المصادر، ويتحقق جيداً من صواب النقل عن الإمام، وأنه لم يقع تحريف في النص.

ومن جانب آخر على الباحث أن يدرك أن هذه المسألة كغيرها من مسائل

(1)

. انظر: "تاريخ الدوري عن ابن معين" 2: 289، و"تهذيب الكمال" 14: 75، و"تحفة الأشراف" 4: 233، و"جامع التحصيل" ص 249، و"الإصابة" 5: 302، و"تهذيب التهذيب" 5:81.

(2)

. "علل ابن المديني" ص 45، 46، وانظر: ص 47 - 48.

(3)

. "جامع التحصيل" ص 292، و"سير أعلام النبلاء" 5:13.

(4)

. "المراسيل" ص 109، و"جامع التحصيل" ص 257، و"تهذيب الكمال" 14: 547، و"سير أعلام النبلاء" 4: 471، و"تهذيب التهذيب" 5: 226، و"تحفة التحصيل" ص 176.

(5)

. "المراسيل" ص 158، و"الجرح والتعديل" 7:7.

ص: 69

هذا الفن مبنية أحكامهم فيها على الاجتهاد بحسب ما يتوافر للإمام من قرائن، وبسبب هذا يقع بينهم اختلاف في سماع بعض الرواة ممن رووا عنه، بل قد يكون عن الإمام الواحد روايتان ظاهرهما التعارض، كما في سماع الحسن البصري من عمرو بن تغلب، فقد أثبت أحمد له السماع منه في رواية، وتوقف في سماعه منه في رواية أخرى

(1)

، وكذا في سماع قتادة من عبدالله بن سرجس، عن أحمد روايتان

(2)

، وفي سماع عبدالرحمن بن عبدالله بن مسعود من أبيه روايتان عن ابن معين

(3)

، ومثله كثير.

وحينئذٍ فعلى الباحث أن يبالغ في الفحص عن كلامهم وتتبعه، وألا يكتفي بأول حكم يقف عليه، فقد يكون لهذا الإمام قول آخر، أو يكون قد خالفه غيره.

وإذا وقف الباحث على خلاف في سماع راوٍ من آخر وتحقق من نسبة الأقوال إلى أصحابها فعليه أن يقوم بدراسة الاختلاف جيداً، ويتمعن فيه، فيحتمل أن لا يكون خلافاً حقيقياً، بأن يكون مراد إمام بالإثبات شيئاً، ومراد إمام آخر بالنفي شيئاً آخر.

ومثال ذلك أن ينفي إمام صحبة راوٍ ويريد بها الصحبة الخاصة، ويثبتها إمام آخر ويريد بها ثبوت الرؤية، فمرد الاختلاف حينئذٍ إلى الاختلاف في

(1)

. "مسائل أبي داود" ص (322)، و"المراسيل" ص 45.

(2)

. "العلل ومعرفة الرجال" 3: 284، و"المراسيل" ص 106.

(3)

. "تاريخ الدوري عن ابن معين" 2: 351، و"سؤالات ابن الجنيد" ص 473، و"تهذيب الكمال" 17:240.

ص: 70

مصطلح (الصحابي).

ومن ذلك أن يثبت إمام لقي راوٍ لآخر، ويريد به اللقي المجرد عن السماع، وينفيه إمام آخر، ويريد به اللقي بمعنى السماع.

ومن ذلك أيضاً أن ينفي إمام السماع ويريد به معناه الخاص، وهو أن يكون سمع منه حديثاً أو أكثر، ويثبته إمام آخر على معنى التوسع في مصطلح

(السماع) فقد يكون عرض عليه أحاديث فأقر بها، أو غير ذلك من وجوه التحمل.

وإذا كان الاختلاف حقيقياً فقد يكون ضعيفاً، بمعنى أن جمهور الأئمة على قول، ويخالفهم واحد أو اثنان، كما في سماع الحسن البصري من أبي هريرة، فالجمهور على أنه لم يسمع منه

(1)

.

وكذا سماع الزهري من أبان بن عثمان بن عفان، فلقوة القول بأنه لم يسمع منه، وكثرة القائلين به عده أبوحاتم اتفاقاً من أهل الحديث، كما تقدم آنفاً، مع وجود من خالف فأثبت ذلك

(2)

.

وإذا كان الاختلاف قوياً فيمكن للناظر الترجيح بالكثرة، فالقول الذي يذهب إليه اثنان أو ثلاثة، أقوى مما ينفرد به الواحد منهم، كما في سماع يحيى بن

(1)

. انظر: "علل المروذي" ص 180 - 181، و"تاريخ الدارمي عن ابن معين" ص 99، و"معرفة الرجال" 1: 128، و"علل ابن المديني" ص 57، و"المراسيل" ص 34، و"تهذيب التهذيب" 2:267.

(2)

. انظر في سماع الزهري من أبان: "تاريخ أبي زرعة الدمشقي" 1: 508 - 510، و"المراسيل" ص 189، و"تهذيب التهذيب" 9:450.

ص: 71

أبي كثير من السائب بن يزيد، فقد نفاه ابن معين، والبخاري، وأبوحاتم، وابن حبان، وأثبته أحمد

(1)

.

ويتأكد هذا إذا كان الأقل قد اختلف رأيه، أو تردد، كما في سماع يونس بن عبيد من نافع مولى ابن عمر، فقد جزم أحمد، والبخاري، وأبوحاتم بأنه لم يسمع منه شيئاً، واختلفت الرواية عن ابن معين، وأما أبوزرعة فقال:"أتوهم أن في حديثه شيئاً يدل على أنه سمع منه"

(2)

.

ومن أهم ما يطالب الباحث بالانتباه له وهو ينظر في أقوال النقاد في سماع راو من آخر، أو حين يريد التخريج على أقوالهم أن لا يغيب عن باله ما تقدم في قسم "الجرح والتعديل" من وقوع الاشتباه في بعض الرواة على النقاد، فيقع بينهم اختلاف هل هو راو واحد أو اثنان؟ فلهذا أثر كبير في معالجة الاختلاف في السماع.

ومن أمثلة ذلك في التخريج، أن موسى بن عبيدة الربذي روى عن

عمر بن الحكم، قال: سمعت سعداً

، فسئل عن ذلك يحيى بن سعيد

القطان، فأنكر أن يكون عمر بن الحكم سمع من سعد، ولم يرض موسى

ابن عبيدة

(3)

.

(1)

. انظر: "مسائل إسحاق" 2: 199، و"علل الترمذي" 2: 965، و"المراسيل" ص 242، و"ثقات ابن حبان" 7:592.

(2)

. "العلل ومعرفة الرجال" 1: 387، 3: 31، و"العلل الكبير" 1: 523، و"المراسيل" ص 249، و"الكامل" 7:2595.

(3)

. "المراسيل" ص 138، و"الجرح والتعديل" 1:245.

ص: 72

قال أبو زرعة العراقي: "روايته عن أم حبيبة في "صحيح ابن حبان"، وقال والدي في "أطراف ابن حبان": الظاهر أنه لم يسمع منها، وقد أُنكر سماعه من سعد بن أبي وقاص، وقد ماتت أم حبيبة قبله بأكثر من عشر سنين، وكانا جميعاً بالمدينة، وأيضاً فعمر بن الحكم يستصغر عن ذلك، فإن مولده سنة سبع وثلاثين، وماتت أم حبيبة سنة أربع وأربعين، فسماعه منها فيه نظر، ولكنه ممكن"

(1)

.

وكلام العراقي إنما يتم إذا كان عمر بن الحكم الذي روى عنه موسى بن عبيدة، هو عمر بن الحكم الذي روى عن أم حبيبة، وفي القضية اختلاف، وفيها غموض شديد

(2)

.

وإذا لم يكن هناك ملجأ للناظر عن الموازنة والترجيح فبإمكانه أن يسلك الطريقة الثالثة، وهي الطريقة التي بنى عليها الأئمة أحكامهم في الاتصال والانقطاع، فينظر بنفسه في دلائل ثبوت السماع أو عدمه، ويفعل ذلك أيضاً فيما إذا لم يجد للأئمة كلاماً في سماع راوٍ من آخر، ولا جدال أنه محتاج - في الحالتين - إلى كثير من الخبرة والمران والتدرب، والتحلي بالصبر والمثابرة، ولزوم الأناة، وعدم التعجل.

الطريقة الثالثة: النظر في دلائل ثبوت السماع أو نفيه:

(1)

. " تحفة التحصيل" ص 239.

(2)

. انظر: "تاريخ الدوري عن ابن معين" 2: 426، و"التاريخ الكبير" 6: 146، و"الجرح والتعديل" 6: 101، و"ثقات ابن حبان" 5: 147، 148، و"صحيح ابن حبان" حديث (5367) وكلام ابن حبان عليه، و"تهذيب الكمال" 21: 307 - 310.

ص: 73

بذل الأئمة جهوداً كبيرة جداً في سبيل معرفة سماع الراوي ممن روى عنه، وسخروا من أجل ذلك جميع ما يلزمه من وسائل، من نظر في الطرق، وتتبع لسير الرواة، ورحلاتهم، وولادتهم ووفاتهم، وكيفية رواية الراوي عن شخص بعينه، إلى غير ذلك.

والباحث حين يجد في نفسه القدرة على الخوض فيما خاضوا فيه، وقد استعد لذلك بكثرة النظر والتأمل في صنيعهم وتطبيقاتهم، وتدرب هو أيضاً على ذلك - بإمكانه أن يسلك سبيلهم، فيوازن بين أقوالهم حين اختلافهم، ويرجح ما يراه راجحاً، وينظر في رواة لم يقف على كلام للأئمة في سماعهم ممن رووا عنه.

وغير خاف أن سماع راو ممن روى عنه مبني على إدراكه له، أي أن يكون ولد قبل وفاة من روى عنه، فهذا القدر لا يجادل فيه أحد، وهو أول ما يبدأ به الباحث، فمتى وجد أن الراوي ولد بعد وفاة من روى عنه حكم حينئذٍ بالانقطاع بينهما.

ويلتحق به ما إذا كان أدرك من عمره شيئاً يسيراً، كأن يكون ولد قبل وفاته بسنوات قليلة، فالحكم حينئذ هو الانقطاع بينهما.

وهذه الحالة هي التي يعبر عنها الأئمة بقولهم عن راو: لم يدرك فلاناً، فإذا قالوا ذلك فالغالب بأنهم يريدون أنه لم يعاصره، أو عاصره في جزءٍ يسيرٍ من حياته.

وما نراه من عناية الأئمة بتحديد ولادة الراوي ووفاته الغرض الأول منه هذا، أي معرفة من أدركه ومن لم يدركه.

وكثيراً ما يواجه الباحث صعوبة في معرفة إدراك الراوي لمن روى عنه، إما

ص: 74

لأن ولادته أو وفاة من روى عنه لم يتفق عليها، بل اختلف فيها، وربما كان الاختلاف واسعاً، فالبحث الآن ينصب على معرفة الراجح من الأقوال إن أمكن.

وإما لأن الأئمة لم يذكروا على وجه التحديد ولادة الراوي، أو وفاة من روى عنه، وفي هذه الحالة يستعان بكتب الطبقات، لمعرفة طبقة الراوي ومن روى عنه، مثل:"الطبقات" لمحمد بن سعد، ولخليفة بن خياط، ولمسلم بن الحجاج، ومن أهمها وأكثرها فائدة - وإن لم يسم بالطبقات - كتاب البخاري: المطبوع باسم: "التاريخ الصغير"، ثم طبع باسم " التاريخ الأوسط"، فقد جعله على فصول، كل فصل يتضمن وفيات عشر سنوات، تحديداً أو تقريباً.

فإذا وجد الباحث أن الراوي مذكور - مثلاً - في طبقة صغار التابعين، وشيخه في الإسناد من كبار الصحابة، أو من أواسطهم - استدل بذلك على أنه لم يدركه، وعكسه كذلك، لو كان هو من طبقة كبار التابعين، أو من صغارهم وشيخه من صغار الصحابة، كان ذلك قرينة على الإدراك.

لكن الحالة الثانية هذه غير مأمونة، إذ قد يكون ذكر الراوي أصلاً في الطبقة المعينة مبنياً على رواية جاءت عنه، وقد تكون هي التي مع الباحث، فالاستدلال بالطبقة حينئذٍ فيه دور، ولابد من دليل خارجي، فيمكن تأكيد ذلك أو نفيه بالنظر في بقية شيوخه، إن كان له شيوخ آخرون.

والنقاد أنفسهم قد استخدموا هذه الطريقة - أعني النظر في شيوخ الراوي -، فمن ذلك قول أحمد حين سئل عن ميمون بن مهران هل لقي حكيم بن حزام؟

ص: 75

فقال: "لا، من أين لقيه؟ لم يرو إلا عن ابن عباس، وابن عمر"

(1)

.

ومراد أحمد أنه لم يثبت له لقي إلا لهذين، وهما من صغار الصحابة.

وقال ابن أبي حاتم: " سألت أبي عن الحسن بن الحكم هل لقي أنس بن مالك، فإنه يروي عنه؟ فقال: لم يلق أنساً، إنما يحدث عن التابعين"

(2)

.

وقال أبوحاتم أيضاً: "المسيب بن رافع لم يلق ابن مسعود، ولم يلق علياً، إنما يروي عن مجاهد ونحوه"

(3)

.

وقال أيضاً: "موسى بن يسار الدمشقي، روى عن أبي هريرة، مرسل، ولم يدرك أباهريرة، يروي عن مكحول، وعطاء، ونافع، والزهري"

(4)

.

وذكر العلائي أن إبراهيم بن مهاجر روى عن ابن مسعود حديث: ((عليكم بالباءة))، ثم قال:"وإرساله ظاهر، لأن إبراهيم هذا يروي عن إبراهيم النخعي، وطارق بن شهاب، ونحوهما"

(5)

.

وذكر أبو زرعة أن سعيداً العلاف يروي عن ابن عباس، ثم قال:"هو لين الحديث، لا أظنه سمع من ابن عباس"

(6)

.

(1)

. "المراسيل" ص 206.

(2)

. "المراسيل" ص 46.

(3)

. "المراسيل" ص 207.

(4)

. "المراسيل" ص 208.

(5)

. "جامع التحصيل " ص 167.

(6)

. "الجرح والتعديل" 4: 76.

ص: 76

وتأيد ما ذكره أبو زرعة بأن سعيداً هذا يروي عن مجاهد

(1)

، وهو من تلامذة ابن عباس.

ومن جهة ثانية يمكن لمعرفة إدراك الراوي من روى عنه الاستعانة بطبقة تلاميذه، فإذا كانوا من طبقة متأخرة عرف أنه صغير، لا يمكن أن يلحق من روى عنه، والعكس كذلك.

ومن أمثلته قول ابن معين في رواية الدوري: "حديث عبد الله بن نيار، عن عمرو بن شأس، ليس هو متصلاً، لأن عبد الله بن نيار يروي عن ابن أبي ذئب، أو قال: يروي عنه القاسم بن عباس - شك أبو الفضل -، لا يشبه أن يكون رأى عمرو بن شأس"

(2)

.

وهناك قرائن ودلائل تستخدم كثيراً في ترجيح أو نفي السماع، بعد ترجيح الإدراك والمعاصرة، وقد تستخدم أيضاً في النظر في الإدراك.

- فمنها اختلاف مكان الراويين، ولا رحلة لأحدهما إلى مكان الآخر حال وجوده فيه، وهي من أهم القرائن التي استخدمها الأئمة في نفي السماع، وتتأكد هذه القرينة مع صغر سن الراوي حين وفاة من روى عنه.

قال ابن رجب: "ومما يستدل به أحمد وغيره من الأئمة على عدم السماع والاتصال - أن يروي عن شيخ من غير أهل بلده، لم يُعلم أنه رحل إلى بلده،

(1)

. "الكفاية" ص 359.

(2)

. " تاريخ الدوري عن ابن معين " 2: 335، وانظر:" سنن أبي داود " حديث (2952).

ص: 77

ولا أن الشيخ قدم إلى بلد كان الراوي عنه فيه"

(1)

.

فمن ذلك قول الشافعي: "لا نعلم عبدالرحمن بن أبي ليلى رأى بلالاً قط، عبدالرحمن بالكوفة، وبلال بالشام، وبعضهم يدخل بينه وبين عبدالرحمن رجلاً لا نعرفه، وليس يقبله أهل الحديث"

(2)

.

وقال أحمد حين سئل عن سماع الحسن البصري من ابن عباس: "لم يسمع الحسن من ابن عباس، إنما كان ابن عباس بالبصرة والياً أيام علي رضي الله عنهما"-

(3)

.

ومراده أن الحسن وقتذاك كان بالمدينة كما قال ابن المديني: "الحسن لم يسمع من ابن عباس وما رآه قط، كان الحسن بالمدينة أيام كان ابن عباس بالبصرة، استعمله عليها علي رضي الله عنه، وخرج إلى صفين"

(4)

.

وقال أبوحاتم لما سأله ابنه عن سماع ابن سيرين من أبي الدرداء: "قد أدركه، ولا أظنه سمع منه، ذاك بالشام، وهذا بالبصرة"

(5)

.

وهذه القرينة سهلة التطبيق بالنسبة للمتأخر، وقد استخدمها الأئمة

(1)

. "شرح علل الترمذي" 2: 592.

(2)

. "معرفة السنن والآثار" للبيهقي 2: 757.

(3)

. "المراسيل" ص 33.

(4)

. "العلل" ص 55، و"المراسيل" ص 33.

(5)

. "المراسيل" ص 187، وانظر أيضاً:"علل ابن المديني" ص 59 فقرة (63)، ص 60 فقرة (65)، و"المراسيل" ص 31 فقرة (92)، ص 39 فقرة (127)، ص 42 فقرة (139)، ص 126 فقرة (453).

ص: 78

المتأخرون بكثرة.

فمن ذلك قول المنذري: "أبووائل أدرك معاذاً بالسن، وفي سماعه عندي نظر، وكان أبووائل بالكوفة، ومعاذ بالشام"

(1)

.

وكذا قال ابن رجب: "لم يثبت سماع أبي وائل من معاذ، وإن كان قد أدركه بالسن، وكان معاذ بالشام، وأبووائل بالكوفة، ومازال الأئمة كأحمد وغيره يستدلون على انتفاء السماع بمثل هذا"

(2)

.

وقال أيضاً: "حكى أبو زرعة الدمشقي عن قوم أنهم توقفوا في سماع أبي وائل من عمر، أو نفوه، فسماعه من معاذ أبعد"

(3)

.

ولعل مراده أن سماع من بالكوفة ممن هو بالمدينة أقرب من سماعه ممن هو بالشام، فإذا انتفى الأقرب انتفى الأبعد، يضاف إلى ذلك أن معاذاً مات قبل عمر.

وقال العلائي في سفيان بن هاني الجيشاني: "هو تابعي سمع من علي، وأبي ذر رضي الله عنهما ومن غيرهما"، ثم استدرك قائلاً:"وأظن روايته عن أبي ذر مرسلة، لأنه مصري وفد على علي رضي الله عنه في خلافته، وأبوذر مات في خلافة عثمان رضي الله عنهما "

(4)

.

(1)

. "الترغيب والترهيب" 3: 529.

(2)

. "جامع العلوم والحكم" ص 255.

(3)

. "جامع العلوم والحكم" ص 255، وانظر:"تاريخ أبي زرعة الدمشقي" 1: 656 - 657، فقرة (1961 - 1963).

(4)

. "جامع التحصيل" ص 226، وانظر:"الإصابة" 5: 12.

ص: 79

ولهذا السبب يبحث النقاد عن مكان سماع الراوي ممن روى عنه إذا لم يكن من أهل بلده، ولم يرحل أحدهما إلى بلد الآخر، أو كانت رحلة أحدهما إلى بلد الآخر غير مشهورة، كما في قول سفيان بن عيينة:"قلت لابن سوقة: أين رأيت نافع بن جبير؟ قال: رأيته جاء إلى أبي، قال - سفيان -: وكان قدم الكوفة زمن الحجاج، وكان سوقة رجلاً بزازاً معروفاً يشتري لهم حوائجهم "

(1)

.

وقال عبد الله بن أحمد: "سألت أبي: أين سمع قتادة من سالم بن أبي الجعد؟ قال: بالكوفة، أو بمكة، وأنكر أن يكون سمع منه بالشام، وقال: قد جاء قتادة إلى الكوفة، إلى الشعبي"

(2)

.

وقال عباس الدوري: "قلت ليحيى: إن ابن شبرمة يروي عن ابن سيرين، قال: دخل ابن سيرين الكوفة في وقت لم يكن ابن شبرمة، ولكن لعله سمع منه في الموسم"

(3)

.

وقال أبو زرعة: "لقي الشعبي فاطمة بنت قيس بالحيرة"

(4)

.

وكانت فاطمة قد وفدت على أخيها الضحاك بن قيس في ولايته على الكوفة

(5)

.

- ومن القرائن أيضاً أن يروي الراوي عن شخص ثم يروي عنه بواسطة،

(1)

. " التاريخ الكبير " 1: 102.

(2)

. "العلل ومعرفة الرجال" 3: 5156.

(3)

. "تاريخ الدوري عن ابن معين " 2: 521.

(4)

. "أسئلة البرذعي لأبي زرعة" ص 764.

(5)

. "الإصابة" 13: 86.

ص: 80

فإن الأئمة قد استدلوا بهذا كثيراً على عدم السماع.

قال ابن رجب: "إن كان الثقة يروي عمن عاصره أحياناً، ولم يثبت لقيه له، ثم يدخل أحياناً بينه وبينه واسطة - فهذا يستدل به هؤلاء الأئمة على عدم السماع منه"

(1)

.

فمن ذلك قول عبدالله بن أحمد: " سئل أبي عما روى سعيد بن جبير عن عائشة: على السماع؟ قال: لا أراه سمع منها، عن الثقة، عن عائشة رضي الله عنها"

(2)

.

وقال أحمد: "خيثمة (يعني ابن عبد الرحمن) لم يسمع من عبد الله بن مسعود شيئاً، روى عن الأسود، عن عبد الله "

(3)

.

وسئل أحمد هل سمع أبووائل من عائشة؟ فقال: "ما أدري، ربما أدخل بينه وبينها مسروق في غير شيء"، وذكر حديث: ((إذا أنفقت المرأة

))

(4)

.

وقال أحمد في الحجاج بن أرطاة: "لم يسمع من عكرمة شيئاً، إنما يحدث عن داود بن الحصين، عن عكرمة"

(5)

.

وسئل ابن معين هل سمع ثابت من أبي برزة؟ فقال: "لا، حدث عن

(1)

. "شرح علل الترمذي" 2: 593، وانظر أيضاً 2:595.

(2)

. "العلل ومعرفة الرجال" 3: 284، و" المراسيل" ص 74، و"تحفة الأشراف" 11: 375، 411.

(3)

. " العلل ومعرفة الرجال " 1: 144، و" المراسيل " ص 54.

(4)

. "المراسيل" ص 88، و"تحفة الأشراف" 11:424.

(5)

. "جامع التحصيل" ص 192.

ص: 81

معاوية بن قرة، عن أبي برزة"

(1)

.

وقال إسحاق بن منصور: "قلت ليحيى بن معين: عبدالله بن نجي سمع من علي؟ قال: لا، بينه وبين علي أبوه"

(2)

.

وقال ابن معين أيضاً: "لم يسمع قتادة من سعيد بن جبير، ولا من مجاهد، ولا من سليمان شيئاً، ربما أدخل بينهم رجلاً، وربما أرسل، وأكثر ذلك لا يدخل، يرسلها"

(3)

.

وقال البخاري: "ما أرى يونس بن عبيد سمع من نافع، وروى يونس بن عبيد، عن ابن نافع، عن أبيه حديثاً"

(4)

.

وقال أيضاً: "لم يسمع الحسن من سلمة، بينهما قبيصة بن حريث"

(5)

.

وقال أبوحاتم: "أبووائل قد أدرك علياً، غير أن حبيب بن أبي ثابت روى عن أبي وائل، عن أبي الهياج، عن علي رضي الله عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه: لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته)) "

(6)

.

وقال أيضاً: "أبوقلابة لم يسمع من أبي زيد عمرو بن أخطب، بينهما عمرو

(1)

. "معرفة الرجال" 1: 128.

(2)

. "المراسيل" ص 110.

(3)

. "سؤالات ابن الجنيد" ص 317.

(4)

. "العلل الكبير" 1: 523.

(5)

. "التاريخ الكبير" 4: 72.

(6)

. "المراسيل" ص 88، و"تحفة الأشراف" 7: 369، 385.

ص: 82

ابن بجدان"

(1)

.

وسئل أبوحاتم هل سمع ابن جريج من أبي سفيان طلحة بن نافع؟ فقال: "ما أراه، رأيت في موضع بينه وبين أبي سفيان: أباخالد - شيخاً له -"

(2)

.

وقال أبوحاتم أيضاً: "الشعبي عن عائشة مرسل، إنما يحدث عن مسروق عن عائشة"

(3)

.

ومثل هذا كثير جداً في كلام الأئمة، ويشبهه ما إذا قال في رواية: بلغني عنه، كما قال أبوحاتم:"كيف سمع (يعني الزهري) من أبان وهو يقول: بلغني عنه؟ "

(4)

، أو يقول: نبئت عنه، كما قال أحمد:"لم يسمع محمد بن سيرين من ابن عباس شيئاً، كلها يقول: نبئت عن ابن عباس"

(5)

.

ويتأكد عدم السماع بهذه القرينة إذا كان إدخاله الواسطة وحذفها جاء عنه في حديث واحد، كما قال أبو حاتم:"سعيد بن يزيد الذي يحدث عنه أبو الخير: "أن رجلاً أتى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فقال: أوصني، قال: أوصيك أن تستحي من الله كما تستحي رجلاً صالحاً من قومك" - كنا لا ندري له صحبة أم لا، فروى عبدالحميد بن جعفر، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن سعيد بن يزيد،

(1)

. "المراسيل" ص 110، و"تحفة الأشراف" 8:133.

(2)

. "المراسيل" ص 133.

(3)

. "المراسيل" ص 160، و"تحفة الأشراف" 11:429.

(4)

. "المراسيل" ص 191.

(5)

. "العلل ومعرفة الرجال" 1: 487، 2: 534، و"المراسيل" ص 186، وانظر:"مسند أحمد" 1: 200.

ص: 83

عن رجل من أصحاب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، بهذا الحديث بعينه، - يعني: فدلنا على أن لا صحبة له -"

(1)

.

- ومنها أن يكون الراوي كثير الإرسال، فقد عرف بذلك جماعة من الرواة، فإذا احتيج إلى النظر في سماعه من راو، فلابد من اعتبار حاله عند الترجيح، فهذه القرينة من مرجحات أنه لم يسمع منه، ومن هؤلاء الرواة: الحسن البصري

(2)

، وقتادة

(3)

، وسالم بن أبي الجعد

(4)

، والمطلب بن عبدالله

(5)

، وسعيد بن أبي عروبة

(6)

، وهشيم بن بشير

(7)

، وغيرهم.

وقد اعتنى الحافظ ابن حجر بالنص على ذلك في كتابه "التقريب".

(1)

. "المراسيل" ص 68.

(2)

. انظر: "المراسيل" ص 31 - 44، و" جامع التحصيل" ص 194 - 199، و" تحفة التحصيل" ص 67 - 76، و" تهذيب التهذيب" 2: 266 - 270.

(3)

. انظر: "المراسيل" ص 168 - 175، و" جامع التحصيل" ص 312 - 314، و"تحفة التحصيل" ص 262 - 266، و"تهذيب التهذيب" 8: 353 - 356.

(4)

. "المراسيل" ص 79 - 80، و"جامع التحصيل" ص 217، و"تحفة التحصيل" ص 120، و"تهذيب التهذيب" 3: 432 - 433.

(5)

. "المراسيل" ص 209 - 210، و"جامع التحصيل" ص 347، و"تحفة التحصيل" ص 307، و"تهذيب التهذيب" 10: 178 - 179.

(6)

. "المراسيل" ص 77 - 79، و"جامع التحصيل" ص 221 - 222، و"تحفة التحصيل" ص 125 - 126، و"تهذيب التهذيب" 4:64.

(7)

. "المراسيل" ص 231، و"جامع التحصيل" ص 363، و"تحفة التحصيل" ص 333، و"تهذيب التهذيب" 11: 62 - 64.

ص: 84

ويلتحق بذلك ما إذا كان الراوي من أهل بلد عرف أهله بكثرة الإرسال، وقد توارد عدد من الأئمة على وصف أهل الشام بذلك، فإن الإرسال يغلب على رواياتهم، قال أبو عوانة:"كنا يوماً عند الحكم فذكر حديثاً ليس بمسند، فقال: ليس هذا من بابة شعبة، قال: فقال شعبة: لا ينبغي أن تروي عن الشامي كثيراً"

(1)

.

- ومنها أن يروي الراوي عن شخص أحاديث كثيرة، ولا يذكر في واحد منها سماعاً أو ما يدل عليه، فإن الأئمة يستدلون بذلك على أنه لم يسمع منه، كما قال أبوحاتم:"يحيى بن أبي كثير ما أراه سمع من عروة بن الزبير، لأنه يُدخل بينه وبينه رجل أو رجلان، ولا يُذكر سماع، ولا رؤية، ولا سؤاله عن مسألة"

(2)

.

والباحث في أحيان كثيرة يحتاج إلى النظر في القرائن، إذ تكون القرينة نفسها قد وقع فيها اختلاف، أو لم تتحرر كما ينبغي، فالباحث حينئذٍ ملزم بالنظر في ذلك، وهذا كما إذا كان هناك خلاف في وفاة المروي عنه، أو في ولادة الراوي، أو في صحة وضعف دخول واسطة بين الراوي والمروي عنه.

فمن ذلك أن سماع مسروق من أم رومان والدة عائشة رضي الله عنهما مختلف فيه، وسببه الاختلاف في وفاتها هل كان قبل موته صلى الله عليه وسلم أو بعده؟ ، وأيضاً

(1)

. "العلل ومعرفة الرجال" 3: 415، وانظر أيضاً:"الجامع لأخلاق الراوي" 2: 287 - 288، و"سير أعلام النبلاء" 4: 355، 488، و"تاريخ الإسلام" وفيات سنة 70 ص 291، و"ميزان الاعتدال 4:410.

(2)

. "المراسيل" ص 242.

ص: 85

الاختلاف في صحة تصريحه بالتحديث عنها

(1)

.

وفوق القرائن العامة التي تقدمت قد يجد الناظر في الحالة المعينة التي يبحث فيها ما يعين على ترجيح السماع أو عدمه، فهذا لا يمكن حصره، وقد يكون بعضها من الدقة بحيث لا يقوم به إلا أئمة النقد.

وأعيد هنا ما تقدم ذكره من أن هذه القرائن واستخدامها في الإدراك والسماع لا يمكن فصلها عن التصريح بالتحديث، هل ورد عن الراوي أو لم يرد؟ وإذا كان قد ورد فهل يثبت عنه أولا؟ والناقد يستخدم دلائل النفي مع عدم ورود التصريح بالتحديث عنده لتأكيد الانقطاع، وتنبيهاً للناظر أن يتريث في حال وقوفه على تصريح، وقد يستخدمها مع ورود التصريح عنده ليدلل بذلك على أنه لا يثبت.

ويستخدم دلائل الإثبات مع ورود التصريح بالتحديث وثبوته عنده لتأكيد هذا الثبوت، كما يستخدمها وإن لم يقف على تصريح بالتحديث، وليس الغرض حينئذ إثبات السماع، وإنما الغرض تقريبه للناظر، فكأن الناقد يقول: في حال ورود السماع فالقرائن تؤيد ذلك.

وأعيد أيضاً ما أشرت إليه سابقاً، وهو أن جمع هذه الدلائل وإبرازها للباحث ليس المقصود به أن يعيد النظر في أحكام الأئمة، فما حكموا فيه قد انتهى، والحكم حكمهم، وإن بدا للباحث خلاف ذلك، وإنما يستفيد منها

(1)

. انظر: "صحيح البخاري" حديث (3388)، و"التاريخ الصغير" ص 1: 37 - 38، و"تحفة الأشراف" 13: 79، و"زاد المعاد" 3: 266، و"جامع التحصيل" ص 340، و"فتح الباري" 7:438.

ص: 86

الباحث في حال وقوع اختلاف قوي بينهم، أو في حال عدم وقوفه على كلام لهم نفياً أو إثباتاً.

وسأعرض الآن مثالين لكيفية استخدام المتأخر لهذه الدلائل في الموازنة بين أقوال النقاد حين اختلافهم.

أحدهما في سماع محمد بن المنكدر من عائشة، ذلك أن الترمذي سأل البخاري هل سمع محمد بن المنكدر من عائشة؟ فقال: "نعم، روى مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن محمد بن المنكدر قال: سمعت عائشة

"

(1)

.

وأما البزار فقال بعد أن ذكر رواية لمحمد بن المنكدر عنها: "ابن المنكدر لم يسمع من عائشة"

(2)

.

وقد رجح المتأخرون - كالذهبي مرة، وابن حجر - أن روايته عنها مرسلة، وذكر ابن حجر ثلاث قرائن تدل على ذلك:

إحداها: أن محمد بن المنكدر توفي سنة 130 أو 131، وكان عمره ستاً وسبعين سنة، فتكون ولادته قبل سنة ستين بيسير، يعني فلا يمكنه السماع من عائشة، لأنها ماتت سنة سبع وخمسين.

والثانية: أن ابن معين قال: إنه لم يسمع من أبي هريرة، وقال أبوزرعة: لم يلقه، وعائشة ماتت قبل أبي هريرة.

(1)

. "العلل الكبير" 1: 373، وانظر:"سنن الترمذي" 3: 165.

(2)

. "كشف الأستار عن زوائد البزار" 1: 57 بعد حديث (74).

ص: 87

والثالثة: حكاية ذكرها في دخول المنكدر والد محمد على عائشة

(1)

.

وعلى هذا فالتصريح بالتحديث في الإسناد الذي اعتمد عليه البخاري خطأ من أحد رواته، وفي سماع مخرمة بن بكير من أبيه كلام مشهور للعلماء، والأكثر على أنه لم يسمع منه، وإنما يروي من كتبه

(2)

، فلا يبعد وقوع الخطأ حينئذٍ.

فهذه طريقة الموازنة والترجيح بين رأيين.

وقد سلك الذهبي مرة أخرى طريقة أخرى، فذكر أن ولادة محمد بن المنكدر سنة بضع وثلاثين، ثم عقب على كلام البخاري بقوله:"إن ثبت الإسناد إلى ابن المنكدر بهذا فجيد، وذلك ممكن، لأنه قرابتها، وخصيص بها، ولحقها وهو ابن نيف وعشرين سنة"

(3)

.

وكأن الطريقة الأولى أجود، فعلى الثانية يكون ابن المنكدر قد قارب عمره المائة، وهذا بعيد، مع كونه خلاف المشهور في ولادته، والله أعلم.

والمثال الثاني: اختلافهم في سماع أبان بن عثمان بن عفان من أبيه، فقد نفاه

(1)

. "سير أعلام النبلاء" 2: 138، و"تهذيب التهذيب" 9: 474، وانظر:"طبقات ابن سعد"(القسم المتمم لتابعي أهل المدينة) ص 188، و"تاريخ الدوري عن ابن معين" 2: 540، و"المراسيل" ص 189، و"ثقات ابن حبان" 5: 350، و"طبقات خليفة" ص 268، وفيه أن وفاة محمد بن المنكدر سنة 136.

(2)

. "تاريخ الدوري عن ابن معين " 2: 554، و"الكامل" 6: 2421، و"تهذيب التهذيب" 10:70.

(3)

. "سير أعلام النبلاء" 5: 353، 354.

ص: 88

أحمد، وأثبته أبوحاتم

(1)

، وأمكن ترجيح إثبات السماع بالوقوف على تصريحه بالتحديث في أسانيد صحيحة إليه

(2)

.

أما ما يفعله بعض المتأخرين من استخدام دلائل إثبات السماع أو عدمه في إعادة النظر في كلام النقاد حال اتفاقهم أو اتفاق جمهورهم على إثبات سماع أو نفيه، أو في حال ورود ذلك عن بعضهم دون معارض - فهذا فيما أرى - مزلة قدم، ولا ينبغي فعله، وقد رأيت من أقدم على ذلك، ثم بالتأمل تبين أنه لم يحكم صنيعه، وهذا أمر لا مفر منه، فمخالفة أصحاب الشأن، ومن بإمكانهم استخدام الدلائل على وجهها - كاف في معرفة النتيجة مسبقاً، وأنها مخطئة.

فمن ذلك أن الحسن البصري لم يسمع من أبي هريرة، ولم يلقه، في قول جمهور النقاد، ومنهم من هو من تلامذة الحسن، وقد ورد تصريحه بالتحديث في أسانيد تكلم فيها النقاد

(3)

، ومع هذا قال ابن حجر:"ووقع في "سنن النسائي" من طريق أيوب، عن الحسن، عن أبي هريرة في المختلعات، قال الحسن: لم أسمع من أبي هريرة غير هذا الحديث، أخرجه عن إسحاق بن راهويه، عن المغيرة بن

(1)

. "التاريخ الكبير" 1: 450، و"المراسيل" ص 16، و"الجرح والتعديل" 2:295.

(2)

. "انظر: "صحيح مسلم" حديث (1409)، و"سنن أبي داود" حديث (1838)، و"سنن الترمذي" حديث (952)، و"مسند أحمد" 1: 59، 68.

(3)

. انظر: " طبقات ابن سعد" 7: 158، و"علل المروذي " ص 180 - 181، و "تاريخ الدارمي عن ابن معين " ص 99، و "معرفة الرجال " 1: 128، و"علل ابن المديني" ص 57، و"المراسيل " ص 34، و" علل الدارقطني" 8: 249، و "تهذيب التهذيب " 2: 267، و "معرفة علوم الحديث " ص 111.

ص: 89

سلمة، عن وهيب، عن أيوب، وهذا إسناد لا مطعن في أحد من رواته، وهو يؤيد أنه سمع منه في الجملة، وقصته في هذا شبيهة بقصته في سمرة سواء"

(1)

.

كذا وقعت العبارة عند ابن حجر، وجاءت العبارة في النسخ المطبوعة هكذا:"قال الحسن: لم أسمعه من غير أبي هريرة، قال أبو عبدالرحمن: الحسن لم يسمع من أبي هريرة شيئاً"

(2)

.

فهذه العبارة محتملة، فيحتمل أن يكون معناها: لم أسمعه من غير حديث أبي هريرة، يدل على ذلك تعقيب النسائي، وقد ذكر ابن حجر هذا التفسير لعبارة النسائي في "فتح الباري"، ورده بأنه تكلف، وأنه لا مانع أن يسمع هذا من أبي هريرة، ويرسل غيره

(3)

.

وقد بنى ابن حجر القول بأنه تكلف على لفظ العبارة التي وقعت عنده، وهو "لم أسمع من أبي هريرة غير هذا الحديث"، وقد تبين أن اللفظ ليس هكذا فلا تكلف إذاً.

ومما يضعف الاستدلال بالعبارة على مراد ابن حجر أيضاً أنها جاءت في بعض النسخ كلها من كلام النسائي مضعفاً الحديث، قال النسائي:"الحسن لم يسمع من أبي هريرة شيئاً، ومع هذا إني لم أسمع هذا إلا من حديث أبي هريرة"

(4)

.

(1)

. "تهذيب التهذيب" 2: 269.

(2)

. "سنن النسائي" حديث (3461).

(3)

. "فتح الباري" 9: 403.

(4)

. "تحفة الأشراف" 9: 319.

ص: 90

وأخرج ابن حزم هذا الحديث من طريق النسائي، وجاءت العبارة عنده هكذا:"قال الحسن: لم أسمعه من أبي هريرة"، وعقب عليها ابن حزم بقوله:"فسقط بقول الحسن أن نحتج بذلك الخبر"

(1)

.

وقد روى هذا الحديث عفان بن مسلم، وعبد الأعلى بن حماد، عن وهيب به، وليس في روايتهما قول الحسن أصلاً

(2)

، مما يرجح أن العبارة كلها من كلام النسائي.

ورواه أبو الأشهب جعفر بن حيان، عن الحسن مرسلاً ليس فيه أبو هريرة

(3)

.

ويزيد الأمر وضوحاً، بأن اللفظ الذي اعتمده ابن حجر لا ينهض أبداً على رد قول الأئمة، أن ابن سعد روى عن عفان بن مسلم، عن وهيب، عن أيوب قوله:"لم يسمع الحسن من أبي هريرة"

(4)

.

وبعد أن كتبت هذا رأيت أحد المشايخ الفضلاء تكلم على هذه القضية بكلام غريب، رأيت أن أثبته هنا، ليتضح للقارئ خطورة التسرع في مناقشة النقاد، والتعقب عليهم، قال في كلامه على حديث أبي هريرة هذا بعد أن أورد العبارة من "سنن النسائي" بلفظ:"قال الحسن: لم أسمعه من غير أبي هريرة "-: "قلت: وهذا نص صريح منه أنه سمعه من أبي هريرة، وهو ثقة صادق، فلا

(1)

. "المحلى" 11: 586.

(2)

. "مسند أحمد" 2: 414، و"سنن البيهقي" 7:316.

(3)

. "مصنف ابن أبي شيبة" 5: 271.

(4)

. " طبقات ابن سعد" 7: 158.

ص: 91

أدري وجه جزم النسائي رحمه الله تعالى بنفي سماعه منه، مع أن السند إليه صحيح على شرط مسلم، وقد قال الحافظ في "التهذيب" بعد أن ساقه في ترجمة الحسن: وهذا إسناد لا مطعن في أحد من رواته، وهو يؤيد أنه سمع من أبي هريرة في الجملة، وقصته في هذا شبيهة بقصته في سمرة سواء.

قلت: يعني أن الذي تحرر في اختلاف العلماء في سماع الحسن من سمرة أنه سمع منه شيئاً قليلاً، فكذلك سماعه من أبي هريرة ثابت، ولكنه قليل أيضاً، بدلالة هذا الحديث، والله أعلم.

وبالجملة فهذا الإسناد متصل صحيح، فلا يلتفت إلى إعلال النسائي بالانقطاع، لأنه يلزم منه أحد أمرين: إما تكذيب الحسن البصري في قوله المذكور، وإما توهيم أحد الرواة الذين رووا ذلك عنه، وكل منهما مما لا سبيل إليه، أما الأول فواضح، وأما الآخر فلأنه لا يجوز توهيم الثقات بدون حجة أو بينة، وهذا واضح بين".

هذا كلام الشيخ، ولا أظنني بحاجة إلى التعقيب عليه.

وصرح جماعة من النقاد منهم ابن المديني، ويحيى بن معين، وأبو داود، والبزار، وغيرهم، بأن الحسن لم يسمع من الأسود بن سريع

(1)

.

ولم أقف على قول ناقد يذهب فيه إلى سماع الحسن من الأسود بن سريع.

(1)

. "العلل ومعرفة الرجال" 2: 124، و" علل ابن المديني" ص 55، و" تاريخ الدوري عن ابن معين" 2: 111، 112، و" سؤالات الآجري لأبي داود" 1: 385، و" الجرح والتعديل" 8: 339، و" نصب الراية" 1: 90، و" تهذيب التهذيب" 2: 269، 10:29.

ص: 92

ومع هذا كله تصدى أحد الباحثين لهذه القضية، وخالف النقاد في ذلك، فذهب إلى أن الحسن سمع من الأسود بن سريع، وأطال - بما لا طائل تحته - في إثبات إدراكه له بالبصرة، وفي تصحيح ما ورد من التصريح بالتحديث عنه، مما لم يلتفت له النقاد.

وفي ختام هذا المبحث أود أن أشير إلى أن ما ذكرته من أن منهج الأئمة في طريقة إثبات السماع أو نفيه قد نسبه إليهم أئمة كبار، ممن يحررون منهجهم وطريقتهم في عموم مسائل النقد، ورأيت - بالتتبع - أن هذه النسبة صحيحة لا إشكال فيها، غير أن بعض الأئمة قد نسب إليهم أنهم لا يشترطون العلم بالسماع لإثباته، ولما كانت هذه النسبة تحتاج إلى شيء من البسط رأيت أن أجعل هذا المبحث خالياً عن ذلك، متضمناً - فقط - إيضاح منهجهم وطريقة عملهم، فهو الذي يحتاجه الباحث، وأما الاستدلال لذلك من كلامهم وتطبيقاتهم، ومناقشة ما نسب إلى أئمة النقد بخلاف ما ذكرته فسأتعرض له في المبحث التالي، لينظر فيه من أراده، والله أعلم.

ص: 93