الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ورضاه كالجنيد ونحوه؛ يقولون بالفرق الثاني، و
الذين لا يثبتون إلا المشيئة العامة لا يقولون بالفرق الثاني
، وآخرون يترددون فتارة يشهدون المشيئة العامة فقط ولا يقولون بالفرق، وتارة يثبتون محبة الله ورضاه فيقولون بالفرق الثاني، والقول بهذا الفرق لا ينافي الجمع العام، فإن مشيئة الله متناولة لكل شيء؛ وما وجد شيء محبوب ومكروه فالمشيئة متناولة له، فلهذا صار منهم من يقول: إن هذا الفرق عين من عيون الجمع، وأن أحدًا لا يخرج من الجمع الذي هو المشيئة العامة؛ فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وإنما يرى الخروج من هذا المعتزلة ونحوهم من المكذبين بالقدر، القائلين إنه يكون في ملكه ما لا يشاء، وأنه لا يقدر على هدي ضال ولا ضلال مهتدٍ ونحو ذلك، وهؤلاء ضلوا في مسألة القدر كما ضلت بها المعتزلة، [فالمعتزلة](1) كذبوا بالقدر رعاية للأمر والنهي، وهؤلاء أبطلوا الأمر والنهي رعاية (2) للقدر.
وهؤلاء يحتجون بقصة آدم وموسى عليهم السلام، واحتجاجهم عليه بالقدر؛ هو (3) حجة داحضة، فإن الله -تعالى- عاتب إبليس وأهبط آدم من الجنة وأهلك قوم نوح وعاداً وثموداً وغيرهم، ولو كان القدر عذرًا لم يعاقب كافراً، وآدم عليه السلام تاب من الذنب فلو كان محتجًا بالقدر لم يتب.
وصار آخرون يتكلمون على حديث موسى عليه السلام بتأويلات فاسدة، كقول بعضهم إن هذا الاحتجاج كان في غير دار التكليف كما ذكره هذا الضال، فيقال لهؤلاء: الاحتجاج بالقدر لا يسوغ في دار التكليف ولا غيرها (4)، فإنه قول باطل، وقول الباطل لا يسوغ بحال، وأيضًا فموسى قد لام آدم فكيف يقع الملام في غير دار تكليف؟ [وتناظرا](5) وتحاجَّا ودار السلام منزهة عن الحجاج والخصام، وقال بعضهم: إنه كان أباه فما كان ينبغي له لوم أبيه، وقال: بعضهم كان تائبًا والتائب لا يلام، وقال: بعضهم كان الذنب في شريعة واللوم في أخرى، وهذا كله باطل، فإن الحديث فيه أن آدم احتج بالقدر، وقال:"لم تلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق؟ فحج آدم موسى".
(1) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وسقطت من الأصل.
(2)
في (د) غاية.
(3)
في (د) زاد (واو) وهو.
(4)
في (د) وغيره.
(5)
كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (فتناظرا).
وسبب هذا الغلط أنهم فهموا من الحديث أن آدم جعل القدر حجة للمذنب وهو غلط قبيح على من هو دون آدم وموسى فكيف عليهما؟ وهذا آدم يقول: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1)[الأعراف: 23]، وموسى يقول:{قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص: 16]، قول:{أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} (2)[الأعراف: 155]، وكيف يجوز أن يظن بمثل هذين النبيين الكريمين أنهما يجوِّزان هذا؛ وعوام الناس يعرفون أن هذا باطل، إلا من كان مصطلماً قد سلب حقيقة العقل، والذي يظن أن الله يسوي بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمفسدين في الأرض، وبين المتقين والفجار، وبين المسلمين والمجرمين، فإن الجمع و (3) توحيد الربوبية يتناول هؤلاء كلهم، فإن لم يحصل مع ذلك فرق فالجمع بين أهل البر والتقوى (4)، ويشهد القلب [إلهية](5) الرب التي يستحق لأجلها أن يعبد دون ما سواه وأن تطاع رسله كان مسويّاً (6) بين هؤلاء.
ولكن نكتة الحديث أن موسى لام آدم لأجل المصيبة التي لحقت الذرية من أجله، فإنه بسبب ذلك خرجوا من الجنة وصاروا في دار الشقاء، ولهذا قال:"لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة"؟ وكان لومه له لأجل المصيبة التي أصابتهم لا لمجرد الذنب من جهة حق الله، كما يقول الولد لوالده الذي أذهب ماله حتى افتقر هو وأولاده: أنت الذي أذهبت هذا المال حتى صرنا فقراء واحتجنا إلى الناس، وأنت نقلتنا إلى بلاد الغربة ونحو ذلك، فقال له آدم: هذه المصيبة كانت مكتوبة عليك مقدرة قبل أن أخلق، هي وسببها وهو الذنب، فإنه كان مكتوباً علي قبل أن أخلق بأربعين سنة (7).
(1) في (د): {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا
…
} الآية.
(2)
في (د): {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا
…
} الآية.
(3)
في (د)(في).
(4)
في الجملة ركاكه، وفي (ح) بياض بمقدار كلمتين.
(5)
كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل (الإلهية)، وفي (ف) الأهية.
(6)
في (د)(مستويًا).
(7)
وللتوسع في شرح الحديث. انظر: شرح مسلم للنووي 16/ 440، وفتح الباري لابن حجر 11/ 623 - 626، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 8/ 107 - 109، وشفاء العليل =
والعبد مأمور عند المصائب بالتسليم لله -تعالى-، كما قال تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11]، قال طائفة من السلف: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلِّم (1)، لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:"المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت [كذا] (2) لكان كذا كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن [لو] (3) تفتح عمل الشيطان"(4)، وفي السنن عنه- صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإن غلبك أمر فقل: حسبي الله، ونعم الوكيل"(5)، وقد قال تعالى لنبيه:{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر: 55]، فأمره بالصبر على المصائب، والاستغفار من الخطيئات.
وكان الجنيد أفقه القوم وأعلمهم بالدين فلهذا بيّن الفرق الثاني، وأمر باتباع الأمر ولزوم الشرع ورعاية العلم، بخلاف (6) من لم يحقق هذا (7) الفرقان؛ واختطفه قدر فإنه قد يتعدى فيه إما حالًا وإما مآلاً، مثل (8) كثير من الشيوخ الغالطين في هذا الباب، ثم انضم إلى ذلك أنه لم يفرق بين إرادة الله
= لابن القيم 2/ 45 وما بعدها، والقضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة للمحمود 276 - 278.
(1)
انظر: تفسير ابن جرير الطبري 12/ 115، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 18/ 139.
(2)
كذا في (د)، وفي (ح)(كذا وكذا)، وسقطت من الأصل و (ف).
(3)
كذا في (د) و (ح) وصحيح مسلم، وفي الأصل و (ف)(اللو).
(4)
أخرجه مسلم في (كتاب القدر، باب الأمر بالقوة وترك العجز، والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله عز وجل) 4/ 2052 برقم 2664 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه واللفظ له.
(5)
أخرجه أبو داود في (كتاب الأقضية، باب الرجل يحلف على حقه) 4/ 44 رقم 3627 واللفظ له، وأحمد في المسند 6/ 25، والنسائي في عمل اليوم والليلة ص 403 رقم 626، قال المنذري: أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة وفي إسناده بقية بن الوليد وفيه مقال. انظر: عون المعبود 10/ 55، وقال النسائي في عمل اليوم والليلة ص 403: سيف لا أعرفه، قال محققه د. فاروق حمادة: سيف هو سيف الشامي وثقه العجلي وباقي رواة الحديث رجال مسلم. أ. هـ ، وضعفه جاسم الدوسري في المنهج السديد ص 192 رقم 389، ونقل تحسين الحافظ ابن حجر للحديث في تخريج الأذكار.
(6)
في الأصل كرر الناسخ هذه الكلمة.
(7)
كذا في الأصل و (ف) و (ح)، وفي هامش الأصل (ظ. هذان)، وفي (د)(هذان).
(8)
في (ف) سئل.
ومحبته ورضاه؛ بل يرى أن جميع الحوادث خيرها وشرها بالنسبة إليه سواء صادرة عن تلك الإرادة (1)، وأنه لا يحب الحسنات ولا يرضاها إلا بمعنى ينعم أهلها؛ ولا يبغض السيئات ويسخطها إلا بمعنى تعذيب أهلها، ورأى أن هذا فرق يعود إلى المخلوق لا إلى الخالق، فهذا رأى أن في كمال العبودية فناء عن إرادته؛ وأنه لا يريد إلا ما يريده الحق؛ وعنده ليس له إرادة إلا هذه، لزم من هذا أنه لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة ما دام هذا الفناء، لكن دوامه فيه ممتنع لأن العبد مجبول على حب ما يلائمه وبغض ما ينافيه، فإن لم يشهد ما [يتصف](2) به الرب من الحب والبغض والرضى والسخط، فيحب (3) ما يحبه الله، ويبغض ما يبغضه (4)، ويرضى ما يرضاه، ويسخط ما يسخطه الله، وإلا فرق باعتبار نفسه، فيحب ويبغض لمجرد ذوقه ووجده وحبه وبغضه؛ لا بحب الله وبغضه وأمره ونهيه، فإن هذه الحقيقة تخالف (5) الشريعة، ويجعلون القيام بها لأجل [الظاهرة](6) والعامة، لا من حقيقة شهودها الخاصة ويسمون هذا تلبيساً؛ وهو مقام الأنبياء، وهذا من أغاليط كثير من الشيوخ، وهو في الحقيقة خروج عن ملة إبراهيم وغيره من الرسل، وبالله التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل (7).
(1) انظر: شرح المقاصد للتفتازاني 4/ 274 - 278 حيث وضح مذهب الأشاعرة والمعتزلة.
(2)
كذا في (د) وفي الأصل و (ف) و (ح)(ينسب).
(3)
في (د)(فيجب) بالجيم.
(4)
سقط لفظ الجلالة من (ف) و (د).
(5)
في (د) يخالف.
(6)
كذا في (د) والأصل، لكن في الأصل شطب عليها، وصححت في الهامش (الخاصة)، وفي (ف) الخاصة.
(7)
انتهى الكتاب في جميع النسخ، وما بعده كلام الناسخ، وفي الأصل: وهذ آخر ما وجدت من "كتاب الاستغاثة" لابن تيمية -قدس الله روحه ونور ضريحه- وكان الفراغ من نسخه عصر الخميس لأربعة عشر خلت من ربيع الثاني من شهور عام سنة 1284، بقلم الفقير إلى ربه القدير محمد بن عثمان بن يحيى -غفر الله له ولوالديه وإخوانه المؤمنين- والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وفي (ف): وهذا آخر ما وجدت من "كتاب الاستغاثة" لشيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه ونور ضريحه وأدخله الجنة بغير حساب-، وكان الفراغ من نسخه يوم الأربعاء خامس يوم من جماد أول سنة 1319، على يد الفقير إلى ربه المقر بالذنب والتقصير عبده بن عبده صالح بن موسى بن صالح بن موسى بن مرشد -غفر الله له ولوالديه ولإخوانه وذريته وجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات آمين- وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
وفي (د): وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم سنة 1326.