المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌بَابٌ النسخ: النَّسْخُ لُغَةً: الإِزَالَةُ" وَهُوَ الرَّفْعُ1 "حَقِيقَةً" يُقَالُ: نَسَخَتْ الشَّمْسُ - شرح الكوكب المنير = شرح مختصر التحرير - جـ ٣

[ابن النجار الفتوحي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثالث

- ‌باب الأمر

- ‌فصل الأمر حقيقة في الوجوب

- ‌باب النهي:

- ‌باب العام:

- ‌فصل العام بعد تخصيصه:

- ‌فصل إطلاق جمع المشترك على معانيه

- ‌فَصْلٌ لَفْظُ الرِّجَالِ وَالرَّهْطِ لا يَعُمُّ النِّسَاءَ وَلا الْعَكْسَ:

- ‌فصل القران بين شيئين لفظا لا يقتضي التسوية بينهما حكما

- ‌باب التخصيص:

- ‌فَصْلٌ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْمُخَصَّصِ الْمُتَّصِلِ

- ‌فصل المخصص المتصل الثالث الصفة

- ‌فصل المخصص المتصل الرابع الغاية:

- ‌فصل تخصيص الكتاب ببعضه وتخصيصه بالسنة مطلقا

- ‌فصل تقديم الخاص على العام مطلقا

- ‌باب المطلق:

- ‌بَابُ الْمُجْمَلِ:

- ‌بَابُ الْمُبَيَّنِ:

- ‌باب الظاهر:

- ‌بَابُ الْمَنْطُوقِ وَالْمَفْهُومِ:

- ‌فصل إذا خص نوع بالذكر مما لا يصح لمسكوت عنه فله مفهوم:

- ‌فَصْلٌ: كَلِمَةُ إنَّمَا:

- ‌بَابٌ النسخ:

- ‌فصل يجوز نسخ التلاوة دون الحكم ونسخ الحكم دون التلاوة ونسخهما معا:

- ‌فَصْلٌ يَسْتَحِيلُ تَحْرِيمُ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى:

الفصل: ‌ ‌بَابٌ النسخ: النَّسْخُ لُغَةً: الإِزَالَةُ" وَهُوَ الرَّفْعُ1 "حَقِيقَةً" يُقَالُ: نَسَخَتْ الشَّمْسُ

‌بَابٌ النسخ:

النَّسْخُ لُغَةً: الإِزَالَةُ" وَهُوَ الرَّفْعُ1 "حَقِيقَةً" يُقَالُ: نَسَخَتْ الشَّمْسُ الظِّلَّ: أَيْ2 أَزَالَتْهُ وَرَفَعَتْهُ، وَنَسَخَتْ الرِّيحُ الأَثَرَ كَذَلِكَ3.

"وَ"يُرَادُ بِهِ "النَّقْلُ مَجَازًا" وَهُوَ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: النَّقْلُ مَعَ عَدَمِ 4بَقَاءِ الأَوَّلِ، كَالْمُنَاسَخَاتِ فِي الْمَوَارِيثِ، فَإِنَّهَا تَنْتَقِلُ مِنْ قَوْمٍ إلَى قَوْمٍ، مَعَ بَقَاءِ الْمَوَارِيثِ فِي نَفْسِهَا.

وَالثَّانِي: النَّقْلُ مَعَ بَقَاءِ الأَوَّلِ كَنَسْخِ الْكِتَابِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {إنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 5.

وَمَا تَقَدَّمَ هُوَ قَوْلُ الأَكْثَرِ.

وَقِيلَ6: إنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي النَّقْلِ مَجَازٌ فِي الرَّفْعِ وَالإِزَالَةِ عَكْسُ الأَوَّلِ.

1 ساقطة من ش.

2 ساقطة من ع ض ب.

3 غير أن هناك فرقاً بين الإزالة المقصود في كل من المثالين، وذلك لأن النسخ بمعنى الإزالة يرد في اللغة على نوعين "أحدهما" نسخ إلى بدل نحو قولهم "نسخ الشيب الشباب" و "نسخت الشمس الظل" أي أذهبته وحلت محله.

"والثاني" نسخ إلى غير بدل نحو "نسخت الريح الأثر" أي أبطلته وأزالته. "الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار للحازمي ص8".

4 ساقطة من ع.

5 الآية 29 من الجاثية.

6 في ش: وما قيل.

ص: 525

وَقِيلَ: مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الإِزَالَةِ وَالنَّقْلِ.

"وَ" النَّسْخُ "شَرْعًا" أَيْ فِي اصْطِلاحِ الأُصُولِيِّينَ "رَفْعُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَرَاخٍ" أَيْ الدَّلِيلُ عَنْ الْحُكْمِ ذَكَرَ مَعْنَى ذَلِكَ ابْنُ الْحَاجِبِ1 وَغَيْرُهُ، وَهُوَ قَوْلُ الأَكْثَرِ2.

وَقَوْلُ مَنْ قَالَ "بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ" أَوْلَى مِمَّنْ قَالَ "بِخِطَابٍ شَرْعِيٍّ" لِدُخُولِ3 الْفِعْلِ فِي الدَّلِيلِ دُونَ الْخِطَابِ.

وَعَبَّرَ الْبَيْضَاوِيُّ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ4، وَهُوَ حَسَنٌ أَيْضًا.

وَمِنْ النَّسْخِ بِالْفِعْلِ: نَسْخُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ بِأَكْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الشَّاةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ5.

1 مختصر ابن الحاجب مع شرحه للعضد 2/185.

2 انظر معنى النسخ في الاصطلاح الشرعي في "العدة 3/778، المسودة ص195، روضة الناظر ص69، مختصر الطوفي ص72، العضد على ابن الحاجب 2/185، الاعتبار للحازمي ص8، نهاية السول 2/162، منهاج العقول 2/162، الإيضاح لمكي بن أبي طالب ص41، البرهان للجويني 2/1293، إرشاد الفحول ص184، أصول السرخسي 2/54، الإحكام لابن حزم 4/438، الإحكام للآمدي 3/104، المعتمد للبصري 1/396، المحصول للرازي ج1 ق3/423، المستصفى 1/107، فواتح الرحموت 2/53، الإشارات للباجي ص61، اللمع للشيرازي ص30، أدب القاضي للماوردي 1/333، فتح الغفار 2/130، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 2/75، التلويح على التوضيح 2/31، الآيات البينات 3/129، كشف الأسرار 3/155، شرح تنقيح الفصول ص301".

3 في ش: كدخول.

4 حيث عرفه بقوله "النسخ هو بيان انتهاء حكم شرعي بطريق شرعي متراخ عنه""منهاج الوصول مع شرحه نهاية السول 2/162".

5 فقد روى مسلم والترمذي وابن ماجه والبيهقي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "توضأوا مما مست النار""صحيح مسلم 1/272، عارضة الأحوذي 1/108، سنن ابن ماجه 1/163، سنن البيهقي 1/155" ثم نسخ ذلك بما روى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي مالك وأحمد في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم: "أكل كتف شاةٍ، ثم صلى ولم يتوضأ". "صحيح البخاري 1/63، صحيح مسلم 1/273، سنن أبي داود 1/43، عارضة الأحوذي 1/110، سنن النسائي 1/90، سنن ابن ماجه 1/164، الموطأ 1/25، مسند أحمد 1/365، سنن البيهقي 1/153، وانظر الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار للحازمي ص48-53".

ص: 526

قَوْلُهُ "مُتَرَاخٍ" لِتَخْرُجَ1 الْمُخَصِّصَاتُ الْمُتَّصِلَةُ.

وَالْمُرَادُ بِالْحُكْمِ: مَا تَعَلَّقَ بِالْمُكَلَّفِ بَعْدَ2 وُجُودِهِ أَهْلاً.

وَقُيلْ: إنَّ النَّسْخَ بَيَانُ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحُكْمِ لا رَفْعِهِ3.

قَالَ فِي الرَّوْضَةِ: وَمَعْنَى الرَّفْعِ4: إزَالَةُ الشَّيْءِ عَلَى وَجْهٍ لَوْلاهُ لَبَقِيَ ثَابِتًا، عَلَى مِثَالِ رَفْعِ حُكْمِ الإِجَارَةِ بِالْفَسْخِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُفَارِقُ زَوَالَ حُكْمِهَا بِانْقِضَاءِ مُدَّتِهَا5.

قَالَ: وَقَيَّدْنَا الْحَدَّ6 بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ؛ لأَنَّ ابْتِدَاءَ الْعِبَادَاتِ فِي الشَّرْعِ مُزِيلٌ لِحُكْمِ الْعَقْلِ7 مِنْ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، وَلَيْسَ بِنَسْخٍ.

وَقَيَّدْنَاهُ بِالْخِطَابِ الثَّانِي؛ لأَنَّ زَوَالَ الْحُكْمِ بِالْمَوْتِ وَالْجُنُونِ لَيْسَ بِنَسْخٍ.

1 في ش: ليخرج.

2 في ض: قبل.

3 وهو قول الرازي في المحصول ج1 ق3/428، والبيضاوي في المنهاج "نهاية السول 2/162" وابن حزم في الإحكام 4/438. وللحنفية في ذلك تفصيل حسن حيث قالوا:"النسخ بيان لمدة الحكم المنسوخ في حق الشارع، وتبديل لذلك الحكم بحكم آخر في حقنا على ما كان معلوماً عندنا لو لم ينزل الناسخ". "انظر أصول السرخسي 2/54، فتح الغفار لابن نجيم 2/130، التلويح على التوضيح 2/32، كشف الأسرار 3/156".

4 في ش: الحكم.

5 روضة الناظر وجنة المناظر لابن قدامة ص69.

6 ساقطة من ش.

7 في ع ب: يزيل الحكم العقيلي. وفي ض: يزيل لحكم العقل.

ص: 527

وَقَوْلُنَا "مَعَ تَرَاخِيهِ عَنْهُ1"؛ لأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُتَّصِلاً بِهِ كَانَ بَيَانًا، وَإِتْمَامًا لِمَعْنَى2 الْكَلامِ، وَتَقْدِيرًا لَهُ بِمُدَّةٍ وَشَرْطٍ3. اهـ.

"وَالنَّاسِخُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى حَقِيقَةً".

قَالَ ابْنُ قَاضِي الْجَبَلِ وَغَيْرُهُ: النَّاسِخُ يُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى يُقَالُ: نَسَخَ فَهُوَ نَاسِخٌ، قَالَ4 اللَّهُ تَعَالَى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} 5.

وَيُطْلَقُ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُعَرِّفَةِ لارْتِفَاعِ الْحُكْمِ مِنْ الآيَةِ، وَخَبَرِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَفِعْلِهِ وَتَقْرِيرِهِ وَالإِجْمَاعِ عَلَى الْحُكْمِ، كَقَوْلِنَا: وُجُوبُ صَوْمِ6 رَمَضَانَ نَسَخَ صَوْمَ7 يَوْمِ8 عَاشُورَاءَ، وَعَلَى مَنْ يَعْتَقِدُ نَسْخَ الْحُكْمِ، كَقَوْلِهِمْ: فُلانٌ يَنْسَخُ الْقُرْآنَ بِالسُّنَّةِ، أَيْ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ فَهُوَ نَاسِخٌ9.

وَالاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ إطْلاقَهُ عَلَى الأَخِيرَيْنِ10 مَجَازٌ، وَإِنَّمَا الْخِلافُ فِي الأَوَّلَيْنِ11:

1 ساقطة من ش.

2 في ض: بمعنى.

3 روضة الناظر ص69. وكلام ابن قدامة الذي نقله المصنف عنه هو شرح لحد النسخ الذي ارتضاه وهو "رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم بخطاب متراخ عنه".

4 في ش: وقال.

5 الآية 106 من البقرة.

6 في ش: صيام.

7 ساقطة من ض.

8 ساقطة من ش.

9 ساقطة من ش.

10 في ز: الآخرين.

11 في ش ض ب: الأوليين.

ص: 528

فَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ: حَقِيقَةٌ فِي الطَّرِيقِ لا فِيهِ1 تَعَالَى2.

وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ: حَقِيقَةٌ فِي اللَّهِ تَعَالَى مَجَازٌ فِي الطَّرِيقِ.

وَالنِّزَاعُ لَفْظِيٌّ. اهـ.

"وَالْمَنْسُوخُ: الْحُكْمُ الْمُرْتَفِعُ بِنَاسِخٍ" كَالْمُرْتَفِعِ مِنْ وُجُوبِ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ بَيْنَ يَدَيْ مُنَاجَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

"وَلا يَكُونُ""النَّاسِخُ أَضْعَفَ" يَعْنِي3 مِنْ الْمَنْسُوخِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَالأَكْثَرِ4.

قَالَ ابْنُ قَاضِي الْجَبَلِ يُشْتَرَطُ فِي النَّاسِخِ عِنْدَ الأَكْثَرِ5 أَنْ يَكُونَ أَقْوَى مِنْ الْمَنْسُوخِ أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ6، وَلِذَلِكَ7 ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ عَنْ أَصْحَابِنَا. اهـ.

"وَلا""نَسْخَ مَعَ إمْكَانِ الْجَمْعِ" بَيْنَ8 الدَّلِيلَيْنِ؛ لأَنَّا إنَّمَا نَحْكُمُ بِأَنَّ الأَوَّلَ مِنْهُمَا مَنْسُوخٌ إذَا تَعَذَّرَ عَلَيْنَا الْجَمْعُ فَإِذَا لَمْ يَتَعَذَّرْ وَجَمَعْنَا بَيْنَهُمَا بِكَلامٍ مَقْبُولٍ، أَوْ بِمَعْنًى

1 في ش: في الله.

2 ساقطة من ض.

3 ساقطة من ض ب.

4 انظر تحقيق المسألة في "العدة 3/788، المسودة ص201 وما بعدها، 229، البرهان 2/1311، إرشاد الفحول ص186، 188، شرح تنقيح الفصول ص311 وما بعدها، الإحكام لابن حزم 4/477، أصول السرخسي 2/77، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 2/78، نهاية السول 2/179، البدخشي 2/179، فواتح الرحموت 2/76، المستصفى 1/124، شرح العضد 2/195".

5 ساقطة من ش.

6 ساقطة من ش.

7 في ض: وكذلك.

8 في ز ش ع: يعني بين.

ص: 529

مَقْبُولٍ فَلا نَسْخَ1.

قَالَ الْمَجْدُ فِي الْمُسَوَّدَةِ وَغَيْرُهُ: لا يَتَحَقَّقُ2 النَّسْخُ إلَاّ مَعَ التَّعَارُضِ فَأَمَّا مَعَ إمْكَانِ الْجَمْعِ فَلا، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: نُسِخَ صَوْمُ عَاشُورَاءَ بِرَمَضَانَ، وَ3 نَسَخَتْ الزَّكَاةُ كُلَّ صَدَقَةٍ سِوَاهَا فَلَيْسَ يَصِحُّ4 إذَا5 حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ؛ لأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا لا مُنَافَاةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا وَافَقَ نَسْخُ عَاشُورَاءَ فَرْضَ6 رَمَضَانَ، وَنَسْخُ سَائِرِ الصَّدَقَاتِ فَرْضَ الزَّكَاةِ فَحَصَلَ النَّسْخُ مَعَهُ لا بِهِ، وَهُوَ7 قَوْلُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ8. انْتَهَى.

"وَلا" نَسْخَ "قَبْلَ عِلْمِ مُكَلَّفٍ" بِالْمَأْمُورٍ9 "بِهِ"؛ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ بِاعْتِقَادِ الْوُجُوبِ وَالْعَزْمِ عَلَى الْفِعْلِ10.

1 انظر العدة لأبي يعلى 3/835، أدب القاضي للماوردي 1/360-362.

2 في المسودة: ولا يجوز.

3 في المسودة: أو.

4 في ب: بصحيح.

5 في المسودة: لو.

6 كذا في المسودة، وفي ع ز ض ب: صوم فرض، وفي ش: صوم.

7 في المسودة: هذا.

8 في المسودة ص229 وما بعدها.

9 في ش: مأمور.

10 قال الماوردي: "لأن من شرط النسخ أن يكون بعد استقرار الفرض ليخرج عن البداء إلى الإعلام بالمدة، فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة المعراج أن الله تعالى فرض على أمته خمسين صلاة، فلم يزل يراجع ربه فيها ويستنزله حتى استقر الفرض على خمس، فدل على جواز النسخ قبل العلم بالمنسوخ. قيل: هذا إن ثبت فهو على وجه التقرير دون النسخ، لأن الفرض يستقر بنفوذ الأمر، ولم يكن من الله تعالى فيه إلا عند استقرار الخمس". "أدب القاضي 1/356".

ص: 530

وَجَوَّزَهُ الآمِدِيُّ، لِعَدَمِ مُرَاعَاةِ الْحُكْمِ فِي أَفْعَالِهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ1.

"وَيَجُوزُ" النَّسْخُ "فِي السَّمَاءِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هُنَاكَ" ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَالْمَجْدُ2، وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَذَلِكَ؛ لأَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ بَعْضَ الْمُكَلَّفِينَ، وَهُوَ سَيِّدُ الْبَشَرِ، فَإِنَّهُ قَدْ اعْتَقَدَ3 هُوَ وُجُوبَهُ وَعِلْمَهُ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلامُ السَّمْعَانِيِّ حَيْثُ قَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ عَلِمَهُ وَاعْتَقَدَ وُجُوبَهُ، فَلَمْ يَقَع النَّسْخُ لَهُ إلَاّ بَعْدَ عِلْمِهِ وَاعْتِقَادِهِ. 1هـ

"وَ" يَجُوزُ النَّسْخُ أَيْضًا "قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ" أَيْ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الْفِعْلِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَالأَشْعَرِيَّةِ وَأَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ4. وَذَكَرَهُ الآمِدِيُّ5، قَوْلُ6 أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ.

1 الإحكام في أصول الأحكام 3/132.

وانظر تحقيق المسألة في "إرشاد الفحول ص186، المعتمد للبصري 1/412، فواتح الرحموت 2/63، فتح الغفار 2/132، كشف الأسرار 3/169 وما بعدها، أدب القاضي للماوردي 1/356".

2 في المسودة ص223.

3 في ش: أعتقد هو.

4 انظر تحقيق المسألة في "المحصول ج1 ق3/467، المستصفى 1/112، 122، شرح تنقيح الفصول ص307، الإحكام لابن حزم 4/472، اللمع ص31، نهاية السول 2/173، العدة 3/807، البدخشي 2/171، أدب القاضي للماوردي 1/357، الآيات البينات 3/137، المسودة ص207، فواتح الرحموت 2/61، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 2/77، التلويح على التوضيح 2/33، العضد على ابن الحاجب 2/190، كشف الأسرار 3/169، التبصرة ص260، البرهان 2/1303، الإشارات للباجي ص69، الإيضاح لمكي بن أبي طالب ص100".

5 الإحكام في أصول الأحكام 3/126.

6 في ش: وهو قول.

ص: 531

وَمَنَعَهُ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةُ، وَالصَّيْرَفِيُّ وَابْنُ بُرْهَانٍ.

وَاسْتُدِلَّ لِلأَوَّلِ -وَهُوَ الصَّحِيحُ- بِمَا تَوَاتَرَ فِي ذَلِكَ1، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ2 وَغَيْرِهِمَا فِي نَسْخِ فَرْضِ خَمْسِينَ صَلاةً فِي السَّمَاءِ لَيْلَةَ الإِسْرَاءِ بِخَمْسٍ قَبْلَ تَمَكُّنِهِ صلى الله عليه وسلم 3مِنْ الْفِعْلِ.

وَفِي الْبُخَارِيِّ4 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ فِي بَعْثٍ5، وَقَالَ:" إنْ وَجَدْتُمْ فُلانًا وَفُلانًا فَأَحْرِقُوهُمَا بِالنَّارِ" ثُمَّ قَالَ حِينَ أَرَدْنَا الْخُرُوجَ: "إنَّ النَّارَ لا يُعَذِّبُ بِهَا إلَاّ اللَّهُ، فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا".

وَأَمَرَ صلى الله عليه وسلم بِكَسْرِ قُدُورٍ مِنْ لَحْمِ حُمُرٍ إنْسِيَّةٍ فَقَالَ رَجُلٌ: أَوْ نَغْسِلُهَا؟ فَقَالَ: "اغْسِلُوهَا" 6 مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ7.

وَعُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ. أَنَّ النَّسْخَ8 قَبْلَ الْفِعْلِ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهِ: جَائِزٌ بِلا خِلافٍ قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي التَّمْهِيدِ: لا أَعْلَمُ فِيهِ خِلافًا

1 في ش: بما قوي أثره.

2 صحيح البخاري 1/98، 5/69، صحيح مسلم 1/146، وقد أخرجه أيضاً الترمذي والنسائي وابن ماجه والطبراني. "انظر: تخريج أحاديث أصول البردوي ص221، عارضة الأحوذي 2/14".

3 ساقطة من ش.

4 صحيح البخاري 4/60، وانظر الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار للحازمي ض194 وما بعدها.

5 البعث: هو الجيش، وجمعه بعوث. "المصباح المنير 1/67".

6 في ز ع ض: اغسلوا.

7 صحيح البخاري 7/117، صحيح مسلم 3/1540.

8 في ش: الفسخ.

ص: 532

قَالَ: وَلا فَرْقَ عَقْلاً بَيْنَ أَنْ يَعْصِيَ أَوْ يُطِيعَ وَجَزَمَ بَعْضُهُمْ بِالْمَنْعِ لِعِصْيَانِهِ1. اهـ.

"وَ" يَجُوزُ النَّسْخُ "عَقْلاً" بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الشَّرَائِعِ سِوَى الشمْعَثيَّةِ2 مِنْ الْيَهُودِ.

وَكَذَا يَجُوزُ سَمْعًا بِاتِّفَاقٍ أَهْلِ الشَّرَائِعِ سِوَى الْعَنَانِيَّةِ3 مِنْ الْيَهُودِ، فَإِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَهُ عَقْلاً لا سَمْعًا، وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَبُو مُسْلِمٍ الأَصْفَهَانِيُّ4.

1 في ش: بعصيانه.

2 في ش: السمعتية، وكلاهما تصحيف، إذ لم نعثر على فرقة من اليهود بهذه التسمية. ولعل الصواب "الشمعونية" كما قال الأسنوي في نهاية السول"2/167" والشوكاني في إرشاد الفحول "ص185" وعبد العلي في فواتح الرحموت "2/55" وغيرهم.

و"الشمعونية" ينتسبون إلى شمعون بن يعقوب كما ذكر الدكتور مصطفى زيد في كتابه "النسخ في القرآن الكريم" 1/27، وعلي حسن العريض في كتابه "فتح المنان في نسخ القرآن" ص143.

3 العنانية: فرقة من اليهود ينتسبون إلى عنان بن داود، وهم يخالفون سائر اليهود في السبت والأعياد، وينهون عن أكل الطير والظباء والسمك والجراد، ويصدقون عيسى عليه السلام في مواعظه وإرشاداته، ويقولون إنه من بني إسرائيل المتعبدين بالتوراة والمستجيبين لموسى عليه السلام، إلا أنهم لا يقولون بنبوته ورسالته. "الملل والنحل للشهرستاني 1/215، الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 1/99".

4 لقد اضطربت النقول عن أبي مسلم الأصفهاني في مسألة جواز النسخ وعدمه، فحكي عنه منع النسخ بين الشرائع، ونقل بعضهم عنه منع النسخ في القرآن الكريم، وتحقيق مذهبه أنه لم يخالف جمهور أهل السنة القائلين بجواز النسخ عقلاً وشرعاً في الحقيقة ونفس الأمر، ولكنه خالفهم في اللفظ والمصطلح. قال المحلي في "شرح جمع الجوامع" "2/88":"النسخ واقع عند كل المسلمين، وسماه أبو مسلم الأصفهاني من المعتزلة تخصيصاً، لأنه قصر الحكم على بعض الأزمان، فهو تخصيص في الأزمان كالتخصيص في الأشخاص. فقيل: خالف في وجوده حيث لم يذكره باسمه المشهور، فالخلف الذي حكاه الآمدي وغيره عنه من نفيه وقوعه لفظي لما تقدم من تسميته تخصيصاً". وقال السبكي في كتابه "رفع الحاجب""2/ق 132ب": "وأنا أقول: الإنصاف أن الخلاف بين أبي مسلم والجماعة لفظي، وذلك أن أبا مسلم يجعل ما كان مغيا في علم الله تعالى كما هو مغيا باللفظ، ويسمى الجميع تخصيصاً، ولا فرق عنده بين أن يقول "وأتموا الصيام إلى الليل" وأن يقول: صوموا مطلقاً وعلمه محيط بأنه سينزل: لا تصوموا وقت الليل. والجماعة يجعلون الأول تخصيصاً والثاني نسخاً. ولو أنكر أبو مسلم النسخ بهذا المعنى لزمه إنكار شريعة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وإنما يقول: كانت شريعة السابقتين مغياة إلى مبعثه عليه الصلاة والسلام. وبهذا يتضح لك الخلاف الذي حكاه بعضهم في أن هذه الشريعة مخصصة للشرائع أو ناسخة، وهذا معنى الخلاف". "انظر تحقيق الدكتور محمد حسن هيتو للمسألة في هامش التبصرة للشيرازي ص251".

ص: 533

قَالَ ابْنُ حَمْدَانَ فِي الْمُقْنِعِ: أَنْكَرَ طَائِفَةٌ 1مِنْ الْيَهُودِ وَهُمْ الْعَنَانِيَّةُ -أَتْبَاعُ عَنَانٍ- وُقُوعَهُ عَقْلاً لا شَرْعًا وَأَنْكَرَتْ الشَّمْعَثِيَّةُ2 مِنْهُمْ أَتْبَاعُ شَمْعَثَا3 الأَمْرَيْنِ4.

وَحَكَى ابْنُ الزَّاغُونِيِّ عَنْهُمْ عَكْسَهُ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ نَسْخُ عِبَادَةٍ بِأَثْقَلَ5 مِنْهَا عُقُوبَةً.

وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: تَجُوزُ شَرْعًا لا عَقْلاً " وَأَنَّ مُحَمَّدًا وَعِيسَى لَمْ يَأْتِيَا بِمُعْجِزَةٍ.

وَقَالَ الْعِيسَوِيَّةُ6 -أَتْبَاعُ غَيْرِ النَّبِيِّ-:

1 ساقطة من ش.

2 في ش: السمعتية.

3 في د: سمعتا، وفي ز: شمعتا.

4 في ش: الأموي.

5 في ش: ما نقل. وفي د: ما ثقل.

6 العيسوية: فرقة من اليهود أصحاب أبي عيسى إسحاق بن يعقوب الأصفهاني، وهو يقولون بنبوة عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل خاصة وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلى بني إسماعيل فقط وهم العرب لا إلى الناس كافة. وقولهم هذا جهل فاضح، لأنه يلزمهم بعد أن أعترفوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم أن يعترفوا بصدقه وامتناع الكذب عليه، كما هو شأن النبوة، وقد تواتر عنه صلى الله عليه وسلم أنه رسول الله إلى الناس جميعاًَ، فوجب عليهم التصديق بذلك

فكيف يدعون بعد هذا بأنه نبي إلى العرب خاصة!! "انظر فواتح الرحموت 2/55، الملل والنحل للشهرستاني 1/215 وما بعدها، الفصل لابن حزم 1/99، المحلي على جمع الجوامع 2/88، حاشية التفتازاني على شرح العضد 2/188".

ص: 534

إنَّهُمَا أَتَيَا1 بِالْمُعْجِزَةِ، وَبُعِثَا إلَى الْعَرَبِ وَالأُمِّيِّينَ، اهـ.

وَأَبُو مُسْلِمٍ هَذَا هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ بَحْرٍ الأَصْفَهَانِيُّ2.

قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ3: وَهُوَ رَجُلٌ مَعْرُوفٌ بِالْعِلْمِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ انْتَسَبَ إلَى الْمُعْتَزِلَةِ، وَيُعَدُّ مِنْهُمْ وَلَهُ كِتَابٌ كَبِيرٌ فِي التَّفْسِيرِ، وَلَهُ كُتُبٌ كَثِيرَةٌ فَلا أَدْرِي كَيْفَ وَقَعَ هَذَا الْخِلافُ مِنْهُ!. اهـ.

"وَوَقَعَ" النَّسْخُ "شَرْعًا"4.

قَالَ فِي شَرْحِ التَّحْرِيرِ: وَالْحَقُّ الَّذِي لا مَحِيدَ عَنْهُ وَلا شَكَّ فِيهِ: جَوَازُهُ عَقْلاً وَشَرْعًا.

1 في ش: إنما هو الإتيان.

2 من علماء المعتزلة ومشاهيرهم، كان كاتباً مترسلاً بليغاً متكلماً جدلاً، ولد سنة 254 هـ، وأشهر كتبه تفسيره "جامع التأويل لمحكم التنزيل" وكتابه "الناسخ والمنسوخ" توفي سنة 322هـ "انظر ترجمته في معجم الأدباء 18/35، بغية الوعاة 1/59، الوافي بالوفيات 2/244، فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة ص299، 322، الفهرست لابن النديم ص151" وقد ذكر المجد بن تيمية في "المسودة ص195" أن اسمه يحيى بن عمر بن يحيى الأصبهاني، وذكر صاحب فواتح الرحموت"2/55" أنه الجاحظ، وقال الشيرازي في التبصرة "ص251" والقرافي في شرح تنقيح الفصول "ص206" هو عمرو بن يحيى الأصبهاني، وفي نهاية السول"2/170":"وأبو مسلم هو الملقب بالجاحظ كما قاله ابن التلمساني في شرح المعالم، واسم أبيه على ما قاله في المحصول "بحر" وفي المنتخب "عمر" وفي اللمع "يحيى". وهذا كله تحريف والصواب ما أثبته المؤلف وأيدته كتب التراجم التي أشرنا إليها.

3 في كتابه "قواطع الأدلة" كما ذكر البخاري في كشف الأسرار 3/157.

4 وقد حكى وقوعه شرعاً القرافي في "شرح تنقيح الفصول" ص303، ومجد الدين بن تيمية في "المسودة" ص195، والفخر الرازي في "المحصول" ج1ق3/440، والشوكاني في "إرشاد الفحول" ص185، والمحلي في "شرح جمع الجوامع" 2/88، والعضد في "شرح مختصر ابن الحاجب" 2/188، والأسنوي في "نهاية السول" 2/167، وغيرهم.

ص: 535

وَأَمَّا الْوُقُوعُ: فَوَاقِعٌ لا مَحَالَةَ، وَرَدَ1 فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَطْعًا2.

وَأَيْضًا الْقَطْعُ بِعَدَمِ اسْتِحَالَةِ تَكْلِيفٍ فِي وَقْتٍ وَرَفْعِهِ.

وَإِنْ قِيلَ: أَفْعَالُ اللَّهِ تَعَالَى تَابِعَةٌ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ كَالْمُعْتَزِلَةِ، فَالْمَصْلَحَةُ3 قَدْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ الأَوْقَاتِ.

"وَلا يَجُوزُ الْبَدَاءُ عَلَى اللَّهِ4" سُبْحَانَهُ وَ "تَعَالَى"، "وَهُوَ تَجَدُّدُ الْعِلْمِ".

"وَهُوَ" أَيْ الْقَوْلُ بِتَجَدُّدِ عِلْمِهِ جَلَّ وَعَلا "كُفْرٌ" بِإِجْمَاعِ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ رحمه الله: مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ عَالِمًا حَتَّى خَلَقَ لِنَفْسِهِ عِلْمًا فَعَلِمَ5 بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ.

وَقَالَ ابْنُ الزَّاغُونِيِّ: الْبَدَاءُ: هُوَ أَنْ يُرِيدَ الشَّيْءَ دَائِمًا6، ثُمَّ يَنْتَقِلَ عَنْ

1 في ش: ورد.

2 في ش: أيضا قطعاً.

3 أي فالجواب: أن المصلحة قد تختلف باختلاف الأوقات، قال الماوردي:"وقد تختلف المصالح باختلاف الزمان، فيكون المنسوخ مصلحة في الزمان الأول دون الثاني، ويكون الناسخ مصلحة في الزمان الثاني دون الأول، فيكون كل واحد منهما مصلحة في زمانه وحسناً في وقته، وإن تضادا""أدب القاضي 1/335".

4 عند كافة المسلمين، بخلاف النسخ فهو جائز وواقع، والفرق بينهما واضح بين، قال الشيرازي:"إن البداء أن يظهر له ما كان خفياً، ونحن لا نقول فيما ينسخ أنه ظهر له ما كان خافياً عليه، بل نقول: إنه أمر به وهو عالم أنه يرفعه في وقت النسخ وإن لم يطلعنا عليه، فلا يكون ذلك بداءً""التبصرة ص253" وانظر الفرق بين النسخ والبداء في "الإحكام للآمدي 3/109، الإحكام لابن جزم 4/446، اللمع ص31، أدب القاضي للماوردي 1/336، الإيضاح لمكي بن أبي طالب ص98 وما بعدها، البناني على شرح جمع الجوامع 2/88، الآيات البينات 3/155، البرهان 2/1301، العدة 3/774، المعتمد للبصري 1/398".

5 في ش: يعلم.

6 في د: دواماً.

ص: 536

الدَّوَامِ لأَمْرٍ حَادِثٍ لا بِعِلْمٍ سَابِقٍ قَالَ: أَوْ يَكُونَ سَبَبُهُ دَالاً عَلَى إفْسَادِ الْمُوجِبِ لِصِحَّةِ الأَمْرِ الأَوَّلِ، بِأَنْ يَأْمُرَهُ1 لِمَصْلَحَةٍ لَمْ تَحْصُلْ فَيَبْدُو لَهُ مَا يُوجِبُ رُجُوعَهُ عَنْهُ. اهـ.

"وَبَيَانُ غَايَةٍ مَجْهُولَةٍ" لِلْحُكْمِ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} 2 "لَيْسَ" ذَلِكَ الْبَيَانُ "بِنَسْخٍ"3.

قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: اخْتَلَفَ كَلامُ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ: هَلْ هُوَ نَسْخٌ، أَمْ لا؟ وَالأَظْهَرُ النَّفْيُ. اهـ.

وَلِلْقَاضِي الْقَوْلانِ، فَإِنَّهُ قَالَ4: فِي مَوْضِعِ قَوْله تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} 5 الآيَةَ؛ إنَّ6 هَذِهِ الْغَايَةَ7 مَشْرُوطَةٌ فِي حُكْمٍ مُطْلَقٍ؛ لأَنَّ غَايَةَ كُلِّ حُكْمٍ إلَى مَوْتِ الْمُكَلَّفِ، أَوْ إلَى النَّسْخِ.

وَكَذَلِكَ ذَكَرَ فِي مَسْأَلَةِ الأَخَفِّ بِالأَثْقَلِ أَنَّ حَدَّ الزَّانِي فِي أَوَّلِ الإِسْلامِ كَانَ الْحَبْسَ ثُمَّ نُسِخَ، وَجُعِلَ حَدُّ الْبِكْرِ الْجَلْدَ وَالتَّغْرِيبَ، وَالثَّيِّبِ الْجَلْدَ

1 في ش: يأمر به.

2 الآية 15 من النساء.

3 انظر تفصيل الكلام على هذه المسألة في "المسودة ص219، الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ص1479 وما بعدها، أصول السرخسي 2/71".

4 في ش: قال أو يكون سببه دالاً على إفساد الموجب لصحة الأمر الأول، بأن يأمره به لمصلحة لم تحصل، فيبدو له ما يوجب رجوعه عنه. اهـ.

5 الآية 2 من النور.

6 في ش ع ب: لأن.

7 أي في قوله تعالى: {وَاللَاّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء/15] .

ص: 537

وَالرَّجْمَ1.

وَقَالَ فِي مَسْأَلَةِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ: إنَّ الْحَبْسَ فِي الآيَةِ لَمْ يُنْسَخْ؛ لأَنَّ النَّسْخَ أَنْ يَرِدَ لَفْظٌ عَامٌّ يُتَوَهَّمُ دَوَامُهُ، ثُمَّ يَرِدَ مَا يَرْفَعُ بَعْضَهُ، وَالآيَةُ لَمْ تَرِدْ بِالْحَبْسِ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَإِنَّمَا وَرَدَتْ بِهِ إلَى غَايَةٍ، هِيَ2 أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً فَأَثْبَتَتْ3 الْغَايَةَ، فَوَجَبَ الْحَدُّ بَعْدَ الْغَايَةِ بِالْخَبَرِ4. اهـ.

"وَيُنْسَخُ" بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ "إنْشَاءٌ، وَلَوْ" كَانَ الإِنْشَاءُ "بِلَفْظِ قَضَاءٍ5" فِي الأَصَحِّ نَحْوَ "قَضَى اللَّهُ بِصَوْمِ عَاشُورَاءَ6" مَثَلاً، ثُمَّ يَنْسَخُهُ7 وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ8.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا يَجُوزُ نَسْخُهُ؛ لأَنَّ الْقَضَاءَ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِيمَا لا يَتَغَيَّرُ، نَحْوَ قَوْله تَعَالَى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَنْ لا تَعْبُدُوا إلَاّ إيَّاهُ} 9

"أَوْ" كَانَ الإِنْشَاءُ "خَبَرًا" يَعْنِي أَنَّهُ يُنْسَخُ الإِنْشَاءُ وَلَوْ كَانَ بِلَفْظِ الْخَبَرِ

1 العدة 3/786.

2 ساقطة من ع.

3 في ش: فأثبتت.

4 العدة 2/800.

وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى أن نص أبي يعلى هذا لا يمثل رأيه، وليس قولاً له، بل هو حكاية عن غيره بدأه بكلمة "وقيل". أما قوله فقد سبق النص المشار إليه، وهو أن حد الزاني البكر منسوخ بقوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} الآية. وحد الزاني المحصن منسوخ بآية الرجم التي نسخ رسمها. "انظر العدة 3/799 وما بعدها".

5 في ش: قضى.

6 في ع: يوم عاشوراء.

7 في ب: نسخه.

8 انظر المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 2/84ن الآيات البينات 3/153.

9 الآية 23 من الإسراء.

ص: 538

سَوَاءٌ كَانَ بِمَعْنَى الأَمْرِ أَوْ النَّهْيِ، نَحْوَ:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} 1 وَنَحْوَ: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} 2.

قَالَ الْجُمْهُورُ: يَجُوزُ نَسْخُهُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ الإِنْشَاءُ3.

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الدَّقَّاقُ4: يَمْتَنِعُ نَسْخُهُ بِاعْتِبَارِ لَفْظِهِ5.

"أَوْ قُيِّدَ" بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ الإِنْشَاءُ6 "بِتَأْبِيدٍ" أَيْ بِلَفْظِ تَأْبِيدٍ "أَوْ" بِلَفْظِ "حَتْمٍ" نَحْوَ "صُومُوا يَوْمَ عَاشُورَاءَ أَبَدًا، أَوْ دَائِمًا7، أَوْ مُسْتَمِرًّا، أَوْ حَتْمًا".

وَجَوَازُ نَسْخِهِ قَوْلُ الْجُمْهُورِ8.

1 الآية 228 من البقرة.

2 الآية 233 من البقرة.

3 انظر تفصيل المسالة في "المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 2/85، شرح تنقيح الفصول ص209، الإحكام للآمدي 3/145، الآيات البينات 3/153، المسودة ص196، العدة 3/825، أدب القاضي 1/338، اللمع ص31، إرشاد الفحول ص188، الإحكام لابن حزم 4/449، المحصول ج1ق3/486 وما بعدها، العضد على ابن الحاجب 2/195، فواتح الرحموت 2/75".

4 هو محمد بن محمد بن جعفر الدقاق الشافعي، الفقيه الأصولي القاضي، المعروف بابن الدقاق –نسبة إلى الدقيق وعمله وبيعه- ويلقب بـ "خباط" قال الخطيب البغدادي:"كان فاضلاً عالماً بعلوم كثيرة، وله كتاب في الأصول في مذهب الشافعي، وكانت فيه دعابة". ولد سنة 306هـ وتوفي عام 392 هـ، "انظر ترجمته في الوافي بالوفيات 1/116، النجوم الزاهرة 4/206، طبقات الشافعية للأسنوي 1/52، تاريخ بغداد 3/229".

5 أي لكون لفظه لفظ الخبر، والخبر لا يبدل، قال البناني: ولا يخفى ضعف هذا التمسك، لأن ذلك في الخبر حقيقة، لا فيما صورته صورة الخبر، والمراد منه الإنشاء. "البناني على شرح جمع الجوامع 2/85".

6 في ب: أي الإنشاء.

7 في ض ب: دواماً.

8 انظر "المحصول ج1ق3/491، فواتح الرحموت 2/68، فتح الغفار 2/131، أصول السرخسي 2/60، كشف الأسرار 3/164، البرهان 2/1298، شرح العضد 2/192، المسودة ص195، أدب القاضي 1/338، شرح تنقيح الفصول ص310، الإحكام للآمدي 3/134، التبصرة ص255، حاشية البناني 2/85، الآيات البينات 3/153، التلويح على التوضيح 2/33، إرشاد الفحول ص186، المعتمد للبصري 1/413".

ص: 539

وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ جَمْعٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْحَنَفِيَّةِ قَالُوا1 لِمُنَاقَضَتِهِ الأَبَدِيَّةِ2، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى الْبَدَاءِ.

وَجَوَابُهُ: أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ الْمُبَالَغَةُ لا الدَّوَامُ، كَمَا تَقُولُ: لازِمْ غَرِيمَك أَبَدًا، وَإِنَّمَا تُرِيدُ لازِمْهُ إلَى وَقْتِ الْقَضَاءِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ هُنَا3 لا تَخْلُ بِهِ إلَى أَنْ يَنْقَضِيَ وَقْتُهُ.

وَكَمَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومٍ مُؤَكَّدٍ بِكُلٍّ وَيَمْنَعُ التَّأْبِيدَ عُرْفًا، وَبِالإِلْزَامِ4 بِتَخْصِيصِ5 عُمُومٍ مُؤَكَّدٍ، وَالْجَوَابُ وَاحِدٌ.

قَالُوا: إذَا كَانَ الْحُكْمُ لَوْ أُطْلِقَ الْخِطَابُ مُسْتَمِرًّا إلَى النَّسْخِ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي التَّقْيِيدِ بِالتَّأْبِيدِ؟

قُلْنَا: فَائِدَتُهُ التَّنْصِيصُ وَالتَّأْكِيدُ، وَأَيْضًا فَلَفْظُ6 "الأَبَدِ" إنَّمَا مَدْلُولُهُ الزَّمَانُ الْمُتَطَاوِلُ.

وَلا فَرْقَ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ بَيْنَ كَوْنِ الْجُمْلَةِ فِعْلِيَّةً، نَحْوَ صُومُوا أَبَدًا، أَوْ اسْمِيَّةً، نَحْوَ الصَّوْمُ وَاجِبٌ مُسْتَمِرٌّ أَبَدًا

1 في ش: قال.

2 في ع: الآية.

3 في ش: به.

4 في ش وبالالتزام.

5 في ع: يتخصص.

6 في ع: ولفظ.

ص: 540

وَوَقَعَ فِي عِبَارَةِ ابْنِ الْحَاجِبِ1 مَا يَحْتَمِلُ خِلافَ ذَلِكَ وَلَفْظُهُ: الْجُمْهُورُ عَلَى2 جَوَازِ نَسْخِ مِثْلِ: صُومُوا أَبَدًا بِخِلافِ: الصَّوْمُ "وَاجِبٌ"3 مُسْتَمِرٌّ أَبَدًا4 اهـ.

وَاخْتَلَفَ شَارِحَاهُ الأَصْفَهَانِيُّ وَالْعَضُدُ فِي حَلِّ لَفْظِهِ، وَوَافَقَ ابْنُ السُّبْكِيّ وَغَيْرُهُ عَلَى مَا قَالَهُ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ5 من6 احْتِمَالِ كَلامِهِ لِمَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ.

"وَيَجُوزُ""نَسْخُ إيقَاعِ الْخَبَرِ" الَّذِي أُمِرَ الْمُكَلَّفُ بِالإِخْبَارِ بِهِ "حَتَّى بِنَقِيضِهِ" أَيْ نَقِيضِ الْخَبَرِ الأَوَّلِ7، خِلافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ8.

قَالَ الْقَاضِي عَضُدُ الدِّينِ، فِي شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ: نَسْخُ الْخَبَرِ لَهُ صُورَتَانِ، إحْدَاهُمَا: نَسْخُ إيقَاعِ الْخَبَرِ، بِأَنْ يُكَلِّفَ الشَّارِعُ أَحَدًا بِأَنْ يُخْبِرَ بِشَيْءٍ9 عَقْلِيٍّ أَوْ

1 وكذا وقع في عبارة مسلم الثبوت، وقد علل مؤلفه وشارحه منع النسخ في "الصوم واجب مستمر أبداً" بأنه نص مؤكد لا احتمال فيه لغيره، فلا يصح انتساخه. "فواتح الرحموت 2/68".

2 ساقطة من ز ع ض ب.

3 زيادة من مختصر ابن الحاجب.

4 مختصر ابن الحاجب مع شرحه للعضد 2/192.

5 قال العضد في شرح كلام ابن الحاجب المشار إليه: "أقول: الحكم المقيد بالتأبيد إن كان التأبيد يداً في الفعل مثل أن يقول "صوموا أبداً" فالجمهور على جواز نسخه، وإن كان التأبيد قيداً للوجوب وبياناً لمدة بقاء الوجوب واستمراره، فإن كان نصاً مثل أن يقول "الصوم واجب مستمر أبداً" لم يقبل خلافه، والإ قبل، وجمل ذلك على مجازه". "شرح العضد 2/192".

6 في ش: في.

7 انظر "الآيات البينات للعبادي 3/154، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 2/85، فواتح الرحموت 2/75، الإحكام للآمدي 3/144، شرح البدخشي 2/176".

8 انظر المعتمد للبصري 1/421.

9 في ش ع ز ض ب: بشيء من.

ص: 541

عَادِيٍّ، "أَوْ شَرْعِيٍّ"1 كَوُجُودِ الْبَارِي، وَإِحْرَاقِ النَّارِ، وَإِيمَانِ زَيْدٍ ثُمَّ يَنْسَخَهُ، فَهَذَا جَائِزٌ اتِّفَاقًا.

وَهَلْ يَجُوزُ نَسْخُهُ بِنَقِيضِهِ "أَيْ بِأَنْ يُكَلِّفَهُ الإِخْبَارَ بِنَقِيضِهِ"2؟ الْمُخْتَارُ جَوَازُهُ، خِلافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَمَبْنَاهُ عَلَى3 أَصْلِهِمْ فِي حُكْمِ الْعَقْلِ؛ لأَنَّ أَحَدَهُمَا كَذِبٌ، فَالتَّكْلِيفُ بِهِ قَبِيحٌ. وَقَدْ عَلِمْت فَسَادَهُ4.

قَالَ الْبِرْمَاوِيُّ: الثَّالِثُ: أَنْ يُرَادَ مَعَ نَسْخِهِ التَّكْلِيفُ بِالإِخْبَارِ بِضِدِّ الأَوَّلِ، إلَاّ أَنَّ الْمُخْبَرَ بِهِ مِمَّا لا يَتَغَيَّرُ كَالإِخْبَارِ بِكَوْنِ السَّمَاءِ فَوْقَ الأَرْضِ، يُنْسَخُ بِالإِخْبَارِ بِأَنَّ السَّمَاءَ تَحْتَ الأَرْضِ. وَذَلِكَ جَائِزٌ وَخَالَفَ الْمُعْتَزِلَةُ فِيهِ، كَمَا قَالَ الآمِدِيُّ5، مُحْتَجِّينَ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا6 كَذِبٌ، وَالتَّكْلِيفُ بِهِ قَبِيحٌ، فَلا يَجُوزُ عَقْلاً. وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى قَاعِدَتِهِمْ الْبَاطِلَةِ فِي التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ.

فَإِنْ قِيلَ: الْكَذِبُ نَقْصٌ، وَقَبَّحَهُ بِالْعَقْلِ بِاتِّفَاقٍ، فَلِمَ لا يَمْتَنِعُ؟

فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْقُبْحَ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ لِفَاعِلِهِ لا لاعْتِبَارِ7 التَّكْلِيفِ بِهِ بَلْ إذَا كُلِّفَ بِهِ صَارَ جَائِرًا فَلا يَكُونُ قَبِيحًا8، إذْ لا حُسْنَ وَلا قُبْحَ إلَاّ بِالشَّرْعِ، لا سِيَّمَا

1 زيادة من شرح العضد.

2 زيادة من شرح العضد.

3 ساقطة من شرح العضد.

4 شرح العضد على مختصر ابن الحاجب 2/195.

5 في كتابه الإحكام في أصول الأحكام 3/144.

6 في ز: إحداهما.

7 في ش: باعتبار. وفي ض: لا اعتبار.

8 في ع ض ب: نسخاً.

ص: 542

إذَا تَعَلَّقَ بِهِ غَرَضٌ شَرْعِيٌّ، فَإِنَّهُ مِنْ حَيْثُ ذَلِكَ يَكُونُ حَسَنًا. اهـ.

"وَ" لا يَجُوزُ نَسْخُ "مَدْلُولِ خَبَرٍ" إجْمَاعًا حَكَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ1. وَابْنُ بُرْهَانٍ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ "لا يَتَغَيَّرُ كَصِفَاتِ اللَّهِ" سُبْحَانَهُ وَ "تَعَالَى، وَخَبَرِ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ" وَأَخْبَارِ الأَنْبِيَاءِ عليهم السلام، وَأَخْبَارِ الأُمَمِ السَّالفةِ2 وَالإِخْبَارِ عَنْ السَّاعَةِ وَأَمَارَاتِهَا3.

قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: وَنَسْخُ مَدْلُولِ خَبَرٍ لا يَتَغَيَّرُ مُحَالٌ4 إجْمَاعًا.

"أَوْ" مَدْلُولِ "خَبَرٍ" يَتَغَيَّرُ "كَإِيمَانِ زَيْدٍ وَكُفْرِهِ مَثَلاً" يَعْنِي فَإِنَّهُ لا يَجُوزُ نَسْخُهُ أَيْضًا عَلَى الأَصَحِّ. وَعَلَيْهِ الأَكْثَرُ5.

قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: مَنَعَهُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَالأُصُولِيِّينَ. اهـ.

1 في ش: البروزي.

2 في ش: السابقة.

3 وذلك لأنه بفضي إلى الكذب، حيث يخبر بالشيء ثم بنقيضه، وذلك محال على الله تعالى. انظر تحقيق المسألة في "المسودة ص196، العدة 3/825، شرح تنقيح الفصول ص309، المحصول ج1 ق3/486، اللمع ص31، إرشاد الفحول ص188، الإحكام للآمدي 3/144، المعتمد للبصري 1/419، فواتح الرحموت 1/75، نهاية السول 2/178، شرح البدخشي 2/176، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 2/86، الآيات البينات 3/154، فتح الغفار 2/131، التلويح على التوضيح 2/33، أصول السرخسي 2/59، كشف الأسرار 3/163، الإيضاح لمكي بن أبي طالب ص57".

4 في ش: بحال.

5 انظر "شرح تنقيح الفصول ص309، المحصول ج1 ق3/486، إرشاد الفحول ص188، الإحكام للآمدي 2/144، فواتح الرحموت 2/75، نهاية السول 2/178، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 2/86 وما بعدها، الآيات البينات 3/154، كشف الأسرار 3/163".

ص: 543

وَقِيلَ: يَجُوزُ ذَلِكَ. وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ1 وَجَمْعٌ مِنْ أَصْحَابِنَا2 وَغَيْرِهِمْ3.

وَيَخْرُجُ عَلَيْهِ نَسْخُ الْمُحَاسَبَةِ بِمَا فِي النُّفُوسِ فِي قَوْله تَعَالَى: {إنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} 4 كَقَوْلِ5 جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ6، فَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ7 وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ8.

قَالَ الْخَطَّابِيُّ: النَّسْخُ يَجْرِي فِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَفْعَلُهُ؛ لأَنَّهُ يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ عَلَى شَرْطٍ، بِخِلافِ إخْبَارِهِ عَمَّا لا يَفْعَلُهُ، إذْ لا يَجُوزُ دُخُولُ الشَّرْطِ فِيهِ.

قَالَ: وَعَلَى هَذَا تَأَوَّلَ9 ابْنُ عُمَرَ النَّسْخَ، فِي قَوْله تَعَالَى10:{إنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} فَإِنَّهُ نَسَخَهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِرَفْعِ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى11 حَدِيثِ النَّفْسِ اهـ.

1 في المسودة ص197.

2 كالقاضي أبي يعلى في العدة 3/825.

3 كالرازي في المحصول ج1 ق3/486 والآمدي في الإحكام 3/145 وأبي الحسين البصري في المعتمد 1/419 والشوكاني في إرشاد الفحول ص188 وقد عزاه إلى الجمهور.

4 الآية 284 من البقرة، وقد نسخها قوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} الآية 286 من البقرة.

5 في ش: لقول.

6 انظر المسودة ص197، فتح القدير للشوكاني 1/306، الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ص167، تفسير الطبري 3/95 وما بعدها، الدر المنثور للسيوطي 1/374.

7 صحيح مسلم 1/115.

8 صحيح البخاري 6/41.

9 في ش: تأويل. وفي ب: تول.

10 في ش: تعالى: {إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} .

11 ساقطة من ع ز ض ب.

ص: 544

وَقِيلَ: يَجُوزُ نَسْخُ مَدْلُولِ خَبَرٍ يَتَغَيَّرُ إنْ كَانَ مُسْتَقْبَلاً1؛ لأَنَّ نَسْخَ الْمَاضِي يَكُونُ تَكْذِيبًا.

وَهَذَا التَّفْصِيلُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْكَذِبَ لا يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ2.

وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ رحمه الله أَنَّ الْكَذِبَ يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَالْمَاضِي.

"إلَاّ خَبَرٍ عَنْ حُكْمٍ" نَحْوَ: هَذَا الْفِعْلُ جَائِزٌ، وَهَذَا الْفِعْلُ حَرَامٌ فَهَذَا يَجُوزُ نَسْخُهُ بِلا خِلافٍ؛ لأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ إنْشَاءٌ قَالَهُ الْبِرْمَاوِيُّ وَغَيْرُهُ3.

"وَيَجُوزُ""نَسْخٌ بِلا بَدَلٍ" عَنْ الْمَنْسُوخِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ4.

وَمَنَعَهُ جَمْعٌ وَنُقِلَ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ.

وَمَنَعَهُ بَعْضُ5 الْعُلَمَاءِ فِي الْعِبَادَةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّسْخَ يَجْمَعُ6 مَعْنَى الرَّفْعِ وَالنَّقْلِ

1 وهو قول الشيخ تقي الدين بن تيمية في المسودة ص197، والقاضي أبي يعلى في العدة 3/825 وما بعدها، والقاضي البيضاوي في المنهاج "نهاية السول 2/177، 179".

2 انظر إرشاد الفحول ص189، الإحكام للآمدي 3/144، فواتح الرحموت 2/75، نهاية السول 2/179، شرح البدخشي 2/177، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 2/86، الآيات البينات 3/154.

3 انظر شرح تنقيح الفصول ص309.

4 انظر تفصيل الكلام على هذه المسألة في "المحصول ج1 ق3/479، شرح تنقيح الفصول ص308، العدة 3/783، المعتمد للبصري 1/415، البرهان 2/1313، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 2/87، الإحكام للآمدي 3/135، اللمع ص32، إرشاد الفحول ص187، شرح البدخشي 2/174، نهاية السول 2/177، المسودة ص198، روضة الناظر ص82، المستصفى 1/119، شرح العضد 2/193، الآيات البينات 3/155، فواتح الرحموت 2/69".

5 ساقطة من ز.

6 في ع ض: بجميع.

ص: 545

وَاسْتُدِلَّ لِلأَوَّلِ -الَّذِي هُوَ الصَّحِيحُ- بِأَنَّهُ نَسْخُ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ أَمَامَ الْمُنَاجَاةِ، وَتَحْرِيمِ ادِّخَارِ لُحُومِ الأَضَاحِيِّ وَفِي الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ1 كَانَ إذَا دَخَلَ وَقْتُ الْفِطْرِ، فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرْ حَرِّمُ2 الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ، وَإِتْيَانَ النِّسَاءِ إلَى اللَّيْلَةِ الآتِيَةِ ثُمَّ نُسِخَ3.

وَاحْتَجَّ الآمِدِيُّ أَنَّهُ لَوْ4 فُرِضَ وُقُوعُهُ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ مُحَالٌ5.

وَرَدَّهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَغَيْرُهُمْ بِأَنَّهُ مُجَرَّدُ دَعْوَى6 قَالُوا: قَالَ تَعَالَى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} 7

رُدَّ الْخِلافُ فِي الْحُكْمِ لا فِي اللَّفْظِ8.

ثُمَّ لَيْسَ عَامٍّا9 فِي كُلِّ حُكْمٍ. ثُمَّ مُخَصَّصٌ10 بِمَا سَبَقَ ثُمَّ يَكُونُ نَسْخُهُ بِغَيْرِ بَدَلِ11 خَيْرًا، لِمَصْلَحَةٍ عَلِمَهَا.

ثُمَّ إنَّمَا تَدُلُّ

1 في ش: بأنه نسخ.

2 في ش: يحرم.

3 صحيح البخاري 3/36.

4 في ش: أن.

5 أي في العقل. "الإحكام للآمدي 3/135".

6 أي القول بجواز النسخ بلا بدل.

7 الآية 106 من البقرة.

8 والمراد بالنسخ في الآية نسخ اللفظ: أي نأت بلفظ خير منها، لا بحكم خير من حكمها، وليس الخلاف في اللفظ، إنما الخلاف في الحكم، ولا دلالة عليه في الآية. "شرح العضد 2/193، إرشاد الفحول ص187".

9 في ش: بعام.

10 في ش: مخصص.

11 في ش: خبر المصلحة عليها، ثم إنها. وفي ع: خبراً لمصلحة علمها ثم إنما.

ص: 546

الآيَةُ1 أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ، لا أَنَّهُ2 لا يَجُوزُ.

وَأَيْضًا الْمَصْلَحَةُ قَدْ تَكُونُ فِيمَا نُسِخَ، ثُمَّ تَصِيرُ الْمَصْلَحَةُ فِي عَدَمِهِ.

هَذَا عِنْدَ مَنْ يَعْتَبِرُ الْمَصَالِحَ. وَأَمَّا عِنْدَ3 مَنْ لا يَعْتَبِرُهَا فَلا إشْكَالَ فِيهِ وَبِالْجُمْلَةِ4: قَالَ اللَّهُ5 تَعَالَى: {يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} .

قَالَ الْبَاقِلَاّنِيُّ6: كَمَا يَجُوزُ أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى يَرْفَعُ التَّكَالِيفَ كُلَّهَا، فَرَفْعُ7 بَعْضِهَا بِلا بَدَلٍ مِنْ بَابِ أَوْلَى.

"وَوَقَعَ" فِي قَوْلِ الأَكْثَرِ8.

وَخَالَفَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله وَأَوَّلَ9.

وَالدَّلِيلُ10 عَلَى الْوُقُوعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الآيَاتِ.

1 في ش: الآية على.

2 في ب: لأنه.

3 ساقطة من ع ز ض ب.

4 ساقطة من ز.

5 في ش: قال الله.

6 في ش: الباقلان.

7 في ز ض ب: ورفع.

8 انظر تفصيل المسألة في "المعتمد 1/461، العدة 3/783، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 2/87، الإحكام للآمدي 3/135، إرشاد الفحول ص187، شرط البدخشي 2/174، نهاية السول 2/176، أدب القاضي للماوردي 1/354، روضة الناظر ص82، المستصفى 1/119، شرح العضد 2/193، الآيات البينات 3/155، فواتح الرحموت 2/69".

9 في ش: وأدل.

10 في ش: دليل.

ص: 547

وَعِبَارَةُ الشَّافِعِيِّ فِي الرِّسَالَةِ فِي ابْتِدَاءِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ1: وَلَيْسَ يُنْسَخُ فَرْضٌ أَبَدًا، إلَاّ2 أُثْبِتَ مَكَانَهُ فَرْضٌ، كَمَا نُسِخَتْ قِبْلَةُ بَيْتِ3 الْمَقْدِسِ، فَأُثْبِتَ مَكَانَهَا الْكَعْبَةُ4.

قَالَ الصَّيْرَفِيُّ فِي شَرْحِهِ: مُرَادُهُ أَنْ يُنْقَلَ مِنْ حَظْرٍ إلَى إبَاحَةٍ، أَوْ مِنْ إبَاحَةٍ إلَى حَظْرٍ أَوْ تَخْيِيرٍ عَلَى حَسَبِ أَحْوَالِ الْمَفْرُوضِ.

قَالَ: كَنَسْخِ الْمُنَاجَاةِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا فَرَضَ تَقْدِيمَ الصَّدَقَةِ، أَزَالَ ذَلِكَ بِرَدِّهِمْ إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، فَإِنْ شَاءُوا تَقَرَّبُوا إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالصَّدَقَةِ، وَإِنْ شَاءُوا نَاجَوْهُ مِنْ غَيْرِ صَدَقَةٍ.

قَالَ: فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: فَرْضٌ5 مَكَانَ فَرْضٍ فَتَفَهَّمْهُ6. اهـ.

فَظَهَرَ أَنَّ مُرَادَ الشَّافِعِيِّ بِالْبَدَلِ أَعَمُّ مِنْ حُكْمٍ آخَرَ ضِدِّ الْمَنْسُوخِ كَالْقِبْلَةِ أَوْ الرَّدِّ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ شَرْعِ الْمَنْسُوخِ كَالْمُنَاجَاةِ، فَالْمَدَارُ عَلَى ثُبُوتِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ فِي7 الْمَنْسُوخِ فِي الْجُمْلَةِ، حَتَّى لا يُتْرَكُوا هَمْلاً بِلا حُكْمٍ فِي ذَلِكَ الْمَنْسُوخِ بِالْكُلِّيَّةِ، إذْ مَا فِي الشَّرِيعَةِ مَنْسُوخٌ إلَاّ وَقَدْ انْتَقَلَ عَنْهُ8 إلَى أَمْرٍ آخَرَ، وَلَوْ أَنَّهُ إلَى مَا9 كَانَ

1 وهو عنوان الفصل في كتاب "الرسالة".

2 في ش: إلا إذا.

3 في ش: البيت.

4 الرسالة ص109.

5 ساقطة من ض.

6 في ش: نتفهمه.

7 في ش: بدلاً من.

8 في ض: منه.

9 في ز: لما.

ص: 548

عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَمْ1 يَتْرُكْ2 الرَّبُّ عِبَادَهُ هَمْلاً.

"وَ" َجُوزُ النَّسْخُ "بِأَثْقَلَ" مِنْ الْمَنْسُوخِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ.

قَدْ تَقَدَّمَ جَوَازُ النَّسْخِ إلَى غَيْرِ بَدَلٍ، وَإِلَى بَدَلٍ فَإِذَا كَانَ إلَى بَدَلٍ، فَالْبَدَلُ: إمَّا مُسَاوٍ، أَوْ أَخَفُّ، أَوْ أَثْقَلُ، وَالأَوَّلانِ جَائِزَانِ بِاتِّفَاقٍ.

فَمِثَالُ الْمُسَاوِي: نَسْخُ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ.

وَمِثَالُ الأَخَفِّ: وُجُوبُ مُصَابَرَةِ الْعِشْرِينَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِمِائَتَيْنِ مِنْ الْكُفَّارِ، وَالْمِائَةِ أَلْفًا فِي الآيَةِ3.

نُسِخَ بِقَوْلِهِ سبحانه وتعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} 4.

فَأَوْجَبَ مُصَابَرَةَ الضِّعْفِ، وَهُوَ أَخَفُّ مِنْ الأَوَّلِ5. وَمِثْلُهُ نَسْخُ الْعِدَّةِ بِالْحَوْلِ فِي الْوَفَاةِ بِالْعِدَّةِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.

وَأَمَّا النَّسْخُ بِالأَثْقَلِ: فَهُوَ مَحَلُّ الْخِلافِ6، وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْجَوَازِ7.

1 في ب: فلا.

2 في ز ض ب: يغادر.

3 في ض: بالآية. وفي ش ز: والآية المشار إليها هي 65 من الأنفال.

4 الآية 66 من الأنفال.

5 انظر الإيضاح لناسخ القران ومنسوخه ص96، أحكام القران لابن العربي 2/877، الجهاد لابن المبارك ص174، الرسالة للشافعي ص127، صحيح البخاري 6/78، المحصول ج1 ق3/463.

6 في ش: خلاف.

7 خلافاً لبعض الظاهرية وبعض الشافعية. انظر كلام الأصوليين في هذه المسألة في "روضة الناظر ص82، التبصرة ص258، المسودة ص201، العدة 3/785، الإيضاح ص96، أدب القاضي للماوردي 1/354، شرح تنقيح الفصول ص308، الإحكام لابن حزم 4/466، أصول السرخسي 2/62، المحصول ج1 ق3/480، المعتمد 1/416، نهاية السول 2/177، شرح البدخشي2/174، إرشاد الفحول ص188، اللمع ص32ن المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه 2/87، الآيات البينات 3/154، الإحكام للآمدي 3/137، شرح العضد 2/193، فواتح الرحموت 2/71، المستصفى 1/120، كشف الأسرار 3/187، الإشارات للباجي ص65، التلويح على التوضيح 2/36".

ص: 549

وَدَلِيلُ وُقُوعِهِ: أَنَّ الْكَفَّ عَنْ الْكُفَّارِ كَانَ وَاجِبًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَدَعْ أَذَاهُمْ} 1 فَنُسِخَ بِإِيجَابِ الْقِتَالِ وَهُوَ أَثْقَلُ2، أَيْ أَكْثَرُ مَشَقَّةً.

وَكَذَا3 نَسْخُ وُجُوبِ4 صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ5، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا6.

وَظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ رحمه الله وَصَاحِبِهِ الأَثْرَمِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا، وَإِنَّمَا كَانَ مُتَأَكِّدَ الاسْتِحْبَابِ، وَبِهِ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ7.

1 الآية 48 من الأحزاب.

2 في ض ب: أثقل فهو محل الخلاف.

3 في ش: ولكن.

4 ساقطة من ش.

5 حيث روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كانت قريش تصوم عاشوراء في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه، فلما هاجر إلى المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فرض شهر رمضان قال "من شاء صامه ومن شاء تركه". "انظر صحيح البخاري 3/57، صحيح مسلم 2/792، الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار ص134، الإيضاح لناسخ القران ومنسوخه ص123".

6 انظر مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 2/551.

7 انظر المغني لابن قدامة 3/104، المجموع شرح المهذب 6/383.

ص: 550

"وَ" يَجُوزُ "تَأْبِيدُ تَكْلِيفٍ بِلا غَايَةٍ" وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى وُجُوبِ الْجَزَاءِ وَجَوَّزَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ، وَأَنَّهُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ وَالأَشْعَرِيَّةِ، وَخَالَفَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَالْمُعْتَزِلَةُ1.

قَالَ الْمَجْدُ فِي الْمُسَوَّدَةِ، وَتَبِعَهُ مَنْ بَعْدَهُ: يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ الأَمْرُ وَالنَّهْيُ دَائِمًا إلَى غَيْرِ غَايَةٍ فَيَقُولُ: صَلُّوا مَا بَقِيتُمْ أَبَدًا، وَصُومُوا رَمَضَانَ مَا حَيِيتُمْ "أَبَدًا"2، فَيَقْضِي الدَّوَامَ مَعَ بَقَاءِ التَّكْلِيفِ وَبِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ وَالأَشَاعِرَةُ مِنْ الأُصُولِيِّينَ، وَحَكَاهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِهِ3.

قَالَ الْمَجْدُ: وَمَنَعَتْ الْمُعْتَزِلَةُ مِنْهُ4، وَقَالُوا: مَتَى وَرَدَ اللَّفْظُ بِذَلِكَ لَمْ يَقْتَضِ الدَّوَامَ، وَإِنَّمَا هُوَ حَثٌّ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالْفِعْلِ5.

قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَحَرْفُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُمْ "لا يَمْنَعُونَ الدَّوَامَ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّمَا"6 يَمْنَعُونَ7 الدَّوَامَ مُطْلَقًا وَيَقُولُونَ: لا بُدَّ8 مِنْ دَارِ ثَوَابٍ غَيْرِ دَارِ التَّكْلِيفِ وُجُوبًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَيَكُونُ قَوْلُهُ " أَبَدًا9 " مَجَازًا، وَمُوجَبُ10 قَوْلِهِمْ: أَنَّ الْمَلائِكَةَ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ وَقَدْ اسْتَدَلَّ ابْنُ عَقِيلٍ بِاسْتِعْبَادِ11 الْمَلائِكَةِ،

1 انظر المسودة ص80، العدة 2/398.

2 زيادة من المسودة.

3 المسودة ص55.

4 ساقطة من ض ب.

5 المسودة ص55.

6 زيادة من المسودة.

7 في ش ز ب: لا يمنعون.

8 في ش: لا بد له.

9 في ز: هذا.

10 في ش: فوجب.

11 في ش: باستبعاد.

ص: 551

وَإِبْلِيسَ1.

"تَنْبِيهٌ":

"لَمْ تُنْسَخْ إبَاحَةٌ إلَى إيجَابٍ وَلا إلَى كَرَاهَةٍ" قَالَ فِي شَرْحِ التَّحْرِيرِ: رَأَيْت ذَلِكَ فِي بَعْضِ كُتِبَ أَصْحَابِنَا.

1 المسودة ص55.

ص: 552