المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌من أنكر ما ثبت بالتواتر والإجماع فهو كافر - الاستغاثة في الرد على البكري

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌القسم الأول: الدراسة

- ‌الباب الأول: في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية وترجمة البكري

- ‌الفصل الأول: ترجمة مختصرة لشيخ الإسلام ابن تيمية

- ‌ ترجمة موجزة للمؤلف:

- ‌اسمه ونسبه ومولده ونشأته:

- ‌ مكانته ومنزلته:

- ‌ جهاده وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر:

- ‌ محنته وسجونه:

- ‌ مؤلفاته ورسائله:

- ‌ وفاته:

- ‌الفصل الثاني: ترجمة البكري وموقفه من شيخ الإسلام ابن تيمية

- ‌1 - اسمه ونسبه ومولده:

- ‌2 - شيوخه وآثاره العلمية:

- ‌3 - مذهبه الفقهي:

- ‌4 - عقيدة البكري:

- ‌5 - طريقة البكري الصوفية:

- ‌6 - منهج البكري في التكفير:

- ‌7 - مواقفه مع شيخ الإسلام ابن تيمية:

- ‌8 - موقف البكري مع السلطان (الملك الناصر محمد بن قلاوون):

- ‌9 - وفاته وشعره:

- ‌الباب الثاني: دراسة الكتاب

- ‌الفصل الأول:‌‌ الاستغاثةأقسامها وحكمها

- ‌ الاستغاثة

- ‌أقسام الاستغاثة:

- ‌الاستغاثة المشروعة

- ‌ الاستغاثة الممنوعة

- ‌الفصل الثاني: الكتب المؤلفة في موضوع الاستغاثة

- ‌القسم الأول: الكتب المؤلفة في الاستغاثة بالله -تعالى

- ‌ من المؤلفات في هذا القسم:

- ‌ القسم الثاني: الانحراف في مسألة الاستغاثة:

- ‌ القسم الثالث: ردود أهل السنة والجماعة:

- ‌الفصل الثالث: عنوان الكتاب ونسبته للمؤلف

- ‌ نسبة الكتاب إلى المؤلف:

- ‌الفصل الرابع: منهج المؤلف في الكتاب

- ‌1 - الشمولية في الرد:

- ‌2 - وضوح الهدف والغاية:

- ‌3 - ثبات المنهج والثقة به:

- ‌4 - الأمانة العلمية والصدق:

- ‌5 - العدل والانصاف:

- ‌6 - المقارنة والتحليل:

- ‌7 - الاستطراد والتكرار:

- ‌القسم الثاني: تحقيق الكتاب

- ‌الباب الأول

- ‌الفصل الأول: وصف النسخ الخطية للكتاب

- ‌ النسخة الأولى:

- ‌ النسخة الثانية ورمزها (ف):

- ‌ النسخة الثالثة ورمزها (د):

- ‌ النسخة الرابعة ورمزها (ح):

- ‌ تاريخ تأليف الكتاب:

- ‌الفصل الثاني: منهج تحقيق الكتاب والتعليق عليه

- ‌(1) تحقيق النص:

- ‌(2) عزو الأحاديث والآثار:

- ‌(3) توثيق الأقوال والمسائل والآراء الفقهية:

- ‌(4) التراجم والتعريفات:

- ‌(5) المصادر والمراجع:

- ‌(6) الرموز والمصطلحات:

- ‌الباب الثاني: كتاب تلخيص الاستغاثة لابن كثير

- ‌الفصل الأول: كتاب تلخيص الاستغاثة

- ‌الفصل الثاني: نسبة التلخيص لابن كثير

- ‌الفصل الثالث: منهج ابن كثير في التلخيص

- ‌الفصل الرابع: الموضوعات التي انفرد بها التلخيص أو أطال فيها

- ‌ أولاً: الموضوعات التي انفرد التلخيص بذكرها:

- ‌ ثانياً: الموضوعاث التي أطال الملخص فيها:

- ‌الفصل الخامس: الموضوعات التي فقدت من الكتاب الأصل أو جاءت مختصرة فيه

- ‌1 - رأي ابن تيمية في البكري:

- ‌2 - وصف ابن تيمية لرد البكري عليه:

- ‌3 - سبب رد ابن تيمية على البكري:

- ‌4 - استدلال البكري بحديث آدم في الرد على ابن تيمية:

- ‌ رد ابن تيمية

- ‌5 - كذب البكري في تكثير رواة حديث توسل آدم:

- ‌6 - الأحاديث الواردة في كتابة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌7 - الأحاديث الموضوعة:

- ‌8 - دعوى البكري في توسل الأنبياء بالنبي صلى الله عليه وسلم

- ‌9 - أمثلة لما ورد عن أنبياء بني إسرائيل:

- ‌10 - استدلال البكري بقصة الامام مالك مع أبي جعفر المنصور:

- ‌ رد ابن تيمية

- ‌11 - استدلال البكري بحديث الكوة:

- ‌ رد ابن تيمية

- ‌12 - استدلال القبورية بحديث الأعمى:

- ‌13 - استدلال القبورية بسماع الميت:

- ‌14 - صور السؤال وحكم كل صورة:

- ‌15 - أحاديث زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم كلها موضوعة:

- ‌16 - مراتب بدعة سؤال الموتى:

- ‌17 - دعاء صفة من صفات الله:

- ‌18 - سبب ضلال القبورية وأصل شبهتهم:

- ‌19 - أهمية التوحيد:

- ‌20 - استعداء البكري للدولة:

- ‌21 - مدح البكري لكتاب المؤلف الصارم المسلول:

- ‌22 - رد على البكري على استشهاد ابن تيمية بحديث لا يستغاث بي:

- ‌ رد ابن تيمية

- ‌ المثال العلّمي

- ‌ التّوحيد المنجي: شهادة أن لا إله إِلَّا الله

- ‌ المطلوب من النّبيّ صلى الله عليه وسلم تارة يقدر عليه، وتارة لا يقدر عليه

- ‌ السبب المشروع لا ينافي التوكل

- ‌من أنكر ما ثبت بالتواتر والإجماع فهو كافر

- ‌ لعن الذين يتخذون القبور مساجد

- ‌الكمال المطلق الذي لا غاية فوقه لله تبارك وتعالى

- ‌ الفرق بين الحب في الله والحب مع الله

- ‌الذين لا يثبتون إلا المشيئة العامة لا يقولون بالفرق الثاني

- ‌الخاتمة

- ‌فهرس‌‌ المصادر والمراجع

- ‌ ا

- ‌ ب

- ‌ ت

- ‌ج

- ‌ح

- ‌د

- ‌ خ

- ‌ر

- ‌ ذ

- ‌ س

- ‌ش

- ‌ص

- ‌ ط

- ‌ض

- ‌ع

- ‌ غ

- ‌ ف

- ‌ق

- ‌ك

- ‌ل

- ‌م

- ‌ ن

- ‌ة

- ‌ و

- ‌ي

الفصل: ‌من أنكر ما ثبت بالتواتر والإجماع فهو كافر

المتواترة واتفاق (1) الأُمَّة أن النبي صلى الله عليه وسلم الشافِع المشفع، وأنّه يشفع في الخلائق يوم القيامة، وأن النَّاس يستشفعون به، ويطلبون منه أن يشفع لهم إلى ربهم عز وجل وأنّه يشفع لهم، ثمّ اتفق أهل السُّنَّة والجماعة أنّه يشفع في أهل الكبائر وأنّه لا يخلد في النّار من أهل التّوحيد أحد.

وأمّا الخوارج (2) والمعتزلة فأنكروا شفاعته لأهل الكبائر، ولم ينكروا شفاعته للمؤمنين؛ إِلَّا ما يحكى عن طائفة قليلة منهم وهؤلاء مبتدعة ضلال وفي تكفيرهم نزاع وتفصيل، و‌

‌من أنكر ما ثبت بالتواتر والإجماع فهو كافر

بعد قيام الحجة عليه.

وسواء سمى هذا المعنى استغاثة أو لم يسمّه، وكذلك من أقر بشفاعته في الآخرَة؛ وأنكر ما كان الصّحابة يفعلونه من التوسل به والاستشفاع به؛ كما رواه البخاريّ في صحيحه عن أنس أن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه كانوا إذا قحطوا استسقوا بالعباس بن عبد المطلب (3) وقال:"اللَّهُمَّ إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبيّنا فاسقنا فيسقون"(4)، وفي سنن أبي داود

= المشهورة عند المحدثين وجماعة من الفقهاء. وسميت بذلك لاشتهارها وتطلق على ما اشتهر على الألسنة، فتشمل ما له إسناد واحد فصاعدًا، بل ما لا يوجد له إسناد أصلًا. شرح نخبة الفكر لابن حجر العسقلاني، تعليق محمد الصباغ ص 14 (الطبعة الثّانية 1410 هـ، الناشر مكتبة الغزالي - دمشق).

(1)

في (د) باتِّفاق.

(2)

الخوارج: سموا بذلك لخروجهم على علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد التحكيم، ويسمون الحرورية والنواصب والشراة، والوعيدية داخلة في الخوارج، ويجمع الخوارج القول بالتبري من عثمان وعلي رضي الله عنهما، ويكفرون أصحاب الكبائر، ويرون الخروج على الإمام إذا خالف السُّنَّة حقًا واجبًا.

ومن فرقهم: المحكمة الأولى، والأزارقة، والنجدات، والبيهسية، والعجاردة، والثعالبة، والصفرية، والإباضية. انظر: التنبيه والرد للملطي: 62، والمقالات 1/ 167 والملل والنحل 1/ 114 - 115 وما بعدها، والفرق بين الفرق ص 72 - 75، ودراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين تأليف د. أحمد جلي ص 90 - 91.

(3)

في (د) بالعباس رضي الله عنه.

(4)

أخرجه البخاريّ في (كتاب الاستسقاء، باب سؤال النَّاس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا) 2/ 302 رقم 1010، ولفظه: "

استسقى

قال: فيسقون" وطرفه رقم 3710.

ص: 197

وغيره أن أعرابيًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: جهدت الأنفس وجاع العيال وهلك المال فادع الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك، فسبَّح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى عُرف ذلك في وجوه أصحابه، وقال:"ويحك إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك"(1)، وذكر تمام الحديث. فأنكر قوله:"نستشفع بالله عليك، ولم ينكر قوله: "نستشفع بك على الله" بل أقره عليه فعُلم جوازه، فمن أنكر هذا فهو مخطئ ضال مبتدع؛ وفي كفره نزل وتفصيل.

وأمّا من أقر بما ثبت بالكتاب والسُّنَّة والإجماع من شفاغته والتوسل به ونحو ذلك، ولكن قال: إنّه لا يدعي إِلَّا الله وأن الأمور الّتي لا يقدر عليها

(1) أخرجه أبو داود في (كتاب السُّنَّة، باب في الجهمية والمعتزلة) 5/ 95 رقم 4726، والدارمي في الرَّدِّ على الجهمية تخريج وتعليق بدر البدر ص 41 رقم 71 (الطبعة الأولى 1405 هـ، الناشر الدَّار السلفية حولي الكويت)، والدارقطني في كتاب الصفات تدقيق وتعليق عبد الله الغنيمان ص 31 (الطبعة الأولى 1402 هـ، الناشر مكتبة الدَّار بالمدينة المنورة)، وابن خزيمة في التّوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل، دراسة وتحقيق د. عبد العزيز الشهوان 1/ 239 (الطبعة الثالثة 1414 هـ، الناشر مكتبة الرشد الرياض).

وقد استغرب الحديث ابن كثير في تفسيره 1/ 310، وضعفه الإمام المجدد محمّد بن عبد الوهّاب في بعض نسخ كتاب التّوحيد، وصنف ابن عساكر جزءًا ضعفه فيه. انظر: الدر النضيد في تخريج كتاب التّوحيد، تأليف صالح العصيمي ص 177 (الطبعة الأولى 1413 هـ الناشر دار ابن خزيمة الرياض)، وقال حمدي السلفي في حاشية المعجم الكبير للطبراني 2/ 133: لم يصح في أطيط العرش حديث. أ. هـ. وقال شعيب الأرنؤوط في حاشية شرح السُّنَّة 1/ 175: الحديث لا تقوم به حجة. أ. هـ. وضعفه الألباني في مختصر العلّو للذهبي ص 92 الطبعة الأولى 1491 هـ، الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان. وقال ابن تيمية في مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 16/ 435 ولفظ "الأطيط" قد جاء في حديث جبير بن مطعم الّذي رواه أبو داود في السنن، وابن عساكر عمل فيه جزءًا، وجعل عمدة الطعن في ابن إسحاق، والحديث قد رواه علماء السُّنَّة كأحمد وأبي داود وغيرهما، وليس فيه إِلَّا ما له شاهد في رواية أخرى، ولفظ الأطيط قد جاء في غيره. أ. هـ. وأجاب ابن القيم عن علل الحديث على لسان المثبتين له وأطال في ذلك، انظر: عون المعبود 13/ 11 وما بعدها، وتبعه فريح البهلال في كتابه تخريج أحاديث منتقدة في كتاب التوحيد ص 125 وما بعدها الطبعة الأولى 1415 هـ، الناشر دار الأثر الرياض.

ممّا سبق يتبيّن أن الحديث، وقد يذكره أهل السُّنَّة في الكلام على إثبات العلّو مع الأدلة الكثيرة الّتي استدلوا بها، وشنع عليه المبتدعة لأجل إنكارهم للعلّو.

ص: 198

إِلَّا الله فلا تطلب إلا منه، مثل: غفران الذنوب؛ وهداية القلوب، وإنزال المطر، وإنبات النبات ونحو ذلك، فهذا مصيب في ذلك، بل هذا مما لا نزاع فيه بين المسلمين أيضاً، كما قال تعالى:{وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 135]، وقال:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)} [القصص: 56] وكما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 3]، وكما قال تعالى:{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 126]، وقال:{إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40].

فالمعاني الثابتة بالكتاب والسُّنَّة يجب إثباتها، والمعاني المنفية بالكتاب والسُّنَّة يجب نفيها، والعبارة الداالة على المعاني نفيًا وإثباتًا، إنَّ وجدت في كلام (1) الله (2) ورسوله وجب إقرارها، كان وجدت في كلام أحد فظهر مراده من ذلك؛ رتب عليه حكمه؛ وإِلَّا رجع إليه فيه، وقد يكون في كلام الله ورسوله عبارة لها معنى صحيح، لكن بعض النَّاس يفهم من تلك العبارة (3) غير مراد الله ورسوله، فهذا يُرد عليه فهمه، كما روى الطبراني في معجمه الكبير أنّه كان في زمن النّبيّ صلى الله عليه وسلم منافق [يؤذي](4) المؤمنين، فقال أبو بكر الصديق: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنّه لا يستغاث بي؛ إنما يستغاث بالله"(5)، فهذا إنّما أراد به النبي صلى الله عليه وسلم المعنى

(1) في (د) كتاب.

(2)

في (ط) زاد (وكلام).

(3)

(العبارة) سقطت من (ف).

(4)

كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (يؤى).

(5)

أخرجه الطبراني في المعجم الكبير عن عبادة بن الصامت -كما في مجمع الزوائد 10/ 159 - (ومسند عبادة من القسم المفقود من المعجم) وأحمد في المسند 1/ 317 ولفظه: " .... لا يقام لي ولكن يقام لله"، وابن سعد في الطبقات الكبرى 1/ 378 بلفظ الإمام أحمد.

قال الهيثمي في مجمع الزوائد في إسناد الطبراني 10/ 159: رجاله رجال الصحيح غير ابن لهيعة وهو حسن الحديث. أ. هـ. وقال في إسناد الإمام أحمد 4/ 80: فيه راو لم يسم وابن لهيعة وهو حسن الحديث. أ. هـ. وقال ابن كثير في تفسيره 3/ 173: هذا الحديث غريب جدًا، أ. هـ وضعّف الحديث ربيع المدخلي في حاشية التوسل والوسيلة لابن تيمية ص 264. =

ص: 199

الثّاني، وهو أن يطلب منه ما لا يقدر عليه إِلَّا الله، وإلا فالصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا يطلبون منه الدُّعاء ويستسقون به كما في صحيح البخاريّ عن ابن عمر قال: "ربما ذكرت قول الشاعر، [وأنا](1) أنظر إلى وجه النّبيّ صلى الله عليه وسلم يستسقي فما ينزل حتّى يجيش له الميزاب.

وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه

ثِمَال اليتامى عصمة للأرامل

وهو قول أبي طالب" (2)، ولهذا قال المصنفون في أسماء الله -تعالى-: يجب على كلّ مكلّف أن يعلم أن لا غياث ولا مغيث على الإطلاق إِلَّا الله، وإن كلّ غوث فمن عنده، وإن كان جعل ذلك على يد غيره؛ فالحقيقة له سبحانه (3)، ولغيره مجازًا، قالوا: ومن أسمائه المغيث والغياث، وجاء ذكر

= وفي تلخيص الاستغاثة ص 153 - 154: هذا الخبر لم يذكر للاعتماد عليه بل ذكر ضمن غيره ليتبيّن أن معناه موافق للمعاني المعلومة بالكتاب والسُّنَّة، وهذا الخبر ممّا يصلح للاعتضاد به، وقد روى النَّاس هذا الحديث من أكثر من خمسمائة سنة إن كان ضعيفًا، وإلَّا فهو مروي من زمان النّبيّ صلى الله عليه وسلم .... أ. هـ. وفيما نقله الملخص عن ابن تيمية في التلخيص نظر، لأنّ ابن تيمية قال عن الحديث في ص 184:"إن صح" وأيضًا في ص 186 واستدل به في قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة في ص 264 ولم يتكلم عليه.

وقال في الفتاوى عن ابن لهيعة 18/ 26: "إنّه من أكابر علماء المسلمين وكان قاضيًا بمصر، كثير الحديث، لكن احترقت كتبه فصار يحدث من حفظه، فوقع في حديثه غلط كثير مع أن الغالب على حديثه الصِّحَّة. قال أحمد: اكتب حديث الرَّجل للاعتبار به مثل ابن لهيعة" وبهذا يتضح أن تضعيف الحديث في التلخيص غالبه زيادة من الملخص، وبناء على ما سبق يتضح أن الحديث ضعيف، ولكن كما قال الذهبي في السير 8/ 14 عن ابن لهيعة: "وبعضهم يبالغ في وهنه، ولا ينبغي إهداره، وتتجنب تلك المناكير، فإنّه عدل في نفسه. أ. هـ.

(1)

كذا في (ح) و (ط) وفي الأصل و (ف) و (د) إنّما.

(2)

أخرجه البخاريّ في (كتاب الاستسقاء، باب سؤال النَّاس الإمام إذا قحطوا) 1/ 302 رقم 1009 ولفظه: "

كلّ ميزاب

" وطرفه 1008، والبيت من قصيدة أبي طالب -عم النّبيِّ صلى الله عليه وسلم قالها في استعطاف قريش ومدح النبي صلى الله عليه وسلم ومطلعها:

ولما رأيت القوم لا ود فيهم

وقد قطعوا كلّ العرى والوسائل

انظر: سيرة ابن هشام 1/ 272 وثِمَال اليتامى: غياثهم، وفلان ثِمال بني فلان أي عمادهم وغياث لهم يقوم بأمرهم. لسان العرب 11/ 94 مادة ثمل.

(3)

في الأصل و (ف)(لذلك) وهي زيادة.

ص: 200

المغيث في حديث أبي هريرة (1)، قالوا: وأجمعت الأمة على ذلك، وقال أبو عبد الله الحليمي (2): الغياث هو المغيث، وأكثر ما يقال غياث المستغيثين، ومعناه المدرك عبادة في الشدائد إذا دعوه، ومريحهم (3) ومخلصهم، وفي خبر الاستسقاء في الصحيحين:"اللهم أغثنا اللهم أغثنا"(4) يقال: أغاثه إغاثة

(1) يشير المؤلف إلي حديث أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه: "إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة، هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم

"، الذي ورد فيه سرد أسماء الله عز وجل. وقد أخرجته الترمذي في (كتاب الدعوات، باب 82) 5/ 530 - 532، وابن ماجه في (أبواب الدعاء، باب أسماء الله عز وجل) 2/ 348 رقم 3907، والحاكم في المستدرك 1/ 16، وابن حبان في الإحسان 3/ 881 رقم 808 وغيرهم.

وقد ورد اسم "المغيث" المعجمة والمثلثة بدل "المقيت" بالقاف والمثناة عند ابن منده في التوحيد 2/ 206، والبيهقي في الأسماء والصفات 1/ 29، والمغيث لم يرد في القرآن الكريم أو السنة وكثير ممن ألف في أسمااء الله -تعالى- لم يذكره. مثل: تفسير أسماء الله لأبي إسحاق الزجاج، وشأن الدعاء لأبي سليمان حمد بن محمد الخطابي، وصفات الله عز وجل تأليف علوي بن عبد الرحمن السقاف وغيرهم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى 6/ 379 - 380 - بعد أن ذكر رواية الترمذي وابن ماجه لهذا الحديث-: "وقد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أن هاتين الروايتين ليستا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كل منهما من كلام السلف، فالوليد ذكرها عن بعض شيوخه الشاميين، كما جاء مفسراً في بعض طرق الحديث". أ. هـ، وقال ابن حجر في فتح الباري 11/ 257 - 260:"واختلف العلماء في سرد الأسماء هل هو مرفوع أو مدرج في الخبر من بعض الرواة، فمشى بعضهم على الأول واستدلوا به على جواز تسمية الله -تعالى- بما لم يرد في القرآن بصيغة الاسم، لأن كثيرًا من هذه الأسماء كذلك، وذهب الآخرون إلى أن التعيين مدرج لخلو أكثر الروايات عنه، ونُقل عن أكثر العلماء، والعلة في الحديث ليست تفرد الوليد فقط، بل الاختلاف فيه والاضطراب وتدليسه". أ. هـ.

(2)

هو أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن محمد البخاري الشافعي، من أهل الحديث، طويل الباع في الأدب والبيان، له كتاب "المنهاج في شعب الإيمان" مصنف نفيس، توفي سنة 403 هـ. انظر: السير 17/ 231 ترجمة رقم 138 وطبقات الفقهاء الشافعيين لابن كثير الدمشقي، تحقيق د. أحمد عمر هاشم ود. محمد زينهم 1/ 350، طبعة مكتبة الثقافة الدينية بورسعيد - مصر.

(3)

في رسالة الاستغاثة: ومجيبهم، وهي من إضافات الناشر.

(4)

أخرجه البخاري في (كتاب الاستسقاء، باب الاستسقاء في خطبة الجمعة غير مستقبل القبلة) 1/ 303 رقم 1014، من حديث أنس بن مالك وأوله: "أن رجلًا دخل المسجد يوم جمعة

" الحديث.

ص: 201

وغياثًا وغوثًا، وهذا الاسم في هذا المعنى [المجيب](1) والمستجيب، قال تعالى:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال: 9]، إلا أن الإغاثة أحق بالأفعال، والاستجابة أحق بالأقوال، وقد يقع كل منهما موقع الآخر، قالوا: والفرق بين المستغيث والداعي، أن المستغيث ينادي بالغوث، والداعي ينادي بالمدعو، وقد تقدم حكاية هذا إلى آخره فليس هذا موضع استقصائه (2).

وفيه: والاستغاثة بالرسول بمعنى أن يطلب من الرسول ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيها مسلم، كما أنه يستغاث بغيره بمعنى أن يطلب منه ما يليق به، ومن نازع في هذا المعنى فهو [إما](3) كافر إن أنكر ما يكفر به؛ وإما مخطئ ضال، وأما بالمعنى الذي نفاه الرسول صلى الله عليه وسلم فهي (4) أيضاً مما يجب نفيها، ومن أثبت لغير الله ما لا يكون إلا لله فهو أيضاً كافر إذا قامت عليه الحجة [التي](5) يكفر تاركها.

ومن هذا الباب قول أبي يزيد البسطامي (6): استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق، وقول الشيخ أبي عبد الله القرشي (7) -الشيخ

(1) ما بين المعقوفتين من رسالة الاستغاثة ص 51، وكتاب الدر النضيد للإمام الشوكاني، وقد نقل قطعة من هذا الكتاب، وفي جميع النسخ مجيب بدون (ال) التعريف ولا يستقيم المعنى، وفي (ط)(مجيب المجيب والمستجيب).

انظر: الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد للإمام الشوكاني، تحقيق أبو عبد الله الحلبي ص 11 الطبعة الأولى 1414 هـ، الناشر دار ابن خزيمة الرياض.

(2)

هنا ترك المؤلف ثمانية عشر سطرًا من رسالة الاستغاثة له.

(3)

كذا في هامش (د) ورسالة الاستغاثة ص 17، وسسقطت من الأصل و (ف).

(4)

كذا في جميع النسخ و (ط)، والضمير يعود على الاستغاثة، وفي رسالة الاستغاثة ص 19، والدر النضيد للشوكاني ص 13 (فهو).

(5)

كذا في (ح) و (ط) وفي الأصل و (د) و (ف) الذي.

(6)

أبو يزيد، طيفور بن عيسى بن شروسان البسطامي، يحكى عنه الشطح في أشياء، منها ما لا يصح، أو يكون مقولًا عليه، وأشياء مشكلة لا مساغ لها، إذ ظاهرها إلحاد مثل سبحاني وما في الجبة إلا الله وغيرها. توفي سنة 261 هـ. انظر: السير 13/ 86 ترجمة رقم 49، والأعلام 3/ 235.

(7)

هو أبو عبد الله محمد سعيد القرشي له كتاب في شرح التوحيد نقل عنه أبو نعيم في حلية الأولياء بعض الأقوال. انظر: حلية الأولياء 10/ 377 ترجمة رقم 610، وذكره =

ص: 202

المشهور بالديار المصرية وغيرها-: "استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون".

وفي دعاء موسى عليه السلام: "اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله"(1)، ولما كان هذا المعنى هو المفهوم منها عند الإطلاق، صح إطلاق نفيها عما سوى الله عز وجل، ولهذا لا يُعرف عن أحد من أئمة المسلمين أنه جوّز مطلق الاستغاثة بغير الله، ولا أنكر على من نفى مطلق الاستغاثة عن غير الله.

وكذلك [الاستعانة](2) أيضاً منها ما لا يصلح إلا لله وهي المشار إليها بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]، فإنه لا يعين على

= الكلاباذي بأبي عبد الله هيكل القرشي، وقال أحمد شمس الدين لم أجد له ترجمة: انظر: التعرف ص 28، وذكره صفي الدين الحسين الأنصاري في سير الأولياء في القرن السابع تحقيق مأمون محمود ياسين وعفت وصال ص 49 وما بعدها (الطبعة الأولى الناشر دار العالم بيروت - لبنان) ولم يذكر له نسبًا ولا مولدًا ولا تاريخ وفاة، وذكر ما يُقطع بكذبه فيه وظن أنه كرامة له، وكذلك الشعراني في الطبقات الكبرى مثل قولهم إنه كان أجذم أبرص أعمى وعند زواجه ببنت أحد أتباعه غير شكله إلى شاب جميل وسيم. وانظر: الطبقات الكبرى المسماة بلواقح الأنوار في طبقات الأخيار لعبد الوهاب الشعراني 1/ 159 (الطبعة الأولى 1408 هـ، الناشر دار الجيل بيروت، وبالهامش الأنوار القدسية).

(1)

أخرجه البيهقي في الدعوات الكبير، تحقيق بدر البدر ص 171 رقم 233 من حديث ابن مسعود ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أعلمك الكلمات التي قالهن موسى عليه السلام حين انفلق البحر، قلت، بلى، قال: قل: "

وبك المستغاث وأنت المستعان

"، قال أبو بكر: تفرد به عبد الله بن نافع وليس بالقوي، وقال بدر البدر في حاشية الدعوات ص 171: إسناده ضعيف لضعف عبد الله بن نافع. أ. هـ.

والطبراني في المعجم الصغير 1/ 122 وقال: لم يروه عن الأعمش إلا وكيع، ولا عن وكيع إلا زكريا بن فروخ، تفرد به جعفر بن النضر، قال الهيثمي في المجمع 10/ 183:"رواه الطبراني في الأوسط والصغير وفيه من لم أعرفهم"، وقال المنذري في الترغيب والترهيب، ضبط وتعليق مصطفى عمارة 2/ 618 (طبعة 1401 هـ الناشر دار الفكر بيروت - لبنان):"ورواه الطبراني في الصغير بإسناد جيد". وقال ربيع المدخلي في حاشية التوسل والوسيلة ص 264: ولقد بحثت كثيرًا عن ترجمة جعفر بن النضر فلم أقف له على ترجمة مما يؤيد قول الهيثمي. أ. هـ. وأخرجه غيرهم.

(2)

كذا في (د) و (ت)، وفي الأصل و (ف) الاستغاثة وسقطت من (ح).

ص: 203

العبادة الإعانة المطلقة إلا الله، وقد يستعان بالمخلوق فيما يقدر عليه كما قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2].

وكذلك الاستنصار، قال (1) تعالى:{وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72] والنصر المطلق؛ وهو خلق ما به يغلب العدو لا يقدر عليه إلا الله (2)، فهذه ألفاظ جواب السؤال الذي طلب جوابه؛ كما تقدم ذكر سؤاله (3) والجواب.

وقد ذهب إليه الجواب ووقف عليه، وزعم أنه يرد عليه فافترى على المجيب بقوله:(إنه يخلط في الحقائق ويلحد في الآيات كما قال في الإغاثة والنصرة وغيرهما، أنها لا تصح من الخلق ولا يُسألونها؛ ولا تضاف إليهم، وأخطأ في ذلك فإن هذه الحقائق ثبتت للمخلوقات حقيقة لغوية بإجماع العلماء، ونصوص الكتاب والسنة، اعتبارًا بالسبب والحكمة، وتنفى عن الخلق إشارة إلى التوحيد، وانفراد الباري عز وجل بخلقها، كما انفرد بخلق غيرها، كما قال تعالى من بساط التوحيد: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 126]، وقال: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]، وقال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، وقال:{وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72]، وقال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]).

فيقال (4): المجيب لم ينفها عن الخلق مطلقًا كما ذكرت، بل قال: وقد [يستعان](5) بالمخلوق فيما يقدر عليه كما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ

(1) في (د) وقال: بزيادة واو.

(2)

إلى هنا انتهى النقل من رسالة الاستغاثة للمؤلف، وقد ترك منها أسطرًا قليلة عن حكم من أخطأ على علم أو اجتهد فأخطأ.

(3)

يشير المؤلف رحمه الله إلى الإجابة المتقدمة، وأما السؤال فلم أجده في جميع النسخ الموجودة لدي وفي بداية الجواب المسمى -رسالة الاستغاثة- بياض في جميع النسخ، وقد أوردت السؤال كما ذكره المؤلف في كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص 159.

(4)

هذا هو الوجه الأول، لأن المؤلف سيذكر الوجه الثاني فيما بعد.

(5)

كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (يستغاث)، والسياق عن الاستعانة.

ص: 204

وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، وكذلك الاستنصار قال تعالى:{وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72]، فقد ذكر هاتين الآيتين قبلك وفرق بين (1)[ما يضاف إلى المخلوق وما يضاف إلى الخالق؛ من النصر والإعانة كما فرق بين](2)، هذا وهذا في الإغاثة، فنقلك عنه النفي العام كذب بيّن، ولكن هو فصّل فجعل ما يخص به الله الذي لا يضاف إلى غيره وهو المطلق، وإنما يضاف إلى المخلوق ما يليق به، وأنت تريد أن تجعل المخلوق عدل الخالق، يضاف إليه جميع ما يضاف إلى الرب عز وجل مضاهاة للحلولية والنصارى والمشركين، الذين أنت وأمثالك من طلائع جيوشهم، وأبواب مدائنهم، وهم دعاة إلى مذهبهم في الحقيقة، وإن كانوا لا يعلمون لوازم قولهم، وهذا بيّن يكشف ضلال هؤلاء.

ونقول في الوجه الثاني: قوله: (وكثيرًا ما تنفي الأشياء في النصوص الشرعية إشارة إلى التوحيد، [و] (3) يثبتها الباري -سبحانه- في مواضع أخر اعتبارًا بالأسباب وإثباتًا لبساط الحكمة).

هو كلام باطل فإن الله -سبحانه- لا ينفي شيئًا ويثبته، إذ الجمع بين نفيه وإثباته تناقض، وكلام الله منزه عن التناقض، قال الله -تعالى-:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، ولكن المنفي غير المثبت، فالذي ينفيه في موضع ليس هو الذي يثبته في موضع آخر، ولكن هؤلاء الضلال يجعلون المنفي عين المثبت، فيكون ما يضاف إلى الرب بطريق التوحيد؛ يضاف إلى غيره بطريق السبب والحكمة، ولهذا قالوا: إن كل ما يطلب من الله؛ يُطلب من غيره (بهذا الطريق)(4).

فأشركوا في ربوبية الله، وفي دعاء الله وعبادته، حيث جعلوا ما يضاف

(1)(بين) سقطت من (د).

(2)

ما بين المعقوفتين من (ف) و (د) و (ح) وسقط من الأصل.

(3)

كذا في (د) و (ف) و (ح)، وسقطت الواو من الأصل.

(4)

ما بين القوسين في (ف)(بطريق) وبعدها بياض بمقدار كلمة، وفي (د) بياض بمقدار كلمة، وفي (ح) بياض بمقدار كلمتين، وليس في الكلام سقط.

ص: 205

إلى المخلوق يضاف إليه تعالى، فصار حقيقة قولهم أن المخلوق تضاف إليه مفعولات الله كلها، ويطلب منه مقدورات الرب كلها؛ لما في الخلق من السبب والحكمة، ولم يعلم هؤلاء الجهال أن السبب لا يستقل بالتأثير، بل تأثيره متوقف على سبب آخر وله موانع؛ وحينئذٍ فلا يجوز تخصيصه بالإضافة إليه، وإن كان سببًا، وأيضًا فالأسباب التي نعرفها مضبوطة، وأكثر ما فعله الله ويفعله لا نعرف نحن أسبابه، وأيضًا أثبتوا أسبابًا في خلقه وأمره ونهيه ما أنزل الله بها من سلطان، بل إثباتها مخالف للشرع والعقل، فضلوا في إثبات أسباب لا حقيقة لها، وفي [الإضافة](1) إليها، وفي تعليق الحوادث كلها [بسبب](2) واحد (3).

(1) كذا في (ف) و (د) و (ح) في الأصل إضافة.

(2)

كذا في (د) و (ح) وفي الأصل و (ف) سبب.

(3)

اختلف المسلمون في هذه المسألة علي ثلاث مذاهب:

الأول: الفلاسفة والمعتزلة اعتمدوا على الأسباب.

الثاني: الجهمية ومن تابعهم من الأشاعرة والماتريدية والذين أنكروا الأسباب والحكمة العلل والغايات.

وعلى هذا زعم بعضهم: أن أحدهم إذا طلب شيئًا من نبي أو ولي فالله هو المعطي لمن سأل عند الطلب، ومن أسند التأثير لغير الله فقد أشرك. وانطلاقًا من هذا زعموا أن النار ليست سببًا في الإحراق، والأكل ليس سببًا في الشبع وغير ذلك.

الثالث: مذهب السلف فقالوا: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع.

والله -سبحانه- ربط الأسباب بمسبباتها شرعًا وقدرًا، والشرع كله أسباب ومسببات، وهو سبحانه الذي جعل هذا سببًا لهذا، ومجرد الأسباب لا يوجب حصول المسبب، فلا بد من تمام الشروط، وزوال الموانع، وكل ذلك بقضاء الله وقدره. انظر: شرح الأصول الخمسة ص 614، وتهافت الفلاسفة للغزالي تحقيق د. سليمان دنيا ص 239 - 251 (الطبعة السادسة الناشر دار المعارف القاهرة - مصر)، والحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة إملاء قوام السنة الأصبهاني، تحقيق محمد ربيع المدخلي 2/ 52 - 55 الطبعة الأولى 1411 هـ، الناشر دار الراية - الرياض، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 8/ 70، 175، 466، وشرح الطحاوية ص 460، وموقف ابن تيمية من الأشاعرة 3/ 628.

ص: 206

وقد حدثني بعض الثقات عن هذا الشخص (1) أنه كان يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم علم مفاتيح الغيب التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم (2): "خمس لا يعلمها إلا الله: إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غدًا، وما تدري نفس بأي أرض تموت"(3)، وأظنه ذكر عنه أنه قال:"علمها بعد أن أخبر أنه لا يعلمها إلا الله".

وآخر من جنسه يباشر التدريس ويُنسب إليه الفتيا كان يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما يعلمه الله (4)، ويقدر علي ما يقدر عليه الله، وأن السر انتقل بعده إلى

(1) أي البكري.

(2)

في هامش (د) في نسخه "تكذيبًا لقوله ولقول غيره وردًا عليهم".

(3)

أخرجه البخاري في (كتاب الاستسقاء، باب لا يدري متى يجيء المطر إلا الله) 1/ 310 رقم 1039، ومسلم في (كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان) 1/ 39 رقم 9 واللفظ له. وهو قطعة من حديث جبريل عن أبي هريرة رضي الله عنه وأوله: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بارزًا يومًا للناس

" الحديث.

(4)

يدّعِي زنادقة الصوفية هذه الدعوى ليس حبًا للنبي صلى الله عليه وسلم أو تعظيمًا له كما يدعون، بل ليثبتوا بها أمرًا آخر خاصًّا بهم، يقول الشعراني: اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُعطي القرآن مجملًا قبل جبريل من غير تفصيل الآيات والسور، فقيل له: لا تعجل بالقرآن الذي عندك قبل جبريل فنلقيه على الأمة مجملًا فلا يفهمه أحد عنك لعدم تفصيله {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} أي بتفصيل ما أجمل من المعاني في التوحيد والأحكام

ويقول: ما بقي للأولياء إلا وحي الإلهام على لسان ملك مغيب لا يشاهد فيعلمهم بصحة حديث قيل بتضعيفه أو عكسه من طريق الإلهام من غير شهود للملك إذ لا يجمع بين شهود الملك والجاحدين. أ. هـ. الكبريت الأحمر بهامش اليواقيت والجواهر لعبد الوهاب الشعراني ص 6 طبعة 1378 هـ، الناشر شركة ومكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي.

وقال: وقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم بأنه أوتي علم الأولين والآخرين، ونحن الآخرين بلا شك، وقد عمم محمد صلى الله عليه وسلم الحكم في العلم الذي أوتيه فيشمل كل علم منقول ومعقول ومفهوم وموهوب. أ. هـ. اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر لعبد الوهاب الشعراني 2/ 39 طبعة 1378 هـ، الناشر شركة ومكتبة ومطبعة مصطفى البايي الحلبي وبهامشه الكبريت الأحمر.

قلت: كذب الشعراني لم يخبر صلى الله عليه وسلم بشيء من ذلك، هذا كلام الصوفية من كتبهم التي ذكر مؤلفها أنها في عقائدهم.

ص: 207

الحسن ثم انتقل في ذرية الحسن إلى الشيخ أبي الحسن الشاذلي (1) وقالوا هذا مقام القطب الغوث الفرد الجامع (2).

وكان شيخ آخر معظّم عند أتباعه يدّعي هذه المنزلة؛ ويقول: إنه المهدي الذي بشّر به النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يزوج عيسى بابنته، وأن نواصي الملوك والأولياء بيده، يولي من يشاء ويعزل من يشاء، وأن الرب يناجيه دائمًا، وأنه هو الذي يمد حملة العرش وحيتان البحر، وقد عزرته تعزيرًا بليغًا في يوم مشهود بحضرة من أهل المسجد الجامع يوم الجمعة بالقاهرة، فعرفه الناس وانكسر بسببه أشباهه من الدجاجلة.

(1) هو أبو الحسن علي بن عبد الله بن عبد الجبار الشاذلي المغربي، نسبه أتباعه ومريدوه إلى الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كعادة أهل كل طريقة صوفية، ينسبون إمامهم إلى آل البيت ولو كان من غير العرب أصلًا، ادعى لنفسه مرتبة القطب الغوث الجامع ووصفه بها أتباعه.

انظر: الطبقات الكبرى وبهامشها الأنوار القدسية كلاهما للشعراني 2/ 4 وما بعدها الطبعة الأولى 1343 هـ، والأعلام 4/ 305، ودراسات في التصوف، تأليف إحسان إلهي ظهير ص 235 وما بعدها.

ونقل عن أبي الحسن الشاذلي دعوى هذا العلم المزعوم تلميذه المرسي قال: وكان يقول -أي أبو الحسن-: والله ما كان اثنان من أصحاب هذا العلم في زمن واحد قط إلا واحدًا بعد واحد إلى الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان يقول: لا أعلم أحدًا اليوم يتكلم في هذا العلم غيري على وجه الأرض. أ. هـ. الطبقات الكبرى للشعراني 2/ 13.

(2)

القطب الغوث الفرد الجامع: القطب عرفه الصوفية: بأنه عبارة عن رجل واحد هو موضع نظر الله -تعالى- من العلم في كل زمان، يسمى غوثًا أيضاً باعتبار التجاء الملهوف إليه، وهو خلق على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ويسمى بقطب الأقطاب، وقطب العالم، والقطب الأكبر، وقطب الإرشاد، وقطب المدار. انظر: معجم مصطلحات الصوفية، تأليف د. عبد المنعم الحفني ص 217 حرف القاف.

وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى 27/ 96 عن (القطب الغوث الفرد الجامع): فهذا يقوله طوائف من الناس، ويفسرونه بأمور باطلة في دين الإسلام مثل تفسير بعضهم أن "الغوث" هو الذي يكون مدد الخلائق بواسطته في نصرهم ورزقهم، وهذا من جنس قول النصارى في المسيح عليه السلام والغالية في علي وهذا كفر صريح، يستتاب منه صاحبه فإن تاب وإلا قتل. أ. هـ. وقال عبد الرحمن الوكيل في "هذه هي الصوفية" ص 124: القطب وأعوانه أسطورة خرافية، تنزع إلى تجريد الله من الربوبية والإلهية، وخلعها على كل وهم باطل سمي في الفلسفة:"العقل الأول" وفي النصرانية "الكلمة" وفي الصوفية "القطب".

ص: 208

ومن هؤلاء من يقول في قوله تعالي: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)} (1)[الفتح: 8، 9]: إن الرسول هو الذي يُسبح بكرة وأصيلًا (2)، ومنهم من يقول: أسقط الربوبية وقل في الرسول ما شئت:

دع ما ادعَتْهُ النصارى في نبيهم

واحكم بما شئت مدحًا فيه واحتكم

فإن فضلَ رسول الله ليس له

حدٌّ فيعربُ عنه ناطقٌ بفم (3)

وانسبْ إلى ذاته ما شئت من شرف

وانسب إلي قدره ما شئت من عظم

لو ناسبت قدره آياته عِظَمًا

أحيا اسمُه حين يُدعي دارسَ الرمم (4)

(1) في (د) يقول وهي زيادة.

(2)

ومرادهم يسبحون للرسول بكرة وأصيلًا، وقد أجمع أهل التأويل على بطلان ذلك. قال ابن جرير في تفسيره 11/ 338: وقوله: {وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} يقول: تصلوا لله بالغدوات والعشيات، والهاء في قوله:{وَتُسَبِّحُوهُ} من ذكر الله وحده دون الرسول، وقد ذُكر ذلك في بعض القراءات:"وتسبحوا الله بكرة وأصيلا"، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

(3)

في (ف) بقم وهو خطأ.

(4)

هذه الأبيات من قصيدة البوصيري، المعروفة "بالبردة" والتي مطلعها:

أمن تذكر جيران بذي سلم

مزجت دمعًا جرى مع مقلة بدم

وفيها تقدم البيت الثالث علي الثاني، انظر: ديوان البوصيري، تحقيق محمد سيد كيلاني ص 193 الطبعة الأولي 1374 هـ، الناشر مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده.

ولا يخفى ما في هذا الكلام من الغلو، فإن من جملة معجزاته صلى الله عليه وسلم القرآن العظيم، وهو كلام الله، فكيف يحل لمسلم أن يقول: إن القرآن لا يناسب قدر النبي صلى الله عليه وسلم بل هو منحط عن قدره، وهو كلام الله -تعالى- صفة من صفات الرب تعالى!! ثم إن اسم الله الأعظم وسائر أسمائه الحسنى إذا ذكرها الذاكر لم تحي دارس الرمم، وقد ذهب المتعصبون للناظم في كل واد من أودية التأويل، وقد أنكر أهل العلم على الشاعر منذ عصره إلى اليوم. انظر: غاية الأماني في الرد على النبهاني 2/ 350، والتوضيح عن توحيد الخلاق ص 320، والعقيدة السلفية تأليف محمد عبد الرحمن المغراوي، القسم الخامس الطبعة الأولى 1414 هـ، الناشر دار المنار الرياض ص 139 وما بعدها.

وقائل هذه القصيدة شاعر وليس من أهل الفقه أو العلم، وأيضًا فقد كان يمدح ذوي السلطان، فمدح المماليك مدحًا فيه غلو كبير، وهجا العرب هجاء مرًا. انظر: مقدمة ديوان البوصيري، تحقيق محمد سيد كيلاني ص 5 - 11.

ص: 209

ومنهم من يقول: نحن نعبد الله ورسوله فيجعلون الرسول معبودًا.

ومنهم من يأتي قبر الميت الرجل أو المرأة -الذي يحسن به الظن لنفسه- فيقول: اغفر لي وارحمني، ولا [توقعني](1) على زلة، [ولا توقفني على خطيئة](2)، ونحو هذا الكلام يرد إلى أمثال هذه الأمور التي تتخذ (المخلوق إلهًا)(3)، ولما استقر في نفوس عامتهم تجد أحدهم إذا سئل عمن (4) ينهاهم عن هذا: ما يقول هذا؟ فيقول: فلان عنده ما ثَمَّ إلا الله لِمَا استقر في نفوسهم، (أنهم يجعلون معه آلهة أخرى)(5)، وهذا كله وأمثاله وقع ونحن بمصر، (وآخر يقول هذا معظّمًا لمن ينهى عن هذه الأمور حيث إنه عنده ما ثم إلا الله)(6)، وآخر يقول معظّمًا لمن يدعو إلى التوحيد، قد جعل الآلهة إلهًا واحدًا.

والمقصود هنا أن نبيّن خطأه فيما ذكر عن الله -تعالى- من أنه ينفي الأشياء إشارة إلى التوحيد، ويثبتها اعتبارًا بالأسباب، ونبين أنه سبحانه لا ينفي ما يثبته ولا يثبت ما نفاه.

أما قوله تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 126] فهذا النصر المنفي في هذه الآية عن غير الله لم يثبته الله لغيره قط، والذي ذكره في قوله:{وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72] ليس هذا هو ذاك، يبيّن هذا أنه قال:{إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)} (7)[آل عمران: 124 - 126]، وقال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ

(1) كذا في (د) وفي الأصل و (ف) و (ح) توقفني، بالفاء.

(2)

ما بين المعقوفتين من (د) وسقط من الأصل و (ف) و (ح).

(3)

في (د) المخلوق فيها إلهًا.

(4)

في (ف) عن من.

(5)

ما بين القوسين سقط من (د).

(6)

ما بين القوسين سقط من (د).

(7)

الآية (125) من (ح) وسقطت من الأصل و (ف) وفي (د){بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} إلى أن قال: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .

ص: 210

الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1)[الأنفال: 9، 10]، فهو سبحانه قد أمدهم بالملائكة، ومعلوم أن نصر الملائكة لهم أعظم من [النصر] (2) الذي أُمروا به في قوله:{وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72]، فإن هؤلاء غاية ما يفعلونه دون ما تفعله الملائكة، ثم بيّن أنه وإن نزلت الملائكة وقاتلت؛ فالنصر لا يحصل بمجرد هذا؛ إن لم يحدث الله ما به ينتصر المؤمنون؛ وذلك لأن المقاتل من الملائكة والبشر غاية قدرته نفسه، وأما ما يتولد عن ذلك فهو لا يستقل به.

والناس متنازعون في هذا، فكثير من النظّار المثبتين للقدر يقولون: إن جميع المتولدات فعل الله، ليست فعلًا للعباد، مثل الشبع والري وانقطاع العضو، وخروج السهم من القوس (3).

وأما القدرية فيقول أكثرهم: إنها مفعول [فاعل](4) السبب، ويقسمون الأفعال إلى مباشر ومتولد؛ لكنهم مع هذا يعلمون أن الفعل لا يتم بمجرد قدرة العبد، بل بأمور خارجة عن قدرته (5).

(1) الآية سقطت من (ف).

(2)

كذا في (د) و (ح) وفي الأصل و (ف)(نصر).

(3)

مذهب الأشاعرة ومن وافقهم في هذه القضية ينبني على مذهبهم في خلق أفعال العباد، فإذا كان عندهم أن فعل العبد فعل الله حقيقة وللعبد مجازًا، فمن باب أولى الفعل المتولد ولذلك جعلوا الفعل المتولد فعلًا لله -تعالى- وردوا علي المعتزلة.

انظر: الإرشاد للجويني، ص 206، والمواقف في علم الكلام للإيجي ص 316 طبعة عالم الكتب بيروت - لبنان، وشرح المقاصد 4/ 271 - 273.

(4)

كذا في (د) وفي الأصل و (ف) و (ح) وفاعل بزيادة واو.

(5)

اختلف المعتزلة في المتولدات فمنهم من علقها بالطبع كالجاحظ (أي بطبع الإنسان)، ومنهم من قال إنها تحدث في الجمادات تحصل فيها بطبع المحل وذهب إليه النظام ومعمر (أي بإيجاب الخلقة)، وقال ثمامة: أفعال التولد لا محدث لها عدا الإرادة.

وأكثر المعتزلة قسموا أفعال التولد إلى قسمين:

القسم الأول: ما تولد من غير الحي كحرق النار واختلفوا فيه، فقال بعضهم: فعل الله، وقال آخرون: فعل الطبيعة، وقال فريق ثالث: أفعال لا فاعل لها.

القسم الثاني: ما تولد من الحي فقالوا من فعل الإنسان. انظر: شرح الأصول =

ص: 211

وقالت الطائفة الثالثة: إن هذه المتولدات حادثة بفعل العبد وبالأسباب الأخرى، فالعبد مشارك فيها؛ لم ينفوا أثره كما نفاه الأولون، ولا جعلوه فاعلًا كالآخرين، بل جعلوه مشاركًا فيها، وهذا أعدل الأقوال (1)، ولهذا فرَّق الله -تعالى- بين الأعمال المباشرة والمتولدة في قوله -تعالى-:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} الآية، ثم قال:{وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ} [التوبة: 121]، فلما كان الإنفاق والسير عملًا مباشرًا قال فيه:{كُتِبَ لَهُم} ، وتلك الأمور من النصب والجوع وغيظ الكفار والنيل من العدو [ليس](2) مباشرًا، بل هو مما يسمى متولدًا، فلهذا قال فيه:{إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} لأنهم مشاركون في حصول هذه الآثار، وحصول هذه الآثار لا بد فيه من الأسباب التي يخلقها الله، ومن دفع الموانع، فلا تجوز أن تجعل مفعولة لسبب معين، بل هي مفعولة لله -تعالى-، وانتصار المؤمنين على الكفار هو أعظم من النيل الذي ينال من العدو، فإذا لم يكن هذا مفعولًا لمخلوق فكيف يكون النصر؟.

وهب أن الملائكة نزلت بقذف الرعب في قلوب الكفار كما قال -تعالى-: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال: 12]، وأيضًا فهب أن الملائكة حضروا فمن الذي يخلق القدرة فيهم وفي المؤمنين، والقدرة التي بها يكون الفعل أكثر؛ لا [تكون](3) إلا مع الفعل، وهب أن القدرة حصلت فمن يخلق الأسباب الخارجة؛ كقبول الجلود للجرح، وحصول الزهوق بعد الجرح والهزيمة المستمرة إذ يمكن أن الكفار يفرون ويكرون، ويمكن أنهم

= الخمسة للقاضي عبد الجبار ص 387 - 390 والملل والنحل 1/ 71، والمعتزلة وأصولهم الخمسة وموقف أهل السنة منها، تأليف عواد المعتق ص 184، وما بعدها النشرة الأولى 1409 هـ الناشر دار العاصمة الرياض.

(1)

انظر: الفصل لابن حزم 3/ 136.

(2)

كذا في (د) و (ح) وفي الأصل و (ف) وليس بزيادة (واو).

(3)

كذا في (ح) وفي الأصل و (ف) و (د) يكون.

ص: 212

يقاتلون حتى يقتلوا؛ فلا يقتل منهم واحد حتى يقتل غيره.

فالنصر الذي قال الله -تعالى- فيه {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 126]، لا يقدر عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل، ولا يقدر عليه إلا الله، ليس في الموجودات سبب يحصل به هذا النصر ولا موجب له إلا مشيئة الله، فما شاء كان وما لم يشاء لم يكن، فإن كل ما يكون لسبب فلا بد من حصول سبب آخر، ومن رفع موانع ثم خلق الأسباب.

ورفع الموانع لا بد أن يُحدِثَ هو سبحانه ذلك الأثر بفعل منه، على أصح قوليّ الجمهور الذين يقولون: إن الخلق غير المخلوق، فإن هؤلاء لهم قولان:[هل](1) يخلق بفعل واحد قديم يوجد جميع الموجودات؟ أم هو يوجد به المفعولات بأفعال متعاقبة، كما قال -تعالى-:{خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر: 6] على قولين، ومن قال بالثاني قال: إن المؤثر التام يستلزم الأثر التام، وإلا لزم الترجيح بلا مرجح فإن الفاعل إذا كان قبل حدوث المفعول وحين حدوثه على حال واحدة؛ كان تخصيص أحد الحالين بحدوث المفعول ترجيحًا لأحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح، وهذا ممتنع في صريح العقل (2).

فالأثر لا يوجد إلا إذا حصل مؤثره التام، فإنه بدون تمامه لا يكون مؤثرًا، فلا يحصل الأثر، وإذا تم وجب حصول الأثر، إذ لو لم يجب لأمكن وجوده؛ وأمكن عدمه، فكان (3) يتوقف على حدوث شيء آخر فلا يكون المؤثر تامًا، وهؤلاء يقولون:[إن](4) القدرة مع الفعل، [وكذلك الإرادة، وسائر ما يتوقف عليه الفعل](5) ، وإن كان بعض ذلك قد يتقدم عليه ويبقى إلى

(1) كذا في (د) وسقطت من الأصل، و (ف) و (ح).

(2)

قول أهل الكلام في العلة التامة (المؤثر التام) بأنه يجب أن يتراخى عنها معلولها، وقول الفلاسفة أن العلة التامة يجب أن يقارنها معلولها، وكلاهما غير صحيح، والصواب مذهب أهل السنة وهو أن التأثير التام من المؤثر يستلزم الأثر فيكون عقبه، لا مقارنًا له، ولا متراخيًا عنه، كما يقال: كسرت الإناء فانكسر، وكما قال تعالى:{كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] فإذا كان كون شيئًا كان عقب تكوين الرب له، لا يكون مع تكوينه ولا متراخيا عنه. أ. هـ. من كتاب موقف ابن تيمية من الأشاعرة 3/ 996.

(3)

كذا في جميع النسخ والصواب (فإن كان).

(4)

كذا في (د) و (ح) وسقطت من الأصل و (ف).

(5)

ما بين المعقوفتين من (ف) و (د) و (ح) وسقط من الأصل.

ص: 213

حين حصوله، لكن لا بد من وجوده معه؛ وهذا الفعل [الذي هو](1) تكوين الرب، خارج عن جميع الأسباب المخلوقة.

وأما قوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]، مع قوله:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، فقد اتفق المسلمون على أن تلك الهداية المنفية ليست هي الهداية المثبتة له، لا نزل في هذا بين أهل السنة والقدرية.

وأما الهداية الثابتة (2) فهي الدعوة والبيان، وهذا (3) يشترك فيه من يحبه ومن لا يحبه، فإن عليه البلاغ المبين، وقد بلّغ صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين، وقال في آخر عمره في حجة الوداع:"اللهم هل بلغت"؟ قالوا: نعم، قال:"اللهم اشهد"(4)، ونظير هذا قوله تعالى:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت: 17]، وقوله:{فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} [التغابن: 6]، وقال تعالى:{وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7]، والهداية (5) هي الدلالة والإرشاد، بكلامه وبعلمه وأمره ونهيه وترغيبه وترهيبه، وأما حصول الهدى في القلب فهذا لا يقدر عليه [إلا الله]، (6) باتفاق المسلمين سنيّهم وقدريّهم (7).

أما أهل السنة فيقولون: إن الاهتداء الذي في القلب لا يقدر عليه إلا الله،

(1) ما بين المعقوفتين من (د) وسقط من الأصل و (ف) و (ح).

(2)

في (ط)(المثبتة).

(3)

كذا الأصل و (ف)(ح) وفي (د) وهذه.

(4)

أخرجه البخاري في (كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى) 1/ 513 رقم 1739 وطرفه 7078، ومسلم في (كتاب القسامة، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال) 3/ 1305 رقم 1679، وأبو داود في (كتاب الخراج الإمارة، باب في كراهية الاقتراض في آخر الزمان) 3/ 362 - 363 رقم 2958 واللفظ له من حديث ذو الزوائد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأوله: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع

" الحديث.

(5)

في (ف) فالهداية، وفي (د) و (ح) فإن الهداية.

(6)

كذا في (ف) وفي (د) أحد، وتأخر في الأصل عن هذا الموضع إلى نهاية الجملة، وسقط من (ح).

(7)

في الأصل (إلا الله) وفي هامش (د) وأصل (ط): (لأن أحدًا لا يستطيع أن يهدي القلوب، ويخلق الهدى فيها غير الله).

ص: 214

ولكن العبد يقدر علي أسبابه وهو المطلوب منه بقوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} [الفاتحة: 6]، وهو المنفي [عن] (1) الرسول بقوله:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]، وقوله:{إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37]، وقوله:{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 272]. وأما القدرية فيقولون: إن ذلك مقدور للعبد (2).

ولهذا تنازعوا في العلم الحاصل في القلب عقب الاستدلال، فقالت القدرية: هو فعل العبد، وقالت المثبتة: هو مفعول الله كسب للعبد (3).

وتنازعوا في النظر هل هو متضمن له مستلزم له أو مقترن اقترانًا عاديًا؟ على قولين مشهورين، والتحقيق أنه من جملة الأمور التي تسمى المتولدات كالشبع والري والرؤية في العين والسمع في الأذن، فهي حاصلة بفعل العبد المقدور له (4)، وبأسباب خارجة عن قدرته، ولهذا يثاب عليه لما له في حصوله من التسبب والاكتساب.

(1) كذا في (ح) و (ط) وفي الأصل و (ف) و (د) من.

(2)

الهداية عند أهل السنة أربعة أقسام:

الأول: الهداية إلى مصالح الدنيا، وهذا مشترك بين الحيوان والإنسان والمؤمن والكافر.

الثاني: الهدى بمعني دعاء الخلق إلى الدين الحق.

الثالث: هدى التوفيق والإلهام، الذي هو جعل الهدى في القلوب، وهذا القسم أخص من القسم السابق، وهذا القسم ضل فيه المعتزلة من القدرية وكذلك الجبرية، فقد فسر القدرية هذا القسم بالقسم الثاني هدى البيان العام والتمكن من الطاعة والاقتدار عليها.

وقابلهم الجبرية ببدعة أخرى فأنكروا فعل العبد، وقدرته، والأسباب، وهدى الله أهل السنة للحق فأثبتوا كلا القسمين، وهذا القسم يستلزم أمرين: أحدهما فعل الرب -تعالى- وهو الهدى، والثاني فعل العبد وهو الاهتداء، وهو أثر فعله سبحانه، فهو الهادي والعبد المهتدي.

والرابع: الهدى في الآخرة كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)} [يونس: 9]، وغيرها من الآيات، وهذا لهدى ثواب الاهتداء في الدنيا، كما أن خلال الآخرة جزاء ضلال الدنيا.

انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (18/ 171)، وشفاء العليل لابن القيم (1/ 181) وما بعدها، ولوامع الأنوار البهية للسفاريني 1/ 334، والإرشاد للجويني ص 233.

(3)

في جميع النسخ (ونظيره) ويظهر أنها زيادة، ولا يستقيم المعنى بها.

(4)

(له) سقطت من (د).

ص: 215

وكذلك قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]، فإن هذه الاستعانة (1) التي يختص بها الله- تبارك وتعالى لم يثبتها لغيره أبدًا، كما أن العبادة له لم يثبتها لغيره أبدًا، وقوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] ليس ذلك التعاون هو هذه الإعانة المطلوبة من الله، فإن إعانة الله لعبده على عبادته تكون بأمور لا يقدر عليها غيره، مثل جعل العلم والهدى في القلب، وجعل الإرادة والطلب في القلب، وخلق القوى الباطنة والظاهرة (2)، موضع (3) بناء الأسباب المنفصلة التي [بها](4) تحصل العبادة.

ومعونة الإنسان لغيره إنما هي بفعله القائم في محل قدرته، وهي شيء لا يخرج [عنه، وما خرج](5) عن محل قدرته فقد تقدم الكلام فيه، وغايته أن يكون له فيه شرك.

والمقصود أن ما أمر الخلق به وجعله فعلًا هو الذي نفاه عن غيره، وبيّن أنه يختص به.

وأما قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال: 17]، فقد تقدم الكلام عليها، وبينّا غلط من ظن أن الرمي المنفي عن الرسول هو [عين](6) المثبت له، وبينّا أن المنفي هو وصول الرمي إلى الكفار وتأثيره فيهم، والمثبت الحذف الذي يقدر (7) عليه الرسول صلى الله عليه وسلم.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك [ظالمًا أو مظلومًا] (8) "، هو من جنس قوله:{وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72]، وأما قوله تعالى:

(1) في (ف) الاستغاثة، وفي هامش (د) في نسخة الاستغاثة.

(2)

في (ف) الظاهرة الباطنة.

(3)

في (د) موضع، ومصححه في الهامش (خلق).

(4)

كذا في (د) وسقطت من الأصل و (ف)، وفي (ح)(لا).

(5)

ما بين المعقوفتين من (د)، وسقط من الأصل و (ف) و (ح).

(6)

ما بين المعقوفتين من (د) و (ح)، وسقط من الأصل و (ف).

(7)

(يقدر) سقطت من (د)، وفي (ح) و (ط) فعله.

(8)

ما بين المعقوفتين من (د) و (ح)، وسقط من الأصل و (ف).

ص: 216

{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45] فالمستعان به فعل يفعله العبد، والمعنى اصبروا وصلّوا فإن ذلك يعينكم على المطلوب.

والأعمال الصالحة بينها تصادق وتلازم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقًا (1)، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا"(2)، أخرجاه في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه، وهداية الصدق مثل إعانة الصبر والصلاة، وليس ذلك هو [ما](3) أثبته الله لنفسه ونفاه عن غيره، سبحانه وتعالى أن يكون تأثيره مثل تأثير الأعراض.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم" [و] (4) الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"، هو من جنس قوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، فقد تبيّن أن جميع ما ذكره من النصوص ليس فيه أن ما نفاه عن غيره أثبته لغيره في موضع آخر، بل الذي أثبته لغيره غير الذي نفاه عن غيره.

الوجه الثالث: قوله: (إن هذه الحقائق تثبت للمخلوقين حقيقة لغوية بإجماع العلماء) غايته أن قول العرب مات زيد وتحركت الشجرة وهبت الرياح ونحو ذلك، يسمى في لغتهم حقيقة، وهذا لا ينفعه لأن المضاف إلى المخلوق ليس هو الذي نفاه الرب عن غيره، فإنه يقال: أماته الله، والإماتة التي اختص الله بها لا تثبت لغيره، وإن قيل: إن فلانًا أماته، فالمراد أنه فعل فعلًا خلق الله الموت فيه مع أسباب أُخر هو من جملتها، وهو المضاف إلى

(1) في (د)(وكذلك الأعمال السيئة بينها تصادق وتلازم، كما قال في نفس الحديث).

(2)

أخرجه البخاري في (كتاب الأدب، باب {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} 4/ 1923 رقم 6094، ومسلم في (كتاب البر والصلة، باب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله) 4/ 2013 رقم 2607 واللفظ له.

(3)

(ما) من (د) و (ح) وسقطت من الأصل وفي (ف) الذي.

(4)

كذا في (د) و (ح) وسقطت الواو من الأصل و (ف).

ص: 217

العبد، وليس هو الذي نفاه الرب عن غيره، فما يضاف إلى السبب لم ينفه الله عن غيره، وما نفاه لا يضاف إلى السبب، وأيضًا فهب أن هذه حقيقة لغوية أي قاعدة في هذا، والكلام (1) هنا في الحقائق العقلية والأحكام الشرعية، لا في استعمال الألفاظ، وليس كل من أضيف إليه الفعل لغة يترتب على ذلك الأحكام الشرعية التي للفاعلين (2).

الوجه الرابع: قوله: (اعتبارًا بالأسباب وإثباتًا لبساط الحكمة)، ماذا تعني به؟ فإن الناس يتنازعون في ذلك فمنهم يقول ليس في الوجود سبب له تأثير وحكمة يُفعل لأجلها، بل (3) محض مشيئة الرب قرنت بين الشيئين قرانًا عاديًا، فإن تقدم سمي سببًا، وإن تأخر سمي حكمة، من غير أن يكون للمتقدم تأثير في اقتضاء الفعل، ولا للفعل تأثير في اقتضاء الحكمة، وليس عند هؤلاء في القرآن لام تعليل في فعل الله، هذا قول الجهم (4) بن صفوان

(1) في (د) الكلام بدون واو.

(2)

يقسم الأصوليون الحقيقة إلى ثلاثة أقسام: الأول حقيقة لغوية وهي: اللفظ المستعمل فيما وضع له لغة. والثاني حقيقة عرفية، وهي: اللفظ الذي وضع لغة لمعنى ولكن استعمله أهل العرف في غير هذا المعنى وشاع حتى صار لا يفهم منه إلا هذا المعنى. وبعضهم جعل الحقيقة العرفية قسمين: عرفية عامة وعرفية خاصة، والثالث حقيقة شرعية هي: ألفاظ استعملها الشارع في معانٍ لم تضعها العرب لها، إما لمناسبة بينها وبين المعاني اللغوية وإما لغير مناسبة.

واختلف العلماء هل الأصل الحقيقة الشرعية أم الحقيقة اللغوية على ثلاثة مذاهب.

انظر: أصول الفقه، تأليف د. محمود أبو النور زهير 2/ 52 - 59 طبعة 1412 هـ الناشر المكتبة الأزهرية للتراث - القاهرة.

ولما كان الكلام هنا في المعاني الشرعية وجب حمل الألفاظ على الحقيقة الشرعية وليس على الحقيقة اللغوية، قال موفق الدين ابن قدامة:"وإطلاق الألفاظ في لسان الشرع، وكلام الفقهاء، يجب حمله على الحقيقة الشرعية، دون اللغة ولا يكون مجملًا، لأن عادة الشارع استعمال هذه الأسامي على عرف الشارع لبيان الأحكام الشرعية". أ. هـ. روضة الناظر وجُنَّة المناظر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد، تأليف موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، تحقيق عبد الكريم النملة 2/ 552 الطبعة الأولى 1413 هـ.

(3)

في (د) بلا.

(4)

في (د) جهم.

ص: 218

وكثير من النظار المنتسبين إلى القدر كالأشعري وأتباعه ومن وافقهم من أصحاب مالك والشافعي وأحمد (1)، ولا يقولون: إن هذا الشخص ينسب إليهم، فعلى قولهم: لا سيب ولا حكمة (2).

ومن الناس من أثبت حكمة منفصلة عن الرب يفعل لأجلها، وهو قول المعتزلة ونحوهم من الجهمية، ثم القدرية من هؤلاء يثبتون التأثير لأفعال الحيوان، ولا يثبتون تأثيرًا لغير ذلك (3).

وأما الفقهاء وأهل الحديث والصوفية (وكثير من)(4) أهل الكلام كالكرَّامية وغيرهم فإنهم يثبتون السبب والحكمة، لكن كثير من هؤلاء يتناقض، فيتكلم في الفقه بلون، وفي أصول الفقه بلون، وفي أصول الدين بألوان، ففي الفقه يُثبت الأسباب والحِكَم، وفي أصول الفقه يسمي العلل الشرعية أمارات (5)، خلاف ما يقوله في الفقه، وفي أصول الدين ينفي الحكمة والتعليل بالكلية، لظنه أن قول القدرية لا يمكن إبطاله إلا بذلك، والقليل من هؤلاء هو الذي يحقق الحكمة ويُبّين رجوعها إلى الفاعل الحكيم؛ مع حصول موجبها في مخلوقاته (6).

(1) في (د) بل.

(2)

انظر: المواقف في علم الكلام، تأليف عضد الدين الإيجي ص 331 - 332، والحكمة والتعليل في أفعال الله تعالي، تأليف د. محمد ربيع المدخلي ص 62 وما بعدها الطبعة الأولى 1409 هـ، الناشر مكتبة لينة دمنهور.

(3)

انظر: شرح الأصول، الخمسة، للقاضي عبد الجبار ص 525.

(4)

ما بين القوسين سقط من (د).

(5)

أمارات: جمع أمارة بالفتح وهي العلامة. الكليات لأبي البقاء ص 187.

(6)

وقد أبان هذا التناقض -عند الأشاعرة ومن وافقهم- ابن المرتضى اليماني في إيثار الحق على الخلق ص 200 - 201 (طبعة مكتبة ابن تيمية القاهرة - مصر، ومكتبة العلم بجدة) فقد نقل عن ابن الحاجب اتفاق العلماء على أن أفعال الله -تعالى- في الشرائع معللة

ثم قال: وجميع الأشعرية يتابعونه على ذلك في أصول الفقه كالرازي في المحصول والغزالي في المستصفي

ثم قال: فالزنجاني والذهبي وابن كثير من أئمة الأثر والشافعية وأهل السنة وقد تطابقوا على تعليل أفعال الله بالحكمة من غير حكاية خلاف في ذلك. أ. هـ. وقد أطال في ذلك.

وقال العلامة صالح المقبلي، اليمني في العلم الشامخ في تفضيل الحق على الآباء =

ص: 219

وهذه المسائل من أشرف العلم، وقد بسطنا الكلام عليها في غير هذا الموضع (1).

والمقصود هنا أن (2) ما ذكره هذا الشخص (3) من النصوص ليس، فيه إثبات الأسباب والحكم لأفعال الرب التي نفاها عن غيره، وبيان ذلك أن الأسباب عند من يقول بإثباتها هي من جملة الحوادث (4)؛ التي يكون الرب عز وجل فاعلًا لها، فالقول في إحداثه للسبب والحكمة كالقول في إحداثه ما بينهما، يمتنع أن يكون شيء من ذلك محدثًا لغيره، بل هو مُحدث جميع (5) المحدثات، وليس في ذلك ما يوجب كون الأسباب محدثة، وأيضًا فهذه الآيات التي ذكر ليس فيها إثبات حكم شيء من المحدثات كقوله:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، {فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} (6) [الأنفال: 72] ، بل ولا فيها إثبات نسبة الفعل إلى الرب، بل فيها إثبات بعض أفعال العباد؛ كهدايته وإعانته، وأفعال العباد لا تختص بكونها أسبابًا دون غيرها من الحوادث، فكلام هذا الرجل كلام من لم يتصور صحيحًا ولا عبر فصيحًا.

= والمشايخ ص 188 وبهامشه كتاب الأرواح النافح له أيضاً (طبعة مكتبة دار البيان دمشق): قال جماعة من متأخري المتكلمين منهم (أي الأشاعرة): "يستحيل تعليل أفعال الباري -تعالى- وظهر هذا المذهب وغلب حتى يظن من لم يكثر مطالعة كتبهم أنهم مجمعون عليه، وأما المكثر فيجد القائل بهذه المقالة هم الأقل في المتأخرين فضلاً عن المتقدمين ويرشدك إلى هذا إطباق فقهاء الأشاعرة على تعليل الأحكام". أ. هـ.

(1)

انظر: أقوم ما قيل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل، لابن تيمية ضمن مجموع الفتاوى 8/ 81 وما بعدها، وشفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، تأليف ابن قيم الجوزية 2/ 127 - 256. والحكمة والتعليل في أفعال الله -تعالى-، تأليف د. محمد هادي ربيع المدخلي ص 13 - 75، ص 195 - 210.

(2)

(أن) سقطت من (د).

(3)

أي البكري.

(4)

الحوادث: جمع حادث وهو ما يكون مسبوقًا بالعدم، ويسمى حدوثًا زمنيًا، وقد يعبر عن الحدوث بالحاجة إلى الغير ويسمى حدوثًا ذاتيًا. التعريفات ص 81 باب الحاء.

(5)

في (د) لجميع.

(6)

الآية في جميع النسخ (وعليكم النصر) ولم ترد الآية بالواو بالقرآن الكريم، ويظهر أنه خطأ من الناسخ لأنه سبق ذكر الآية صحيحة.

ص: 220

الوجه الخامس: أن يقال: نحن لا ننازع في إثبات ما أثبته الله من الأسباب والحكم، لكن من هو الذي جعل الاستغاثة بالمخلوق ودعاءه سببًا في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله؟ ومن الذي قال: إنك إذا استغثت بميت أو غائب من البشر نبيًا كان أو غير نبي كان ذلك سببًا في حصول الرزق والنصر والهدى وغير ذي مما لا يقدر عليه إلا الله؟ ومن الذي شرّع ذلك وأمر به؟ ومن الذي فعل ذلك من الأنبياء والصحابة والتابعين لهم بإحسان [إلى يوم الدين](1)؟.

فإن هذا المقام يحتاج إلى مقدمتين أحدهما: أن هذه أسباب (2) لحصول المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله.

والثانية: أن هذه الأسباب مشروعة لا يحرم فعلها، فإنه ليس كل ما كان سببًا كونيًا يجوز تعاطيه، فإن قتل المسافر قد يكون سببًا لأخذ ماله؛ وكلاهما محرم، والدخول في دين النصارى قد يكون سببًا لمال يعطونه؛ وهو محرم، وشهادة الزور قد تكون سببًا لما يؤخذ من المشهود له؛ وهو حرام، وكثير من الفواحش والظلم قد يكون سببًا لنيل مطالب؛ وهو محرم، والسحر والكهانة سبب في بعض المطالب؛ وهو محرم، وكذلك الشرك مثل دعوة الكواكب والشياطين، وعبادة البشر قد يكون سببًا لبعض المطالب وهو محرم، فإن الله -تعالى- حرم من الأسباب ما كانت مفسدته راجحة على مصلحته، وإن كان يحصل به بعض الأغراض أحيانًا، وهذا المقام مما يظهر به ضلال هؤلاء المشركين خلقًا وأمرًا، فإنهم مطالبون بالأدلة الشرعية على أن الله شرع لخلقه أن يسألوا ميتًا أو غائبًا، أو (3) يستغيثوا به، سواء كان ذلك عند قبره أو لم يكن عند قبره (4)، وهم لا يقدرون على ذلك.

بل نقول في الوجه السادس: سؤال الميت والغائب نبيًا كان أو غيره من المحرمات المنكرة؛ باتفاق أئمة المسلمين، لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولا استحسنه أحد من أئمة

(1) ما بين المعقوفتين من (د) و (ح) وسقطت من الأصل و (ف).

(2)

في (د) الأسباب.

(3)

في (د) وأن.

(4)

في (د)(والله تعالي حي عالم قادر لا يغيب كفى به شهيدًا وكفى به عليمًا).

ص: 221

المسلمين، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين المسلمين (1)، فإن أحدًا منهم ما كان يقول -إذا نزلت به تِرة (2) أو عرضت له حاجة- لميت يا: سيدي فلان أنا في حسبك، أو اقض حاجتي!!، كما يقول بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم من الموتى والغائبين.

ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته؛ ولا بغيره من الأنبياء لا عند قبورهم ولا إذا بعدوا عنها!! [وقد كانوا يقفون تلك المواقف العظام في مقابلة المشركين في القتال، ويشتد البأس بهم ويظنون الظنون، ومع هذا لم يستغث أحد منهم بنبي ولا غيره من المخلوقين](3)، بل ولا أقسموا بمخلوق على الله أصلًا، ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء، ولا الصلاة عندها.

وقد كره العلماء كمالك وغيره أن يقوم الرجل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لنفسه، وذكروا أن هذا من البدع التي لم يفعلها السلف (4).

(1) في (ف): الإسلام.

(2)

في (ف) مضرة وفي (ح) شدة. ترَة أي النقص، ويقال وتره حقه وماله، نقصه إياه. لسان العرب لابن منظور 5/ 274 مادة تر، وفي لغة تميم الكسر والفتح في لغة الحجاز. المصباح المنير ص 248 مادة وتر.

(3)

ما بين المعقوفتين من (د) وسقط من الأصل و (ف) و (ح).

(4)

قال بهذا المتقدمون من الصحابة والتابعين وغيرهم، نقل ابن فرحون عن ابن عساكر قال: قال ابن عساكر: والذي بلغنا عن ابن عمر رضي الله عنهما وغيره من السلف الأولين الاختصار والإيجاز في السلام جدًا. انظر: إرشاد السالك إلى أفعال المناسك، تأليف ابن فرحون المالكي، تحقيق محمد بن الهادي أبو الأجفان (الطبعة الثلاثية الرابعة لسنة 1988 م الناشر وزارة الثقافة والإعلام بتونس).

وروى عبد الرزاق في مصنفه 3/ 576 رقم 6724 عن نافع قال: كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبتاه، وأخبرناه عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: فذكرت ذلك لعبيد الله بن عمر فقال: ما نعلم أحدًا من أصحابه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إلا ابن عمر. والسند صحيح.

وفي مصنف ابن أبي شيبة 3/ 28 رقم 11792 سئل هشام: أكان عروة يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا.

وتابع الإمام مالك السلف -ابن عمر وغيره- في ترك التطويل، قال مالك: لا أرى أن =

ص: 222

وأما ما يروى عن بعضهم أنه قال: قبر معروف (1) الترياق المجرب، وقال بعضهم: فلان يدعى عند قبره، وقول بعض الشيوخ [لمريده] (2): إذا كانت لك حاجة إلى الله (3)، فاستغث بي أو قال: استغث عند قبري ونحو ذلك، فإن هذا وقع فيه كثير من المتأخرين وأتباعهم، وكثير من هؤلاء إذا

= يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ولكن يسلم ويمضي، وقال القاضي أبو الوليد الباجي: عندي أنه يدعو للنبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الصلاة ولأبي بكر وعمر: انظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض، تحقيق محمد أمين وآخرين 2/ 119 - 120، (ط مكتبة الفارابي ومؤسسة علوم القرآن دمشق - سوريا).

وقال ابن تيمية في الرد على الأخنائي ص 269 بهامش الرد على البكري (طبعة 1346 هـ): وروى أبو الحسن القزويني بسنده إلى إبراهيم بن عبد الرحمن الزهري قال: ما رأيت أبي قط يأتي إلى قبر صلى الله عليه وسلم، وكان يكره إتيانه.

وإبراهيم بن سعد من أكابر علماء المدينة وأكثرهم علمًا وأوثقهم، وأبوه سعد من أفضل أهل المدينة في زمن التابعين وأصلحهم وأعبدهم، وكان قاضي المدينة في زمن التابعين، وقد أدرك الصحابة وأكابر التابعين والفقهاء السبعة، ومعلوم أنه لم يكن ليخالفهم فيما اتفقوا عليه، وما نقل عنه ابنه يقتضي أنه كان لا يأتيه لا عند السفر ولا غيره بل يكره إتيانه مطلقًا كما كان جمهور الصحابة على ذلك، لما فهموا من نهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك.

وأبو الحسن علي بن عمر القزويني وغيره من أهل العلم والدين ذكروا هذه الآثار عن الصحابة والتابعين وتابعيهم ليبيّنوا للناس كيف كان السلف يفعلون مثل ذلك، أ. هـ باختصار.

(1)

هو أبو محفوظ معروف بن فيروز، وقيل: فيرزان البغدادي المعروف بالكرخي، كان والداه نصارى فأسلما، اشتهر بالصلاح والزهد، ونسب إليه الصوفية أقوال كثيرة وهو من أعلامهم، توفي سنة 200 هـ، وقيل 204 هـ. انظر: السير 9/ 339 ترجمة رقم 111 والأعلام 7/ 269.

ومقالة: قبر معروف الترياق المجرب تروى عن إبراهيم الحربي كما في السير 9/ 343 وهذا الكلام لا يسلم لقائله، فقد ورد النهي عن الدعاء عند قبر أفضل الخلق صلى الله عليه وسلم وإطالة الوقوف، فغيره أولي.

ومثل هذه المقالة وسيلة للشرك، فإنه وسيلة لدعاء المقبور، كما يحدث اليوم، وإجابة الدعاء عند قبر معين لا تدل على المشروعية، فإن الدعاء يستجاب أحيانًا من كافر عند الأصنام.

وقد ورد عن بعض السلف أن الترياق المجرب هو الدعاء، دعاء الله عز وجل، انظر: المستغيثين بالله، لابن بشكوال ص 95.

(2)

كذا في (د) و (ح) وسقطت من الأصل و (ف).

(3)

في (د) إلي الله حاجة.

ص: 223

استغاث بالشيخ رأى صورته؛ وربما قضى بعض حاجته فيظن أنه الشيخ نفسه، أو أنه ملك تصور على صورته؛ أو أن (1) هذا من كراماته، [فيزداد به شركًا ومغالاة](2)، ولا يعلم أن هذا من جنس ما تفعله الشياطين بعُبّاد الأوثان، حيث تتراءى أحيانًا لمن تعبدها، وتخاطبهم ببعض الأمور الغائبة، وتقضي لهم بعض الطلبات، ولكن هذه الأمور كلها بدع محدثة في الإسلام بعد القرون الثلاثة المفضلة.

وكذلك المساجد المبنية على القبور التي تسمى المشاهد محدثة في الإسلام، والسفر إليها محدث في الإسلام لم يكن بُني من ذلك [شيء](3) في القرون الثلاثة المفضلة (4).

بل ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذّر ما فعلوا، قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يُتخذ مسجدًا (5)، وثبت في الصحيح عنه أنه قال -قبل إن

(1) في (د)(وأن).

(2)

ما بين المعقوفتين من (د) وسقط من الأصل و (ف) و (ح).

(3)

كذا في (د) و (ح) وسقطت من الأصل و (ف).

(4)

قال المصنف في الفتاوى 27/ 466: "وكان ظهور المشاهد وانتشارها حين ضعفت خلافة بني العباس وتفرقت الأمة، وكثر فيهم الزنادقة الملبسون على المسلمين، وفشت فيهم كلمة أهل البدع، وذلك من دولة المقتدر في أواخر المائة الثالثة، فإنه إذ ذاك ظهرت القرامطة العبيدية القداحية بأرض المغرب، ثم جاءوا إلى أرض مصر، وقريبًا من ذلك ظهر بنو بويه، وكان في كثير منهم زندقة وبدع قوية" أ. هـ.

وقد اشتد نكير السلف في القرون الثلاثة المفضلة على زخرفة المساجد وكتابة القرآن على جدرانها ووضع المحاريب وغيرها مما هي دون بناء المشاهد ودفن الموتى فيها، ولو كانت موجودة لنقل عنهم إنكارها. انظر: كتاب الحوادث والبدع للطرطوشي ص 103 والباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامة، تحقيق عادل عبد المنعم ص 40 (الناشر مكتبة الساعي الرياض)، والأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع للسيوطي، تحقيق مصطفى عاشور ص 52 وما بعدها، (الناشر مكتبة القرآن القاهرة)، وإصلاح المساجد من البدع والعوائد، للعلامة محمد جمال الدين القاسمي، تخريج وتعليق الألباني ص 1634 الطبعة الرابعة 1403 هـ، الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان.

(5)

أخرجه البخاري في (كتاب الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على =

ص: 224

يموت بخمس-: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك"(1)، وقد تقدم في الجواب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أجدبوا استسقى بالعباس وقال:"اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون"(2)، فلم يذهبوا إلي القبور ولا توسَّلوا بميت ولا غائب، بل توسلوا بالعباس كما كانوا يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وكان توسلهم بدعائه كالإمام مع المأموم، وهذا تعذر بموته.

فأما قول القائل عند ميت من الأنبياء والصالحين: اللهم إني أسألك بفلان أو بجاه فلان أو بحرمة فلان، فهذا لم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن التابعين، وقد نص غير واحد من العلماء أنه لا يجوز، ونُقل عن بعضهم جوازه (3)، فكيف يقول القائل للميت: أنا أستغيث بك، وأستجير

= القبور) 1/ 395 رقم 1330 واللفظ له وأطرافه (435، 1390، 3453، 4441، 4443، 5815) ومسلم في (كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها) 1/ 376 رقم 529.

(1)

أخرجه مسلم في (كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها) ، 1/ 376 رقم 529.

(2)

(فيسقون) سقطت من (د).

(3)

سؤال الله -تعالى- بجاه فلان أو حرمته أو حقه أو غير ذلك، منعه أبو حنيفة وأبو يوسف وغيرهما من أئمة الحنفية فقد جاء في الفتاوى الهندية: ويكره أن يقول في دعائه بحق فلان وكذا بحق أنبيائك وأوليائك أو بحق رسلك أو بحق البيت أو المشعر الحرام لأنه لا حق للمخلوق علي الله -تعالى- كذا في التبيين. أ. هـ.

انظر: الفتاوى الهندية المسماة الفتاوى العالمكيرية لفخر الدين حسن بن منصور الحنفي وبهامشها فتاوى قاضيخان البزازية 5/ 318 الطبعة الثالثة 1400 هـ، الناشر دار إحياء التراث العربي بيروت - لبنان، وفتح القدير تأليف كمال الدين محمد بن عبد الواحد وبهامشه شرح العناية علي الهداية 8/ 498، طبعة دار إحياء التراث العربي بيروت - لبنان.

ونقل المنع عن جمع من علماء الحنفية السهسواني الهندي في صيانة لإنسان عن وسوسة دحلان ص 205، الطبعة الرابعة 1410 هـ، الناشر مكتبة ابن تيمية القاهرة، ومكتبة العلم بجدة، وانظر: جهود علماء الحنفية 2/ 1123 وما بعدها.

واتفق أئمة الدعوة السلفية على أنه بدعة محرمة مذمومة، انظر: الصواعق المرسلة الشهابية ص 14، ودعاوي المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ص 268 - 269 =

ص: 225

بك، أو أنا (1) في حسبك، أو سل لي الله، ونحو ذلك، فتبين أن هذا ليس من الأسباب المشروعة؛ ولو (2) قُدّر أن (3) له تأثيرًا، فكيف إذا لم يكن له تأثير صالح بل مفسدته راجحة على مصلحته كأمثاله من دعاء غير الله.

وذلك أن من الناس الذين يستغيثون بغائب أو (4) ميت تتمثل له الشياطين، وربما كانت على صورة ذلك الغائب، وربما كلمته، وربما قضت له أحيانًا بعض حوائجه، كما تفعل شياطين الأصنام، وهذا مما قد جري لغير واحد فينبغي أن يُعرف.

ومن هؤلاء من يؤذي الميت بسؤاله إياه؛ أعظم مما يؤذيه لو كان حيًّا، وربما قضيت حاجته مع ذم يلحقه، كما كان الرجل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم أحيانًا (5) فيعطيه ويقول:"إن أحدكم (6) يسألني المسألة فيخرج بها يتأبطها نارًا"، ومن هذا، الحكاية المذكورة في الذي جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وطلب منه سكباجًا (7)؛ فأتاه بعض أهل المدينة فأطعمه سكباجًا وأمره بالخروج من المدينة، وقال: إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يطعمه وأن يخرجه، وقال: من

= ومنعه الشيخ مبارك بن محمد الميلي أمين مال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في رسالة الشرك ومظاهره ص 213، الطبعة الأولى 1409 هـ، الناشر مكتبة الإيمان الإسكندرية - مصر، وهي إجماع من علماء الجمعية كما في تقديم الأمين العام في ص 7.

وقال بجوازه بعض العلماء من المالكية والشافعية ومتأخري الحنفية ومتقدمي الحنابلة. انظر: الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت الطبعة الثانية 1408 هـ، طبعة ذات السلاسل - الكويت. وأما الأئمة المتقدمون كالإمام مالك والشافعي وأحمد وأصحابهم فكلامهم في هذه المسائل قليل لأنها لم تكن في زمنهم، وإنما حدثت بعد ذلك.

(1)

في (د) وأنا.

(2)

في (ف) لو بدون (واو).

(3)

في هامش (د) في "نسخه لما يقولونه تأثيرًا فليس هو من الأسباب المشروعة ولا له تأثير صالح".

(4)

(أو) سقطت من (د).

(5)

(أحيانًا) سقطت من (د).

(6)

في (د) و (ح) أحدهم.

(7)

السِكباج بالكسر طعام معرب، وهو لحم يطبخ بخل. القاموس المحيط للفيروز آبادي، تحقيق مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة ص 248، الطبعه الثالثة 1413 هـ، الناشر مؤسسة الرسالة بيروت - لبنان.

ص: 226

يقيم بالمدينة لا يتمنى ذلك (1) أو كما قال ولا ريب أن النبي صلى الله عليه وسلم بل ومن هو دونه حيّ يسمع كلام الناس، وكما قال صلى الله عليه وسلم:"ما من رجل يسلم علي إلا رد الله عليَّ روحي حتى أرد عليه السلام "(2)، و ["ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه"(3)،

(1) وانظر قصة قريبة منها في: وفاء الوفا في أخبار دار المصطفي، لنور الدين السمهودي، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد 4/ 1384 (الطبعة الأولى 1374 هـ، الناشر مكتبة محمد المدني المدينة)، وعمدة أدلة القائلين بالاستغاثة مثل هذه الحكايات والمنامات وهذه حكايات ترد زعمهم.

(2)

أخرجه أبو داود في (كتاب المناسك، باب زيارة القبور) 5342 رقم 2041 ولفظه: "ما من أحد يسلم

"، وأحمد في المسند 2/ 527، والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 245 باب زيارة النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم. وقد صححه المصنف وقال على شرط مسلم في اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، تحقيق د. ناصر العقل 2/ 663 ، وابن القيم في عون المعبود 6/ 26 وقال ابن عبد الهادي في الصارم المنكي في الرد على السبكي، تحقيق أبي عبد الرحمن السلفي ص 188 - 197 (الطبعة الأولى 1412 هـ، الناشر مؤسسة الرياض بيروت - لبنان): واعلم أن هذا هو الذي اعتمد عليه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما من الأئمة في مسألة الزيارة، وهو أجود ما استُدل به في هذا الباب، ومع هذا فإنه لا يسلم من مقال في إسناده، ونزاع في دلالته أ. هـ. باختصار. وحسن الحديث الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 5/ 338، الطبعة الأولى 1412 هـ، الناشر مكتبة المعارف الرياض.

(3)

أخرجه ابن عبد البر في الاستذكار، تحقيق علي النجدي ناصف 1/ 334 (طبعة إحياء التراث الإسلامي - الجمهورية العربية المتحدة) باب جامع في الوضوء من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ولفظه: "ما من أحد مر بقبر أخيه المؤمن كان

إلا عرفه ورد عليه السلام"، ونقل المؤلف تصحيح عبد الحق الأشبيلي صاحب الأحكام في الفتاوى 24/ 331، وأخرجه أيضاً الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 6/ 137 ترجمة رقم 3175 (الطبعة الأولى 1409 هـ، الناشر مكتبة الخانجي - القاهرة والمكتبة العربية - بغداد) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه: "

إلا عرفه ورد عليه السلام"، وفيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.

وذكره الديلمي في الفردوس بمأثور الخطاب تحقيق السعيد بسيوني زغلول 4/ 19 رقم 6055 (الطبعة الأولى 1406 هـ، الناشر دار الكتب بيروت - لبنان) عن عائشة رضي الله عنهما ولفظه: "

يزور قبر حميمه فيسلم عليه ويقعد عنده إلا رد عليه السلام وآنس به حتى يقوم من عنده"، وفيه عبد الله بن سمعان. وأخرجه ولي الدين العراقي في جزء منتقى من حديثه، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي ص 226 - 227، مجلة الحكمة العدد الخامس في شهر شوال 1415 هـ.

وقال ابن رجب في أهوال القبور في أحوال أهلها إلى النشور ص 73 (الطبعة 1357 هـ =

ص: 227

رواه ابن عبد البر وصححه] (1).

لكن في مسألتهم أنواع من المفاسد منها إيذاؤهم له بالسؤال، ومنها إفضاء ذلك إلى الشرك، وهذه المفسدة توجد مع الموت دون الحياة، فإن أحدًا من الأنبياء والصالحين لم يُعبد في حياته، إذ هو ينهى عن ذلك، وأما بعد الموت فهو لا ينهى، فيفضي ذلك إلى اتخاذ قبره وثنًا يعبد، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تتخذوا قبري عيدًا"(2)، وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا

= مطبعة أم القرى مكة المكرمة): "أخرجه ابن عبد البر، وقال عبد الحق الأشبيلي: إسناده صحيح، يشير إلى أن رواته كلهم ثقات وهو كذلك إلا أنه غريب بل منكر". أ. هـ وضعف أيضاً حديث أبي هريرة وحديث عائشة.

ونقل العراقي في تخريج الإحياء 2/ 1229 رقم 4435، وابن عبد الهادي في الصارم المنكي ص 225: تصحيح الأشبيلي، ونص ابن عبد الهادي أنه في العاقبة.

قلت: ذكر الحديث عبد الحق الإشبيلي في كتاب العاقبة ص 120، تحقيق أبي عبد الرحمن المصري الأثري عدة طبعات، ولم أجد تصحيحه.

وقد ضعف الحديث ابن الجوزي والمناوي. انظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير، تأليف عبد الرؤوف المناوي 5/ 487 (الطبعة الأولى 1356 هـ، الناشر المكتبة التجارية - مصر).

وضعف طرق الحديث ابن عبد الهادي في الصارم المنكي ص 224 - 225 ما عدا حديث ابن عباس سكت عنه، وضعفه العلامة الألباني في حاشية الآيات البينات ص 70، وضعف بعض طرق الحديث الذهبي في السير 12/ 590 ومما سبق يتبين أن الحديث ضعيف من طرقه كلها، والله أعلم.

(1)

ما بين المعقوفين من (د) وسقط من الأصل و (ف) و (ح).

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 2/ 150 رقم 7542 من حديث علي بن حسين عن أبيه عن جده ولفظه: "لا تتخذوا

ولا بيوتكم قبورًا وصلوا علي حيث ما كنتم" ورقم 7543، وعبد الرزاق في مصنفه باب السلام على قبر النبي صلى الله عليه وسلم -3/ 577 رقم 6726، وأبو يعلى في مسنده 1/ 361 - 362 رقم 469.

وأخرجه أبو داود في (كتاب المناسك، باب زيارة القبور) 2/ 534 رقم 2042 ولفظه: "لا تجعلوا

"، وصحح النووي حديث أبي داود في الأذكار ص 172، تحقيق عبد القادر الأرنؤوط (الطبعة الثانية 1409 هـ دار الهدى - الرياض)، وأخرجه أيضاً أحمد في المسند 2/ 367، والقاضي في فضائل الصلاة على النبي ص 36 رقم 20 كلاهما بلفظ أبي داود. وسعيد بن منصور في سننه -كما في اقتضاء الصراط (2/ 302) - ولم أجده في المطبوع منها - وقال المصنف في اقتضاء الصراط 2/ 659 - 660 في حديث أبي داود: "وهذا إسناده =

ص: 228

يعبد" (1)، وقال غير واحد من السلف في قوله تعالى:{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)} [نوح: 23]: إن هؤلاء كانوا قومًا صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم (2)، ولهذا المعنى لعن النبي صلى الله عليه وسلم الذين اتخذوا قبور الأنبياء والصالحين مساجد، وأما النبي والصالح إذا (3) بنى له مسجدًا في

= حسن، فإن رواته كلهم ثقات مشاهير، لكن عبد الله بن نافع الصائغ الفقيه المدني صاحب مالك فيه لين لا يقدح في حديثه، وكل جملة من هذا الحديث رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد معروفة". أ. هـ. وقال أيضاً في 2/ 662 عن الإسناد المرسل لهذا الحديث:"وهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلين يدلان على ثبوت الحديث، لا سيما وقد احتج به من أرسله وذلك يقتضي ثبوته عنده". أ. هـ. وقد أطال الكلام على هذا الحديث، وقال شمس الدين السخاوي في القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع ص 155 (الطبعة الثالثة 1397 هـ المكتبة العلمية المدينة المنورة):"حديث حسن وله شاهد". أ. هـ. وقال العلامة الألباني في حاشية كتاب فضائل الصلاة على النبي للإمام إسماعيل القاضي المالكي ص 36 الطبعة الثالثة 1397 هـ، الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان:"حديث صحيح بطرقه وشواهده".

(1)

أخرجه الإمام مالك في الموطأ مرسلًا في (كتاب قصر الصلاة في السفر) 1/ 172، والحميدي في مسنده، باب الجنائز 2/ 445 رقم 1025 ولفظه: "

وثنا، لعن الله قوما اتخذوا أو (جعلوا) قبور أنبيائهم مساجد"، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، طبعة دار الكتب العلمية بيروت - لبنان، وأحمد في المسند 2/ 246 وعبد الرزاق في مصنفه مرسلًا 1/ 406 رقم 1587 ولفظه: "

وثنا يصلى إليه فإنه اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، وكذا ابن أبي شيبة 2/ 150 رقم 7544، وأبو سعيد المفضل المكي في فضائل المدينة تحقيق محمد الحافظ وغزوة بدر ص 39 رقم 52 (الطبعة الأولى 1405 هـ الناشر دار الفكر دمشق سوريا)، وأبو يعلى في مسنده 12/ 33 - 34 رقم 6681 ولفظه: "لا تجعلن قبري وثنًا، لعن الله قومًا اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، وابن سعد في الطبقات 2/ 241 - 242 وغيرهم. وصححه ابن عبد البر في التمهيد 5/ 42.

(2)

أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعدُ، أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع: كانت لهذيل، وأما يغوث: فكانت لمراد ثم لبني عطيف بالجوف عند سبأ، وأما يعوق: فكانت لهمدان، وأما نسر: فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، أسماء لرجال صالحين، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عُبدت"(كتاب التفسير، باب تفسير سورة نوح) 3/ 1572 رقم 4920، وانظر: أقوال السلف في تفسير الطبري في تفسير هذه الآية 12/ 253 - 254.

(3)

في (د)(إذ).

ص: 229

حياته يصلي فيه معه فهذا من أفضل الأعمال، فحكم الحياة يفارق حكم الممات، وذلك كما جاءت السنة بذلك.

فصل

قال: (ثم اعلم أنه من نفى الحقائق نفيًا عامًا يفهم به الإشارة للتوحيد وإفراد الباري بالقدرة عددناه من المنزهين، ولم نجعل ذلك إبطالًا للحكمة إذ الألفاظ يعتبر حكمها بما تفهم العقول منها بمقتضى الأوضاع والقرائن، ومن خص الرسول أو (1) الملائكة بنفي خاص، يُفهم منه طرح رتبتهم وعدم صلاحيتهم للأسباب فقد نقصهم بعبارته؛ وإن نوى معاني التوحيد، ولم يجعل الله لأحد تنقيص الرسول، وأجمع الخلف والسلف على وجوب تعظيمهم في الاعتقاد والأقوال والأفعال).

والجواب من وجوه:

أحدها: أن الجواب المذكور ليس فيه تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بالذكر بل قد صرح فيه بالعموم، وقيل فيه: من قال: لا يدعى إلا الله، وأن الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله فلا تطلب إلا منه، مثل غفران الذنوب، وهداية القلوب وإنزال المطر، وإنبات النبات ونحو ذلك، فهذا مصيب، ولذلك حيث ذكر هذا فلم يُذكر (2) إلا على وجه التعميم، فدعوى المدعي أن النبي صلى الله عليه وسلم والملائكة خصوا بالذكر كذب لا يحتاج إلى جواب.

الوجه الثاني: أن يقال التحقيق في هذا الباب؛ أنه إذا كان المنفي (3) لا يصلح لمخلوف؛ فذكرت الأنبياء والملائكة على سبيل تحقيق النفي العام، كان هذا من أحسن الكلام، وكان هذا من باب التنبيه، كما يقال لا تجوز العبادة إلا لله -تعالى- لا لملك مقرب ولا نبي مرسل، فينبه بنفيها عن الأعلى على انتفائها عمن هو دونهم بطريق الأولى، وكذلك إذا كان المخصوص بالذكر ممن قد حصل فيه غلو، كما يقال ليس في الصحابة معصوم، لا عليّ ولا غيره، وليس في النبيين إله لا المسيح ولا غيره، فهذا أحسن.

(1) في (ف)(واو).

(2)

في (د)(يذكره).

(3)

في (د) النفي.

ص: 230

فالمخصص إذا كان فيه فائدة مطلوبة كان حسنًا، ومنه قوله تعالى:{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)} [النجم: 19 - 26]، فنفى سبحانه أن تغني شفاعة الملائكة الذين في السماء إلا من بعد إذنه، تنبيهًا بذلك على [أن](1) من دونهم أولى أن لا تغني شفاعتهم، فإن المشركين كانوا يقولون عن الأصنام إنها تشفع لهم، قال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)} [يونس: 18] ، ولا يجوز أن يكون الكلام تنقيصًا بالملائكة، ولذلك قال تعالى:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)} [النساء: 171، 172]، فإنه لما كان الكلام في إثبات توحيد الله -تعالى- والنهي عن الغلو في الدين الذي فيه تشبيه المخلوق بالخالق، قال:{لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} ، بعد أن قال:{إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} وقال في الآية الأخري: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75]، فنسبه إلى أمه وهذا قد جرى في القرآن في غير موضع، فنسبه إلى أمه لينفي نسبته إلى غيرها، فلا ينسب إلى الله أنه ابنه؛ ولا إلى أب من البشر؛ لا كما زعمت

(1) كذا في (ف) و (ح) و (ط)، وسقطت من الأصل و (د).

ص: 231

النصارى الغالية فيه، ولا كما زعمت اليهود الكافرة به (1).

وأبلغ من هذا قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [المائدة: 17]، فذكر أهل الأرض جميعًا؛ وخص المسيح وأمه بالذكر؛ من أنه إن أراد إهلاكهم لن يملك أحد لهم منه شيئًا، لأن المسيح وأمه اتُخِذَا إلهين كما قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116]، فكان التخصيص بالذكر لنفي هذا الشرك والغلو الذي وقع في المسيح وأمه، ولم يكن ذلك من باب التنقيص بالمسيح وأمه، بل كان التخصيص لأجل أن الكلام وقع في ذلك المعين.

فالتخصيص للحاجة إلى ذكر المخصوص والعلم به؛ أو لأجل التنبيه به على ما سواه، ولهذا لا يكون التخصيص في هذا (2) مفهومه مخالفة، بنفي نقيض الحكم عن ما سواه، وهو الذي يسمى دليل الخطاب للتخصيص (3)، لم يكن للاختصاص بالحكم، وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ

(1) زعم اليهود أن عيسى عليه السلام ولد زنا، واتهموا أمه بزكريا وأنه كاذب في دعوى نبوته، ولذلك لقي جزاءه بالقتل، وقابلهم النصارى بزعم آخر وهو أنه إله، أو ابن إله واختلفوا في طبيعته، وهدى الله المسلمين للحق بإذنه فشهدوا بأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.

انظر: تاريخ الطبري (1/ 353)، وقصص الأنبياء لابن كثير ص 575.

(2)

في (د) هذه.

(3)

دليل الخطاب هو: إثبات نقيض حكم المنطوق به للمسكوت عنه. وأما نوع التخصيص الذي ذكره المؤلف هنا فهو فحوي الخطاب ويسمى تنبيه الخطاب، ومفهوم الموافقة، وهو نوعان: تنبيه بالأقل على الأكثر كقوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] فإنه نبه بالنهي عن قول أف على النهي عن الشتم والضرب وغير ذلك، والنوع الآخر تنبيه بالأكثر على الأقل مثل ما ذكره المؤلف. انظر: تقريب الوصول إلى علم الأصول، تأليف أبي القاسم محمد الغرناطي المالكي، تحقيق د. محمد المختار الشنقيطي ص 168 - 169، الطبعة الأولى 1414 هـ، الناشر مكتبة ابن تيمية القاهرة، ومكتبة العلم بجدة، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي، تعليق عبد الرزاق عفيفي رحمه الله 4/ 3، الطبعة الثانية 1402 هـ، الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان.

ص: 232

وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)} [آل عمران: 79، 80] فتخصيص الملائكة والنبيين بالذكر تنبيه على [من](1) دونهم، فإنه (2) لا يأمر باتخاذ الصالحين أربابًا بطريق الأولى.

ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمةٍ منه وفضل"(3)، فكان تخصيصه بالذكر لتحقيق العموم، وأن هذا النفي يتناول أفضل الخلق، فلا يظن أحدٌ غيره أنه يدخل الجنة بعمله.

وكذلك قوله في الحديث الصحيح: "ما منكم من أحدٍ إلا وقد وُكِّلَ به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن"، قالوا: وإياك يا رسول الله، قال: وإياي، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم" (4).

ومنه قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)} [الأنبياء: 26 - 29]، فذكر هذا الوعيد في الملائكة، وخصهم بالذكر، تنبيهًا على أن دعوى الإلهية لا تجوز لأحدٍ من المخلوقين لا ملك ولا غيره، وإنه لو قدر وقوع ذلك من ملك من الملائكة لكان جزاؤه جهنم، فكيف من دونهم! وهذا (5)

(1) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (ما).

(2)

في (د) أن.

(3)

أخرجه البخاري في (كتاب المرضى، باب نهي تمني المريض الموت) 4/ 1816 رقم 5673 ولفظه: "

بفضل ورحمه" وطرفه 6467، ومسلم في (كتاب صفات المنافقين، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله) 4/ 2169 رقم 2816 بألفاظ متقاربة، وأحمد في المسند 2/ 473 واللفظ له.

(4)

أخرجه مسلم في (كتاب صفات المنافقين، باب تحريش الشيطان) 4/ 2186 رقم 2814، وأحمد في المسند 1/ 401 واللفظ له من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وأخرجه غيرهم.

(5)

(وهذا) سقطت من (ف).

ص: 233

تخصيص إفراد الله بالآلهية، ومنه قوله تعالى في الأنبياء:{وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)} [الأنعام: 87، 88]، والأنبياء معصومون من الشرك والكفر (1)، ولكن المقصود بيان أن الشرك لو صدر من أفضل الخلق لأحبط عمله، فكيف بغيره؟.

وكذلك قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)} [الزمر: 65] مع أن الشرك منه ممتنع، لكن بيّن بذلك أنه إذا قدر وجوده كان مستلزمًا لحبوط عمل المشرك وخسرانه كائنًا من كان، وخوطب بذلك أفضل الخلق لبيان عظم هذا الذنب، لا لنقص (2) قدر المخاطب كما قال تعالى:{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)} [الحاقة: 44 - 47]، ليبيّن سبحانه أنه ينتقم ممن يكذب في الرسالة كائنًا من كان، وأنه لو قدر أنه غيّر الرسالة لانتقم منه، والمقصود نفي هذا التقدير (3) لانتفاء لازمه.

وكذلك قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24](ثم قال:)(4){وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} [الشورى: 24]، وفي الحديث المعروف:"إن الله لو عذب أهل سمواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم"(5)، فهذا من بيان عدل الرب وإحسانه وتقصير الخلق عن واجب

(1)(والكفر) سقطت من (ف).

(2)

(لا لنقص) سقطت من (د)، وفي (ف) و (ح)(لغض).

(3)

بياض في الأصل و (ف) بمقدار ثلاث كلمات وفي (د) و (ح) بمقدار كلمتين وليس في الجملة سقط.

(4)

ما بين القوسين سقط من (ف) و (د).

(5)

أخرجه أبو داود في (كتاب السنة، باب في القدر) 5/ 75 رقم 4699 بلفظ قريب وأوله: "قال ابن الديملي أتيت أُبيّ بن كعب فقلت له وقع في نفسي شيء من القدر

الحديث"، وابن ماجه في المقدمة، باب القدر 1/ 16 - 17 رقم 65 وأحمد في المسند 5/ 182، 185، 189 وغيرهم بألفاظ متقاربة وقريبة من لفظ المؤلف، وقد صححه الألباني في حاشية مشكاة المصابيح (1/ 117) الطبعة الثانية 1399 هـ، الناشر المكتب الإسلامي بيروت.

ص: 234

حقه؛ حتى الملائكة والأنبياء وغيرهم، وأنه لو عذبهم لم يكن ظالمًا لهم، فكيف بمن دونهم؟ وهذا باب واسع.

فمن غلا في طائفة من الناس؛ فإنه يُذكر له من هو أعلى منه ويبيّن أنه لا يجوز هذا الغلو فيه، فكيف يجوز الغلو في الأدنى؟ كما قال بعض الشيعة لبعض شيوخ أهل (1) السنة: تقول (2) إن مولانا أمير المؤمنين عليًا كان معصومًا، فقال: أبو بكر وعمر عندنا أفضل منه وما كانا معصومين.

وكما يقال لمن يعظّم شيخه أو أميره بأنه يطاع في كل شيء، وأنه لا تنبغي مخالفته، [فيقال] (3) له: أبو بكر أفضل منه، وقد قال:"أطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم، إنما أنا متبع ولست بمبتدع فإن أحسنت فأعينوني وإن زغت فقوِّموني"(4)، وكما ظن الغالي أن الصالحين لا يؤذيهم عدوهم، [ولا يجرحون](5) لاعتقاده أن ذلك نقص فيهم، وأنهم (6) قادرون علي دفع كل أذى، فيقال: أفضل الخلق محمد صلى الله عليه وسلم قد أوذي وقد جرح يوم أحد (7)، وذلك كرامة من الله -تعالى- ليعظم أجره ويزيده (8) رفعة بالصبر على الأذى في الله.

(1)(أهل) سقطت من (ف) و (د).

(2)

في (ف) نقول.

(3)

كذا في (ح) وفي الأصل و (ف) و (د)(فقال) وفي هامش الأصل (لعله فيقال).

(4)

أخرج ابن جرير أول الأثر عن أبي بكر رضي الله عنه في تاريخه 2/ 450، وكذلك ابن كتير في تاريخه 6/ 294، وقال ابن كثير: هذا إسناد صحيح، وآخره عند ابن جرير في 2/ 469 من قوله: "إنما أنا متبع ولست بمبتدع

"، وعند ابن كثير 6/ 296.

(5)

كذا في (د) و (ح) وفي الأصل و (ف) يخرجون، وما أثبت أعلاه هو الصواب للسياق.

(6)

في الأصل كرر أنهم.

(7)

في هامش (د) وكسرت رباعيته، قلت: يشير المؤلف رحمه الله إلى ما أخرجه البخاري عن سهل بن سعد وهو يسأل عن جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أما والله إني لا أعرف من كان يغسل جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم

(إلى أن قال) وكسرت رباعيته يومئذٍ، وجرح وجهه، وكسرت البيضة على رأسه) (كتاب المغازي، باب ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من الجراح يوم أحد) 3/ 1243 رقم 4075.

(8)

في هامش (د) الله بذلك.

ص: 235

[وكذلك](1) لو حلف حالف بشيخه، فقيل له: لا تحلف بغير الله؛ فمن حلف بغير الله فقد أشرك (2)، وكذلك إذا اعتقد معتقد بشيخه أنه يشفع لمريديه (3)، وأن له راية في الآخرة يُدْخِلُ تحتها مريديه (4) الجنة، فيقال له: المرسلون أفضل منه، وسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم إذا جاء يشفع يسجد بين يدي الله عز وجل، ويحمد ربه بمحامد، فيقال له:"ارفع رأسك وقل يسمع (5) وسل تعطه واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي، فيحد لي حدًا فأدخلهم الجنة"(6).

فهو صلى الله عليه وسلم لا يشفع إلا بعد يؤذن له، بل يبدأ (7) بالسجود لله والثناء عليه، ثم إذا أذن له في الشفاعة وشفع، حد له، حدًا يدخلهم الجنة، فليست الشفاعة مطلقة (8) في حقه، ولا يشفع إلا بإذن الله، فكيف يكون الشيخ إن كانت له شفاعة؟.

وكذلك إذا قيل عن بعض الشيوخ: إن قبره ترياق مجرب (9)، قيل له: إذا كانت قبور الأنبياء عليهم السلام ليست ترياقًا مجربًا فكيف تكون قبور الشيوخ؟.

وكذلك إذا قيل: إن الشيخ الميت يستسقى عند قبره، ويقسم به على الله، ويعرّف عنده عشية عرفة (10) ونحو ذلك، قيل له: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم

(1) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل لذلك.

(2)

هذا لفظ حديث أخرجه أبو داود في (كتاب الأيمان والنذور، باب في كراهية الحلف بالآباء) 3/ 570 رقم 3251، والترمذي في (كتاب النذور والأيمان، باب ما جاء في كراهة الحلف بغير الله) 4/ 110 رقم 1535 وزاد: "

كفر أو أشرك"، وقال حديث حسن، وأحمد في المسند 2/ 96، 125 من حديث ابن عمر رضي الله عنهما واللفظ له، وصححه الشيخ أحمد شاكر في شرح المسند 7/ 229، وجاسم الدوسري في النهج السديد ص 223 رقم 464.

(3)

في هامش (د) يوم القيامة.

(4)

في (ح)(مريده).

(5)

في (د) لك.

(6)

أخرجه البخاري في (كتاب الأنبياء، باب قوله عز وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} 5/ 2312 رقم 7410 وطرفاه: 3340، 4712، 3361، ومسلم في (كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها) 1/ 183 رقم 193 واللفظ لمسلم.

(7)

في هامش (د) أولا.

(8)

في (د) له مطلقًا.

(9)

في الأصل (أو أنه) وهي زائدة.

(10)

التعريف: هو اجتماع الناس عشية يوم عرفة في غير عرفة يفعلون ما يفعله الحاج =

ص: 236

سيد الخلق لم تستسقِ الصحابة -رضوان الله عليهم- عند قبره، ولا أقسموا به على الله، ولا عرّفوا عند قبره، فكيف غيره؟.

وكذلك إذا قيل: إنه يسجد لقبر الشيخ أو يُستلم ويُقبّل، قيل: إذا كان قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا يسجد له ولا يستلم ولا يقبّل باتفاق الأئمة (1)، فكيف بقبر غيره؟.

وكذلك إذا قيل: الموضع الذي كان الشيخ يصلي فيه لا يصلي فيه غيره احترامًا له، قيل له (2): إذا كان الصحابة صلوا في الموضع الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه، فكيف لا يصلي في موضع مصلى غيره؟ وهو أحق بالاحترام من كل أحد.

وكذلك إذا قيل: إن الشيخ الميت يدعى ويسأل ويستغاث به، قيل له (3): إذا كان الأنبياء بعد موتهم لا يدعون ولا يسألون ولا يستغاث بهم، فكيف [بمن دونهم](4)؟.

وإذا قيل: يُطلب من الشيخ كل شيء، فقيل: ما لا يقدر عليه إلا الله؛ لا يطلب من الأنبياء، فكيف يطلب ممن دونهم؟.

وقد ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ألفينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول (5): لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك (6)، لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة، فيقول: يا رسول الله: أغثني، فأقول: لا

= يوم عرفة من الدعاء والثناء. انظر: الباعث على إنكار البدع والحوادث، للعلامة أبي شامة الشافعي، تحقيق عادل عبد المنعم ص 48، وسيأتي بيان هذه البدعة والكلام عنها ص 307.

(1)

نقل هذا الإجماع الإمام النووي في الإيضاح في المناسك ص 160 - 161 الطبعة الثانية 1406 هـ، وقال الغزالي في إحياء علوم الدين 3/ 103: مس وتقبيل المشاهد من عادات اليهود والنصارى. أ. هـ. وقد ذكره غيرهم.

(2)

سقط من (ف) و (د).

(3)

سقط من (ف) و (د).

(4)

كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل: بغيرهم، وعليها إشارة للهامش وليس فيه شيء.

(5)

في (ف)(قد أبلغتك) وهي زيادة على نص البخاري.

(6)

في (د) و (ح) قد أبلغتك لا أملك لك من الله شيئًا.

ص: 237

أملك لك شيئًا قد أبلغتك (1) " (2)، أخرجاه.

فقد أخبر أنه يستغيث به أهل الغلول يوم القيامة فلا يغيثهم، بل يقول:[قد أبلغتكم](3) لا أملك لكم من الله شيئًا.

كما قال: "يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئًا، يا صفية عمة رسول الله لا أغنى عنك من الله شيئًا، يا عباس عم رسول الله لا أغني عنك من الله شيئًا (4) "(5).

وهذا النوع من الكلام يقال على وجه [العموم](6)، (تارة يقال: السجود لا يصلح إلا لله لا لنبي ولا لغيره) (7)، وتارة يقال: السجود لا يصلح للأنبياء، فكيف بمن دونهم، وتارة يقول السائل: هل أسجد للشيخ؟ فيقال له: الرسول لا يسجد له، فكيف يسجد للشيخ؟ فتارة يذكر الاسم العام ويخص الأفضل بالذكر تحقيقًا للعموم؛ وأنه لا يستثنى من هذا العموم أحدٌ؛ وإن كان أفضل.

كما يقال: مات الناس حتى الأنبياء، وتارة يذكر الأفضل ويعطف عليه غيره تحقيقًا للعموم، وتارة يختص الأفضل بالذكر تنبيهًا على من سواه، فهذا النمط من الكلام حيث ذكر الأفضل فيه فإنه لا يراد اختصاصه بالحكم، بل يراد به العموم؛ وتحقيق العموم، وأن هذا الحكم ثابت في حق الأفضل، فكيف من (8) دونه؟.

(1) في (د) و (ح) قد أبلغتك لا أملك لك من الله شيئًا.

(2)

أخرجه البخاري في (كتاب الجهاد والسير، باب الغلول) 2/ 944 رقم 3073 واللفظ له، ومسلم في (كتاب الإمارة، باب غلظ تحريم الغلو) 3/ 1461 رقم 1831.

(3)

كذا في (د)، وفي (ح)(أبلغتكم) وفي الأصل و (ف)(أبلغتك).

(4)

في (ف) سقط قوله: "يا عباس عم رسول الله لا أغني عنك من الله شيئًا".

(5)

أخرجه البخاري في (كتاب الوصايا، باب هل يدخل النساء والأولاد في الأقارب) 12/ 848 برقم 2753 وطرفه رقم 3527، ومسلم في (كتاب الإيمان، باب قول الله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} 1/ 192 برقم 206 بألفاظ متقاربة وقريبة من لفظ المؤلف.

(6)

ما بين المعقوفتين ليس في جميع النسخ، وفي (ح) بياض بمقدار كلمة، وقد أخذتها من تكرار المصنف لنفس المعنى في الكلام الذي بعدها بأسطر.

(7)

ما بين القوسين سقط من (د).

(8)

في (د) بمن.

ص: 238

وحينئذٍ فإذا قدر أن سائلًا سأل هل يستغاث بميت من الأنبياء والصالحين؟ فقيل له: لا [تستغث](1) بأحد منهم لا نبي ولا غيره، أو قيل: لا يستغاث بالنبي فكيف بمن دونه!! أو قيل: أفضل الخلق لا يستغاث به، أو نحو ذلك من العبارات التي يفهم منها عموم النفي، وأنه ذُكر الأفضل تحقيقًا للعموم، كان هذا من أحسن الكلام كما تقدم.

كما إذا قيل: لا يُسجد لقبره ولا يتمسح به ولا يقبل، ولا يتخذ وثنًا يعبد ونحو ذلك.

وكذلك لو كان الخطاب ابتداءً في سياق التوحيد ونفي خصائص الرب عن العبد، فقيل: ما لا يقدر عليه إلا الله لا يطلب إلا منه لا من نبي ولا غيره، أو قيل: لا يستغاث فيه بالنبي، فكيف من دونه أو نحو هذا الكلام كان حسنًا.

فالاستغاثة المنفية نوعان: أحدهما: الاستغاثة بالميت مطلقًا في كل شيء.

والثاني (2): الاستغاثة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الخالق.

فليس لأحد أن يسأل غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله لا نبيًا ولا غيره، ولا يستغيث بمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الخالق، وليس لأحد أن يسأل ميتًا؛ أو يستغيت به في شيء من الأشياء؛ سواء كان نبيًا أو غيره، وإذا كان كذلك فجميع ما وقع هو من هذا الباب، ولم يفهم أحد من الخلق شيئًا إلا هذا.

الوجه الثالث: قوله: (من نفى الحقائق نفيًا عامًا يفهم به الإشارة للتوحيد، وإفراد الباري بالقدرة، عددناه من المنزهين؛ ولم (3) يجعل ذلك إبطالًا للحكمة، ومن خص الرسول أو الملائكة بنفي خاص، يفهم من طرح رتبتهم وعدم صلاحيتهم للأسباب، فقد نقصهم بعبارته وإن نوى معاني التوحيد).

يقال له: أولًا قولك: عددناه من المنزهين، عبارة في غير موضعها، بل حقه أن يقال: من الموحدين، فإن التنزيه نفي النقائص عن الله عز وجل ، وأما (4) الإشارة إلي التوحيد وإفراده بالقدرة فيسمى توحيدًا.

(1) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (يستغيث).

(2)

في (د) الثانية.

(3)

في (د) فلم.

(4)

في (ف)(فأما).

ص: 239

ويقال له: قولك: (خصهم بنفي خاص يفهم منه طرح رتبتهم وعدم صلاحيتهم للأسباب) كلام مجمل؛ فماذا تريد به؟ أتريد به عدم صلاحيتهم للأسباب التي أثبتها الله -تعالى- لهم، مثل عدم صلاحية الملائكة للنزول بالوحي والعذاب وتدبير (1) العالم، وعدم صلاحية الرسول لتبليغ رسالة (2) الله ونحو ذلك، مما أثبته الله لهم، أو عدم صلاحيتهم لما اختص الرب تبارك وتعالى[به](3) مثل أن يطلب منهم الأمور التي لا يقدر عليها غيره، وعدم صلاحيتهم لكونهم يُسألون ويدعون بعد موتهم، أو يطلب منهم كما يطلب من الله.

فإن عنيت الأول فقائله أعظم جرمًا من أن يقال: نقصهم بعبارته، إذ قد يكون كافرًا، مثل أن يتضمن نفيه جحد رسالة الرسول، أو جحد نزول الملائكة عليه بالوحي، أو جحد ما يدخل في الإيمان من الإيمان بالملائكة، ولكن ما نحن فيه ليس من هذا الباب.

وإن أردت الثاني فليس في نفي خصائص الربوبية عن المخلوق نقص له يجب تنزيهه عنه، فضلًا [عن](4) أن يجب نفيه عنه، فمن قال: لا إله إلا الله لم يكن قد نقص الملائكة والأنبياء بنفي الآلهية عنهم، (ومن قال: إن الملائكة والأنبياء) (5) ليسوا أربابًا ولا آلهة ولا يعبدون ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، كان (6) قد نفى عنهم ما يختص به الرب تبارك وتعالى ولم ينف عنهم (ما هم أسباب فيه)(7)، وإنما يكون نافيًا للأسباب إذا قال: لا شفاعة لهم ولا يشفعون لأحد ولا يدعون لأحد، أو دعاؤهم لا ينفع أحدًا، فهذا (8) باطل بل كفر، أو قال إنه لا يتوسل إلى الله بالإيمان بهم ومحبتهم

(1) في (ف)(تدبّر).

(2)

في (ف) و (د) و (ح) رسالات.

(3)

كذا في (د) و (ح)، وسقطت من الأصل و (ف).

(4)

كذا في (ف) و (د) و (ح) وسقطت من الأصل.

(5)

ما بين القوسين سقط من (د) وعليه إشارة للهامش وليس فيه شيء.

(6)

في (ف)(كما).

(7)

ما بين القوسين سقط من (د)، وفي (ط) الأسباب.

(8)

في (د) فهو.

ص: 240

وطاعتهم، أو لا يتوسل إليه بدعائهم وشفاعتهم فهذا باطل بل كفر.

وهذا المفتري لما قال إنه يجوز أن يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل، ما يستغاث بالله فيه؛ وأن ذلك صحيح في حق النبي والصالحين، وقال:(إن كل من توسل إلى الله بنبيه في تفريج كربة؛ فقد استغاث به سواء كان حيًا أو ميتًا، وإن من سأله وطلب منه فقد استغات به، فاقتضى ذلك أنه يطلب منه حيًا وميتًا كل شيء، كما (1) يطلب من الله (2)، (ويطلب بالتوسل به حيًا وميتًا كل (3) ما يطلب من الله، وأن ذلك ثابت للصالحين أيضاً)، اقتضى كلامه أنه يطلب من المخلوق حيًا وميتًا كل ما يطلب من الخالق سبحانه وتعالى) (4).

ومعلوم (5) أن هذا الذي قاله لو كان حقًا لم يجز نفي الاستغاثة به بوجه من الوجوه، كما لا يجوز نفي شفاعته التي أثبتها الله، ونفي استشفاع الناس به يوم القيامة كما نطقت به (6) النصوص، ونفي توسل الصحابة بشفاعته ودعائه في الدنيا.

فمن قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشفع لأحد ولا يستشفع به، وإنه لم تكن الصحابة يستشفعون به فهو مفتر كذاب؛ بل هو كافر بعد قيام الحجة عليه.

وأما من قال: إنه لا يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله، أو قال إنه لا يسأل بعد موته كما كان يسأل في حياته فهذا قد أصاب؛ فأين هذا من هذا!!.

وأما من قال: إنه لا يقسم على الله بمخلوق ولا يتوسل بميت ولا يُسأل بذات مخلوق، فإن الصحابة إنما توسلوا بدعائه وشفاعته، ولما مات لم (7) يتوسلوا بدعائه ولشفاعته ولم يتوسلوا بذاته، ولم ينقل عن أحد من السلف أنه توسل إلى الله بميت [في دعائه](8)، ولا أقسم به عليه.

(1) في (د)(ما) بدون (كاف) وفي الهامش: "ويطلب بالتوسل به حيًا وميتًا".

(2)

في (د) الخالق سبحانه وتعالى.

(3)

في (ف)(شيء) عليها أثر شطب خفيف.

(4)

ما بين القوسين سقط من (د).

(5)

بياض في (ف) بمقدار كلمتين.

(6)

في (د) إشارة للهامش وفيه: "وأن ذلك ثابت للصالحين أيضاً"، ثم كلمة غير واضحة.

(7)

(لم) سقطت من (ف) و (د) و (ح).

(8)

كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (بدعائه).

ص: 241

وهكذا قد قال أبو حنيفة وأبو يوسف (1) وغيرهما: إنه لا يجوز أن يقال: أسألك بحق الأنبياء، وكذلك قال أبو محمد ابن عبد السلام (2): إنه لا يقسم عليه بحق الأنبياء وتوقف في نبينا صلى الله عليه وسلم لظنه أن ذلك خبر (3) يخصه، وليس كذلك.

فهذا وإن كان مصيبًا ففيه نزاع؛ فقد نقل عن بعض العلماء أنه لا يجوز أن يتوسل إلى الله به بعد موته، ونُقل ذلك (4) في منسك الحج الذي نقله المروذي (5) عن الإمام أحمد.

وقد تنازع العلماء في القسم به، هل ينعقد به على قولين أشهرهما: أنه لا ينعقد اليمين به، وهو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة [وأحد](6) القولين في مذهب أحمد، والثاني تنعقد به اليمين وهو الرواية الأخرى عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه، وعلى هذه الرواية فهل الحلف يختص به؛ أو يُحلف بسائر الأنبياء؟ على وجهين أشهرهما الأول، والثاني ذكره ابن عقيل وغيره.

(1) هو: يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري الكوفي، البغدادي، صاحب أبي حنيفة وتلميذه، صاحب حديث وسنة تولى القضاء، ولُقب بقاضي القضاة، صنف "الخراج" و"الآثار" وغيرهما، وهو الذي استتاب بشرًا المريسي توفي سنة 182 هـ. انظر: السير 8/ 535 ترجمه رقم 249، والأعلام 8/ 193 وقد سبق الكلام على هذه المسألة في ص 225.

(2)

هو عز الدين أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام السلمي الدمشقي، اشتهر بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، انتهت إليه رئاسة الشافعية، له "القواعد الكبرى والصغرى" وغيرها توفي 660 هـ. انظر: البداية والنهاية 13/ 264، والأعلام 4/ 21.

ونص فتواه قال: "لما ذكر حديث الأعمى (وسيأتي تخريجه والكلام عليه) وهذا الحديث إن صح فينبغي أن يكون مقصورًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه سيد ولد آدم، وأن لا يقسم على الله بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء". أ. هـ فتاوى العز بن عبد السلام خرج أحاديثه عبد الرحمن عبد الفتاح ص 126 - 127 الطبعة الأولى 1406 هـ، الناشر دار المعرفة بيروت - لبنان.

(3)

في (د)(خيرًا).

(4)

(ذلك) سقطت من (د).

(5)

في (د) المروزي والصواب المروذي بالذال وسبق التعريف به في ص 192.

(6)

كذا في جميع النسخ، وفي الأصل "أحدى" وهو خطأ.

ص: 242

فقد يقال: إن التوسل به والإقسام على الله به [هو](1) من جنس الحلف به، فيكون النزاع في هذا كالنزاع في هذا (2).

والصواب ما عليه الجمهور من أنه لا تنعقد اليمين بمخلوق لا النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره (3).

ولكن لم يسم (4) أحد من الأمم هذا استغاثة، فإن الاستغاثة به (5) طلب منه لا طلب به، وهذا اعتقد جواز هذا بالإجماع وسماه استغاثة، فلزم جواز الاستغاثة به بعد موته بالإجماع (6)، فإذا (7) جاز أن يتوسل به في كل شيء جاز أن يستغاث به في كل شيء، ثم إنه لم يجعل هذا وحده معنى الاستغاثة؛ بل جعل الاستغاثة الطلب منه أيضاً، وكان لا يميز (8) بين هذا المعنى وهذا المعنى، بل يجوز عنده أن يستغيث به في كل ما يستغاث الله فيه؛ على معنى أنه وسيلة من وسائل الله في طلب الغوث، وهذا عنده ثابت للصالحين.

(1) كذا في (د) و (ح) ، وسقطت من الأصل و (ف).

(2)

فرق المؤلف رحمه الله بين التوسل والإقسام، فقال: إن السائل متضرع ذليل يسأل بسبب يناسب الإجابة، والمقسم أعلى من هذا فإنه طالب مؤكد طلبه بالقسم. انظر: التوسل والوسيلة ص 115.

(3)

وقد قال بهذا الأئمة من المذاهب الأربعة، قال به ابن قدامة المقدسي من الحنابلة في المغني 11/ 209 وبهامشه الشرح الكبير، والقدوري من الحنفية: كما في اللباب في شرح الكتاب، تأليف عبد الغني الحنفي، تحقيق محمود أمين النواوي 4/ 5 طبعة دار الحديث، والاختبار لتعليل المختار تأليف عبد الله الموصلي الحنفي، تعليق الشيخ محمود أبو دقيقة 4/ 51 الطبعة الثالثة 1395 هـ الناشر دار المعرفة.

وأبو عمر من المالكية في التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، تحقيق عبد الله صديق 14/ 367 - 368، وابن حجر من الشافعية في فتح الباري 11/ 651 - 652.

(4)

في (ف)(يسمه) وفي (د) فوق السطر (يسمى).

(5)

(به) سقطت من (ف).

(6)

من هنا يبدأ فراغ في وسط السطر في (ف) بمقدار ثلاث كلمات تقريبًا، في عدة أسطر، وليس في الكلام سقط.

(7)

في (ف) وإذا.

(8)

هنا انتهى الفراغ في أسطر (ف).

ص: 243

والاستغاثة طلب الغوث [كالاستعانة](1) والانتصار، وذلك ثابت في حياته، وهو ثابت عند هذا الضال بعد موته (2) بثبوتها في حياته، لأنه عند الله في مزيد دائم لا ينقص جاهه، فدخل عليه الخطأ من وجوه (3): منها: أنه جعل المتَوسِّل به بعد موته في الدعاء مستغيثًا به، وهذا لا يعرف في لغة أحد من الأمم لا حقيقة ولا مجازًا؛ مع دعواه الإجماع على ذلك، وأن المستغاث به هو المسؤول المطلوب منه لا المسؤول به.

والثاني: ظنه أن توسل الصحابة به في حياته كان توسلًا بذاته لا بدعائه وشفاعته؛ فيكون التوسل به بعد موته كذلك، وهذا غلط يوافقه عليه طائفة من الناس؛ بخلاف الأول فإني ما علمت أحدًا وافقه عليه.

الثالث: أنه أدرج سؤاله أيضاً في الاستغاثة وهذا صحيح جائز في حياته، وهو قد سوى في ذلك بين محياه ومماته، وهنا أصاب في لفظ الاستغاثة؛ لكنه أخطأ في التسوية بين المحيا والممات، وهذا ما علمته ينقل عن أحد (4) من العلماء؛ لكنه موجود في كلام بعض الناس مثل الشيخ يحيى الصرصري (5)، ففي شعره قطعة منه، والشيخ محمد بن

(1) كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل و (ف) كالاستغاثة.

(2)

في (د): موتها.

(3)

في هامش الأصل: (جاعلها في الأصل الخطاب ولا أظن ذلك)، قلت: لعله يقصد كلمة الخطأ.

(4)

(أحد) سقطت من (د).

(5)

هو أبو زكريا، جمال الدين يحيى بن يوسف بن يحيى الأنصاري، من أهل صرصر (قرية قرب بغداد) شاعر له منظومات في الفقه والعقيدة وغيرها منها:"المنتقى في مدائح الرسول صلى الله عليه وسلم، و"عقيدة" وغيرها، قاتل التتار يوم دخلوا بغداد بعكازه، فقتلوه سنة 656 هـ. انظر: البداية والنهاية 13/ 239، والأعلام 8/ 177 ومن شعره الذي أشار له شيخ الإسلام ابن تيمية قوله في قصيدته اللامية:

يا رسول الله يا من مدحه

من القوافي أقوم الألفاظ قيلا

مسَّني ضرُّ عناه ثابت

من ذنوب غادرت قلبي كليلا

إلى غير ذلك مما قاله، وقد استشهد بشعره النبهاني في كتابه: شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق، وغيره من القائلين بالاستغاثة بالمخلوق، كما سبقهم إلى ذلك البكري كما أشار المؤلف، وقد أول بعضهم بعض أقواله، لكن بعض شعره تأويله مشكل. انظر: غاية الأماني في الرد على النبهاني، للألوسي 2/ 342 - 345.

ص: 244

النعمان (1) كان له كتاب: "المستغيثين بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والمنام"، وهذا الرجل قد نقل [منه](2) فيما يغلب على ظني، وهؤلاء لهم صلاح ودين؛ لكنهم ليسوا من أهل العلم العالمين بمدارك الأحكام؛ الذين يؤخذ بقولهم في شرائع الإسلام ومعرفة الحلال والحرام، وليس معهم دليل شرعي؛ ولا نقل عن عالم مرضي، بل عادة جروا عليها كما جرت عادة كثير من الناس بأنه يستغيث بشيخه في الشدائد ويدعوه.

وكان بعض الشيوخ الذين أعرفهم وله فضل وعلم وزهد؛ إذا نزل به أمر خطا إلى جهة الشيخ عبد القادر (3) خطوات معدودة واستغاث به، وهذا يفعله كثير من الناس وأكبر منه، [ومنهم](4) من يأتي إلى قبر الشيخ يدعوه، [ويدعو به](5) ويدعون (6) عنده، وهؤلاء ليس لهم مستند شرعي من كتاب أو سنة أو قول عن الصحابة والأئمة، وهؤلاء ليس عندهم إلا قول طائفة من الشيوخ: إذا كانت لكم حاجة فاستغيثوا [بي](7)، وتعالوا إلي قبري ونحو ذلك؛ مما فيه تصويبه لأصحابه بالاستغاثة به حيًا وميتًا، ومعهم قول طائفة

(1) انظر: المقدمة ص 47.

(2)

كذا في (ف) و (د) وفي الأصل (فيه) وفي (ح)(عنه).

(3)

هو محيي الدين أبو محمد، عبد القادر بن أبي صالح عبد الله بن جنكي دوست الجيلي أو الجيلاني، تنتسب إليه الطريقة القادرية، عليه مأخذ في بعض أقواله، وبعض ذلك مكذوب عليه، له:"الغنية لطالب طريق الحق" وغيرها. توفي في بغداد سنة 561 هـ. انظر: سير 20/ 439 ترجمة رقم 286، والأعلام 4/ 47.

وانظر هذه الحكايات الباطلة في: "بهجة الأسرار ومعدن الأنوار" لنور الدين الشنوطي ت 713 هـ، نقلًا عن دراسات في التصوف تأليف إحسان إلهي ظهير ص 249 وما بعدها، الطبعة الأولى 1409 هـ، الناشر إدارة ترجمان السنة لاهور - باكستان.

(4)

بياض في جميع النسخ بمقدار كلمتين، وفي هامش الأصل:(بياض في الأصل) وما بين المعقوفين من (ط).

(5)

كذا في (ف) وفي، (د) و (ح)(ويدعوا)، وفي الأصل (ويدعونه)، وفي الهامش: لعله (ويدعوا به).

(6)

في (ف) و (د) و (ح) يدعوا.

(7)

كذا في (د) و (ح) وفي الأصل و (ف) به وفي هامش الأصل لعله: "فاستغيثوا بي".

ص: 245

أخرى: قبر معروف أو غيره ترياق مجرب، والدعاء عند قبر الشيخ (1) مجاب ونحو ذلك، ومعهم أن طائفة من الناس استغاثوا بحي أو ميت فرأوه قد أتى في الهواء وقضى بعض تلك الحوائج وأخبر ببعض ما سئل عنه.

وهذا كثير واقع في المشركين الذين يدعون الملائكة والأنبياء أو (2) الصالحين أو (3) الكواكب والأوثان، فإن الشياطين كثيرًا ما تتمثل لهم فيرونها قد تخاطب أحدهم ولا يراها.

ولو ذكرت ما أعلم من الوقائع الموجودة في زماننا من هذا لطال (4) المقام، وكلما كان القوم أعظم جهلًا وضلالًا كانت هذه الأحوال الشيطانية عندهم أكثر، وقد يأتي الشيطان أحدهم بمال أو طعام أو لباس أو غير ذلك، وهو لا يرى أحدًا أتاه به، فيحسب ذلك كرامة؛ وإنما هي من الشيطان، وسببه شركه بالله وخروجه عن طاعة الله ورسوله إلى طاعة [الشياطين](5)، فأضلتهم الشياطين (6) بذلك كما كانت تضل عُباد الأصنام، ومثل هذه الأحوال لا تكون من كرامات أولياء الله المتقين.

ثم انقسموا حزبين: حزبًا رأوا فيمن (7) يفعلها من الكفر والفسوق والعصيان ما يخرجه عن كونه من أولياء الله المتقين، (وكذبوا بما ينقل عنه من ذلك، وحزبًا رأوا ذلك منه أو يثبت بالنقل المتواتر عن واحد أو عدد من ذلك ما يوجب حصول مثل ذلك لهؤلاء، فيظنون أنهم من أولياء الله المتقين)(8).

ثم من هؤلاء من يقول: من أولياء الله من له طريق إلى الله غير مبايعة الرسل، ومن هؤلاء من يفضل كثيرًا من الأولياء على الأنبياء، ومنهم من يقول: هؤلاء يتصرفون بالقدر (9) والمشيئة تصرفًا خرجوا به عن حكم وجوب

(1) في (ط) زاد الناسخ كلمة (فلان) وجعلها بين معقوفين، وهي شرح للمعنى.

(2)

(أو) في (د) و (ح) واو.

(3)

(أو) في (د) واو.

(4)

في (د) و (ح)(لطال هذا).

(5)

كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل شيطان.

(6)

في (ف) الشيطان.

(7)

في (د) فيما.

(8)

ما بين القوسين ساقط من (د).

(9)

في (د) القدرة.

ص: 246

طاعة الأنبياء عليهم، وصاروا غير مكلفين بأمر الأنبياء ونهيهم.

ويذكرون حكايات يظنونها صدقًا، منها أن أهل الصفة قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم مع الكفار لما [انهزم](1) بعض أصحابه يوم أحد وحنين، فقال لهم: يا أصحابي أين تذهبون وتدعوني؟ فقالوا: نحن مع الله، من كان الله معه كنا معه.

ومرادهم أن كل من معه القدر كانوا معه؛ وإن كان كافرًا أو فاسقًا؛ من غير نظر في العاقبة ولا في وعد الله ووعيده.

ويذكرون ما هو أعظم كفرًا من هذه الحكاية، وهو أن الله -تعالى- أطلع رسوله على سر (2) ليلة المعراج وأمره أن لا يخبر به أحدًا، وأنه رأى أهل الصفة يتكلمون به، فقال لهم: من أين لكم هذا؟ فقالوا: أخبرنا الله به، فقال: يا رب ألم تأمرني أن أكتم هذا السر؟ فقال: أنا أمرتك أن تكتمه، وأنا أخبرهم به.

وقد ذكر لي هذه الأمور غير واحد من كبار شيوخ هؤلاء عن غير واحد من شيوخهم (3)؛ فبيّنت لهم كذب هذا، حتى قلت لبعضهم: الصفة إنما كانت بالمدينة، والمعراج كان بمكة فلم يكن ليلة المعراج أحد يُذكر أنه من أهل الصفة (4).

وأعظم من هذا كفرًا ما يذكره بعضهم أن الله أمر نبيه بزيارة أهل الصفة، وأنه ذهب ليزورهم فلم يفتحوا له الباب، وقالو له: اذهب إلى من أرسلت إليه فإنه لاحاجة لنا بك، وأنه عاد إلى ربه فأمره أن يذهب إليهم ويتأدب معهم؛ ويقول: خادمكم محمد جاء ليزوركم (5)، ونحو هذه الكفريات التي لا يقولها إلا من هو أبعد الناس عن الإيمان بالله ورسوله.

(1) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (نهزم) بدون همزة.

(2)

في هامش (د) سر الأسرار.

(3)

في هامش (د) شيوخهم الكبار.

(4)

في هامش (د) في نسخة: "فلم يكن ليلة المعراج أحد يعرف الصُّفَّة ولا أهلها، والصُّفَّة إنما كانت بمسجد المدينة، والمسجد إنما بني بعد الهجرة، والهجرة كانت بعد المعرج بمدة".

(5)

في هامش الأصل (سبحان الله ما أعظم هذه الفرية، ومن أكفر ممن اعتقد هذا، أعوذ بالله من زيغ القلوب ورين الذنوب)، وفي هامش (د) في نسخة:(وكل هذا كفر من قائله ومعتقده فإن هذه)[كذا].

ص: 247

ومع هذا فهي أصحابها من حقائق العارفين وأسرار أولياء الله المصطفين خواص الرب، الذين هم أفضل من الأنبياء والمرسلين عند أصحابهم هؤلاء الكفار، الذين هم أكفر من اليهود والنصارى.

فهذه حكايات في آثار حصلت لبعض من استغاث ببعض المخلوقين الميتين والغائبين، وعندهم عادات وجدوا عليها سلفهم [ممن](1) كان له نوع من العلم والعبادة والزهد، فليس معهم بذلك حديث يروى، ولا نقل عن [صحابي](2) ولا تابعي ولا قول إمام مرضي.

ولهذا لما نُبه من نُبه من فضلائهم على ذلك تنبهوا وعلموا أنّ ما كانوا عليه ليس من دين الإسلام؛ بل هو مشابهة لعباد الأصنام.

لكن هؤلاء كلهم ما فيهم من يَعُدُّ نفي هذا والنهي عنه كفر؛ إلا مثل هذا الأحمق الضال، الذي حاق به وبيل النكال فإنه من غلاة أهل البدع الذين يبتدعون القول ويكفرون من خالفهم فيه، كالخوارج والروافض والجهمية، فإن هذا القول الذي قالوه لم يوافقهم عليه أحد من علماء المسلمين الأولين والآخرين.

وقد طاف بجوابه علي علماء مصر ليوافقه واحد منهم فما وافقوه، وطلب منهم أن يخالفوا الجواب الذي كتبته فما خالفوه، وقد كان بعض الناس يوافقه على جواز التوسل بالنبي الميت؛ لكنهم لم يوافقوه على تسميته استغاثة، ولا على كفر من أنكر الاستغاثة به (3)، ولا جعلوا هذا السبب، بل عامتهم وافقوا على منع الاستغاثة به؛ بمعنى أن يطلب منه ما لا يقدر عليه.

(1) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (فمن).

(2)

كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل و (ف)(صاحب) وهي صحيحة، ولكن ما أثبت أعلاه موافق لما بعدها.

(3)

في الأصل "بمعنى أنه يطلب منه" ومشطوب عليه، قال الألوسي عن المؤلف لما نقل إجماع علماء مصر في زمنه: وهو ثقة فيما يحكيه بالإجماع. أ. هـ غاية الأماني في الرد على النبهاني 2/ 348.

وانظر: المقدمة ص 22، فقد عقد للشيخ مجلس في شوال سنة 707 هـ في قضية الاستغاثة ولم يثبت عليه شيء.

ص: 248

وما علمت عالمًا نازع في أن الاستغاثة بالنبي وغيره من المخلوقين بهذا المعنى لا تجوز، مع أن قومًا كان لهم غرض (1) وفيهم جهل بالشرع قاموا في ذلك قيامًا عظيمًا، واستعانوا بمن كان له غرض من ذوي السلطان، وجمعوا الناس؛ وعقدوا مجلسًا عظيمًا ضل فيه سعيهم، وظهر فيه جهلهم، وخاب فيهم قصدهم، وظهر فيه الحق لمن كان يعاونهم من الأعيان؛ وتمنوا أن ما فعلوه ما كان، لأنه كان سببًا لظهور الحق مع الذي عادوه وقاموا عليه وسببًا لانقلاب [الخلق](2) إليه، وكانوا كالحافر (3) حتفه بظلفه، والجادع مارن (4) أنفه بكفه، مع فرط [عصبيتهم](5) وكثرة جمعهم وقوة سلطانهم ومكايدة شيطانهم.

وهذه الطريقة التي سلكها هذا وأمثاله هي لطريقة أهل البدع؛ الذين يجمعون بين الجهل والظلم، فيبتدعون بدعة مخالفة للكتاب والسنة وإجماع الصحابة ويكفّرُون من خالفهم في بدعتهم، كالخوارج المارقين الذين ابتدعوا ترك العمل بالسنة المخالفة في زعمهم للقرآن، وابتدعوا التكفير بالذنوب، وكفّروا من خالفهم حتى كفّروا عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب ومن والاهما من المهاجرين والأنصار وسائر المؤمنين.

نقل الأشعري في كتاب المقالات أن الخوارج مجمعة على تكفير علي رضي الله عنه (6).

وكذلك الرافضة ابتدعوا تفضيل علي على الثلاثة وتقديمه في الإمامة والنص عليه، ودعوى (7) العصمة له، وكفّروا من خالفهم، وهم جمهور

(1) في هامش (د) في نسخة: "غرض وهوى من ذوي السلطان".

(2)

كذا في (د) وفي الأصل و (ف) و (ح) الحق.

(3)

في (ف) كالحامل.

(4)

المارن هو ما دون قصبة الأنف، وهو ما لان منا،، والجمع مَوَارِن. المصباح المنير ص 217 مادة (مرن).

(5)

كذا في (ح) وفي الأصل و (د) عصبهم، وفي (ف) عصبتهم.

(6)

انظر: مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري (1/ 167)، وزاد: وهم مختلفون: هل كفره شرك أم لا؟.

(7)

في (ف)(وادعوا).

ص: 249

الصحابة وجمهور المؤمنين حتى كفّروا أبا بكر وعمر وعثمان ومن تولاهم (1)، هذا الذي عليه أئمتهم (2).

وكذلك الجهمية ابتدعت نفي الصفات المتضمن في الحقيقة لنفي الخالق ونفي صفاته وأفعاله وأسمائه؛ وأظهرت القول بأنه لا يرى؛ وأن كلامه مخلوق خلقه في غيره لم يتكلم هو بنفسه وغير ذلك، ثم إنهم امتحنوا الناس فدعوهم إلى هذا وجعلوا يكفّرون من لم يوافقهم على ذلك.

وكذلك القدرية ابتدعت التكذيب بالقدر؛ وأنكرت مشيئة الله النافذة وقدرته التامة وخلقه لكل شيء، وكفّروا أو [منهم](3) من كفّر من خالفه.

وكذلك الحلولية والمعطلة [للذات](4) والصفات يُكفر [كثير](5) منهم من خالفهم، فالذين يقولون: إنه بذاته في كل مكان منهم من يكفّر من خالفه، والذين يقولون: إنه لا مباين للمخلوقات ولا حال (6) فيها فمنهم من يكفّر من خالفه (7).

والذين يقولون ليس كلامه إلا معنًى واحد قائمًا بذاته، ومعنى التوراة والإنجيل (والقرآن واحد)(8)، والقرآن العزيز ليس هو كلامه؛ بل كلام جبرائيل (9) أو غيره، فمنهم من يُكفّر من خالفه.

(1) في (د) توليهم.

(2)

انظرت التنبيه والرد ص 45، ومقالات الإسلاميين 1/ 89، بل إنهم كفّروا الزيدية وهم منهم، ومعاصروهم يصرحون بهذا. انظر: أصول مذهب الشيعة الإمامية، تأليف د. ناصر القفاري 2/ 716 وما بعدها الطبعة الثانية 1415 هـ.

(3)

كذا في (ط) وفي جميع النسخ تأخرت الكلمة هكذا (أو من كفر منهم من) ولا يصح لها معنى.

(4)

كذا في (د) و (خ) وفي الأصل و (ف) في الذات.

(5)

كذا في (ح) و (د) و (ف)، وفي الأصل كثيرًا.

(6)

في (د) و (ح) ولا عال عليها.

(7)

في هامش الأصل (قلتُ: العجب ممن نجا كيف نجا ليس العجب من هلك كيف هلك، ولهذا لم يقنع من قريش بعبادة الأصنام حتى صيّرهم مجانين يطوفون بالبيت عراة الرجال والنساء).

(8)

ما بين القوسين سقط من (د).

(9)

في (ف) و (د) و (ح) جبريل، وهذا هو مذهب الكلَّابية والأشاعرة والماتريدية. انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 12/ 376 - 377 وشرح المقاصد 4/ 152 =

ص: 250

والذين يقولون بقدم بعض أحوال العبد، كالذين يقولون بقدم صوته بالقرآن أو قدم بعض أفعاله أو صفاته، وقدم أشكال المداد، فمنهم من يكفّر من خالفه (1).

بل والذين يقولون بقدم روح العبد أو بقدم كلامه مطلقاً أو قدم أفعاله الصالحة أو (2) أفعاله مطلقاً، فمنهم من يكفّر من خالفه.

والذين يقولون إن الله يُرى بالأعين في الدنيا (3)، منهم من يُكفّر من خالفه. والذين يُهينون المصحف وربما كتبوه بالنجاسة فمنهم من يُكفّر من خالفه، ونظائر هذا متعددة.

وأئمة السنة والجماعة وأهل العلم والإيمان؛ فيهم العلم والعدل والرحمة؛ فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسنة سالمين من البدعة، ويعدلون على من خرج منها ولو ظلمهم، كما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)} [المائدة: 8]، ويرحمون الخلق فيريدون لهم الخير والهدى والعلم، لا يقصدون الشر لهم ابتداء؛ بل إذا عاقبوهم وبيَّنوا خطأهم وجهلهم وظلمهم؛ كان قصدهم بذلك بيان الحق ورحمة الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يكون الدين كله لله وأن تكين كلمة الله هي العليا.

فالمؤمنون أهل السنة هم يقاتلون في سبيل الله ومن قاتلهم يقاتل في

= وما بعدها، والعقيدة السلفية في كلام رب البرية وكشف أباطيل المبتدعة الردية، تأليف عبد الله الجديع ص 297 - 299 الطبعة الثانية 1416 هـ، الناشر دار الإمام مالك ودار الصميعي الرياض، وقد أفرد الجديع فصلاً في الرد عليهم. انظر: ص 345 وما بعدها.

(1)

وهذا مذهب بعض السالمية ومن وافقهم. انظر: السالمية للمحقق 2/ 482 - 491، رسالة دكتوراه، والعقيدة السلفية في كلام رب البرية ص 300 - 301؛ والسالمية هم أتباع أبي الحسن أحمد بن محمد بن سالم البصري (ت 327 هـ تقريباً). انظر: السالمية للمحقق 1/ 34 - 35.

(2)

في (د)(واو).

(3)

قال به بعض الصوفية. انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 5/ 79 - 489 - 490، والسالمية للمحقق 2/ 581 - 589.

ص: 251

سبيل الطاغوت، كالصديق أهل الردة، وكعلي بن أبي طالب مع الخوارج المارقين ومع الغلاة والسبائية (1)، فأعمالهم خالصة لله -تعالى- موافقة للسنة، وأعمال مخالفيهم لا خالصة ولا صواباً؛ بل بدعة واتباع هوى، ولهذا يسمون أهل البدع وأهل الأهواء.

قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]، قال: أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة (2).

فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفّرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفرهم، لأن الكفر حكم شرعي فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك وزنى بأهلك؛ ليس لك أن تكذب عليه وتزني بأهله، لأن الكذب والزنا حرام لحق الله.

وكذلك التكفير حق لله فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله، وأيضاً فإن تكفير الشخص المعيّن وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها، وإلا فليس كل من جهل شيئاً من الدين يُكفر.

ولهذا لما استحل طائفة من الصحابة والتابعين كقدامة بن مظعون (3)

(1) كذا في جميع النسخ، والصواب السبئية وهم: أصحاب عبد الله بن سبأ، قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى 4/ 518:"هو رأس المنافقين، أظهر الإسلام وأراد فساد دين المسلمين، كما أفسد بولس دين النصارى". أ. هـ. وهو الذي يقال له ابن السوداء، كان يهودياً من أهل صنعاء فأسلم لا رغبة فيه بل لفساد، له دور كبير في أحداث الفتنة التي قُتل فيها عثمان رضي الله عنه، ادعى هو وأصحابه في علي رضي الله عنه الإلهية. انظر: مقالات الإسلاميين 1/ 86، والملل والنحل 1/ 174، وعقائد الثلاث وسبعين 1/ 472.

(2)

انظر: حلية الأولياء 8/ 95 الطبعة الرابعة 1405 هـ.

(3)

هو أبو عمرو، قدامة بن مظعون الجمحي، من السابقين للإسلام هاجر للحبشة، وشهد بدراً، وليّ إمرة البحرين لعمر، شرب مرة الخمرة متأولاً، فحده عمر، وعزله من إمرة البحرين توفي سنة 36 هـ. انظر: السير 1/ 161 ترجمة رقم 10، والأعلام 5/ 191. =

ص: 252

وأصحابه شرب الخمر؛ وظنوا أنها تباح لمن عمل صالحاً على ما فهموه من آية المائدة؛ اتفق علماء الصحابة كعمر وعلي وغيرهما على أنهم يستتابون، فإن أصروا على الاستحلال كفروا، وإن أقروا به جلدوا فلم يكفروهم بالاستحلال ابتداء لأجل الشبهة التي عرضت [لهم](1) حتى يتبيّن لهم الحق، فإن أصروا على الجحود كفروا.

وقد ثبت في الصحيحين حديث الذي قال لأهله: "إذا أنا مت فاسحقوني ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين، فأمر الله البَرَّ فرد ما أخذ، وأمر البحر فرد ما أخذ منه، وقال: ما حملك على ما فعلت، قال خشيتك يا رب فغفر له"(2)، فهذا اعتقد أنه إذا فعل ذلك لا يقدر الله على إعادته، وأنه لا يعيده أو جوز ذلك، وكلاهما كفر، لكن كان جاهلاً لم يتبيّن له الحق فغفر له.

ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن يكون (3) الله -تعالى- فوق العرش لما وقعت محنتهم، أن لو وافقتكم كنت كافراً؛ لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال، وكان هذا خطاباً لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم (4).

= وأخرج هذه القصة كاملة عبد الرزاق في مصنفه 9/ 240 رقم 1076، والبيهقي في السنن 8/ 316 باب من وجد منه ريح شراب أو لقي سكران، وقال شعيب الأرنؤوط في حاشية السير 1/ 161 رجاله ثقات. أ. هـ.

(1)

كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (عليهم).

(2)

أخرجه البخاري في (كتاب الأنبياء، باب حديث أبو اليمان أخبرنا شعيب) رقم 3481، 2/ 1082 وطرفه رقم 3478، ومسلم في (كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله) رقم (2756) ورقم (2757)(4/ 2110) بألفاظ متقاربه وقريبة من لفظ المؤلف.

(3)

(يكون) سقطت من (د).

(4)

سُئل العلامة عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين رحمه الله عن كلام المصنف أعلاه فقال في مجموع مخطوط: "تضمن كلام الشيخ -رحمه الله تعالى- مسألتين أحدهما: عدم تكفيرنا لمن كفرنا وظاهر كلامه أنه سواء كان متأولاً أم لا، وقد صرح طائفة من العلماء أنه إذا قال ذلك متأولاً لا يكفر ......

والمسألة الثانية: إن تكفير الشخص المعين وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها

إلخ، يشمل كلامه من لم تبلغه الدعوة، وقد صرح بذلك في =

ص: 253

وأصل جهلهم شبهات عقلية حصلت لرؤوسهم في قصور من معرفة المنقول الصحيح والمعقول الصريح الموافق له، فكان هذا خطابنا.

فلهذا لم يقابل جهله وافتراؤه بالتكفير بمثله، كما لو شهد شخص بالزور على شخص، أو قذفه بالفاحشة كذباً عليه لم يكن له أن يشهد عليه بالزور ولا أن يقذفه بالفاحشة.

وقد كفانا ذلك شيخه وغيره من الناس، فبيّنوا من ضلاله وجهله ما (1) ذكروه وذموه وعابوه وتنقصوه (2) به كما هو معروف عن شيخه الجزري وغيره من أهل العلم.

والمقصود هنا أن قوله: (ومن خص الرسول أو الملائكة بنفي خاص يفهم منه طرح رتبتهم وعدم صلاحيتهم فقد تنقصهم (3) بعبارته) فهي كلمة حق أريد بها باطل (4).

ونحن نقول بموجب هذا الكلام وهو معناه الصحيح فإن من نفى ما يستحقونه من [الرتبة](5) وما يصلحون له من الأسباب فهو مفتر كذاب، لكن الشأن [ليس](6) المنفي هو من هذا الباب، ولو لم تقابل دعواه إلا بالمنع

= موضع آخر، ونقل ابن عقيل عن الأصحاب أنه لا يعاقب

قال: وهذا جارٍ على ما تقرر في الأصول لا حكم قبل ورود الشرع على الصحيح .. فمن بلغته رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وبلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة فلا يعذر في عدم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فلا عذر بعد ذلك بالجهل، وقد أخبر سبحانه بجهل كثير من الكفار مع تصريحه بكفرهم ووصف النصارى بالجهل مع أنه لا يشك مسلم في كفرهم، ونقطع أن أكثر اليهود والنصارى اليوم جهال مقلدون ونعتقد كفرهم وكفر من شك في كفرهم. أ. هـ. باختصار.

انظر: مجموع يشتمل على رسائل وفوائد كثيرة أصولية ومنظومة ومديح ومراثي، تأليف العلامة عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين وآخرين، جمع عبد الله الربيعة (مخطوط) قسم المخطوطات جامعة الملك سعود رقم 3422/ 9 ص 30 - 33.

(1)

كذا في جميع النسخ والأولى (بما).

(2)

في (ف) وتنقصوا.

(3)

في (ف) و (د) و (ح) نقصهم.

(4)

في (د) باطلاً.

(5)

كذا في (د) و (ح) وفي الأصل و (ف) الربوبية وفي الأصل عليها إشارة للهامش وليس فيه شيء.

(6)

كذا في (د) و (ح) وسقطت من الأصل و (ف).

ص: 254

لكفانا، فإنه يقال له: لا نسلم أن الاستغاثة بهم مشروعة في كل ما يستغاث فيه بالله، ولا أنها وسيلة من وسائل الله في ذلك كله، بل سلمنا أن الاستغاثة بالحي فيما يقدر عليه قد نكون سبباً وقد لا تكون، فإن الناس يستغيثون بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة في الشفاعة فيشفع لهم، ويستغيث به من أنذره في دفع الذنوب فيقول:"لا أملك لك من الله شيئاً" كما في الحديث الصحيح، "لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك (1) شيئاً قد أبلغتك".

وليس كل من طلب من النبي صلى الله عليه وسلم ما يقدر عليه يعطيه إياه؛ إذ قد يكون ذلك غير جائز، كما في الصحيح أنه سأله الفضل بن عباس وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب أن يوليهما على الصدقات فلم يجبهما وقال:"إنها أوساخ الناس، وإن الصدقة لا تحل لمحمد و [لا] (2) لآل محمد"(3).

وكذلك سأله وفد هوازن السبي والمال فبذل لهم إحدى الطائفتين، وسألته أم حبيبة أن يتزوج أختها فقال:"إنها لا تحل لي"(4).

بل يقال: لا نسلم أن التوسل، بذاتهم مشروعة بحال في الحياة والممات، وليس في شيء مما ذكر دليل على مورد النزاع، فإن مضمون ما ذكره جُملٌ:

أحدها: أن الاستغاثة طلب الإغاثة والتخلص من الكربة والشدة، وأن

(1) في (د) زاد (من الله).

(2)

كذا في (ف) و (د) و (ح)، وسقطت من الأصل.

(3)

أخرجه مسلم في (كتاب الزكاة، باب ترك استعمال آل النبي على الصدقة) 2/ 752 رقم 1072، وأبو داود في (كتاب الخراج والإمارة، باب في بيان مواضع قسم الخمس وسهم ذي القربى) / 386 رقم 1985، والنسائي في (كتاب الزكاة، باب استعمال آل النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة) 5/ 105 رقم 2607 وغيرهم بألفاظ متقاربة وقريبة جداً من لفظ المؤلف.

(4)

أخرجه البخاري في (كتاب النكاح، باب ما يحل من النساء وما يحرم) رقم 6106، 4/ 1645 من حديث أم حبيبة، وطرفه 5107 ولفظه عن أم حبيبة قالت: قلت يا رسول الله، هل لك في بنت أبي سفيان؟ قال:"فأفعل ماذا"، قلت: تنكح، قال:"أتحبين"؟ قلت: لست لك بمُخلية، وأحب من شركني فيك أختي، قال:"إنها لا تحل لي"

الحديث. وأم حبيبة هي، أم المؤمنين رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنهما.

ص: 255

الإغاثة تضاف إلى المخلوق كما يُضاف إليه الإطعام والاستعانة والإعانة والهداية والتعليم، وهذا صحيح، وليس فيه أن الميت يستغاث به، كما أنه ليس فيه أن (1) يستطعم ويستسقى ويستهدى ويستنصر ويستغاث به، ولا فيه أن ما كان من هذا الباب لا يقدر عليه إلا الله فإنه يطلب من غيره.

والجملة الثانية التي من كلامه: أن من توسل إلى الله -تعالى- بنبيه في تفريج كربة فقد استغاث به؛ سواء كان بلفظ الاستغاثة أو التوسل أو غيرهما مما [في](2) معناهما، وقول القائل: أتوسل إليك يا إلهي برسولك عندك أن تغفري لي، استغاثة بالرسول حقيقة في لغة العرب وجميع الأمم.

وهذا الكلام كذب باطل لم يسبقه إليه أحد، ولا ريب أنه لجهله وهواه وقع في هذا، وإلا فما تعمد أن يقول ما يعلم أنه كذب، ولم يقل أحد قط أستغيث برسولك عندك، ولا هذا عند أحد، لا العرب ولا غيرهم، وهو ظن أن الباب في التوسل كالباب في الاستغاثة وليس كذلك، فإنه يقال: استغاثه واستغاث به، كما يقال (3): استعانه واستعان به، فالمستغاث به هو المسؤول، وأما المتوسل به فهو الذي يتسبب به إلى المسؤول.

الجملة الثالثة: قوله: (إن الاستغاثة به بعد موته ثابتة ثبوتها في حياته؛ لأنه عند الله في مزيد دائم (4) لا ينقص جاهه)، وهذا لفظ صحيح لو كان معنى الاستغاثة: الإقسام به والتوسل بذاته، فإن ذاته بعد الموت لم تنقص، بل هي في مزيد دائم من ربه عز وجل بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، لكن هذه المقدمة باطلة كما قد عرف، فأما إذا كان معنى الاستغاثة هو الطلب منه، فما الدليل على أن الطلب منه ميتاً كالطلب منه حياً؟ وعلو درجته بعد الموت لا يقتضي أن يسأل، كما لا يقتضي أن يستفتى، ولا يمكن أحداً أن يذكر دليلاً شرعياً على أن سؤال الموتى من الأنبياء والصالحين وغيرهم مشروع، بل الأدلة الدالة على تحريم ذلك كثيرة.

حتى إذا قُدر أن الله وكَّلهم (5) بأعمال يعملونها بعد الموت؛ لم يلزم من

(1) في (د) و (ح) أنه.

(2)

كذا في (د) و (ف) و (ح)، وفي الأصل (فيه).

(3)

في (د) أنه.

(4)

في (د) ثم وهي زيادة.

(5)

في (د) و (ح) يكلفهم.

ص: 256

ذلك جواز دعائهم، كما لا يجوز دعاء الملائكة؛ وإن كان الله وكلهم بأعمال يعملونها لما في ذلك من الشرك والذريعة إلى الشرك.

وهو قد احتج بحديث الأعمى الذي قال: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيي محمد نبي الرحمة"(1) وهذا الحديث لا حجة فيه لوجهين.

(1) أخرجه الترمذي في (كتاب الدعوات، باب 118) 5/ 569 رقم 3578 ولفظه عن عثمان بن حنيف أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني، قال:"إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك"، قال: فادعه، قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي، اللهم فشفعه في"، قال: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، من حديث أبي جعفر الخطمي.

وبهذا اللفظ أخرجه ابن ماجه في (أبواب الصلاة، باب ما جاء في صلاة الحاجة) 2521 رقم 1381 والنسائي في عمل اليوم والليلة ص 417 رقم 659 وعبد الله ابن الإمام أحمد في المسند 4/ 138 والحاكم في المستدرك 1/ 313 وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

وأخرجه البيهقي في الدلائل (باب ما في تعليمه الضرير ما كان فيه شفاؤه حين لم يصبر وما ظهر في ذلك من آثار النبوة) 6/ 166 ولفظه: "

قال: "فإن شئت أخرت ذلك فهو خير لك، وإن شئت دعوت الله"

نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه فتقضيها، اللهم شفعه في وشفعني في نفسي"، قال البيهقي: هذا لفظ العباس زاد محمد بن يونس في روايته قال: فقام وقد أبصر، ورويناه في كتاب الدعوات بإسناد صحيح عن روح بن عبادة شعبة، ففعل الرجل فبرأ، وكذلك رواه حماد بن سلمة عن أبي جعفر الخطمي، وبهذا اللفظ أخرجه النسائي أيضاً في عمل اليوم والليلة ص 417 رقم 658 وعبد الله ابن الإمام أحمد في المسند 4/ 138 وزاد قال: فكان يقول هذا مراراً ثم قال بعد: أحسب أن فيها أن تشفعني فيه، ففعل الرجل فبرأ، وقد أخرجه غيرهم. وهنا وقفات: أولاً: في الحديث اختلاف في الإسناد قال النسائي في عمل اليوم الليلة ص 418: خالفهما هشام الدستوائي فقال: عن أبي جعفر عمير بن يزيد بن خراشة. عن أبي أمامة بن سهل عن عثمان. أ. هـ. وفي الإسناد السابق عن أبي جعفر عن عمارة بن خزيمة.

وأما في المتن فالترمذي ومن معه لم يستوعبوا لفظه كما استوعبه سائر العلماء بل رووه إلى قوله: "اللهم شفعه في".

ومدار الحديث على أبي جعفر الخطمي وعليه الاختلاف في إسناد هذا الحديث، ومتنه، وقد تفرد بهذا الحديث فإنه يدور عليه وحده، وليس له متابعات ولا شواهد.

انظر: حاشية قاعدة جليلة ص 189.

ورأى طائفة من أهل العلم ضعف الحديث، لأن أبا جعفر فيه كلام، وبعضهم ضعف =

ص: 257

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الإسناد لأجل عدم التثبت أن أبا جعفر هو الخطمي، معتمدين على نفي الترمذي أن يكون هو الخطمي كما نقل ابن تيمية عنه في قاعدة جليلة ص 168. انظر: صيانة الإنسان ص 127، وهذه مفاهيمنا، تأليف الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ ص 36، طبعة الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الرياض.

وذهب العلامة الألباني في التوسل في أنواعه وأحكامه، تنسيق محمد عيد العباسي ص 6 (الطبعة الخامسة 1406 هـ، الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان) إلى أن الإسناد جيد لا شبهة فيه. أ. هـ وهذا هو الراجح.

ثانياً: أن لفظة: "يا محمد" والتي يتمسك بها بعضهم في دعاء الميت والغائب لم ترد في كل روايات الحديث، وورد في بعض ألفاظ الحديث "إني أتوجه به إلى ربي". انظر: الرد على القبوريين تأليف حمد آل معمر ص 85، وفي حال ثبوتها فهي دالة على خطاب الحاضر في القلب مثل التشهد.

ثالثاً: التوجه في الحديث لابد أن يكون بواحد من ثلاثة أمور:

1 -

أتوجه إليك بجسد نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.

2 -

أتوجه إليك بجاه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.

3 -

أتوجه إليك بدعاء نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.

واستدل المتصوفة بالحديث على التوسل والتوجه بالذات والجاه ولم يذكروا دليلاً سوى قصة سيأتي ذكرها، واستدل السلف بهذا الحديث على التوسل بالدعاء للأدلة التالية:

1 -

أن الأعمى إنما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليدعو له، وذلك قوله:"ادع الله أن يعافيني" فهو قد توسل إلى الله -تعالى- بدعائه صلى الله عليه وسلم، لأنه يعلم أن دعاءه صلى الله عليه وسلم أرجى للقبول عند الله بخلاف دعاء غيره، ولو كان قصد الأعمى التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم أو جاهه أو حقه لما كان ثمة حاجة إلى أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويطلب منه الدعاء، بل كان يقعد في بيته، ولكنه لم يفعل هذا، لأنه عربي يفهم معنى التوسل في لغة العرب حق الفهم. وأن التوسل لابد فيه من طلب الدعاء من المتوسل به.

2 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم وعده بالدعاء مع نصحه له ببيان ما هو أفضل له، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك".

3 -

إصرار الأعمى على الدعاء وهو قوله: "فادع"، فهذا يقتضي أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا له، لأنه صلى الله عليه وسلم خير من وفى بما وعد وقد وعده بالدعاء.

4 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم وجه الأعمى إلى التوسل بالعمل الصالح وهو توسل مشروع، ليجمع له الخير من أطرافه، فأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين ثم يدعو لنفسه، وهذه الأعمال طاعة لله يقدمها بين يدي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له.

5 -

زعم بعض الصوفية أن قوله صلى الله عليه وسلم: "إشئت دعوت"، أي إن شئت علمتك دعاء تدعو به، ولقنتك إياه، وهذا التأويل واجب عندهم ليتفق أول الحديث مع آخره، والجواب أن آخر الحديث:"اللهم فشفعه في، وشفعني فيه" تفسير للدعاء، أي: اقبل شفاعتي، أي دعائي في أن تقبل شفاعته صلى الله عليه وسلم. =

ص: 258

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= 6 - أن العلماء ذكروا هذا الحديث في معجزاته صلى الله عليه وسلم ودعائه المستجاب، وما أظهره الله ببركة دعائه.

7 -

لو كان التوسل في هذا الحديث بذاته وجاهه صلى الله عليه وسلم كما يفهمه هؤلاء المتأخرون، لكان المفروض أن يحصل الشفاء لغير هذا الأعمى، وبالذات من الصحابة رضي الله عنهم وهم أقرب الناس إليه ومعرفة به.

8 -

أن الجميع يتفقون على حذف المضاف وهو أمر معروف في اللغة، والتقدير إما أن يكون:

1 -

إني أتوجه إليك (بدعاء) نبيك، ولابد للترجيح من دليل يدل عليه، وليس في الحديث أي إشارة أو ذكر للذات أو الجاه، وليس في الكتاب أو السنة أو فعل الصحابة ما يدل على التوسل بالذات أو الجاه، وأما الدعاء فعليه أدلة كثيرة من طلب الدعاء وقوله "وشفعني فيه" وغيرها.

انظر: قاعدة جليلة ص 191 وما بعدها، وتلخيص الاستغاثة ص 129 - 130، والتوسل للألباني ص 76 وما بعدها، وهذه مفاهيمنا ص 37، وكشف المتواري من تلبيسات الغماري، تأليف علي حسن عبد الحميد ص 65 وما بعدها (الطبعة الأولى 1410 هـ، الناشر دار ابن الجوزي الدمام).

9 -

أن التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم توسل مشروع موافق لنصوص الكتاب والسنة وعمل الصحابة رضي الله عنهم، مثل توسل عمر بدعاء العباس، ولو كان مشروعاً التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم وجاهه لما عدل عنه ووافقه الصحابة، وكذلك معاوية توسل بدعاء يزيد بن الأسود الجرشي رضي الله عنهم أجمعين.

فإذا تبين بحمد الله أنه لا دليل لهم في هذا الحديث، فإنهم استدلوا بقصة أخرجها البيهقي في دلائل النبوة تحقيق د. عبد المعطي قلعجي 6/ 168 (الطبعة الأولى 1405 هـ الناشر دار الكتب العلمية بيروت لبنان) قال: أخبرنا أبو سعيد إسماعيل بن شبيب، حدثنا أبي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر المديني، عن أمامة بن سهل بن حنيف أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه في حاجته، وكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي عثمان بن حنيف فشكى إليه ذلك، فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة فتوضأ ثم ائت المسجد فصل ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فتقضي لي حاجتي، واذكر حاجتك، ثم رُح حتى أرفع، فانطلق الرجل وصنع ذلك، ثم أتى باب عثمان بن عفان رضي الله عنه فجاء البواب، فأخذ بيده فأدخله على عثمان، فأجلسه معه على الطنفسة، فقال: انظر: ما كانت لك من حاجة، ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله خيراً ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليّ حتى كلمته، فقال له عثمان بن حنيف: ما كلمته ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جاءه رجل ضرير، .. وذكر الحديث". قال البيهقي قد رواه أحمد بن شبيب [بن] سعيد عن أبيه بطوله. =

ص: 259

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وأخرج هذه القصة أيضاً الطبراني في المعجم الصغير 1/ 183 - 184 والكبير 9/ 17 وقال في الصغير: لم يروه عن روح بن القاسم إلا شبيب بن سعيد أبو سعيد المكي وهو ثقة، وهو الذي يحدث عنه (في الأصل أحمد بن أحمد) أحمد بن شبيب عن أبيه عن يونس بن يزيد الأيلي.

وقد روى هذا الحديث شعبة عن أبي جعفر الخطمي واسمه عمير بن يزيد وهو ثقة وتفرد به عثمان بن عمر بن فارس عن شعبة والحديث صحيح. أ. هـ. وظن بعضهم أن تصحيح الطبراني للقصة، والصواب أنه للحديث المرفوع دون القصة، ويدل على ذلك أول كلامه "لم يروه عن روح

" إشارة إلى توهين القصة. وعلل هذه القصة ما يلي:

أولاً: تفرد شبيب بن سعيد بها كما قاله الطبراني وقد رواها عنه عبد الله بن وهب عند الطبراني، وأحمد وإسماعيل أبناء شبيب عند البيهقي، أما ابن وهب فقال ابن حجر في التقريب 1/ 411 رقم 2747 عن شبيب: لا بأس بحديثه من رواية ابنه أحمد عنه، لا من رواية ابن وهب. أ. هـ. وقال ابن حجر أيضاً في هدي الساري مقدمة فتح الباري ص 575: أخرج البخاري من رواية ابنه أحمد عن يونس أحاديث ولم يخرج من روايته عن غير يونس ولا من رواية ابن وهب عنه شيئاً. أ. هـ وقال ابن عدي في الكامل 4/ 31 رقم الترجمة 891 في ترجمة شبيب: حدث عنه ابن وهب بأحاديث مناكير

ثم قال: وكان شبيباً إذا روى عنه ابنه أحمد بن شبيب نسخة يونس عن الزهري إذا هي أحاديث مستقيمة، ليس هو شبيب بن سعيد الذي يحدث عنه ابن وهب بالمناكير الذي يرويها عنه، ولعل شبيباً بمصر في تجارته إليها كتب عنه ابن وهب من حفظه فيغلط ويهم، وأرجو أن لا يتعمد شبيب هذا الكذب. أ. هـ. فالطعن في شبيب قائم إذا كانت روايته عن غير يونس، ولو من رواية ابنه أحمد، وابن عدي أحال الغلط على شبيب لا على ابن وهب وهذا صحيح. انظر: قاعدة جليلة ص 194.

فتبيّن أن رواية ابن وهب عن شبيب منكرة جميعاً ومنها هذا الحديث.

وأما رواية ابنه أحمد فمشروطة بكونها عن يونس بن يزيد كما ذكره ابن عدي، وابن حجر عن فعل البخاري، وما يُشعر به كلام الطبراني بقوله: وهو الذي يحدث عنه أحمد بن شبيب عن أبيه عن يونس بن يزيد. أ. هـ والقصة هنا من رواية شبيب عن روح بن القاسم.

وأما إسماعيل بن شبيب فقال العلامة الألباني في التوسل ص 94: وأما إسماعيل فلا أعرفه، ولم أجد من ذكره، ولقد أغفلوه حتى لم يذكروه في الرواة عن أبيه. أ. هـ.

ثانياً: هذه الرواية ليست بمحفوظة فإنه تارة تذكر القصة، وتارة تُهمل كما عند البيهقي 6/ 176 - 186 بالوجهين، وبدون القصة عند الحاكم 1/ 526، وابن السني في عمل اليوم والليلة ص 170 رقم 628 (الطبعة الثانية 1358 هـ الناشر مطبعة دائرة المعارف العثمانية حيدر آباد الدكن الهند)، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في قاعدة جليلة ص 190: ولم يروه =

ص: 260

أحدهما: أنه ليس هو استغاثة بل توجه به.

والثاني: أنه إنما يتوجه بدعائه وشفاعته، فإنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم

= أحد من هؤلاء -لا الترمذي ولا النسائي ولا ابن ماجه- من تلك الطريق الغريبة التي فيها الزيادة، طريق شبيب عن القاسم. أ. هـ، وخلاصة القول: أن هذه القصة ضعيفة منكرة لأمور ثلاثة:

1 -

ضعف المتفرد بها.

2 -

الاختلاف عليه فيها.

3 -

مخالفته للثقات الذين لم يذكروها في الحديث، وأمر واحد من هذه الأمور كاف لإسقاط هذه القصة، فكيف بها مجتمعة؟. انظر: التوسل للألباني ص 96.

ثالثاً: لم يصحح هذه أحد من أهل العلم، وتصحيح الطبراني للحديث المرفوع بدون القصة وهو كذلك، وتابعه على ذلك كثير من أهل العلم منهم المنذري في الترغيب والترهيب 1/ 476 قال: قال الطبراني بعد ذكر طرقه: والحديث صحيح.

وكذلك الهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 279، وقد ادعى الغماري كذباً وزوراً تصحيح المنذري والهيثمي لهذه القصة. انظر: كشف المتواري ص 35. وهناك زيادة يحتجون بها وهي: روى أبو بكر ابن خثيمة في تاريخه حديث حماد بن سلمة فقال "

(بعد ذكر الحديث) وإن كانت لك حاجة فافعل مثل ذلك"، قال ابن أبي خيثمة: وأبو جعفر هذا -الذي حدث عنه حماد بن سلمة- اسمه عمير بن يزيد، وهو أبو جعفر، الذي يروي عنه شعبة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في قاعدة جليلة ص 196: وقد يقال: إن هذه الزيادة توافق قول عثمان بن حنيف، لكن شعبة وروح بن القاسم أحفظ من حماد بن سلمة، واختلاف الألفاظ يدل على أن مثل هذه الرواية قد تكون بالمعنى، وقوله:"وإن كانت لك حاجه فافعل مثل ذلك"، قد يكون مدرجاً من كلام عثمان، لا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. أ. هـ.

وبالجملة فهذه الزيادة لا تصح لشذوذها وعلى فرض ثبوتها لم تكن دليلاً على التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم لاحتمال أن يكون معنى قوله: "فافعل مثل ذلك" يعني من إتيانه صلى الله عليه وسلم حال حياته، وطلب الدعاء منه والتوسل به. التوسل للألباني ص 92 كما أن لفظ الحديث يناقض ذلك فإن في الحديث:"اللهم فشفعه في"، وإنما يدعى بهذا إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم داعياً شافعاً، بخلاف من لم يكن كذلك. انظر قاعدة جليلة ص 197.

وأخيراً هذه القصة والزيادة لا تثبت بها شريعة، كَسائر ما ينقل عن آحاد الصحابة، في جنس العبادات أو الإباحات أو الإيجابات أو التحريمات، إذا لم يوافقه غيره من الصحابة عليه، وكان كل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم يخالفه لا يوافقه، لم يكن فعله سنة يجب على المسلمين اتباعها. انظر: قاعدة جليلة ص 199، الله أعلم.

وللتوسع. انظر: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص 185 وما بعدها، والصواعق المرسلة الشهابية، تأليف سليمان سحمان ص 163 وما بعدها، وصيانة الإنسان ص 125 والتوسل للألباني ص 75 وما بعدها، وهذه مفاهيمنا ص 36 وغيرها.

ص: 261

الدعاء، وقال في آخره:"اللهم فشفعه في"، فعُلم أنه يشفع له فتوسل بشفاعته لا بذاته، كما كان الصحابة يتوسلون بدعائه في الاستسقاء، كما توسلوا بدعاء العباس بعد مماته.

وهذا المحتج به بنى حجته على مقدمتين فاسدتين: على أنهم توجهوا بذاته، وأن ذلك يسمى استغاثة به، فلزم من ذلك جواز ذلك بعد موته، وفساد إحدى المقدمتين يبطل كلامه، فكيف إذا بطلتا، وما ذكره من توسل آدم (1)

(1) توسل آدم: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي، فقال: يا آدم! وكيف عرفت محمداً ولم أخلقه؛ قال: يا رب لما خلقتني بيدك، ونفخت فيَّ من روحك رفعت رأسي، فرأيت على قوائم العرش مكتوباً: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال الله: صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق إلي ادعني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك".

أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 615 من طرق أبي الحارث عبد الله بن مسلم الفهري: ثنا إسماعيل بن مسلمة: أنبأنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده عن عمر وقال: صحيح الإسناد وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذا الكتاب. أ. هـ. وتعقبه الذهبي بقوله: بل موضوع وعبد الرحمن واه

ثم قال: ورواه عبد الله بن مسلم الفهري ولا أدري من ذا؟ عن إسماعيل بن مسلمة عنه. أ. هـ.

والبيهقي في دلائل النبوة 5/ 489 وقال: تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف. أ. هـ. والطبراني في المعجم الصغير 2/ 355 رقم 971، تقديم وضبط كمال يوسف الحوت (الطبعة الأولى 1406 هـ، الناشر مؤسسة الكتب الثقافية بيروت - لبنان) من طريق محمد داود بن أسلم الصدفي: ثنا أحمد بن سعيد المدني الفهري: ثنا عبد الله بن إسماعيل المدني عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم به.

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 253): رواه الطبراني في الأوسط والصغير وفيه من لم أعرفهم. أ. هـ، وأخرجه أبو بكر الآجري في الشريعة، تحقيق محمد حامد الفقي ص 425، 427) الطبعة الأولى 1369 هـ، الناشر مطبعة السنة المحمدية) مرة موقوفاً.

وقد ذهب أصحاب الهوى إلى تقليد الحاكم في تصحيحه، فتابع الحاكم في تصحيحه السبكي في: شفاء السقام في زيارة خير الأنام ص 162 (الطبعة الثانية 1978 م، الناشر دار الآفاق الجديدة بيروت - لبنان)، والمالكي في مفاهيم يجب أن تصحح ص 46 (طبعة 1405 هـ مصر) نقلاً عن هذه مفاهيمنا ص 20.

وهذا الحديث موضوع لا يصح الاحتجاج به لما يلي:

أولاً: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف باتفاقهم يغلط كثيراً، وضعفه أحمد بن =

ص: 262

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= حنبل، وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي والدارقطني وغيرهم. انظر: الكامل لابن عدي 4/ 269 رقم 1105، والجرج والتعديل لأبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي 5/ 233 الطبعة الأولى 1372 هـ، الناشر مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن الهند، وقاعدة جليلة ص 168. قال أبو حاتم البستي في المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين تحقيق محمود إبراهيم زايد 2/ 57 (طبعة 1395 هـ، الناشر دار الوعي حلب - سوريا): كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم، حتى كثر ذلك من روايته، من رفع المراسيل وإسناد الموقوف فاستحق الترك. أ. هـ ، وقال الحاكم نفسه في المدخل إلى الصحيح تحقيق د. ربيع المدخلي 1/ 154 رقم 97 (الطبعة الأولى 1404 هـ الناشر مؤسسة الرسالة بيروت - لبنان) عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه. أ. هـ.

ونقل ابن عبد الهادي في الصارم المنكي ص 44 عن الحاكم قال في آخر هذا الكتاب (أي المدخل): فهؤلاء الذين قدمت ذكرهم قد ظهر عندي جرحهم لأن الجرح لا يثبت إلا ببيّنة فهم الذين أبين جرحهم لمن طالبني به، فإن الجرح لا أستحله تقليداً، والذي اختاره لطالب هذا الشأن أن لا يكتب حديثاً واحداً لهؤلاء الذين سميتهم، فالراوي لحديثهم داخل في قوله صلى الله عليه وسلم:"من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين"، صحيح مسلم (المقدمة، باب وجوب الرواية عن الثقات وترك الكذابين) ص 9. أ. هـ.

وقد روى الحاكم أيضاً في المستدرك 3/ 332 لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ولم يصحح حديثه، وقال: الشيخان لم يحتجا بعبد الرحمن بن زيد. أ. هـ.

ثانياً: أبو الحارث عبد الله بن مسلم الفهري قال عنه الذهبي في ميزان الاعتدال تحقيق علي البجاوي 2/ 504 رقم الترجمة 4604 (الطبعة الأولى 1382 هـ، الناشر دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه) روى عنه إسماعيل بن سلمة بن قعنب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم خبراً باطلاً، فيه: يا آدم، لولا محمد ما خلقتك، رواه البيهقي في دلائل النبوة. أ. هـ.

وزاد ابن حجر في لسان الميزان 3/ 441 رقم الترجمة 464/ 4815 (طبعة دار الفكر بيروت - لبنان) بقوله في الفهري هذا: لا أستبعد أن يكون هو الذي قبله فإنه من طبقته قلت: والذي قبله هو عبد الله بن مسلم بن رشيد، قال الحافظ ابن حجر فيه: ذكره ابن حبان متهم بوضع الحديث، وقال حدثنا به جماعة، يضع على ليث، ومالك وابن لهيعة، لا يحل كتب حديثه. أ. هـ.

وأما حديث الطبراني فتقدم كلام الهيثمي، قال العلامة الألباني في التوسل ص 116 - 117: وهذا إعلال قاصر، يوهم من لا علم عنده أن ليس فيهم من هو معروف بالطعن، وليس كذلك فإن مداره على عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقال عن إسناد الطبراني: وهذا سند مظلم، فإن كل من دون عبد الرحمن لا يعرفون. أ. هـ. =

ص: 263

وحكاية المنصور (1) فجوابها من وجهين أحدهما: أن هذا لا أصل له، ولا تقوم به حجة ولا إسناد لذلك.

= والخلاصة: أن في الحديث ثلاث علل، الأولى: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو ضعيف جداً. الثانية: جهالة الإسناد إلى عبد الرحمن. الثالثة: اضطراب عبد الرحمن أو من دونه، فتارة يرفعه كما مضى وتارة يرويه موقوفاً عن عمر، لا يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما في إحدى روايات الآجرى.

ثالثاً: إن تضعيف ابن حجر لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم لا يفيد من تمسك به، فقد وصف الحافظ الذهبي الحديث بأنه خبر باطل وتابعه ابن حجر كما في اللسان، وهو حديث موضوع باطل.

رابعاً: مثل هذا لا يجوز أن تبنى عليه الشريعة ولا يحتج به في الدين باتفاق المسلمين، وهو مخالف لما ثبت في الكتاب والسنة من توبة آدم عليه السلام، وما ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم ومخالفته للعقائد في سبب خلق الخلق. وانظر: تلخيص الاستغاثة ص 5 وما بعدها.

(1)

حكاية المنصور قال ابن حميد: ناظر: أبو جعفر المنصور أمير المؤمنين مالكاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له مالك: يا أمير المؤمنين، لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله -تعالى- أدب قوماً فقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)} [الحجرات: 2]، ومدح قوماً فقال:{إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)} [الحجرات: 3]، وذم قوماً فقال:{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)} [الحجرات: 4]، وإن حرمته ميتاً كحرمته حياً، فاستكان لها أبو جعفر فقال: يا أبا عبد الله، أأستقبل القبلة وأدعو، أم استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله -تعالى- إلى يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به، فيشفعك الله، قال الله -تعالى-:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)} [النساء: 64]، ذكرها القاضي عياض عن شيوخه من طريق أبي العباس أحمد بن عمر بن دلهاث، قال: حدثنا أبو الحسن علي بن فهر، حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن الفرج، حدثنا أبو الحسن عبد الله بن المنتاب، حدثنا يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل، حدثنا ابن حُميد. انظر: الشفاء للقاضي عياض تحقيق علي البجاوي 2/ 595 طبعة دار الكتاب العربي بيروت - لبنان.

والجواب أولاً: هذه الحكاية منقطعة، فإن محمد بن حميد الرازي لم يدرك مالكاً لا سيما في زمن أبي جعفر المنصور، فإن أبا جعفر توفي سنة 158 هـ، وتوفي الإمام مالك سنة 179 هـ، وتوفي محمد بن حميد الرازي سنة 248 هـ. ولم يخرج من بلده حين رحل في طلب العلم إلا وهو كبير مع أبيه. انظر: قاعدة جليلة ص 122. =

ص: 264

والثاني: أنه لو دلَّ لدل على التوسل بذاته لا على الاستغاثة به، وأما فتح الكوة (1) لينزل المطر فهو أيضاً باطل كما تقدم التنبيه عليه.

= ولم يذكره أحد في تلاميذ مالك، وقد قسم القاضي عياض في ترتيب المدارك الرواة عن مالك إلى طبقتين. كبرى وصغرى وعلى حسب البلدان، ولم يذكر فيهم ابن حميد. انظر: ترتيب المدارك تقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، تحقيق د. أحمد بكير 1/ 254 - 545، طبعة دار مكتبة الحياة بيروت - لبنان، ودار الفكر طرابلس - ليبيا، وحاشية قاعدة جليلة 123.

ثانياً: محمد بن حميد الرازي ضعيف عند أكثر أهل الحديث، قال الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب 2/ 69 رقم 5852: حافظ ضعيف. أ. هـ، وقال ابن حبان في المجروحين 2/ 303: كان ممن ينفرد عن الثقات بالأشياء المقلوبات، ولا سيما إذا حدث عن شيوخ بلده، قال أبو زرعة وابن وارة -للإمام أحمد-: صحّ عندنا أنه يكذب، قال صالح بن الإمام أحمد: فرأيت أبي، بعد ذلك إذا ذُكر ابن حميد نفض يده. أ. هـ.

ثالثاً: محمد بن حميد ضعيف في أحسن الأحوال كما تبيّن إذا أسند، فكيف إذا أرسل حكاية لا تعرف إلا من جهته، ولم يصرح في رواية هذه الحكاية بصيغة من صيغ التحديث، وإنما قال: ناظر مالك، فهي بهذا التعبير مرسلة.

رابعاً: معظم رجال الإسناد من ابن دلهاث إلى يعقوب غير معروفين ولا يعرف حالهم. انظر: قاعدة جليلة ص 124، والصارم المنكي ص 262.

خامساً: اتفق أصحاب مالك على أنه بمثل هذا النقل لا يثبت عن مالك قول في مسألة في الفقه، فكيف بحكاية ساقطة الإسناد وتناقض مذهبه.

سادساً: الثابت عن مالك في هذه المسألة قوله: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، لكن يسلم ويمضي. أ. هـ، وقد سبق بيان هذه المسألة وما صح عن الإمام مالك فيها، وهذه الحكاية مخالفة أيضاً للكتاب والسنة وما ثبت عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والأئمة الأربعة. والله أعلم.

(1)

أخرجه الدارمي في السنن قال: قحط أهل المدينة قحطاً شديداً، فشكوا إلى عائشة، فقالت: انظروا قبر النبي صلى الله عليه وسلم فاجعلوا من كوى إلى السماء، حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، قال: ففعلوا فمطروا مطراً حتى نبت العشب وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم، فسمي عام الفتق. (المقدمة، باب ما أكرم الله -تعالى- نبيه صلى الله عليه وسلم بعد موته) 1/ 43 رقم 93 من حديث أبي النعمان: ثنا سعيد بن زيد: ثنا عمرو بن مالك النكري، حدثنا أبو الجوزاء أوس بن عبد الله.

والكوة تفتح وتضم وهي الثقبة في الحائط وجمع المفتوح على لفظه كوّات. المصباح المنير ص 308 مادة كوى.

وفي الحديث العلل التالية:

أولها: إن سعيد بن زيد وهو ابن درهم الأزدي أخو حماد بن زيد صدوق وله أوهام.

انظر: التقريب لابن حجر 1/ 353 رقم 2319، قال عنه الذهبي في الميزان 2/ 138 =

ص: 265

ومع هذا فليس من هذا، وكذلك استسقاؤهم بدعائه ليس من هذا الباب، وأما اشتكاء البعير (1) إليه فهذا كاشتكاء الآدمي إليه، وما زال الناس

= رقم الترجمة 3185 تحقيق علي محمد البجاوي: علي عن يحيى بن سعيد ضعيف، وقال السعدي: ليس بحجة يضعفون حديثه، وقال النسائي وغيره ليس بالقوي، وقال أحمد: ليس به بأس، كان يحيى بن سعيد لا يستمرئه. أ. هـ.

ثانياً: عمرو بن مالك النكري ضعيف، قال ابن عدي في الكامل 5/ 150 - 151 رقم 347/ 1315: منكر الحديث عن الثقات، ويسرق الحديث، وذكر بعض أحاديثه ثم قال ولعمرو غير ما ذكرت أحاديث مناكير بعضها سرقها عن قوم ثقات. أ. هـ.

ثالثاً: إن أبا النعمان هو محمد بن الفضل يعرف بعارم، قال العلامة الألباني في التوسل ص 141: فد اختلط في آخر عمره، وقد أورده الحافظ برهان الدين الحلبي في المختلطين من كتابه المقدمة ص 391 (لم أقف على كتاب الحلبي) وهذا الأثر لا يدري هل سمعه الدارمي منه قبل الاختلاط أو بعده، فهو إذن غير مقبول، فلا يحتج به. أ. هـ.

رابعاً: في تلخيص الاستغاثة ص 68 - 69 ما نصه: ما روى عن عائشة رضي الله عنها من فتح الكوة من قبره إلى السماء لينزل المطر فليس بصحيح ولا يثبت إسناده، وإنما نقل ذلك من هو معروف بالكذب، وما يبين كذب هذا أنه في مدة حياة عائشة لم يكن للبيت كوة بل كان بعضه باقياً كما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بعضه مسقوف وبعضه مكشوف، وكانت الشمس تنزل فيه كما ثبت في الصحيحين عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها لم يظهر الفيء بعد"، صحيح البخاري (كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت صلاة العصر) 1/ 182 رقم 544، 545، 546.

ولم تزل الحجرة كذلك حتى زاد الوليد بن عبد الملك في المسجد .... وإلا فهي قبل ذلك كانت خارج المسجد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد موته.

ثم إنه بُني حول حجرة عائشة التي فيها القبر جدار عال وبعد ذلك جعلت الكوة لينزل منها من ينزل إذا احتيج إلى ذلك لأجل كنس أو تنظيف، وأما وجود الكوة في حياة عائشة فكذب بيّن، ولو صح ذلك لكان حجة دليلاً على أن القوم لم يكونوا يقسمون على الله بمخلوق ولا يتوسلون في دعائهم بميت ولا يسألون الله به، وإنما فتحوا على القبر لتنزل الرحمة عليه، ولم يكن هناك دعاء. أ. هـ.

خامساً: لا يعرف في تاريخ المسلمين عام سمي بعام الفتق، كما أن الإبل لا تتفتق من الشحم بل إذا زاد قد يقتلها أو يكسر ظهرها، أما التفتق فلا يحصل لها، كما هو معلوم لدى أهلها.

سادساً: لو سلمنا فرضاً بصحة الخبر فإنه موقوف على عائشة رضي الله عنها وليس بمرفوع. فليس فيه حجة لأنه يحتمل أن يكون من قبيل الآراء الاجتهادية لبعض الصحابة. انظر: التوسل للألباني ص 141.

(1)

يشير المؤلف إلى ما ورد عن جابر بن عبد الله، ويعلى بن مرة رضي الله عنهما عن شكوى =

ص: 266

يستغيثون به في حياته [كما](1) يستغيثون به يوم القيامة.

وقد قلنا: إنه إذا طُلب منه ما يليق بمنصبه فهذا لا نزاع فيه، والطلب منه في حياته والاستغاثة به في حياته فيما يقدر عليه لم ينازع فيه أحد، فما ذكره لا يدل [على](2) مورد النزاع.

ولكن هذا أخذ لفظ الاستغاثة ومعناها العام فجعل يتشبث به، وهذا إنما يليق بمن قال: لا يستغيث به أحد حياً ولا ميتاً في شيء من الأشياء.

ومعلوم أن عاقلاً لا يقول هذا في آحاد العامة، فضلاً عن الصالحين فضلاً عن الأنبياء والمرسلين؛ فضلاً عن سيد الأولين والآخرين، فإنه ما من أحد إلا ويمكن أن يستغاث به في بعض الأشياء؛ فكيف بأفضل الخلق وأكرمهم على الله.

= البعير للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد اختلف العلماء هل هما حادثة واحدة، أم واقعتان؟ ففي خبر جابر ذكر أن شكوى الجمل سببها أن أهله أرادوا نحره، ويعلى بن مرة ذكر كثرة العمل وقلة العلف. والراجح أنهما واقعتان.

عن يعلى بن مرة الثقفي قال: ثلاثة أشياء رأيتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بينا نحن نسير معه إذ مررنا ببعير يُسنى عليه فلما رآه البعير جرجر ووضع جرانه، فوقف عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أين صاحب هذا البعير فجاءه، فقال: بعنيه، فقال: لا بل أهبه لك، فقال: لا، بعنيه، قال: لا بل نهبه لك، وإنه لأهل بيت ما لهم معيشة غيره، قال أما إذ ذكرت هذا من أمره فإنه شكى كثرة العمل وقلة العلف فأحسنوا إليه

ثم ذكر سلام الشجرة عليه صلى الله عليه وسلم، والصبي الذي به جنون".

أخرجه البيهقي في دلائل، النبوة 6/ 22 - 26 وذكر روايات الخبر، وقال: ولما روينا في حديث يعلى بن مرة في أمر البعير الذي شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حاله بإسناد صحيح، وكأنه غير البعير الذي أرادوا نحره. أ. هـ، وأبو نعيم الأصبهاني في دلائله 2/ 382 رقم 283 وغيرهم.

وقال ابن كثير في البداية والنهاية 6/ 139 عن حديث يعلى بن مرة بعد أن ذكر طرقه: فهذه طرق جيدة متعددة تفيد غلبة الظن أو القطع عند المتبحرين أن يعلى بن مرة حدث بهذه القصة في الجملة. أ. هـ. وليس في الحديث دلالة على ما ادعاه البكري ولذا حكم النبي صلى الله عليه وسلم كما يحكم للبشر.

جرجر: أي ردد صوته في حنجرته. المصباح المنير ص 37 مادة جرر. والجران مقدم عنق البعير من مذبحه إلى منحره، فإذا برك البعير ومد عنقه على الأرض قيل ألقى جرانه. المصباح المنير ص 38 مادة جرين.

(1)

كذا في (د) و (ف) و (ح) وفي الأصل (كا).

(2)

كذا في (ح) وسقط من الأصل و (ف) و (د).

ص: 267

ولكن النفي عاد إلى الشيئين: إلى الاستغاثة به بعد الموت، وإلى أن يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله، فكيف إذا اجتمعا جميعاً؟ فإن من الناس من يستغيث بالموتى من الأنبياء والصالحين، ويطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله -تعالى-، فهذه الجمل الثلاث ملخص كلامه، وليس فيما ذكره ما يدل على مورد النزاع، ولا ما يناقض جواب المجيب، والحمد لله رب العالمين.

فعلم أن منازعيه لم يخصوا الملائكة والرسول بنفي يفهم منه طرح رتبتهم، وعدم صلاحيتهم للأسباب.

وأما قوله: (ولم يجعل الله لأحد تنقيص الرسل، وأجمع السلف والخلف على وجوب تعظيمهم في الاعتقاد والأقوال والأفعال).

فيقال: هذا حق، لكنه كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:"كلمة حق أريد بها باطل"(1)، وهو أن من سألهم ما لا يقدرون عليه أحياء وأمواتاً فقد آذاهم واعتدى عليهم؛ وهو مستحق للعقوبة التي يستحقها مثله.

بل من سألهم ما لا يريدون فعله حتى فعلوا ما يكرهون فهو مستحق للذم والمقت.

ومن ابتدع في دينهم ما لم يأذن به الله؛ [وما](2) يخالف ما جاؤوا به؛ لزم أن يكون دينهم ناقصاً، وأنهم أتوا بالباطل، وهذا مناقض بلا ريب لما يجب من الإيمان بهم وتعزيرهم وتوقيرهم.

ومن خالف ما جاؤوا به من توحيد الله وإفراده بالدعاء؛ فهو من أعظم المخالفين لهم اعتقاداً وقولاً وعملاً، فإن أعظم ما دعوا إليه التوحيد، فالمخالف له من أعظم الناس مخالفة لهم.

وقد بيّنا في "الصارم المسلول"(3) أن التوحيد والإيمان بالرسل

(1) أخرجه مسلم في كتاب (الزكاة، باب التحريض على قتل الخوارج) 2/ 749 رقم 1066 وأوله: عن عبيد الله بن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الحرورية لما خرجت، وهو مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه قالوا: لا حكم إلا حكم الله. قال علي: كلمه

الحديث.

(2)

كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (ومن).

(3)

انظر: الصارم المسلول على شاتم الرسول ص 40.

ص: 268

متلازمان، وكل أمة لا تصدق الرسل فلا تكون إلا مشركة، وكل مشرك فإنه مكذب للرسل، فمن دخل في نوع من الشرك الذي نهت عنه الرسل فإنه مناقض لهم مخالف لموجب رسالتهم.

وإذا كان كذلك فما قال هذا المفتري وأمثاله هو بدعة لم تشرعها الرسل؛ لو لم يرد ما يتضمن النهي عنها، فكيف إذا عُلم أنه نهى عنها؟.

أما المقام الأول: فإنه لا يمكن أحد أن يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته أن يستغيثوا بميت لا نبي ولا غيره، لا في جلب منفعة ولا دفع مضرة، لا بهذا اللفظ ولا معناه.

فلا يشرع لهم أن يدعوا ميتاً ولا يسألوه ولا يدعوا إليه ولا أن يستجيروا به، ولا يدعوه (لا رهبة ولا رغبة)(1)، ولا يقول أحد لميت: أنا في حسبك أو أنا في جوارك أو أنا أريد أن تفعل كذا وكذا، ولا أن يخطوا إلى قبر ميت خطوات وأن يتوجه إلى جهة قبره ويسأله، كما يفعل كثير من النصارى؛ وأشباه النصارى من ضلال هذه الأمة بكثير من شيوخهم وغير شيوخهم.

ولا يشرع لأحد أن يقول لميت: سل الله لي، أو [ادع](2) لي.

ولا يشرع لهم أن يشكوا إلى ميت؛ فيقول أحدهم مشتكياً إليه علي دين، أو آذاني فلان، أو قد نزل بها العدو، أو أنا مريض، أو أنا خائف ونحو ذلك من الشكاوى، سواء كان هذا السائل عند قبر الميت، أو كان بعيداً منه، وسواء كان الميت نبياً أو غيره.

بل ولا يشرع لأمته إذا كان لأحدهم حاجة أن يقصد قبر نبي، أو صالح فيدعو لنفسه ظاناً أن الدعاء عند قبره يجاب.

بل ولا يشرع لأمته أن يقسموا على [الله بمخلوق](3) من المخلوقات لا نبي ولا غيره؛ سواء أقسموا عليه بحاجة أو غير حاجة.

ولا يشرع لأمته أن يتوسلوا إلى الله بذات ميت أصلاً؛ بل ولا بذات

(1) في (ف) لا رغبة ولا رهبة.

(2)

كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (دع).

(3)

كذا في (ح)، وفي الأصل و (د) و (ف)(على مخلوق) سقط لفظ الجلالة (الله) والباء، وفي (ط)(عليه بمخلوق).

ص: 269

حي، إلا أن يكون التوسل بما أمر الله به من الإيمان به وطاعته، أو بدعاء المتوسل به وشفاعته، فأما إذا لم يكن المتوسل يتوسل بما أمر الله به؛ ولا بدعاء الداعي له فليس هناك وسيلة شرعها الله ورسوله.

فإذا كان النبي والرجل الصالح له عند الله من الجاه والقدر والحرمة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فهذا لا ينتفع المتوسل به إلا بأحد وجهين:

(1)

إما أن يتوسل المتوسل بما أمر الله به من الإيمان به ومحبته وطاعته وموالاته والصلاة عليه والسلام ونحو ذلك، فهذه هي الوسيلة التي أمر الله بها في قوله:{اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35].

فالوسيلة تجمعها طاعة الرسول؛ فكل وسيلة طاعة للرسول، وكل طاعة للرسول وسيلة، و {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (2) [النساء: 80]، {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)} [النساء: 69].

الوجه الثاني: أن يدعو له الرسول، فهذه (3) أيضاً مما يتوسل به إلى الله -تعالى-، فإن دعاءه وشفاعته عند الله من أعظم الوسائل، فأما إذا لم يتوسل العبد بفعل واجب [ولا](4) مستحب ولا الرسول دعا له؛ فليس في عظم قدر الرسول ما ينفعه.

ولكن بعض الناس (5) الذين دخلوا في دين الصابئين (6) والمشركين؛

(1) هذا هو الوجه الأول.

(2)

في جميع النسخ لم يفصل بين الآيتين.

(3)

في (د) فهذا.

(4)

كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (أو).

(5)

(الناس) سقطت من (د).

(6)

الصابئة: ينقسمون إلى صابئة حنفاء، وصابئة مشركين وهم الأكثر، وبعض المؤلفين يقسمهم إلى: الصابئة المندائيين، وقد يكون أصل دينهم الحنيفية ولكن مالوا لغيرها، والصابئة الحرانيين وهم المشركون، ومنهم الفلاسفة، والمشركون منهم يعظمون الكواكب، ولم يبق من الصابئة اليوم إلا المندائيين، وهم في إيران والعراق وأكثرهم بالعراق "يعرفون بصابئة البطائح"، وهم مشركون تأثروا بالحرانيين في عبادة الكواكب =

ص: 270

ظنوا شفاعة الرسرل لأمته لا يحتاج إلى دعاء منه، بل الرحمة التي تفيض على الرسول تفيض على المستشفع؛ من غير شعور من الرسول، ولا دعاء منه (1)، ومثَّلوا ذلك بانعكاس شعاع الشمس إذا وقع على جسم صقيل ثم انعكس على غيره، فإن الشمس إذا وقعت على الماء أو مرآة؛ وانعكس شعاعها على حائط أو غيره حصل النور في الموضع الثاني بواسطة الشعاع المنعكس على المرآة، قالوا: فهكذا الرحمة تفيض على النفوس الفاضلة كنفوس الأنبياء والصالحين، ثم تفيض بتوسطهم على نفوس المتعلقين بهم، وكما أن انعكاس الشعاع يحتاج إلى المحاذاة فكذلك الفيض لا بد فيه من توجه الإنسان إلى النفوس الفاضلة و [جعل](2) هؤلاء الفائدة في زيارة قبورهم من هذا الوجه.

وقالوا: إن الأرواح المفارقة تجتمع هي والأرواح الزائرة فيقوى تأثيرها (3)،

= وتعظيمها واعتقاد تأثيرها، وعبادة الشياطين والتقرب إليها والتلقي عنها.

انظر: الفهرست تأليف ابن النديم، تحقيق رضا تجدد ص 382 - 392، الناشر مكتبة الأسدي ومكتبة الجعفري طهران - إيران، والملل والنحل 1/ 230 - 231، والموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة، للندوة العالمية للشباب الإسلامي ص 317 - 326.

(1)

(منه) سقطت من (د).

(2)

كذا في (د) و (ح) وفي الأصل و (ف)(وجعلوا).

(3)

انظر: هذه الأقوال في كتاب: المضنون به على غير أهله، لأبي حامد الغزالي، ضبط رياض مصطفى العبد الله ط 1407 هـ، الناشر دار الحكمة دمشق، فقد تكلم على الشفاعة في ص 94 - 97، وعلى زيارة القبور في ص 121 - 126.

وهذا الكتاب في نسبته لأبي حامد الغزالي خلاف، يقول المؤلف في مجموع الفتاوى 4/ 65: كان طائفة من العلماء يكذبون ثبوته عنه، أما أهل الخبرة به وبحاله فيعلمون أن هذا كله كلامه، لعلمهم بمواد كلامه ومشابهة بعضه بعضاً، ولكن كان هو وأمثاله -كما قدمت- مضطربين لا يثبتون على قول ثابت، لأن عندهم من الذكاء والطلب ما يتشوقون به إلى طريقة خاصة الخلق، ولم يقدر لهم سلوك طريق خاصة هذه الأمة. أ. هـ. وما ذكره الغزالي في كتاب المضنون به على غير أهله، ذكر نحوه في مشكاة الأنوار والأربعين ومعارج القدس وغيرها. انظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة 2/ 625، 636، والفلسفة النورانية القرآنية عند الغزالي، تأليف د. زكريا بشير إمام ص 102، الطبعة الأولى 1409 هـ، الناشر مكتبة الفلاح الكويت.

ص: 271

و [هذه](1) المعاني [ذكرها](2) طائفة من الفلاسفة (3) ومن أخذ عنهم كابن سينا (4) وأبي حامد (5) وغيرهم.

وهذه الأحوال هي من أصول الشرك وعبادة الأصنام، وهي من المقاييس (6) الفاسدة التي قال بعض السلف:"ما عُبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس"، وهي من أقوال من يقول: إن الدعاء إنما تأثيره بكون النفس تتصرف في العالم، لا بكون الله يجيب الداعي (7)، وهي مبنية على أن الله ليس بفاعل مختار يحدث الحوادث بمشيئته واختياره.

بل هؤلاء يقولون: إن الرب يوجب العالم بذاته، ويسمونه علة العلل،

(1) كذا في (ط) وفي جميع النسخ (هي) وفي هامش (ح) لعله (هذه)، ولا يستقيم المعنى إلا بما أثبت أعلاه.

(2)

كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (ذكر).

(3)

الفلاسفة هم من ينسبون إلى الفلسفة، والفلسفة كلمة يونانية مركبة من كلمتين هما:(فيلا) أي: محبة، و (سوفيا) أي: الحكمة، فمعناها محبة الحكمة، ومبدأ الفلسفة من الروم واليونان وغيرهم عيال عليهم. انظر: الملل والنحل 2/ 59، وعقائد الثلاث والسبعين 2/ 745.

(4)

هو أبو علي، الحسين بن عبد الله بن سينا، شرف الملك، الفيلسوف الوزير تقلد الوزارة في همدان، أخبر عن نفسه أنه ووالده من الباطنية، برز في الطب واشتهر، أشهر كتبه "القانون" في الطب. هلك سنة 428 هـ. انظر: السير 17/ 531 ترجمة رقم 356، والأعلام 2/ 241.

(5)

هو زين الدين أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الشافعي الغزالي برع في الفقه، والكلام والجدل، درس في نظامية بغداد، ثم تصوف وتركها، أشهر كتبه "إحياء علوم الدين"، كانت خاتمة أمره إقباله على طلب الحديث ومجالسة أهله، قال عنه أبو بكر بن العربي: شيخنا أبو حامد بلع الفلسفة، وأراد أن يتقيأها فما استطاع. أ. هـ توفي سنة 505 هـ. انظر: السير 19/ 322 ترجمة رقم 204، والأعلام 7/ 22.

(6)

في (د) مقائس.

(7)

انظر: مقاصد الفلاسفة لأبي حامد الغزالي ص 380 - 382 الطبعة الثانية، تحقيق د. سليمان دنيا، الناشر دار المعارف مصر، ونصه: الخاصة الأولى في قوة النفس في جوهرها، بحيث تؤثر في هيولى العالم بإزالة صورة وإيجاد صورة، بأن يؤثر في استحالة غيرها، ويؤثر في استحالة الهواء غيماً، ويحدث مطر كالطوفان، أو بقدر الحاجة للاستسقاء. أ. هـ. وذكر تصرف النفس والعين وقالوا مثل هذا يعبر عنه بالكرامة والمعجزة.

ص: 272

ويقولون: إنه علة تامة (1)، وإذا كان كذلك فلابد للحوادث من سبب فجعلوا حدوثها بسبب حركة الفلك وما يحدث عنها من الأشكال الفلكية والاتصالات الكوكبية (2).

ثم الإلهِيُّون منهم يقولون: إن الحركة سبب الاستعدادات من العالم السفلي (3) لأن يفيض عليها من العقل الفعال (4) الصور النوعية (5)، وأن يفيض على النفوس العلوم والأخلاق وغير ذلك.

وهؤلاء يجيزون أن يعبد الإنسان الكواكب، لأنه بتوجهه إليها يفيض إليه منها أمور، وكذلك الأصنام لأنه بتوجهه إلى الصنم يكون متوجهاً إلى صاحبه فيفيض عليه أمور، والنفوس المفارقة (6) هي سعيدة؛ فإذا توجه المتوجه إلى تلك النفوس والقبر الذي دفن فيه بدنها فاضم [عليه](7) منها ما يفيض، وقد بسطنا الكلام على هؤلاء، وبينَّا فساد قولهم بالعقل الصريح المطابق بالنقل الصحيح بما ليس هذا موضعه (8).

(1) العلة التامة: هي ما يجب وجود المعلول عندها، وقيل العلة التامة: جملة ما يتوقف عليه وجود الشيء، وقيل: هي تمام ما يتوقف عليه وجود الشيء بمعنى أنه لا يكون وراءه شيء يتوقف عليه. التعريفات للجرجاني ص 154 حرف العين والمراد الأول.

(2)

في (ف) الملكوتية.

(3)

يقسم الفلاسفة العالم إلى العالم العلوي، أي عالم الأفلاك وما فيه من العقول والنفوس والأجرام، وعالم سفلي وهو عالم الكون والفساد، وهو ما تحت السماء. المعجم الفلسفي د. جميل صليبا 2/ 46 الناشر دار الكتاب اللبناني.

(4)

العقل الفعّال هو الذي تفيض عنه الصور على عالم الكون والفساد، وإذا أصبح العقل الإنساني شديد الاتصال بالعقل الفعال كأنه يعرف كل شيء من نفسه سمي بالعقل القدسي. المعجم الفلسفي تأليف د. جميل صليبا 2/ 86.

(5)

الصور النوعية: الصورة عند الفلاسفة مقابلة للمادة، ويفرقون بين الصور الجسمية والصور النوعية. ويعرّفون النوعية بأنها: جوهر بسيط لا يتم وجوده بالفعل دون وجود ما حل فيه. والجسمية بأنها: جوهر بسيط متصل لا وجود لمحله دونه. انظر: التعريفات للجرجاني ص 135 - 136 باب الصاد، والمعجم الفلسفي د. جميل صليبا 1/ 724.

(6)

النفوس المفارقة، أي المفارقة للبدن.

(7)

في الأصل وجميع النسخ (عليها) ولا يستقيم المعنى.

(8)

قال المؤلف في درء التعارض 7/ 175: الفلاسفة القائلون بدعوة الكواكب فيهم =

ص: 273

والكلام [إذا](1) كان في أحكام أفعال العباد لم يكن لأحد أن يتكلم إلا بدليل شرعي، لا (2) أن يدعو (3) إلى دينٍ غير دين الإسلام، ولا ريب أن هذه الأقوال ونحوها تدعو إلى غير دين الإسلام.

وقول هذا المفتري وأمثاله يجر إلى مثل هذا؛ لكنهم لا يعرفون أصل قولهم ولوازمه؛ بل هم على عادة تعوَّدوها واتباع [أشياخ](4) لهم، فيهم نوع من علم ودين، ليس لهم خبرة بحقيقة ما جاء به الرسول، وعندهم تعظيم للأنبياء (5) والصالحين من جنس تعظيم النصارى والمشركين، يعظمونهم تعظيم ربوبية من جهة ما يرجونه من حصول مطالبهم من جهتهم، لا يعظمونهم لكونهم رسل الله الذين أمروا بطاعتهم، فيجب أن يطاعوا فيما أمروا به؛ وأن يقتدى بهم فيما شرع التأسي بهم فيه، يعرضون عن بعض طاعتهم والتأسي بهم، ويقبلون على نوع من دعائهم وسؤالهم والإشراك بهم، وهؤلاء بالنصارى أشبه منهم بالصابئة الفلاسفة (6)، لكن الجميع فيهم شرك.

ونحن في هذا الموضع ليس بنا حاجة إلى نفي تأثير هذه الأسباب فإنه ليس لكل سبب أثر يكون مشروعاً، بل الشارع ينهى عن أمور لها تأثير في طلب بعض المطالب؛ إذا كان ضررها راجحاً على نفعها، كما ينهى عن السحر ونحو ذلك، وإن كان قد يمكن أن يُقتل به كافر، ويُطّلَعُ بذلك على

= المشرك، وفيهم المعطل، ونفي الصفات من أقوالهم، فمنهم من لا يثبت لهذا العالم المشهور رباً أبدعه، كما هو قول الدهرية الطبيعة منهم، ويجعلون العالم نفسه واجب الوجود بذاته، ومنهم من يثبت له مبدعاً واجباً بنفسه أبدعه، كما هو قول الدهرية الإلهية منهم. أ. هـ. وانظر: إغاثة اللهفان 1/ 337 - 338.

(1)

كذا في (د) و (ح) وفي الأصل (إذ) وفي (ف) غير واضحة ويبدو أنها (إذا).

(2)

في (د)(إلا).

(3)

في جميع النسخ يدعوا بزيادة الف الجماعة.

(4)

كذا في (ح) وفي الأصل و (ف) و (د) الشيوخ ولا يستقيم المعنى.

(5)

في (د) الأنبياء.

(6)

لأن النصارى تدعي الإلهية في الأنياء والصالحين، وأنهم قادرون على الضر والنفع، أما الفلاسفة فلا يعظمون الأنبياء بل يحطون من قدرهم حتى جعلوا الفيلسوف أعلى منهم درجة، وهؤلاء القبورية مثل النصارى في التعظيم.

ص: 274

بعض أخبار أعداء الإسلام، وكذلك [عباد](1) الكواكب قد تخاطبهم الشياطين وتحصل لهم بعض مطالبهم، ودعاء الغائبين والأموات من هذا الباب، فقد يحصل أحياناً [أن](2) شيطاناً يتمثل للداعي، وقد يُحصل بعض مطالبه، لكن هذا كله منهي عنه لما ترتب عليه من الفساد ما يغمر ما يُظَنُّ فيه من المنفعة.

وهذه التأثيرات قد تحصل عند بعض القائلين بقدم العالم والقائلين بحدوثه، بخلاف ما يقول: إن الأثر الحاصل لا يكون إلا فيضاً، فهذا لا يكون إلا على قول القائلين بالقدم، وقد بيّنا في غير هذا الموضع أن هؤلاء الذين يقولون بقدم العالم وصدوره عن موجب [بذاته](3) هو علة تامة، [حقيقة] (4) قولهم: إن الحوادث تحدث بلا محدث أصلاً، وأن حركة الفلك الحادثة شيئاً بعد شيء ليس لها مُحدثِ أصلاً، ويقولون: إنه يتحرك حركة شوقية (5) بقولهم في حركته من جنس قول القدرية في حركة الحيوان، والقدرية أخرجوا فعل الحيوان [أن يكون](6) مخلوقاً لله عز وجل ، وأثبتوا حادثاً لا محدث له، وهؤلاء الصابئة والفلاسفة أخرجوا حركة الفلك وجميع الحادثات من أفعال الحيوان وغيرها عن أن تكون مخلوقة لله -سبحانه- وأثبتوا هذه الحوادث بلا محدث.

والناس ردوا على القدرية، وقالوا: إرادة العبد حادثة بعد أن لم تكن فلا بد لها من محدث، وإذا قيل: العبد أحدث بلا إرادة لزم وقوع الحوادث من المختار بلا إرادة، وإن قيل: بإرادة فالقول فيها كالقول في الأولى.

(1) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل عبادة.

(2)

ما بين المعقوفين يقتضيه السياق، وهو في (ط) بين معقوفين، وليس في جميع النسخ.

(3)

كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (بذته) بدون الف.

(4)

كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (حقيقية) بزيادة ياء.

(5)

الحركة الشوقية هي: أي أن يكون الفلك متحركاً بطريق العشق، ولا يكون الرب -تعالى- فاعلاً للحركة بل تكون لأجل الحركة، من حيث كونه معشوقاً ومقصوداً يطلب التشبه به والاقتداء. انظر: مقاصد الفلاسفة، لأبي حامد الغزالي ص 280.

(6)

ما بين المعقوفتين من (د) و (ح) وفي (ف)(أنه يكون) وسقط من الأصل.

ص: 275

وهؤلاء القدرية قالوا: إرادة الرب يحدثها لا في محل بلا إرادة منه، كما قال ذلك البصريون من المعتزلة (1)، وقالوا: إرادة العبد يحدثها في نفسه بلا إرادة منه، وكلاهما ممتنع.

ثم يقال لهم: حدوثها بعد أن لم تكن حادثة أمر حادث فلا بد له من محدث، وقد يقال: الإرادة أمر ممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح تام، والمحدث والمرجح إن كان من العبد فالقول في حدوثه كالقول في الأول، وذلك يستلزم التسلسل في أفعال العباد، وأفعال العباد لها أول فيمتنع التسلسل فيها، فلزم أن يكون المحدث المرجح لها خارجاً عن العبد، وكل ما يذكر سوى الرب -تعالى- مُنته إليه والمحدث والمرجح هو الله -تعالى-.

وقول الصابئة والفلاسفة أفسد من قول القدرية، فإنه يقال: إذا كان الرب عندكم علة تامة موجباً بذاته في الأزل لم يزل ولا يزال هكذا، ومعلوله لازم لذاته لا يمكن تأخره عنه امتنع أيضاً [أن تصدر عنه حركة الفلك وغيرها من الحوادث، وامتنع](2) أن يصدر عنه ما يستلزم الحوادث، والعالم مستلزم للحوادث، فيمتنع صدوره عن العلة التامة لأن الحوادث تحدث شيئاً بعد شيء؛ كما أن حركة الفلك تحدث شيئاً بعد شيء، والعلة التامة لا يحدث معلولها ولا شيء من معلولها شيئاً بعد شيء، بل جميع معلولها (3) مقارن لها أزلاً وأبداً لا يتأخر منه شيء عن الأول، وإذا كان كذلك (4) فالحوادث كأجزاء الحركة الفلكية يمتنع صدورها عن الموجب بذاته، وإذا قيل: إن الحركة سببها الشوق الذي في الفلك للتشبه بالأول، قيل: فتلك الإرادة والتصور الذي هو سر ما في الإرادة الذي هو سبب الحركة (المتجددة، التي تجدَّدُ الحركة)(5) بتجدده، هو أيضاً من الحوادث المتعاقبة وهو نوع حركة نفسانية؛ فلا بد لها من محدث، فإذا كانت العلة التامة لا يتأخر عنها معلولها امتنع (صدور ذلك)(6)

(1) انظر: الملل والنحل للشهرستاني 1/ 80، والمعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق ص 103.

(2)

ما بين المعقوفتين من (ف) و (د) و (ح) وسقط من الأصل.

(3)

في (ف) معلومها.

(4)

(كذلك) سقطت من (د).

(5)

ما بين القوسين سقط من (د) و (ح).

(6)

ما بين القوسين في (د) صدورها.

ص: 276

عنه، وإذا كان الفلك لا يخلو من الحوادث امتنع صدور [ها](1) عنه، لأن [وجود](2) الملزوم بدون اللازم ممتنع، ووجود (3) اللازم ممتنع، ولو قدر مقدر أن العالم لم يكن فيه حادث ثم تجددت الحوادث؛ لكان القول فيما ليس بمتجدد؛ كالقول في غيره، فإن التقدير أنه هناك فاعل لا علة تامة، والعلة التامة لا يتجدد عنها شيء بل معلولها مقارن لها.

وهذا إذا تصوره العاقل علم بالضرورة بطلان قول هؤلاء الذين هم من أبعد الناس عن المعقول الصريح كبعدهم عن المنقول الصحيح، ثم هل تقوم بالرب الأمور الاختيارية التي يسمونها الحوادث؟ لهم في ذلك [قولان](4) كما للمتكلمين قولان، وطائفة من الأساطين القدماء يجوزون ذلك وهو قول أبي البركات (5) صاحب "المعتبر" وغيرهم من متأخريهم، ومنهم من لا يجوِّزه كابن سينا وأمثاله، فمن لم يجوز ذلك ظهر فساد قوله بقدم العالم ظهوراً بيّناً، ومن جوزه أيضاً فيمتنع عليه أن يقول بقدم شيء من العالم، فإنه حينئذٍ إذا كان الرب يفعل شيئاً بعد شيء بأفعال [تقوم](6) بذاته؛ لم يكن قط علة تامة لمفعولاته، بل كل ما يفعله ويحدثه هو فاعل له حين أحدثه وفعله، والمؤثر التام يستلزم أثره، كما أن الأثر يستلزم مؤثره التام.

ولهذا كان مذهب أهل السنة أن القدرة لابد أن تكون مع مقدورها، ولا يجوز أن تكون معدومة عند (7) وجود المقدور، ولكن تنازعوا هل يكون وجودها قبل مع بقائها؟.

(1) كذا في (د) و (ح) وفي الأصل و (ف)(صدوره) والضمير يعود على الحوادث.

(2)

كذا في (ف) و (ح) وفي الأصل و (د)(وجوده).

(3)

في (ف) غير واضحة.

(4)

كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل قولاً.

(5)

هو أبو البركات، هبة الله بن علي بن ملكا البلدي، كان يهودياً فأسلم في آخر عمره، الفيلسوف، الطبيب، خدم الخليفة المستنجد، له كتاب "المعتبر" مات نحو 560 هـ. انظر: السير 20/ 419 ترجمة رقم 275 والأعلام 8/ 74.

وقد نقل عنه ابن تيمية قوله في مجموع الفتاوى 6/ 302، قال أبو البركات: لم يقل ذلك أحد من العقلاء. أ. هـ.

(6)

كذا في (ح) و (ط)، وفي جميع النسخ (يقوم) بالياء.

(7)

في (د) عن.

ص: 277

والصواب التفريق بين القدرة المصححة (1) التي يشترط في الفعل معها وجود الإرادة؛ وبين القدرة الموجبة (2) وهي مجموع ما يستلزم المقدور.

وأما القدرية فقالوا: إن القدرة لا تكون إلا قبل الفعل، وإذا كانت الحوادث يحدثها شيئاً بعد شيء بحسب حدوثها لزم أن تقوم به الأفعال الاختيارية، وإذا كانت كذلك بطل أصل قولهم الذي بنوا عليه قدم العالم، حيث قالوا هو موجب بالذات لا فاعل بالاختيار، وإذا كان كذلك قارنت موجبه، فإذا كان نفس الحوادث يستلزم أن يكون فاعلاً أفعالاً متعاقبة بطل كونه موجباً بذاته بمقارنة موجبه، فبطل التلازم الذي ذكروه وجاز أن يكون محدثاً للأفلاك.

وإن كان قد أحدث قبلها شيئاً آخر كما أخبر الله -تعالى- أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء، كذلك في التوراة أنه خلق السموات والأرض وكان الماء مستبحراً (3) غامراً الأرض والرياح تهب فوقه (4).

وملخص ذلك أنه لو كان شيء من العالم قديماً لكان موجباً بذاته بمقارنة (5) موجبه لا يتأخر عنه، والثاني باطل لأنه لو كان كذلك لم يحدث في

(1) القدرة المصححة: وهي السابقة للفعل، وهي الاستطاعة المشروطة في التكليف كما قال تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، وهي صالحة للفعل والترك، ولم يعرف القدرية غيرها، كما لم يعرفها الجبرية. انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 18/ 172 - 173.

(2)

القدرة الموجبة: وهي المقارنة للفعل، وهي المنفية عمن لم يفعل في مثل قوله:{مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود: 20]، ولم يعرف الجبرية كالأشاعرة وغيرهم غير هذه القدرة، ولم يعرفها القدرية. انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 18/ 173.

(3)

مستبحراً اسم مفعول للبحر، والبحر هو الماء الكثير ملحاً كان أو عذباً وهو خلاف البر. وإنما سُمي البحر بحراً لسعته وانبساطه، وقد غلب على الماء المالح حتى قل في العذب. انظر: لسان العرب لابن منظور 4/ 41، والقاموس المحيط ص 441 مادة بحر.

(4)

جاء في سفر التكوين الإصحاح الأول فقرة 2: وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمه وروح الله يرف على وجه المياه. انظر: الكتاب المقدس - التوراة طبعة دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط.

(5)

كذا في الأصل و (ح) وفي (ف) و (د) بقارنه.

ص: 278

العالم شيء؛ لأن العالم بجميع ما فيه موجب له فلو كان موجبه يقارنه (1) في الأزل [لزم أن لا](2) يحدث في العالم شيء، ولو أوجب (3) العالم دون الحوادث لوجد الملزوم دون اللازم، ولحدثت الحوادث بعد ذلك عن الموجب (4) المستلزم لموجبه في الأزل، وكلاهما ممتنع.

وكل خبر في العالم فهو مستلزم لمقارنة الحوادث؛ إذ يمكن أن تقوم به الحوادث، فلو كان صادراً عن موجب بالذات لامتنع حدوث الحوادث مقارنة له أو حادثة بعده، لأن صدورها عن موجب بالذات ممتنع؛ لا سيّما والذات التي من شأنها أن تقوم بها الأفعال المتعاقبة فيفعل شيئاً بعد شيء، لا يكون فعلٌ معين لازماً لذاتها، فلو كان في العالم شيء قديم تبين أنه إنما يلزمها نوع الأفعال لا فعل معين.

وأيضاً فلزوم الفعل المعين لمفعول معين لذات تقوم بها الأفعال المتعاقبة وتفعل شيئاً بعد شيء غير معقول، فإنها متى كانت كذلك؛ امتنع أن يلازمها أزلاً وأبداً فعل (5) معين، فإن ملازمة المعين ينافي كون فعلها شيئاً بعد شيء.

وإذا قيل: يلزمها فعل معين ولا يلزمها شيء من الأفعال، كانت أفعالها منقسمة إلى معين لازم لها؛ وإلى نوع يحدث شيئاً بعد شيء فهي للأول موجبة [بذاتها](6) وللثاني (7) فاعلة باختيارها، فيكون موجبة بالذات لمفعول وفاعل بالاختيار لمفعولات، واجتماع هذين في الذات الواحدة تناقض، لأن كونها فاعلة بعد اختيارها شيئاً بعد شيء، يناقض اتصالها بالإيجاب بالذات، مع أن الفعل المعين الملازم للذات لا يعقل، ولا يعقل الفعل إلا الإحداث، وانما يعقل (8) فيما كان لازماً لها أن تكون صفة لها كالحياة، لا أن يكون مفعولاً

(1) في (ف) بقارنه.

(2)

كذا في (ف) و (د) و (ح) وسقط من الأصل.

(3)

في (ف) و (د) وجد وفي (ح) وجب.

(4)

في (د) الموجد.

(5)

في (ف)(افعل).

(6)

كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل بذتها بدون ألف.

(7)

في (د) والثاني.

(8)

كذا في الأصل و (ح) وفي (ف) يفعل وفي (د) يقل.

ص: 279

لها، فكونه مفعولاً يناقض كونه معه لازماً؛ لا سيما إذا كان الفاعل فاعلاً بالاختيار.

والمقصود هنا أنه إذا لم يحصل من العبد فعلٌ أمره الله به في حق الرسول، ولم يحصل من الرسول شفاعة له، فلا يتصور أن ينتفع بجاه الرسول؛ منفعة أمر الله بها (1) في دين الرسل وأتباعهم من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم، لكن (على قول)(2) غير أهل التوحيد من المشركين القائلين بحدوث العالم والقائلين بقدمه، فإن المشرك قد يدعو (3) إلهاً من دون الله فتخاطبه الشياطين وربما قضت له بعض الحاجات، وهذا معروف في عباد الكواكب وعباد الموتى من الصالحين وغير الصالحين.

وأما على قول الصنف الثاني من المشركين الذين جمعوا في الحقيقة بين التعطيل والإشراك، فأنكروا أن يكون خالقاً للعالم بقدرته ومشيئته، وهم مشركون، فمن هؤلاء من يقول إنه قد يفيض عليه من الشفيع شيء بغير دعاء الرسول، لكن لا بد عند هؤلاء من توجه من العبد؛ ولا يشترطون التقرب بما شرعته الرسل، بل يمكن عندهم إذا سجد لتماثيله أو لقبره ودعاه من دون الله أن يحصل له ذلك، كما يحصل إذا توجه إلى الشمس من سخونة شعاعها ما يحصل.

والفرق بين الموحدين والمشركين، أن الموحدين يقولون: إن ما أمرت به الرسل من العبادات إنما يتقرب [به](4) إلى الله؛ والأجر فيه على الله، وإنما على الرسول البلاغ؛ ليس عليه حصول الثواب، ولا يشترط أن يكون واسطة في وجوده بل يخلق الله الثواب بغير واسطة الرسول، وأما شفاعة الرسول فهي دعاء لله تبارك وتعالى، وهؤلاء يقولون: لا يحصل إلا بتوسطهم وإن فاض عنهم بغير قصد، فهذا أصل ينبغي معرفته.

(1) في الأصل و (ف) و (د) كلمة (ودينه) وليس لها معنى، وفي (ح) بياض بمقدار كلمة، وقد حذفت كلمة (ودينه) ليستقيم المعنى، ويظهر لي أنها زيادة.

(2)

ما بين القوسين سقط من (د) و (ح).

(3)

في الأصل و (د) زيادة ألف وهو خطأ.

(4)

كذا في (ف) و (د) و (ح) وسقطت من الأصل.

ص: 280

فإن هذا الضال وأمثاله يجعلون الأنبياء والصالحين من جنس الذين يظنون أن النفع والضر يحصل لهم بتوسطهم؛ كما يجعل الشعاع والحرارة بتوسط الشمس.

ونحن نقول: إن كل ما شرعه الله ورسوله فهو من أعظم الوسائل (إلى الله، لكن دعاؤهم بعد الموت لم يشرعه الله ورسوله فليس من الوسائل)(1)، وكذلك سؤال أحدهم ما لا يقدر عليه إلا الله ليس مشروعاً، وأصل الدين أن لا يعبد إلا الله، وأن لا يعبد إلا بما شرع، وما ذكره هؤلاء يتضمن عبادة غير الله بغير أمر الله.

المقام الثاني: أن يقال هذا مما نهت عنه الرسل، فقد ثبت في الصحاح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذ القبور مساجد وقال:"لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"؛ يحذر ما فعلوا (2)، وقال:"لا تجلسوا على القبور ولا تصلّوا إليها"(3).

فلو كان الدعاء عند القبور أجوب منه في غير تلك البقعة لكان قصدها للدعاء عندها مشروعاً لم يُنه أن يتخذ مسجداً، فإن اتخاذ القبور [مساجد](4) يدخل فيه الصلاة وغيرها؛ ويدخل فيه بناء المساجد عليها، وكلاهما منهي عنه، بل يحرم كما صرح به غير واحد من العلماء (5) فإن النبي صلى الله عليه وسلم لعن من فعل ذلك تحذيراً لأمته، وهذا يقتضي توكيد التحريم.

فإن الدعاء في الصلاة أجوب منه في غيرها؛ كالدعاء في دبرها كما

(1) ما بين القوسين سقط من (د).

(2)

أخرجه البخاري في (كتاب الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور) 1/ 395 رقم 1330 وأطرافه بالأرقام التالية: 435، 1390، 3453، 4443، 5815، ومسلم في (كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها) 1/ 377 رقم 532 وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها.

(3)

أخرجه مسلم في (كتاب الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه) رقم 972، 2/ 668 من حديث أبي مرثد الغنوي.

(4)

كذا في (ح) وفي الأصل (ولمساجد) وفي (ف) و (د)(لمساجد).

(5)

قال النووي في المجموع 5/ 285 ط مطبعة الإمام بمصر: اتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على كراهية بناء مسجد على القبر، سواء كان الميت مشهوراً بالصلاح أو غيره، لعموم الأحاديث، وقال الشافعي: وتكره الصلاة إلى القبور، سواء كان الميت صالحاً أو غيره. =

ص: 281

جاءت به السنة في الأدعية الشرعية؛ فإنها مشروعة في آخر الصلاة، و (1) كذلك الدعاء عقب الصلاة.

وأفضل الدعاء دعاء يوم عرفة؛ وإنما يكون بعد صلاة الظهر والعصر، والوقوف بمزدلفة ودعاؤها بعد صلاة الفجر، والطواف يجري مجرى الصلاة؛ ولهذا يستحب الدعاء في آخره، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول بين الركنين:"ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار"(2)، والطواف تحية المسجد الحرام.

وأما "منى" فعبادتها رمي الجمار، ولهذا يرمونها يوم النحر ثم ينحرون، كما يصلون في الأمصار ثم ينحرون، فليس بمنى صلاة عيد بل رمي جمرة العقبة لهم كصلاة العيد لغيرهم، وسائر الجمرات ترمى عقب الزوال قبل صلاة الظهر، وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنما جعل السعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله"(3).

= وقال الحافظ أبو موسى قال الإمام أبو الحسن الزعفراني: ولا يصلى إلى القبر ولا عنده تبركاً به. أ. هـ.

وقال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن 10/ 380: قال علماؤنا: يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد. أ. هـ.

واتفق العلماء في عصر الملك الظاهر بيبرس في القرن الثامن الهجري على لسان واحد أنه يجب على ولي الأمر أن يهدم القباب كلها وأن يكلف أصحابها برمي ترابها ولم يختلف منهم أحد. انظر: المدخل لابن الحاج 1/ 253 طبعة 1401 هـ الناشر دار الحديث. وأقوال العلماء في هذه المسألة كثيرة تركناها للاختصار. وانظر: أقوال العلماء من المذاهب الأربعة في كتاب النبذة الشريفة في الرد على القبوريين ص 132 وما بعدها فقد نقل أقوالهم بألفاظهم، فأفاد وأجاد في ذلك.

(1)

الواو سقطت من (ف) و (د).

(2)

أخرجه أبو داود في (كتاب المناسك، باب الدعاء في الطواف) رقم 1892، 2/ 449 واللفظ له، وأحمد في المسند 3/ 411، والحاكم في المستدرك 1/ 455 وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وحسنه العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/ 354 رقم 1666، الطبعة الأولى 1409 هـ، الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان.

(3)

أخرجه الترمذي في (كتاب الحج، باب ما جاء كيف ترمى الجمار) رقم 902، 3/ 246 ولفظه: "إنما جعل رمي الجمار والسعي

"، وأبو داود في (كتاب المناسك، باب في الرمل) رقم 1888، 2/ 446، قال العلامة ناصر الدين الألباني في حاشية مشكاة =

ص: 282

فلما كان هذا من شعائر الصلاة والطواف كان الدعاء عندها مشروعاً كما ثبت في الصحيح: "أنه كان صلى الله عليه وسلم يدعو (1) بين الجمرتين بقدر سورة البقرة"(2)، وأما جمرة العقبة فليس عندها وقوف ولا دعاء (3)؛ فإنها آخر منى، والداعي يريد أن يتأخر عن الجمرة وما بعدها ليس من منى، وكان الداعي في نفس عرفة ومزدلفة ومنى لا خارجاً عنها، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"عرفة كلها موقف وارفعوا عن بطن عرنة (4)، ومزدلفة كلها موقف وارفعوا عن محسر، [ومنى كلها منحر] (5) "(6)، فلم يجعل الحدود الفاصلة بين المشاعر منها، وقد قال طائفة من السلف في قوله:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] قالوا: مقام إبراهيم عرفة ومزدلفة ومنى، ومصلى أي مدعى (7)، وهذا لا ينافي عند كثير من العلماء ما ثبت في الصحيح: "من أن النبي صلى الله عليه وسلم لما طاف صلى

= المصابيح للخطيب التبريزي (الطبعة الثانية 1399 هـ، الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان) رقم 1381، 2/ 806: إسناده ضعيف. أ. هـ.

(1)

في الأصل و (ف) و (د) بزيادة ألف.

(2)

أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رمى الجمرة التي تلي مسجد منى يرميها بسبع حصيات، يكبّر كلما رمى بحصاة، ثم تقدم أمامها، فوقف مستقبل القبلة، رافعاً يديه يدعو، وكان يطيل الوقوف، ثم يأتي الجمرة الثانية فيرميها بسبع حصيات، يكبّر كلما رمى بحصاة، ثم ينحدر ذات اليسار، مما يلي الوادي، فيقف مستقبل القبلة رافعاً يديه يدعو، ثم يأتي الجمرة التي عند العقبة، فيرميها بسبع حصيات، يكبّر عند كل حصاة، ثم ينصرف ولا يقف عندها"(كتاب الحج، باب الدعاء عند الجمرتين) 1/ 517 رقم 1753، وقد وقع تفسير القيام الطويل فيما رواء ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن عطاء "كان ابن عمر يقوم عند الجمرتين مقدار ما يقرأ سورة البقرة".

انظر: فتح الباري لابن حجر 3/ 745، ولم أجده في مصنف ابن أبي شيبة.

(3)

في (ف)(ولا دعى).

(4)

في (د) عرفة.

(5)

ما بين المعقوفتين من (د) و (ح) وسقط من الأصل و (ف).

(6)

أخرجه أبو داود في (كتاب المناسك، باب الصلاة بجمع) 3/ 478 رقم 1937، وابن ماجه في (أبواب المناسك، باب الموقف بعرفة) 2/ 179 رقم 3046، والإمام أحمد في المسند 4/ 82، والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 115 جميعهم بألفاظ متقاربة وقريبة من لفظ المؤلف، وأصله من مسلم (كتاب الحج، باب ما جاء في أن عرفة كلها موقف) 2/ 893 رقم 1218، وأخرجه الترمذي مطولاً في (كتاب الحج، باب ما جاء في أن عرفة كلها موقف) 3/ 232 رقم 885 وقال: حديث حسن صحيح.

(7)

انظر: تفسير ابن جرير الطبري 1/ 586 - 587.

ص: 283

عند المقام وقرأ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} " (1)، لأن الآية قد تتناول هذا وهذا عند كثير من أهل العلم.

ففي الجملة أحق البقاع بدعاء الله فيها المساجد التي يصلى فيها، والمشاعر التي شرع الله فيها الدعاء والذكر، وأمر أن يكون الدين خالصاً له كما قال تعالى:{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)} [الأنعام: 161 - 162].

فإذا كانت الصلاة والذكر لله وحده لم يكن ذلك مشروعاً عند قبر، وكما لا يذبح للميت ولا عند قبره؛ بل "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن العقر عند القبر"(2)، وكره العلماء الأكل من تلك الذبيحة (3) فإنها شِبْهُ ما ذبح لغير الله، فلو كانت مقابر الأنبياء والصالحين مما يستحب الدعاء عندها لكانت إما من المساجد وإما من المشاعر التي يُحج إليها، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا وهذا.

(1) أخرجه مسلم في (كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم) رقم 1218، 2/ 886 ولفظه: "ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام فقرأ

"، والنسائي في (كتاب مناسك الحج، كيف يطوف أول ما يقدم) رقم 2937، 5/ 228 ثم أتى المقام فقال:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} فصلى ركعتين والمقام بينه وبين البيت، وأخرجه غيرهم.

(2)

أخرجه أبو داود في (كتاب الجنائز، باب كراهية الذبح عند القبر) 3/ 550 رقم 3222 من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا عقر في الإسلام"، قال عبد الرزاق -صاحب المصنف-: كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة. أ. هـ. وقد أخرجه الإمام أحمد في المسند 3/ 197، وعبد الرزاق في مصنفه 3/ 560 رقم 6690، والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 57 باب كراهية الذبح عند القبر.

قال النووي في المجموع 5/ 286: رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح. أ. هـ ، وقال العلامة الألباني: في أحكام الجنائز وبدعها ص 259 الطبعة الأولى 1412 هـ، الناشر مكتبة المعارف الرياض: إسناده صحيح على شرط الشيخين. أ. هـ.

(3)

قال بذلك الإمام أحمد، ومراده رحمه الله بالكراهة الحرمة. انظر: المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد بن حنبل في العقيدة جمع وتحقيق عبد الإله الأحمدي 2/ 129 الطبعة الأولى 1412 هـ، الناشر دار طيبة الرياض. وللتوسع. انظر: شرح مسلم للنووي 1/ 150 واقتضاء الصراط لابن تيمية 2/ 745 - 746 والزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيتمي 1/ 211 طبعة 1402 هـ، الناشر دار المعرفة بيروت، والفتوى رقم 6208 من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، بالمملكة العربية السعودية.

ص: 284