المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الفرق بين الحب في الله والحب مع الله - الاستغاثة في الرد على البكري

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌القسم الأول: الدراسة

- ‌الباب الأول: في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية وترجمة البكري

- ‌الفصل الأول: ترجمة مختصرة لشيخ الإسلام ابن تيمية

- ‌ ترجمة موجزة للمؤلف:

- ‌اسمه ونسبه ومولده ونشأته:

- ‌ مكانته ومنزلته:

- ‌ جهاده وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر:

- ‌ محنته وسجونه:

- ‌ مؤلفاته ورسائله:

- ‌ وفاته:

- ‌الفصل الثاني: ترجمة البكري وموقفه من شيخ الإسلام ابن تيمية

- ‌1 - اسمه ونسبه ومولده:

- ‌2 - شيوخه وآثاره العلمية:

- ‌3 - مذهبه الفقهي:

- ‌4 - عقيدة البكري:

- ‌5 - طريقة البكري الصوفية:

- ‌6 - منهج البكري في التكفير:

- ‌7 - مواقفه مع شيخ الإسلام ابن تيمية:

- ‌8 - موقف البكري مع السلطان (الملك الناصر محمد بن قلاوون):

- ‌9 - وفاته وشعره:

- ‌الباب الثاني: دراسة الكتاب

- ‌الفصل الأول:‌‌ الاستغاثةأقسامها وحكمها

- ‌ الاستغاثة

- ‌أقسام الاستغاثة:

- ‌الاستغاثة المشروعة

- ‌ الاستغاثة الممنوعة

- ‌الفصل الثاني: الكتب المؤلفة في موضوع الاستغاثة

- ‌القسم الأول: الكتب المؤلفة في الاستغاثة بالله -تعالى

- ‌ من المؤلفات في هذا القسم:

- ‌ القسم الثاني: الانحراف في مسألة الاستغاثة:

- ‌ القسم الثالث: ردود أهل السنة والجماعة:

- ‌الفصل الثالث: عنوان الكتاب ونسبته للمؤلف

- ‌ نسبة الكتاب إلى المؤلف:

- ‌الفصل الرابع: منهج المؤلف في الكتاب

- ‌1 - الشمولية في الرد:

- ‌2 - وضوح الهدف والغاية:

- ‌3 - ثبات المنهج والثقة به:

- ‌4 - الأمانة العلمية والصدق:

- ‌5 - العدل والانصاف:

- ‌6 - المقارنة والتحليل:

- ‌7 - الاستطراد والتكرار:

- ‌القسم الثاني: تحقيق الكتاب

- ‌الباب الأول

- ‌الفصل الأول: وصف النسخ الخطية للكتاب

- ‌ النسخة الأولى:

- ‌ النسخة الثانية ورمزها (ف):

- ‌ النسخة الثالثة ورمزها (د):

- ‌ النسخة الرابعة ورمزها (ح):

- ‌ تاريخ تأليف الكتاب:

- ‌الفصل الثاني: منهج تحقيق الكتاب والتعليق عليه

- ‌(1) تحقيق النص:

- ‌(2) عزو الأحاديث والآثار:

- ‌(3) توثيق الأقوال والمسائل والآراء الفقهية:

- ‌(4) التراجم والتعريفات:

- ‌(5) المصادر والمراجع:

- ‌(6) الرموز والمصطلحات:

- ‌الباب الثاني: كتاب تلخيص الاستغاثة لابن كثير

- ‌الفصل الأول: كتاب تلخيص الاستغاثة

- ‌الفصل الثاني: نسبة التلخيص لابن كثير

- ‌الفصل الثالث: منهج ابن كثير في التلخيص

- ‌الفصل الرابع: الموضوعات التي انفرد بها التلخيص أو أطال فيها

- ‌ أولاً: الموضوعات التي انفرد التلخيص بذكرها:

- ‌ ثانياً: الموضوعاث التي أطال الملخص فيها:

- ‌الفصل الخامس: الموضوعات التي فقدت من الكتاب الأصل أو جاءت مختصرة فيه

- ‌1 - رأي ابن تيمية في البكري:

- ‌2 - وصف ابن تيمية لرد البكري عليه:

- ‌3 - سبب رد ابن تيمية على البكري:

- ‌4 - استدلال البكري بحديث آدم في الرد على ابن تيمية:

- ‌ رد ابن تيمية

- ‌5 - كذب البكري في تكثير رواة حديث توسل آدم:

- ‌6 - الأحاديث الواردة في كتابة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌7 - الأحاديث الموضوعة:

- ‌8 - دعوى البكري في توسل الأنبياء بالنبي صلى الله عليه وسلم

- ‌9 - أمثلة لما ورد عن أنبياء بني إسرائيل:

- ‌10 - استدلال البكري بقصة الامام مالك مع أبي جعفر المنصور:

- ‌ رد ابن تيمية

- ‌11 - استدلال البكري بحديث الكوة:

- ‌ رد ابن تيمية

- ‌12 - استدلال القبورية بحديث الأعمى:

- ‌13 - استدلال القبورية بسماع الميت:

- ‌14 - صور السؤال وحكم كل صورة:

- ‌15 - أحاديث زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم كلها موضوعة:

- ‌16 - مراتب بدعة سؤال الموتى:

- ‌17 - دعاء صفة من صفات الله:

- ‌18 - سبب ضلال القبورية وأصل شبهتهم:

- ‌19 - أهمية التوحيد:

- ‌20 - استعداء البكري للدولة:

- ‌21 - مدح البكري لكتاب المؤلف الصارم المسلول:

- ‌22 - رد على البكري على استشهاد ابن تيمية بحديث لا يستغاث بي:

- ‌ رد ابن تيمية

- ‌ المثال العلّمي

- ‌ التّوحيد المنجي: شهادة أن لا إله إِلَّا الله

- ‌ المطلوب من النّبيّ صلى الله عليه وسلم تارة يقدر عليه، وتارة لا يقدر عليه

- ‌ السبب المشروع لا ينافي التوكل

- ‌من أنكر ما ثبت بالتواتر والإجماع فهو كافر

- ‌ لعن الذين يتخذون القبور مساجد

- ‌الكمال المطلق الذي لا غاية فوقه لله تبارك وتعالى

- ‌ الفرق بين الحب في الله والحب مع الله

- ‌الذين لا يثبتون إلا المشيئة العامة لا يقولون بالفرق الثاني

- ‌الخاتمة

- ‌فهرس‌‌ المصادر والمراجع

- ‌ ا

- ‌ ب

- ‌ ت

- ‌ج

- ‌ح

- ‌د

- ‌ خ

- ‌ر

- ‌ ذ

- ‌ س

- ‌ش

- ‌ص

- ‌ ط

- ‌ض

- ‌ع

- ‌ غ

- ‌ ف

- ‌ق

- ‌ك

- ‌ل

- ‌م

- ‌ ن

- ‌ة

- ‌ و

- ‌ي

الفصل: ‌ الفرق بين الحب في الله والحب مع الله

كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] فمن أحب مخلوقاً مثل ما يحب الخالق فهو مشرك.

ويجب‌

‌ الفرق بين الحب في الله والحب مع الله

، فالأول من تمام محبة الله وتوحيده، والثاني شرك، فالأول يكون الله هو المحبوب له بذاته، ويحب ما يحبه الرب -تعالى- تبعاً لمحبته، فيحب رسوله وكتابه وعباده المؤمنين، كما في الصحيحين عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الايمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في (1) الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار"(2)، وأما الحب مع الله فهو الذي يحب محبوباً في قلبه لذاته لا لأجل الله، كحب المشركين أندادهم.

وهؤلاء الذين اتخذوا القبور أوثاناً تجدهم يستهزئون بما هو من توحيد الله وعبادته، ويعظمون ما اتخذوه من دون الله شفعاء حتي إن طوائف منهم يستخفون بحج البيت وبمن [يحج](3) البيت، ويرون أن زيارة أئمتهم وشيوخهم أفضل من حج البيت، وهذا موجود في الشيعة وفي المنتسبين إلي السنة، وآخرون يستخفون بالمساجد وبالصلوات الخمس فيها، ويرون أن دعاء شيخهم أفضل من هذا، وهذا موجود في الشيعة المنتسبين إلي يونس القيسني (4)

(1) في (د)(إلى).

(2)

أخرجه البخاري في (كتاب الأدب، باب الحب في الله) رقم 6041، 4/ 1908 ومسلم في (كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بها واجد حلاوة الإيمان) رقم 43، 1/ 66 واللفظ لمسلم، إلا أن المصنف جمع بين روايتي مسلم.

(3)

كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي وصل يحجج.

(4)

في الأصل و (ف) و (د) القيسني، وهي قريبة من القيني بدون السين، وفي (ط) و (ح) القيسي بالسين واضحة، واليونسية من فرق الشيعة ينسبون إلى يونس بن عبد الرحمن القمي، من القطعية، مفرط في التشبيه. انظر: المقالات 1/ 103، والفرق بين الفرق ص 270 والتبصير ص 40.

وأما اليونسية الصوفية فينسبون إلى يونس بن مساعد المخارقي القيني، أهل شطح وخفة عقل، له شعر ملحون ينظمه على لسان الربوبية، وبعضه كأنه كذب عليه، توفي بالقنية نواحي ماردين سنة 619 هـ. انظر: السير للذهبي 22/ 178، وشذرات الذهب 5/ 87، ووفيات الأعيان لابن خلكان ت. د. حسان عباس 7/ 855، ومراد المؤلف هنا اليونسية الصوفية، فقد ذكر هذه الأقوال والأشعار ونسبهما لليونسية. انظر: مجموع الفتاوى 2/ 106 - 107. =

ص: 379

حتى ينشدون (1):

تعالوا نخرب الجامع

ونجعل فيه خماره

ونكسر المنبر

ونجعل منه طنباره

ونخرق المصحف

ونجعل منه زماره

وننتف لحية القاضي

ونجعل منه أوتاره (2)

ويحلف أحدهم اليمين الغموس كاذباً؛ ولا يجترئ أن يحلف بشيخه اليمين الغموس كاذباً، ومنهم من يقول: كل رزق لا يرزقه إياه شيخه لا يريده، ومنهم من يذبح الشاة ويقول باسم سيدي، ومنهم من يقول إن شيخه أفضل من الأنبياء والمرسلين، ومنهم من يعتقد فيه الإلهية كما يعتقده النصارى في المسيح، وإذا ذكروا شيخهم (3) عظموه وادعوا فيه الإلهية، وأنشدوا على لسانه:

موسى على الطور لما خرَّ لي ناجا

وصاحب الترب ماجيتُه حتى جا

ولهم أيضاً:

وأنا صرخت في العرش حتى ضج

وأنا حملت على علي حتى هج

وأنا البحار السبعة من هيبتي ترتج (4)

ويقولون: نحن غلمان الملك، ويسمون المسجد اصطبل البطالين، ويقرأون القرآن:"وما أرسلناك إلا رحمة للمدمنين"، وألوان من هذا الجنس

= قال عنهم المؤلف في مجموع الفتاوى 13/ 217: ولما جاء قازان

فظهر أن اليونسية كانوا قد ارتدوا وصاروا كفاراً مع الكفار، وحضر عندي بعض شيوخهم واعترف بالردة عن الإسلام، وحدثني بفصول كثيرة. أ. هـ.

(1)

كذا في جميع النسخ والأولى (ينشدوا).

(2)

تنسب الأبيات ليونس القيني. انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 2/ 107، والإلحادية عقيدة ابن عربي الاتحادية، تأليف أبي إسلام مصطفى سلامة ص 37، الطبعة الأولى صفر 1413 هـ، الناشر دار التقوى ومكتبة خالد بن الوليد عمان - الأردن.

(3)

في (د) سيخهم (بالسين).

(4)

تنسب هذه الأبيات ليونس القيني. انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 2/ 107، والإلحادية عقيدة ابن عربي لأبي إسلام ص 38، قال المؤلف في مجموع الفتاوى 2/ 107: ثم منهم من يقول هذا الشعر ليونس، ومنهم من يقول: مكذوب على يونس، لكن من المعلوم أنهم ينشدون الكفر، ويتواجدون عليه. أ. هـ.

ص: 380

الذي فيه استهزاء بالله وآياته ورسوله، مع تعظيم شيخهم وغلوهم فيه (1)، وكذلك النصيرية والإسماعيلية ونحوهم وكثير من طوائف متعددة، [يرى](2) أحدهم أن استغاثته بالشيخ الميت إما عند قبره وإما عند قبر غيره أنفع له من أن يدعو الله في المسجد عند السحر، ويستهزؤون بمن يعدل عن طريقته إلى التوحيد، ومن هؤلاء من يرى أن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الحج إلى الكعبة، وأن دعاء النبي والاستغاثة به أفضل من الاستغاثة بالله ودعائه.

وكثير من هؤلاء يخربون المساجد ويعمرون المشاهد، فتجد المسجد الذي بُني للصلوات الخمس معطلاً مخرباً ليس له كسوة إلا من الناس؛ وكأنه خان من الخانات، والمشهد الذي بني على الميت فعليه الستور؛ وزينة الذهب والفضة والرخام، والنذور تغدوا وتروح إليه، فهل هذا إلا من استخفافهم بالله وبآياته ورسوله [وتعظيمهم](3) للشرك!!.

فإنهم اعتقدوا أن دعاء الميت الذي بني له المشهد والاستغاثة به أنفع لهم من دعاء الله والاستغاثة به في البيت الذي بُني لله عز وجل، ففضلوا البيت الذي بُني (4) لدعاء المخلوق على البيت الذي بُني لدعاء الخالق، وإذا كان لهذا وقف ولهذا وقف كان وقف الشرك أعظم عندهم مضاهاة لمشركي العرب الذين ذكر الله حالهم في قوله تعالى:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)} [الأنعام: 136]، كما يجعلون لله زرعاً وماشية ولآلهتهم زرعاً وماشية؛ فإذا أصيب نصيب آلهتهم أخذوا من نصيب الله فوضعوه فيه؛

(1) انظر: الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ، تأليف محمود عبد الرؤوف القاسم ص 603 وما بعدها، الطبعة الثانية 1413 هـ، الناشر المكتبة الإسلامية عمان - الأردن، والمصادر العامة للتلقي عند الصوفية تأليف صادق سليم ص 232 وما بعدها الطبعة الأولى 1415 هـ، الناشر مكتبة الرشد الرياض - السعودية.

(2)

كذا في (ح) وفي الأصل و (ف) و (د) ترى.

(3)

كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل تعظيم.

(4)

(بنى) سقطت من (ف).

ص: 381

وقالوا (1): الله غني وآلهتنا فقيرة (2)، فيفضلون ما يجعل لغير الله على ما يجعل لله، وهكذا (3) الوقوف والنذور التي تبذل عندهم للمشاهد أعظم (مما تبذل)(4) عندهم للمساجد ولعمارة المساجد وللجهاد في سبيل الله.

وهؤلاء إذا قصد أحدهم القبر الذي يعظمه يبكي عنده ويخضع ويدعو ويتضرع، ويحصل له من الرقة والتواضع والعبودية وحضور القلب، ما لا يحصل له مثله في الصلوات الخمس والجمعة وقيام الليل وقراءة القرآن، فهل هذا (إلا من)(5) حال المشركين المبتدعين لا الموحدين المخلصين المتبعين لكتاب الله ورسوله!! ومثل هذا إذا سمع أحدهم سماع (6) الأبيات يحصل له من الخضوع والخشوع والبكاء ما لا يحصل له مثله عند سماع آيات الله، فيخشع عند سماع المبتدعين المشركين ولا يخشع عند سماع المخلصين المتقين، بل إذا سمعوا آيات الله استثقلوا (7) بها وكرهوها واستهزؤوا بها وبمن يقرؤها، مما يحصل لهم به أعظم نصيب من قوله:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)} [التوبة: 65].

وإذا سمعوا القرآن سمعوه بقلوب لاهية وألسن لاغية كأنهم صم وعمي، واذا سمعوا الأبيات حضرت قلوبهم وسكنت ألسنتهم وسكنت حركاتهم حتى لا يشرب العطشان منهم الماء (8).

ومن هؤلاء من إذا كانوا في سماعهم فأذَّن المؤذن قالوا: نحن في شيء أفضل مما دعانا إليه، ومنهم من يقول: هذا في شغله وهذا في شغله، ومنهم من يقول: كنا في الحضرة فإذا قمنا إلى الصلاة صرنا على الباب.

وقد سألني بعضهم عمن قال ذلك من هؤلاء الشيوخ الضلال؟ فقلت: صدق كان في حضرة الشيطان فصار على باب الله، فإن البدع والضلالة فيها

(1) في (ف) إن.

(2)

في (د) فقراء.

(3)

في الأصل و (ف)(هؤلاء) وهي زيادة ولا حاجة لها في المعنى.

(4)

ما بين القوسين في (د) مبذول.

(5)

ما بين القوسين في (د) الأمر إلا.

(6)

سقطت من (د) و (ح).

(7)

في (د) اشتغلوا.

(8)

انظر: وصف ابن القيم لحالهم في كتابه: إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان 1/ 344 - 347.

ص: 382

من حضور الشيطان ما قد حصل في غير هذا الموضع، والذين يجعلون دعاء الموتى من الأنبياء والأئمة والشيوخ أفضل من دعائهم الله أنول متعددة: منهم من يقدم [دعاءهم](1)، ومنهم من يحكي أنواعاً من الحكايات: حكاية أن بعض المريدين استغاث بالله فلم يغثه فاستغاث بشيخه فأغاثه، وحكاية أن بعض المأسورين في بلاد العدو دعا الله فلم يخرجه، فدعا بعض المشايخ الموتى فجاءه فأخرجه إلى بلاد الإسلام، وحكاية أن بعض الشيوخ قال لمريده: إذا كانت لك حاجة فتعال إلى قبري، وآخر قال: فتوسل بي، وآخر قال: قبر فلان الترياق المجرب، فهؤلاء وأشباههم يرجحون هذه الأدعية الشركية على أدعية المخلصين لله مضاهاة لسائر المشركين، وهؤلاء تتمثل لكثير منهم صورة شيخه الذي يدعوه فيظنه إياه أو ملكاً على صورته، وإنما هو شيطان أغواه كما قد بسط في موضعه (2).

ومنهم من إذا نزلت به شدة لا يدعو إلا شيخه، ولا يذكر إلا اسمه قد لهج به كما يلهج الصبي بذكر أمّه، فيتعسر أحدهم فيقول: يا فلان، وقد قال الله -تعالى- للموحدين {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200].

ومن هؤلاء من يحلف بالله ويكذب؛ ويحلف بشيخه وإمامه فيصدق ولا يكذب، فيكون شيخه عنده أعظم في صدره من الله، وقد قال شعيب:{يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} [هود: 92]، وقد قال تعالى:{لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} [الحشر: 13]، وقال تعالى:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، وقال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} الآية [البقرة: 165].

فإذا كان دعاء الموتى مثل الأنبياء والصالحين عندهم يتضمن مثل هذا الاستهزاء بالله وآياته ورسوله فأي الفريقين أحق بالاستهزاء بالله وآياته

(1) كذا في (د) و (ح) وسقطت من الأصل و (ف).

(2)

انظر: "مصباح الظلال المستغيثين بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والمنام"، لابن النعمان المالكي، فهو مليء بمثل هذه القصص، وكتاب "شواهد الحق" للنبهاني ص 242، وكتاب إتحاف الأذكياء بجواز التوسل بالأنبياء والأولياء، لعبد الله بن محمد الحسيني ص 40، وما بعدها الطبعة الثانية 1405 هـ وغيرها.

ص: 383

ورسوله!! من كان يأمر بدعاء الموتى والاستغاثة بهم مع ما يترتب على ذلك من الاستهزاء بالله وآياته ورسوله، أو من كان يأمر بدعاء الله وحده لا شريك له كما أمرت رسله، ويوجب طاعة الرسول ومتابعته في كل ما جاء به، وأيضاً فإن هؤلاء الموحدين من أعظم الناس إيجاباً لرعاية جانب الرسول، تصديقاً له فيما أخبر، وطاعة له فيما أمر، واعتناء بمعرفة ما بعث به، والتمييز بين ما روي عنه من الصحيح والضعيف والصدق والكذب، واتباع ذلك دون ما خالفه عملاً بقوله تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3].

وأما أولئك الضُلال أشباه المشركين النصارى فعمدتهم إما أحاديث ضعيفة أو موضوعة، أو منقولات عمن لا يحتج بقوله، إما أن يكون كذباً عليه وإما أن يكون غلطاً منه، إذ هي نقل غير مصدق عن قائل غير (1) معصوم، وإن اعتصموا بشيء مما ثبت عن الرسول حرفوا الكلم عن مواضعه وتمسكوا بمتشابهه وتركوا محكمه، كما (2) النصارى.

وكما فعل هذا الضال أخذ لفظ الاستغاثة؛ وهي تنقسم إلى الاستغاثة بالحي والميت؛ والاستغاثة بالحي تكون فيما يقدر عليه وما لا يقدر عليه؛ فجعل حكم ذلك كله واحداً، ولم يكفه حتى جعل السؤال بالشخص من مسمى الاستغاثة أيضاً، ولم يكفه ذلك [حتى](3) جعل الطالب منه إنما طلب من الله لا منه، فالمستغيث به مستغيث بالله، ثم جعل الاستغاثة بكل ميت من نبي وصالح جائزة، واحتج على هذه الدعوى العامة الكلية -التي أدخل فيها من الشرك والضلال ما لا يعلمه إلا ذو الجلال- بقضية خاصة جزئية، كسؤال الناس للنبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة أن يدعو الله لهم؛ وتوجههم إلى الله بدعائه وشفاعته، ومعلوم أن هذا الذي جاءت به السنة حق لا ريب فيه، لكن لا يلزم من ذلك ثبوت جميع تلك الدعاوى العامة وإبطال نقيضها، إذ الدعوى الكلية لا تثبت بمثال جزئي لا سيما مع الاختلاف والتباين.

(1)(غير) سقطت من (ف).

(2)

في (د) يضل.

(3)

كذا في (د) و (ح)، وسقط من الأصل و (ف).

ص: 384

وهذا كمن يريد أن يثبت [حل جميع](1) الملاهي لكل أحد؛ والتقرب بها إلي الله؛ بكون جاريتين غنتا عند عائشة رضي الله عنها في بيت النبي صلى الله عليه وسلم (2) يوم عيد، مع كون وجهه كان مصروفاً إلى الحائط لا إليها (3).

أو يحتج على اسستماع كل قول بقوله: {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 17 - 18]، ولا يدري أن القول هنا هو القرآن، كما في قوله (4):{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)} [المؤمنون: 68]، (وإلا فمسلم [أنه] (5) لا يسوغ) (6) استماع كل قول، وقد نهى الله عز وجل عن الجلوس جمع الخائضين في آياته، وخوضهم نوع من القول فقال تعالى:{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} (7)[الأنعام: 68]، وقال:{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ} [النساء: 140]، وقال:{وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72]، وقال تعالى:{وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} [القصص: 55].

فصل

قال: (وقد أجمع العلماء كما حكاه من يرجع إليه، على أن كل مسلم

(1) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (جميع حل).

(2)

في (ف) زاد (في).

(3)

يشير إلى حديث عائشة عند البخاري قالت: دخل أبو بكر، وعند جاريتان من جواري الأنصار، تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث، قالت: وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وذلك في يوم عيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا أبا بكر، إن لكل قوم عبداً، وهذا عيدنا"(كتاب العيدين، باب سنة العيدين لأهل الإسلام) 1/ 286 رقم 952.

(4)

انظر: تفسير هذه الآية في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 15/ 244، وذكر المؤلف في مجموع الفتاوي 16/ 5: أنه قول سلف الأمة وأئمتها وأطال في تفسيرها.

(5)

كذا في (ح)، وفي (د)(أن)، وسقط من الأصل و (ف).

(6)

ما بين القوسين في (د)(ولا نسلم أن يسوغ).

(7)

في (د) {حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ

} الآية.

ص: 385

صدر عنه سب للرسول صلى الله عليه وسلم أو تنقيصه وجب قتله، ويحكم بكفره وردته عن دين الإسلام، على ذلك دلت نصوص السنة والكتاب، وحكم جماعة من المتقدمين بأنه (1) يقتل بغير (2) استتابة، كما نص العلماء أيضاً أن التعريض بسبه أو تنقيصه كالصريح).

فيقال: هذا نقله من الكتاب الذي صنفته (3) في شاتم الرسول (4)، استعاره من بعض من كان عنده (5)، ولهذا صار الناس يعدون هذا من قلة الحياء، فإن ذلك الكتاب ذكرت فيه في مسألة السب من دلائل الكتاب والسنة وأقوال العلماء و (6) من تعظيم الرسول وتعزيره وتوقيره، واستنباط ما يتعلق بذلك من الكتاب والسنة ما يعرفه من تأمله.

فصل

قال: (ومن نفى عنه أن يستغاث به فقد تنقصه عن رتبته ولا ينفعه تأوله، لأن تأويله لا يخرجه عن كونه أساء الأدب على النبي صلى الله عليه وسلم في التعبير، على أن هذا الرجل لا يثبت على التأويل وإنما يذهب إليه عند الخوف، زندقة منه على ما علمته).

فيقال له: قد تقدم الجواب (7)، وتبيّن أن الذي تنقصه هو الذي يؤذيه ويتعدى عليه، ويسلط السفهاء على أذاه ويكذب عليه ويبدل دينه الذي بعث به، لا من يأمر بما أمر الله به من تعزيره وتوقيره وتصديقه وطاعته ومحبته ورضاه وموالاته، وبما يزيده الله درجة ورفعة في الدنيا والآخرة من الصلاة والسلام عليه، وفعل التوحيد والطاعات التي يحصل (8) له مثل أجرها، وبيّن

(1) في (د)(من أنه).

(2)

في (د)(من غير).

(3)

سقطت من (ف).

(4)

يشير ابن تيمية إلى كتابه: "الصارم المسلول على شاتم الرسول"، وما نقله البكري عنه اختصاراً من مواضع مختلفة، انظر: ص 3، 254، 312، 313، وسيأتي نقل البكري من كتاب ابن تيمية بالنص.

(5)

في تلخيص الاستغاثة ص 4: وأعاره بعض الأمراء -كما أخبرني- كتابي.

(6)

(الواو) سقطت من (د).

(7)

انظر: ص 363.

(8)

في (ف) تحصل.

ص: 386

أيضاً أنه لم ينف عنه كل ما يسمي استغاثة، بل قد صرح بأنه يطلب منه كل ما يليق بمنصبه، وأنه يستشفع به ويتوسل به كما كان الصحابة -رضوان الله عليهم- يفعلون، وكما يستشفع به يوم القيامة وأن المنفي هو دعاء الميت، أو أن يطلب من المخلوق ما لا يقدر عليه إلا الخالق، وبين أيضاً أن ما ذكره هذا الرجل في مسمى لفظ الاستغاثة وإن نفي ذلك؛ يتضمن نفي كونه سبباً في حصول غوث الله؛ كلام باطل.

وأما قوله: (و (1) لا ينفعه تأويله

إلي آخره)، فإنما يصح لو فسر لفظ بما يخالف ظاهره، والمجيب قد بيّن مراده بألفاظ ناصّة (2) لا تحتمل معنيين، فأي تأويل هنا يُحتاج إليه!! فهذا من جملة افترائه، فإن التأويل إنما يحتاج إليه إذا أطلق المطلق لفظاً له ظاهر وأرد به غير ظاهره من غير بيان، وهذا لم يقع، فإن كان بعض الناس يظهر له من اللفظ ما لم يدل عليه فالتفريط منه.

وكم من عائب قولاً صحيحاً

وآفته من الفهم السقيم (3)

وقد [بيّنا](4) في غير هذا الموضع (5) أن عامة ما يورد علي ألفاظ الكتاب والسنة ويُدَّعي أن ظاهرها ممتنع، إنما أُتي من سوء فهمه، لا من قصور في بيان الله ورسوله، بل [ممن](6) تأول، مثل (7) طائفة في قوله:"الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن استلمه أو صافحه فكأنما صافح الله وقبَّل يمينه"(8)، وهذا معروف عن ابن عباس، وقد روي مرفوعاً ولم يثبت

(1) في (د)(فلا).

(2)

في (د) خاصه.

(3)

هذا البيت لأبي الطيب المتنبي من قصيدة له مطلعها:

إذا غامرت في شرف مروم

فلا تقنع بما دون النجوم

انظر: ديوان المتنبي ص 232.

(4)

كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (وبين).

(5)

سقط من (د)

(6)

كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل مما.

(7)

كذا في جميع النسخ؛ والأولي مثل قول طائفة.

(8)

لم أجده بهذا السياق، وقد أخرجه ابن عدي في الكامل 1/ 342 (تحقيق د. =

ص: 387

بهذا (1) اللفظ، قالت طائفة إنه يحتاج إلى تأويل وليس كما قالوا، فإنه قال فيه:"يمين الله في الأرض"، فقيل: الخطاب في الأرض لم يطلق فيه، وقال في إثباته فمن استلمه فكأنما صافح الله وقبَّل يمينه، والمشبه غير المشبه به، ففي الحديث بيان أنه ليس بصفة الله، وإنما هو بمنزلة اليمين في الاستلام والتقبيل، والحديث لا يدل ولا يفهم منه غير هذا.

وكذلك قوله سبحانه: "عبدي مرضت فلم تعدني، فيقول: رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلو عدته وجدتني عنده"، فهذا صريح في أن الله لا يمرض؛ وإنما مرض عبده، ولا يحتاج إلى تأويل، وأمثال ذلك.

وأما قوله: (إن المجيب لا يثبت على التأويل وإنما يذهب إليه عند الخوف زندقةً منه (2) على ما علمته).

= سهيل زكار وتدقيق يحيى غزاوي الطبعة الثالثة)، والخطيب في تاريخ بغداد 6/ 328 (الطبعة الأولى 1349 هـ، الناشر مكتبة الخانجي القاهرة، والمكتبة العربية - بغداد) من طريق إسحاق بن بشر الكاهلي عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض يصافح به عباده"، قال ابن عدي في الكاهلي عقب الحديث: هو في عداد من يضع الحديث. أ. هـ. وقد روى تكذيب ابن أبي شيبة للكاهلي.

وقد أخرج ابن قتيبة في غريب الحديث 2/ 223 تحقيق د. عبد الله الجبوري (الطبعة الأولى 1397 هـ، الناشر وزارة الأوقاف بالجمهورية العراقية) عن ابن عباس موقوفاً عليه: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض يصافح بها عباده أو قال خلقه كما يصافح الناس بعضهم بعضاً"، قال العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/ 257 رقم 223 في حديث ابن قتيبة: سنده ضعيف جداً. أ. هـ، وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى 6/ 397: -في هذا الحديث- روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد لا يثبت، والمشهور إنما هو عن ابن عباس. أ. هـ، وقال العجلوني في كشف الخفاء ص 417 رقم 1109 في هذا الحديث ومثله مما لا مجال للرأي فيه وله شواهد، فالحديث حسن وإن كان ضعيفاً بحسب أصله كما قال بعضهم. أ. هـ، ولكن بعض المتقدمين أوردوا هذا الحديث وفسروه.

ومما سبق يتضح أن الحديث موقوف على ابن عباس رضي الله عنه وقد سبق المؤلف في تفسير الحديث ابن قتيبة في غريب الحديث 2/ 237، والذهبي في السير 9/ 522، والعجلوني في كشف الخفاء ص 417 رقم 1109، والله أعلم.

(1)

في (ف) فهذا.

(2)

(منه) سقطت من (ف) و (د)، وفي الأصل فوقها ح.

ص: 388

فيقال له: لا ريب أن المجيب لم يذهب في كلامه إلى تأويل أحد، بل لفظه ظاهر في معناه، بل قد يكون نصاً، وقول القائل: إنه يذهب إلى التأويل زندقة (1) فهو جهل منه بمسمى (2) الزندقة، وكذبٌ ظاهر باتفاق الناس، وهو بالقائل أعلق؛ إما كونه جهلاً؛ فإن الزنديق هو الذي يبطن الكفر ويظهر الإسلام، فمن كان مظهراً لقوله قد كتب بأجوبة من النسخ ما لا يحصيه إلا الله، وقد وافقه عليها علماء الإسلام ولم يذهب أحد إلى خلافها، وقد بيّن قوله في أعظم الأوقات خوفاً وتعصباً عليه وناظر عليه، وتبين للحاضرين حتى الأعداء سلامته من [هذه](3) القوادح، وظهور الجهل والكذب والظلم من منازعيه، فكيف ينسب إليه إبطان خلاف ما يظهر!!.

ولو قدر أن شخصاً أبطن خلاف ما يظهر من الأقوال لم يكن زنديقاً إلا إذا أبطن الكفر، وإلا (4) فمن أبطن قولاً [يعتقد أنه](5) دين الإسلام ويناظر عليه لم يكن هذا زنديقاً عند الفقهاء، بل إن [كان](6) مخطئاً فقد يكون مبتدعاً، وان كان مصيباً [وسكت](7) خوف العدوان عليه لم يكن مبتدعاً، ولو دخل [مسلم](8) دار الرافضة والخوارج فكتم حبه للصحابة -رضوان الله عليهم- لم يكن زنديقاً، ولو عَرّض لم يأثم بذلك.

وقد ثبت في الصحيح أن الخليل -صلوات الله وسلامه عليه- قال عن سارة: "إنها أختي"(9) عند الحاجة إلى التعريض، وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم -حين سُئل عنه في الهجرة-: من هذا الرجل معك يا أبا

(1) في (ف) وزندقة.

(2)

في (ف) و (د) يسمى.

(3)

كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل و (ف) هذا.

(4)

(وإلا) سقطت من (د).

(5)

كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل و (ف) يعتقده.

(6)

كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي وصل كا (بدون نون).

(7)

كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل كلمة غير واضحة.

(8)

كذا في (د) و (ف)، وفي الأصل و (ح) مسلماً بالنصب.

(9)

أخرجه البخاري، في كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى:{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} رقم 3358، 2/ 1034، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه-وأوله: "لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات

الحديث".

ص: 389

بكر، فيقول:"هذا رجل يهديني السبيل"(1)، فيحسب الحاسب أنه يريد الطريق، وإنما يريد سبل (2) الخير، وكذلك عين المشركين يوم بدر لما جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم: وسأله فقال: لا أخبركم حتى تخبروني من أين أنتم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أخبرتنا أخبرناك، فأخبرهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"نحن من ماء"(3).

[مع](4) أن ما نحن فيه ليس من هذا الباب، فإنه لم يحصل كتمان ولا تعريض، بل صرح بالأمر على ما هو عليه، وإنما المقصود بيان جهل هؤلاء الضالين المعتدين.

وأيضاً فيخاف من الناس من يجزع إذا أوذي، ويطلب الإقالة، ويستغيث بالحاضرين حتى يدفعوا عنه ما طلبه ولي الأمر من قطع لسانه، ومن نفي عن البلد فلا يدخله إلا سراً (5)، ودخل في قوله:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)} [البقرة: 114].

فإن هذا المفتري سعى في منع من يذكر ما أمر الله به في المسجد، فمنع من سكنى البلد الذي فيه المسجد وأخرج منه، فلم يكن يدخل المسجد إلا خائفاً، وحصل له من الخزي ما لا يعرف لأحد مثله في زمانه، وكأن له شبه في أبي عامر الراهب (6) الذي بني له مسجد الضرار، وكان قد قدح في

(1) أخرجه البخاري في (كتاب الأنصار، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة) 3/ 196 برقم 3911 من حديث أنس بن مالك وأوله: "أقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو مردف أبا بكر، وأبو بكر شيخ يعرف، ونبي الله صلى الله عليه وسلم شاب لا يعرف

الحديث".

(2)

في (د) سبيل.

(3)

أخرجه ابن إسحاق في السيرة النبوية 2/ 616 من طريق محمد بن يحيى بن حبان، ومن طريقه أخرجه ابن جرير الطبري في تاريخ 2/ 141، وابن كثير في تاريخه أيضاً 3/ 300.

(4)

كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل كلمة غير واضحة.

(5)

يشير إلى قصة حصلت للبكري مع السلطان، انظر: ترجمة البكري في المقدمة.

(6)

هو أبو عامر عبد عمرو بن صيفي النعمان أحد بني ضبيعة بن زيد، وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة، ترهَّب في الجاهلية ولبس المسوح فسُمي الراهب، وقد فارق قومه الخزرج لما اجتمعوا على الإسلام، وذهب إلى مكة وقاتل مع كفار قريش في أحد، وخرج إلى هرقل الروم يستنصره على النبي صلى الله عليه وسلم فوعده ومنَّاه؛ فكتب إلى جماعة من قومه من أهل النفاق أن يتخذوا له معقلاً يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه وقد مات =

ص: 390

الرسول الداعي إلى الحنيفية ومال إلى النصرانية، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم إلى ما تدعو يا محمد، قال: إلى ملة إبراهيم، فقال إنك شبيه (1) بغيرها، فقال: ما شبيهاً بغيرها، فقال: بل شبيهاً بغيرها، فقال: الكاذب أماته الله طريداً شريداً وحيداً، فقال أبو عامر: آمين؛ فمات طريداً شريداً وحيداً (2).

[فأي الفريقين أولى بذلك الشبه](3)، من يقابل ولاة الأمر وغيرهم من الأكابر في أخذهم بالحق وإن كرهوه؟ ومن يطلبون منه (4) أن يسكت عن حق متعلق بالدين فلا يسكت؟ فيطلبون خروجه من الضيق فيأبى الخروج حتى يظهر الحق (5)، ومن يهين الحزب الجاهل الظالم، ويبيّن جهله، ومن كتب جوابه في هذه المسألة في أكثر الأمصار من لا يحصي عدده (6) إلا الله من ولاة الأمور وغيرهم.

وأهل السنة إذا تقابلوا هم وأهل البدعة فلهم نصيب من تقابل المؤمنين والكفار، وقال تعالى:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)} (7)[المائدة: 59 - 60]، وهؤلاء الذين يدعون الموتى

= وحيداً شريداً طريداً كما دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم. انظر: سيرة ابن هشام 2/ 586، وتاريخ ابن جرير 2/ 64، 6/ 470 والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 8/ 255.

(1)

في (ف) و (د) شبيهاً.

(2)

انظر: سيرة ابن هشام 2/ 586، وتفسير الطبري 6/ 470، وتفسير ابن كثير 2/ 388.

(3)

بياض في جميع النسخ، بمقدار سبع كلمات في الأصل، وست في (ف)، وثلاث في (د)، وكلمتين في (ح)، وفي هوامش جميع النسخ بياض في الأصل، وما بين المعقوفتين يقتضيه السياق.

(4)

في (د) منهم.

(5)

لعله يشير إلى سجنه رحمه الله في الجب، حيث طلب منه الخروج من السجن بشروط، وطلبوا حضوره وتكرر الرسول عليه ست مرات، ليتكلموا معه، فامتنع من الحضور وصمم. انظر: تاريخ ابن كثير 14/ 46.

(6)

في (د) عددهم

(7)

في (د) لم يكتب الآية الثانية وقال: إلى قوله تعالى: {أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} .

ص: 391

من أهل البدع، فمنهم من مسخ خنزيراً من الرافضة، وقد تواترت بذلك الحكايات (1)، وفيهم من يعبد الطاغوت فيصور تماثيل يتوجهون إليها، ويدخلون في مداخل السحرة (2) كما هو معروف [عن](3) غير واحد منهم، وأما غضب الله ولعنته بسبب كثرة كذبهم وظلمهم وفسقهم فأعظم من أن يذكر.

فصل (4)

قال: (ولقد بالغ السلف في الاحتياط بجنابه صلى الله عليه وسلم، حتى أفتى بعضهم بأن من سب (فاطمة أو عائشة)(5) أنه يقتل، وقال: على هذا مضت سيرة أهل العلم، وأفتى بعض الشافعية أن من سب أبا بكر أو عمر أو عثمان أو علياً رضي الله عنهم فهو كافر، وأفتى طائفة بكفر الرافضة، ونقل عن أحمد أنه استفتي فيمن شتم عثمان فقال: هذا زندقة (6)، وروي عن أحمد رواية أخرى أنه قال: من سب واحداً من الصحابة فقد كفر (7)، وذكرت ذلك لتعلم عظم الوقوع في الجناب النبوي عند العلماء، وقد صح وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح دم من نقصه وسبه، ولم يختلف في ذلك الصحابة، ولقد (8) رووا أن ابن أبي سرح بعد وقيعته جاء به عثمان رضي الله عنه وكان أخاه من الرضاعة، وقال: بايعه يا رسول الله، فأعرض عنه، ثم (9) جاءه من الناحية الأخرى أيضاً، فقال: بايعه يا رسول الله فأعرض عنه؛ ثم بايعه النبي صلى الله عليه وسلم في المرة الثالثة، وقال فيما روي: ما صمتُّ

(1) ذكر بعض هذه القصص ابن النعمان المالكي في مصباح الظلام في المستغيثين بالنبي صلى الله عليه وسلم (خ) ص 71 (بترقيمي).

(2)

في (د) السحر.

(3)

كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل عند.

(4)

بياض في (ف).

(5)

في (د)(عائشة أو فاطمة).

(6)

السنة لأبي بكر أحمد بن محمد الخلال، تحقيق د. عطية الزهراني، الطبعة الثانية 1415 هـ، الناشر دار الراية الرياض 3/ 493 رقم 781، وقال المحقق: إسناده صحيح.

(7)

السنة للخلال 3/ 493 رقم 779، وقال المحقق: إسناده صحيح، وكفر من سب أحداً من الصحابة أبو عبيد القاسم بن سلام. انظر: السنة للخلال 3/ 499 رقم 792، والفريابي. انظر: السنة للخلال 3/ 499 رقم 794.

(8)

في (ف) بياض.

(9)

(ثم) سقطت من (ف).

ص: 392

إلا ليقوم إليه أحدكم فيقتله، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله ألا أومأت إلي فأقتله، فقال:"إن النبي لا يقتل بالاشارة"(1)، وكان ذلك لتحريم خائنة الأعين عليه صلى الله عليه وسلم (2).

وأباح قتل ابن خطل لأنه كان ينتقصه صلى الله عليه وسلم، وجاءه (3) رجل عام فتح مكة، وفقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال:"اقتلوه" فقتل (4)، مع أن الروايات إذا [استقرئت](5) علم (أنها تقتضي)(6) أنهما جاءا مستسلمين منقادين؛ ولم يكن ذلك موجباً للعفو عنهما، ففيه دليل على أن الساب اليوم ولو أسلم يقتل حتماً، كما هو مذهب مالك وجماعة، ولا يلزم من أن النبي صلى الله عليه وسلم عفى عن بعضهم أن يجوز أن [نعفوا](7)، لأن القتل كان لحقه فله صلى الله عليه وسلم أن يترك حق نفسه).

فيقال: هذا كله منقول من كلام المجيب من كتاب "الصارم المسلول على شاتم الرسول"(8) لكنه أزال بهجته، وحذف من محاسنه ما يبيّن حقيقته، فالمجيب هو المنافح عن الله ورسوله، وهذا كالمتشبع (9) بما لم يعط، ومن

(1) أخرجه أبو داود في (كتاب الجهاد، باب قتل الأسير ولا يعرض عليه الإسلام) 3/ 133 رقم 2683 وطرفه رقم 4359، والنسائي في (كتاب تحريم الدم، باب الحكم في المرتد) 7/ 106 رقم 4064، والحاكم في كتاب المغازي 3/ 45 وقال: صحيح على شرط مسلم، وقال ابن تيمية الصارم المسلول ص 109: رواه أبو داود بإسناد صحيح. أ. هـ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 169 رواه أبو داود وغيره مختصراً وأبو يعلى والبزار ورجالهما ثقات. أ. هـ وألفاظهم قريبة من لفظ المؤلف.

(2)

انظر: غاية السول في خصائص الرسول ص 141 - 143.

(3)

في (ف) وجاء.

(4)

أخرجه البخاري في (كتاب جزاء الصيد، باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام) 1/ 458 رقم 1846 وأطرافه: 3044، 4286، 5808 من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

(5)

كذا في (ح)، في الأصل و (ف) و (د) استقربت.

(6)

ما بين القوسين سقط من (د) وفي (ف) أنهما تقتضي.

(7)

كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل و (ف) العفو.

(8)

انظر: ص 566 - 571، 135، 109، وانظر: أقوال الأئمة في الشفا للقاضي عياض 2/ 474 وما بعد، وشرح الشفا للملا علي القاري 2/ 471 وما بعدها، طبعة دار الكتب العلمية - بيروت.

(9)

في (د) كلام المتشبع.

ص: 393

تشبع بما لم يعط فهو كلابس ثوبي زور (1)، وأما تقريره واستدلاله الذي لم ينقله عن غيره فمن جنس كلامه في مسألة الاستغاثة، وجوابه في قسم مال (2) بيت المال ونحو ذلك (3)، مما يخرج به عن إجماع المسلمين، ويضحك عليه العلماء الفاضلون، ويوجب لذي القضاء أن يحجروا عليه في الفتيا، كما وقع لهذا (4) المسكين؛ لما فيه من الجهل بمسالك الأحكام، مع فرط الجراءة والإقدام على الكلام بالهوى والجهل في دين الإسلام، بخلاف من منع خوفاً منه، إما لسياسة مملكته أو غير ذلك.

فصل

قال: (ومن هذا يُعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لو نفى عن نفسه أنه ينفع أو يستغاث به أو نحو ذلك؛ يشير إلى التوحيد وإفراد الباري بالقدرة، لم يكن لنا نحن أن ننفي ذلك لوجهين:

أحدهما: أن المقصد إذا صح كان وجوب بيان المقصود بعبارة موضوعة له حق الرسول صلى الله عليه وسلم، فله تركه إذا عبر عن نفسه، وغيره إذا خالف موجب الأدب معه في العبارة كفرناه على ما سلف.

والأمر الثاني: أنه إذا علم بالقواعد ثبوت رتبة للرسول صلى الله عليه وسلم فالعبارة (5) التي توهم نفيها إذا صدرت منه صلى الله عليه وسلم علم المراد [بها](6)؛ للدليل على عصمته وصحة تبليغه وعدم تناقض أفعاله وأقواله، وغيره ليس كذلك).

فيقال له: هذا من الجهل في الاستدلال، فإن ما ينفيه الرسول عن نفسه

(1) يشير إلى حديث عائشة رضي الله عنها أن امرأة قالت: يا رسول الله أقول إن زوجي أعطاني ما لم يعطني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المتشبع بما لم يعط، كلابس ثوبي زور".

أخرجه مسلم في (كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن التزوير في اللباس وغيره، والتشبع بما لم يعط) رقم 2129، 3/ 1681.

(2)

سقطت من (ف) ومضافة فوق سطر في الأصل و (د).

(3)

لم أجد من ذكر هذه الفتوى.

(4)

في (د) هذا.

(5)

في (د) في العبارة.

(6)

كذا في (ف) وفي الأصل و (ف) و (ح)(ومنها)، وسيذكر المؤلف المقطع نفسه هكذا في جميع النسخ كما ص 398.

ص: 394

هو صادق فيه وفي جميع ما يقوله (1)؛ فإنه صلى الله عليه وسلم هو الصادق المصدوق، وهذا أخبر به، والخبر يكون إثباتاً ويكون نفياً، وهو صادق فيما يثبته لنفسه وفيما ينفيه عن نفسه، وعلينا أن نصدقه في ذلك.

وليس [هذا](2) من جنس عفوه عمن آذاه؛ فإن ذلك ليس بخبر منه، وإنما هو ترك استيفاء حق له، وبعد موته لا يمكن عفوه فيجب استيفاء حقه؛ لأن سبه فيه حق لله، وبعد موته لا مسقط له فيتعين استيفاؤه، وإذا انفرد بجواز العفو عن الساب دوننا لم يلزم أن ينفرد في إخباره؛ بأن يخبر بالأمر على خلاف ما هو عليه، وما قال أحد من المسلمين: إن ما أخبر به الرسول عن نفسه بنفي [أو](3) إثبات ليس لنا أن نخبر بمثل خبره.

بل إذا قال: {سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 93]، نقول: ما كان إلا بشراً رسولاً، وإذا قال:{إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف: 110]؛ وإذا قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله"(4)؛ قلنا نشهد أن لا إله إلا الله ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، وإذا قال:"إنما أنا بشر أنسى كما تنسون"(5)؛ قلنا: إنما هو بشر ينسى كما ينسى البشر، وإذا قال:{لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام: 50] قلنا: لم يقل (6): [إن](7) عنده خزائن الله ولا يعلم الغيب ولا نقول إنه ملك، وإذا قال:{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعراف: 188]، قلنا: لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله، وإذا قال: "لن يدخل أحد

(1) في (د) ما يقول.

(2)

كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل هذ.

(3)

كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (واو).

(4)

أخرجه البخاري في (كتاب الأنبياء، باب قول الله -تعالى-:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ} 2/ 1072 رقم 3445 وطرفه 6820.

(5)

أخرجه مسلم في (كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له) رقم 572، 1/ 400.

(6)

في (د) نقل.

(7)

كذا في (ف) و (د) و (ح)، وسقطت من الأصل.

ص: 395

منكم الجنة بعمله"، قيل: ولا أنت يا رسول الله، قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل"، قلنا: لن يدخل الجنة أحد بعمله، فإذا قيل لنا: ولا رسول الله؟ قلنا: ولا رسول الله إلا أن يتغمده الله برحمة منه وفضل، فنخبر بمثل ما أخبر به تصديقاً له؛ فإنه الصادق المصدوق، ومثل هذا كثير.

وقول هذا الجاهل [شبيه ومثيل](1)[دين النصارى](2) فإن المسيح عليه السلام لما أخبر [عن](3) نفسه أنه عبد الله؛ تقول النصارى: ليس لنا أن نقول في الأنبياء ما يقولونه في أنفسهم، وقد قال الله -تعالى-:{يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} إلى قوله {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 116 - 117]، وقال المسيح:{إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم: 30]، فيقول النصراني من جنس قول شبيهه (4): هو يقول: ربي الله، وهم يقولون: هو الرب ليس له رب، ويقولون: وليس لنا أن نقول فيه ما يقول في نفسه.

وهكذا الرافضي إذا احتججنا عليه بقول علي رضي الله عنه عن نفسه: يقول ليس لنا أن نقول فيه قوله في نفسه، وفي الجملة فبعض الناس قد [يقول](5) على سبيل التواضع كلاماً فيه مبالغة، فيقال: ليس لغيره أن يقول فيه هذا.

وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فلا ينطق إلا بحق، وكلامه معه إذا كان تواضعاً لله فهو أحق الخلق بالتواضع لربه عز وجل، وليس هذا كتواضع الرجل للرجل، ثم ما ذكره في عفوه عن الساب (6) لا يقتضي العلم بهذا؛ ولا هو دليل عليه.

(1) ما بين المعقوفتين بياض في جميع النسخ بمقدار كلمتين، وفي هامش الأصل و (ف) و (د) بياض في الأصل، وما ذكر أعلاه من تكرار المؤلف لنفس المعنى، وفي (ف) كلمة رسمت هكذا (نا ت و)، وفي (د) و (ح)(ما ت و).

(2)

هكذا في (ف) و (د) و (ح)، وسقط من الأصل.

(3)

هكذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (عنهم).

(4)

في (د) شبهته.

(5)

هكذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (يكون).

(6)

في (د) السيئات، وكذلك في (ط)، وقد أدت لمعنى يصادم غرض الكتاب، =

ص: 396

وأما قوله في الوجه الأول: (إن القصد (1) إذا صح كان وجوب بيان المقصود بعبارة موضوعة له حق الرسول صلى الله عليه وسلم فله تركه إذا عبر عن نفسه، وغيره إذا خالف موجب الأدب معه في العبارة كفرناه على ما سلف}.

فيقال له: هذا من جهلك، فإن التعبير عن المعاني [بالألفاظ](2) يتعلق باللغة، ليس هذا من الحقوق ولا له مدخل في هذا، بل الواجب أن يعبر عن المعنى باللفظ الذي يدل عليه، فإن كان اللفظ نصاً أو ظاهراً حصل المقصود، وإن كان اللفظ يحتمل معنيين أحدهما صحيح والآخر فاسد تبيّن أن المراد [هو الصحيح](3)، وإن كان اللفظ يوهم بعض المستمعين معنًى [فاسداً](4) لم يطلق إلا مع بيان ما يزيل المحذور، وإن كان اللفظ يوهم معنى فاسداً لم يخاطب بذلك اللفظ؛ إذا علم أنه يوهم معنًى فاسداً، لأن المقصود بالكلام البيان والإفهام، وأما إذا كان اللفظ دالاً على المراد وجهل بعض الناس معناه من غير تفريط من المتكلم، فالدرك على المستمع لا على المتكلم.

وقوله: (إذا [خالف] (5) موجب الأدب كفرناه)، فيقال له: كلا المقدمتين باطلة، دعواك مخالفة موجب الأدب؛ ودعواك كفر، وأما إخبارك عن نفسك أنك تكفره بما تعتقده أنه مخالف للأدب؛ فأنت صادق في خبرك عن اعتقادك الباطل وجهلك المعروف، [كما](6) يصدق الروافض إذا أخبروا عن أنفسهم بتكفيرهم لأبي بكر وعمر وعثمان، وكما يصدق الخوارج إذا

= فكيف يكون الرسول صلى الله عليه وسلم يعفو عن السيئات.

(1)

كذا في جميع النسخ، وفي ص 394 ذكر المؤلف هذه الجملة بلفظها ورسم هذه الكلمة (المقصد).

(2)

هكذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (بألفاظ).

(3)

ما بين المعقوفتين بياض في (ح) بمقدار كلمة، وقد وضعته حسب ما يقتضيه السياق، وليس في الأصل، و (ف) و (د) إشارة للسقط.

(4)

كذا في (ح)، وفي الأصل و (ف) و (د) فاسد بالرفع، والصواب بالنصب.

(5)

كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (خاف).

(6)

في جميع النسخ (مما) ولا يصح، وما أثبت أعلاه موافق للسياق كما في الجملة التي بعدها.

ص: 397

أخبروا عن أنفسهم بتكفيرهم لعثمان وعلي، وكما يصدق الكفار إذا أخبروا عن أنفسهم بأنهم يقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كاهن ومجنون ومعلم ومفتري، فهذا صدق يضر قائله لا يضر المقول له، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)} [النور: 11].

لكن اعتقادك كفر من هم أعظم الناس إيماناً بالله ورسوله لا يضرهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما"(1)، [لذلك](2) كنت أحق بالكفر إلا أن تعتذر بالتأويل، وفي الصحيح أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا يرمي رجل رجلاً بالكفر والفسق إلا رُدت عليه إذا لم يكن لذلك أهلاً"(3).

وقوله في الوجه الثاني: (إنه إذا علم بالقواعد ثبوت رتبة للرسول؛ فالعبارة التي توهم نفيها إذا صدرت منه علم المراد بها للدليل على عصمته وصحة تبليغه، وعدم تناقض أقواله وأفعاله، وغيره ليس كذلك).

فيقال له (4): هذا مبني على صدور عبارة موهمة وتقدم أن الجواب عبارة ظاهرة في معناها، بل نص لا يحتمل معنيين؛ فضلاً عن كونها توهم غير ما أريد بها، وأيضاً فغير الرسول إذا عبر بعبارة موهمة [مقرونة](5) بما [يزيل](6)

(1) أخرجه البخاري في (كتاب الأدب، باب من كفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال) 6103، 4/ 1925، ومسلم في (كتاب الإيمان، باب بيان حال من قال لأخيه المسلم يا كافر) رقم 60، 1/ 79، والإمام مالك في الموطأ في (كتاب الكلام، باب ما يكره من الكلام) 2/ 984 واللفظ للإمام مالك.

(2)

ما بين المعقوفين بياض في (ف) و (د) و (ح) بمقدار كلمتين، وفي هامش (د) بياض في الأصل، وهو ما يقتضيه السياق.

(3)

أخرجه البخاري في (كتاب الأدب، باب ما ينهى عن السباب واللعن) 4/ 1909 رقم 6045، والإمام أحمد في المسند 5/ 181 وغيرهم بألفاظ متقاربة وقريبة من لفظ المؤلف.

(4)

سقطت من (ف).

(5)

كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (مقرنة).

(6)

كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (يزل).

ص: 398

الإيهام كان هذا سائغاً باتفاق أهل الإسلام، وأيضاً فالوهم إذا كان لسوء فهم المستمع لا لتفريط المتكلم لم يكن على المتكلم بذلك بأس.

ولا يشترط في العلماء إذا تكلموا في العلم أن لا يتوهم من ألفاظهم خلاف مرادهم، (بل ما زال الناس [يتوهمون] (1) من أقوال الناس خلاف مرادهم) (2)؛ ولا يقدح ذلك في المتكلمين بالحق، ثم غاية هذا أن يكون بحثاً لفظياً، والبحوث اللفظية لا توجب خلافاً معنوياً فضلاً عن التكفير، اللهم إلا على قول هذا الجاهل: إن المتكلم إذا عنى معنًى صحيحاً بعبارة وتوهم منها بعض الناس نقصاً كان ذلك كفراً، وهذا لا يقوله إلا من انسلخ من العقل والدين، لا سيما إذا كان التقصير إنما هو من المستمع؛ لا تقصير من (3) عبارة المتكلم.

ثم يقال: هذا كله ليس مما نحن فيه، فإن ما ذكره المجيب لا يحتاج لهذا، ولا يتوقف على نقل عبارته بعينها؛ بل تلك المعاني بائنة بالكتاب والسنة واجماع الأمة؛ سواء كان اللفظ بعينه منقولاً أو لم يكن؛ والتعبير عن تلك المعاني شائع بما يدل عليها دلالة بيّنة كالدلالة على سائر المعاني، ومما يجب معرفته أن الأسماء والألفاظ التي تُعلق بها الأحكام الشرعية من الأمر والنهي والتحليل والتحريم والاستحباب والكراهية والمدح والذم والثواب والعقاب والموالاة والمعاداة [هي](4) الألفاظ الموجودة في كتاب الله وسنة رسوله ومعاني تلك الألفاظ، وذلك مثل لفظ الإيمان والإخلاص والعبادة (5) والكفر والشرك والهدى والضلال والرشاد والغي (6) والتوكل والشكر والصبر والنبوة والرسالة والتوكيل ونحو ذلك، فأما الألفاظ التي لم توجد في كتاب الله وسنة رسوله ولا تعلق بها بشيء من ذلك إلا إذا [تبيّن](7) أن معانيها موافقة لمعاني ألفاظ الكتاب والسنة.

(1) كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل (تتوهمون).

(2)

ما بين القوسين سقط من (ف).

(3)

في (ف) في.

(4)

كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (وهي).

(5)

(والعبادة) سقطت من (ف).

(6)

في (ف) و (د) والعبادة.

(7)

كذا في (د)، وفي الأصل و (ف) و (ح) بين.

ص: 399

والله -تعالى- في كتابه وسنة رسوله قد أوجب لنفسه حقاً لا يشركه فيه غيره، وأوجب حقاً له ولرسوله وللمؤمنين، فله وحده أن نعبده ولا نشرك به شيئاً وأن نخشاه ونتقيه (1).

فصل

قال: (وبالجملة فللأنبياء أنفسهم وفيما بينهم عبارات ومخاطبات ومعاملات لا يقاس بها (معهم من)(2) دونهم، ألا ترى ما في الحديث الصحيح في محاجة موسى لآدم، وذكر شيئاً في روايات ساقها مسلم؛ منها [قوله] (3):"أنت آدم الذي أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة؟ "(4)، ومنها قوله: "أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة

الحديث" (5)، وليس لواحد منا أن يقول في آدم عليه السلام ولا أحد من النبيين مثل ذلك القول ولا قريباً منه، وكيف لطم موسى عين ملك الموت (6)[عليه السلام](7)، وأثبت بعض العلماء أنه لطم حقيقة.

(1) في (ف)(أن تعبده ولا تشرك به شيئاً وأن تخشاه وتتقيه).

(2)

ما بين القوسين في (د) مع.

(3)

كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل كلمة غير واضحة.

(4)

أخرجه مسلم في (كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى عليهم السلام) رقم 2652 تابع 14، 4/ 2043 وأوله: "تحاجَّ آدم وموسى، فحجَّ آدم موسى، فقال له موسى: أنت آدم

الحديث". وانظر: الروايات الأخرى في نفس الباب.

(5)

أخرجه البخاري في (كتاب القدر، باب تحاج آدم وموسى عند الله) رقم 6614، 5/ 2068 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأوله: "احتج آدم وموسى

الحديث"، وأطرافه: 3409، 4736، 4738، 7515.

(6)

يشير إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جاء ملك الموت إلى موسى عليه السلام فقال له: أجب ربك، قال: فلطم موسى عليه السلام عين ملك الموت ففقأها، قال: فرجع الملك إلى الله -تعالى-؛ فقال: إنك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت وقد فقأ عيني

الحديث"، أخرجه مسلم في (كتاب الفضائل، باب من فضائل موسى صلى الله عليه وسلم رقم 2372، 4/ 1843، وقد أخرجه البخاري في (كتاب الأنبياء، باب وفاة موسى، وذكره بعد) 2/ 1057 رقم 3407 ولفظ مسلم أقرب لمراد البكري.

والصواب أنه لطم عين الملك حقيقة. انظر: شرح مسلم للنووي 15/ 138، وفتح الباري 6/ 546 - 547.

(7)

كذا في (د) و (ح) وفي الأصل و (ف) صلى الله عليه وسلم.

ص: 400

وروى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لم يكذب إبراهيم النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاث كذبات

الحديث" (1)، مع أن الثلاث وجه المجاز فيها ظاهر صحيح، قوله: إنه سقيم، باعتبار الاستقبال؛ ولا بد لكل بشر أن يسقم غالباً ولو بمقدمات الموت؛ مع جواز اطلاعه على ذلك أو بتأويل القابلية (2)، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وجه المجاز أنه سبب للتكسير الذي وقع؛ لما فيه من التصوير المنكر، أو تهكم يؤيده قوله:{فَسْأَلُوهُمْ} ، وأما الكلمة في سارة فقد صرح بالمعنى إذ قال لها: أخبرته أنك أختي فإنك أختي في [الإسلام](3).

وحديث المحاجة وإن احتمل أن لا يكون في دار التكليف، فنحن نعلم أنهم لا يقابلون بعضهم بعضاً بما يرونه خلاف الأدب منهم، وكل هذه الأمور لا ينقاس بها معهم من دونهم، فربما كان الشيء من المثيل أو المساوي أدباً أو أمراً محتملاً؛ ولا يكون ممن دونه كذلك، فليحفظ الناظر موقع الحكمة في أحكام المراتب في الأشخاص والأفعال والأقوال وسائر الأحوال).

والجواب من وجوه، أحدها: أن يقال: هذا الكلام لا يدل على مورد النزاع، فإن أحداً لم يقل إن حكم النبي مع النبي أو مع الملك حكم من هو دونه؛ ولا حكم بعض الأنبياء حكم بعض بل ولا الملائكة، قال تعالى:{وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55]، وقال تعالى عن الملائكة:{وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)} [الصافات: 164]، وقال:{كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)} [الإسراء: 20، 21].

ولكن ليس في ثبوت أفضليتهم على من دونهم وعدم مساواتهم لهم في كل شيء أنهم لا يشاركونهم في شيء من الأحكام؛ بل الأصل عند جماهير السلف والخلف أن ما ثبت في حق النبي من الأحكام ثبت في حق الأمة، ما لم يقم دليل على التخصيص، فما وجب عليه وجب عليهم وما حرم عليه حرم

(1) أخرجه البخاري في (كتاب الأنبياء، باب من فضائل إبراهيم صلى الله عليه وسلم) رقم 2371، 4/ 1840، واللفظ له من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقد سبق تخريج بعض ألفاظه. انظر: ص 389.

(2)

(د) القائلية.

(3)

كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (إسلام).

ص: 401

عليهم؛ وما أبيح له أبيح لهم، إلا أن يقوم دليل على التخصيص، ولهذا قال تعالى:{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} (1)[الأحزاب: 37]، بيّن أن في تزويجه بامرأة دَعِيّه من الحكمة دفع الحرج عن المؤمنين في تزويجهم بنساء أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً، ولولا أن الإِحْلال له يستلزم الإِحْلال للأمة لم يرتفع الحرج عنهم لمجرد ذلك.

ولهذا لما خصه بإحلال شيء قال: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [الأحزاب: 50]، فجعل إباحة الواهبة نفسها له خالصة له من دون المؤمنين، ومن هذا ما ثبت عنه في الصحيح أنه لما (2) بلغه أن قوماً تنزهوا عن أشياء فعلها، فقال:"والله إني لأخشاكم لله وأعلمكم بحدوده"(3)، وفي حديث آخر أن رجلًا قال: ليتنا مثل رسول الله يحل الله له ما يشاء، فغضب من ذلك وقال:"إني لأتقاكم لله وأعلمكم بحدوده"(4)، لأن هذا ونظائره متعددة، وهذا الأصل متفق عليه بين أئمة المسلمين (5)، ولكن قد يقال نفس الخطاب له أو للواحد من الأمة خطاب

(1) في (د) {

لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} [الأحزاب: 37] الآية.

(2)

(لما) سقطت من (د).

(3)

لم أجده بهذا السياق، ولكن أخرج البخاري في (كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح) 4/ 1631 رقم 5063 ولفظه: "أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له"، وأبو داود في (كتاب الصوم، باب فيمن أصبح جنباً في شهر رمضان) 2/ 782 رقم 2389 ولفظه: "والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتبع"، والإمام أحمد في المسند 6/ 67 ولفظه:"والله إني لأرجو أن كون أخشاكم لله عز وجل وأعلمكم بما أتقي"، وأخرج غيرهم ألفاظ قريبة.

(4)

أخرجه الإمام مالك في (كتاب الصيام، باب ما جاء في الرخصة في القبلة للصائم) 1/ 291 رقم 13، والإمام الشافعي في الرسالة ص 404 رقم 1109، والإمام أحمد في المسند 5/ 434 واللفظ لهما؛ قال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 166 - 167: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. أ. هـ. وقال العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/ 583 رقم 329 في سند الإمام أحمد: وهذا سند صحيح متصل. أ. هـ.

(5)

في (ف) و (د) الإسلام.

ص: 402

عام للعادة الشرعية في ذلك، أو يثبت الاشتراك بالاعتبار بأدلة أخرى، أو وذلك معلوم بالاضطرار من الدين، هذا مما تنازع فيه أهل النظر، وإذا كان كذلك فما يثبت جوازه له من الأقوال يثبت جوازه لغيره ما لم يقم دليل المنع، وما ذكره من مطلق [التفضيل](1) ليس دليلاً على المنع [باتفاق](2) المسلمين.

والوجه الثاني أن يقال: خبره عن نفسه وغيره سواء كان نفياً أو إثباتاً، وما أخبر به فهو صدق يجب تصديقه، ومن أخبر به كان صادقاً داخلًا فيمن جاء بالصدق وصدق به، ومن قسم إخباره إلى ما لنا أن نخبر به وما ليس لنا أن نخبر به، فقد قال قولاً مبتدعاً لا دليل له [عليه؛ بل](3) هو معلوم البطلان، ثم إنه لا يمكنه [أن](4) يذكر حداً فاصلاً بين ما يجوز موافقته فيه من الأخبار وما لا يجوز؛ بل لا يشاء كل جاهل وضال أن يقول -فيما أخبر به الرسول- هذا من الأخبار التي ليس لنا أن نخبر بها بحال يبديه إلا ادعى ذلك؛ حتى سد على الناس أن يخبروا بالأخبار الصادقة التي أخبر (5) بها، وقد يتعدى ذلك إلى الأمر فيقول ليس كل ما أمر به يؤمر به من غير تفصيل معلوم بدليل الشرع، وحينئذٍ فإذا لم يقم يخبر بخبره ويأمر بأمره كان ذلك ذريعة إلى إبطال كثير من رسالته ونبوته، وهذا فيه من الكفر به وإبطال دينه؛ ما هو من أعظم الردة عن دين الإسلام.

وليس هذا بمنزلة سوء الأدب في الخطاب؛ بل هذا كفر صريح وردة عن الإسلام، وهذا لازم لهؤلاء الجهال، فإن قولهم يستلزم الردة عن الدين والكفر برب العالمين، ولا ريب أن أصل قول هؤلاء هو من باب الإشراك بالله؛ الذي هو الكفر الذي لا يغفره الله، فإن الله -تعالى- قال في كتابه:{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} (6) [نوح:

(1) كذا في (ح)، وفي الأصل و (ف) و (د)(التفصيل).

(2)

كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (بالتفاق) بزيادة لام.

(3)

ما بين المعقوفين من (د) و (ح)، وفي الأصل و (ف) هل.

(4)

ما بين المعقوفين يتطلبه سياق الكلام، وليس في جميع النسخ، وهو في (ط) بين معقوفين.

(5)

في (د) أخبروا.

(6)

في (د) الآية.

ص: 403

23 -

24]، وقال غير واحد من السلف: هذه أسماء قوم صالحين كانوا في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوَّروا تماثيلهم ثم عبدوهم، وقد ذكروا ذلك بعبارات متقاربة في كتب الحديث والتفسير وقصص الأنبياء، كما ذكره البخاري في صحيحه وجماعة من أهل الحديث، (وكما ذكره المفسرون كالطبري وغيره)(1)، وكما ذكره مصنفو القصص مثل وثيمة (2) وغيره.

وقد أمر الله -تعالى- أن يقول: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف: 110]، فيقول هذا الضال: هذا يقوله هو عن نفسه؛ وأما نحن فليس لنا أن نقول: هو بشر؛ بل نقول كما قال فلان وفلان: من زعم أن محمداً بشر كله فقد كفر، وهذا يقوله قوم منهم؛ وهو تشبه بقول النصارى في المسيح؛ يقولون: ليس هو بشر كله، بل المسيح عندهم يتناول اللاهوت والناسوت الإلهية والبشرية جميعاً، وهذا يقوله طائفة من غلاة الصوفية والشيعة؛ يقولون باتحاد اللاهوت والناسوت في الأنبياء والصالحين كما تقوله النصارى في المسيح (3).

والوجه الثالث: أن يقال: مسألتنا ليست محتاجة إلى هذا، فإن ما نُفي عنه وعن غيره من الأنبياء والمؤمنين؛ [وهو](4) أنهم لا يُطلب منهم بعد

(1) ما بين القوسين سقط من (د)، وقد سبق ذكر هذا الخبر ص

(2)

هو أبو يزيد وثيمة بن موسى الفرات المعروف بالوشاء، الفارسي الفسوي نشأ في فارس، ورحل إلى مصر فالأندلس، ثم عاد إلى مصر فمات فيها، صنف كتاباً في "أخبار الردة" توفي سنة 237 هـ. انظر: وفيات الأعيان 6/ 12، والأعلام 8/ 110.

(3)

تأثر الصوفية بالنصارى في الألفاظ والأفعال واضح، وأول من استخدم لفظي اللاهوت والناسوت هو الحلّاج: الحسين بن منصور، والذي قتل وصلب في بغداد سنة 309، وقيل 311 هـ. وللتوسع انظر: المصادر العامة للتلقي عند الصوفية، تأليف صادق سليم صادق، الطبعة الأولى 1415 هـ ص 63 وما بعدها، ونظرية الاتصال عند الصوفية في ضوء الإسلام، تأليف سارة عبد المحسن الجلوي الطبعة الأولى 1411 هـ ص 325 وما بعدها، ومن قضايا التصوف في ضوء الكتاب والسنة، تأليف د. محمد السيد الجليند الطبعة الثالثة 1410 هـ ص 83 وما بعدها، والتصوف المنشأ والمصادر، تأليف إحسان إلهي ظهير الطبعة الأولى 1406 هـ ص 60 وما بعدها، ولا يخلو كتاب مؤلف عن الصوفية من ذكر الأثر النصراني في التصوف.

(4)

كذا في (د) و (ح) وفي الأصل و (ف)(ونهو).

ص: 404

الموت شيء؛ ولا يطلب منهم في الغيبة شيء؛ لا بلفظ الاستغاثة ولا الاستعاذة ولا غير ذلك، ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، حكم ثابت بالنص وإجماع علماء الأمة مع دلالة العقل على ذلك؛ فلا يحتاج إلى ذكر حديث فيه نفي ذلك عن نفسه كقوله:"إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله"، فإن هذا اللفظ هو بمنزلة أن يقال: لا يستعاذ به ولا غيره من المخلوقين وإنما يستعاذ بالله عز وجل، وهذا كله معلوم، وكذلك لفظ الاستجارة، وأما طلب ما يقدر عليه في حياته فهذا جائز سواء سُمي استغاثة أو استعاذة أو غير ذلك.

الوجه الرابع: أنه ليس فيما ذكره حجة على أن ما يسوغ للأنبياء لا يسوغ لغيرهم، فإنه إنما ذكر [خطاب](1) موسى لآدم ولطم عين الملك، فيقال له:

أولًا: هل هذا سائغ لغير موسى من الأنبياء كمحمد والمسيح وغيرهما أم ليس سائغاً؟ وإن ساغ لهؤلاء فهل يسوغ هذا لداود وسليمان ويونس وغيرهم؟ فإن قال: نعم هذا سائغ لهؤلاء كلهم، طولب بدليل ذلك؛ ولا يمكنه على هذا التقدير منع جوازه لغيرهم؛ إلا أن يذكر دليلاً خاصًا على أن هذا من خصائص الأنبياء وليس له على ذلك دليل، وإن قال: لا يسوغ هذا لنبي آخر ولا يسوغ لنبي معيّن من الأنبياء، قيل: فحينئذٍ فلا حجة لك فيه على أنه (2) لا يقتدى بالأنبياء فيما يسوغ لهم، فإن هذا حينئذٍ ليس مما يسوغ لكل الأنبياء، وما خُصّ به بعض الأنبياء (لم [يتعد] (3) به) (4) غير الأنبياء بطريق الأولى، وحينئذٍ فلا يكون هذا من موارد الفرق بين الأنبياء وغير الأنبياء، بل من موارد الفرق بين نبي ونبي.

ومن الناس من يقول: إن موسى عليه السلام كان يحتمل منه [ما لا](5) يحتمل

(1) كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل و (ف)(الخطاب).

(2)

في (د) أن.

(3)

ما بين المعقوفين في الأصل و (ف)(يعتد)، وسقط من (د) و (ح)، ولا يستقيم المعنى.

(4)

ما بين القوسين سقط من (د) و (ح)، والأولى (لم يتعد به).

(5)

كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل و (ف) ما لم.

ص: 405

من مثل يونس؛ كجر رأس هارون ولحيته (1)؛ وإلقاء الألواح (2)؛ ولطم عين ملك الموت؛ ومعاتبة ربه ليلة المعراج في رفع محمد صلى الله عليه وسلم (3) ونحو ذلك، لما كان له من عظيم المجاهدة مع فرعون وقومه، ولما كان له من عظيم المنزلة عند ربه، وحينئذٍ فإذا كان هذا سائغاً لبعض الأنبياء لا يسوغ لهم كلهم، لم يكن مما نحن فيه.

الوجه الخامس: أن يقال (4): الناس لهم في جواز وقوع الذنب من الأنبياء قولان، فالسلف والأكثرون يقولون بجواز ذلك، وإن كانوا معصومين عن الإقرار عليه، وكثير من الناس منع ذلك بالكلية، وكل من الفريقين يقول: إنه قد يخصّ بعض الأنبياء بأمر لا يشركه فيه جميع الأنبياء والمؤمنين، وحينئذٍ فقول موسى لآدم عليه السلام ما قال؛ إما أن يكون مما أقر عليه أو لا يكون مما أقر عليه، فإن قيل بالأول، وقيل: إنه مختص به أو بأمثاله من الرسل فلا كلام، وإن قيل: إنه سائغ لجميع الأنبياء فلا بد من دليل على أنه من خصائصهم، وإن قيل: إنه لم يقر عليه، وهو [الأظهر](5) فإن آدم أجابه عن ذلك؛ وبيّن له أن هذا الذي جرى عليكم كان مقدوراً عليكم مكتوباً عليكم؛ فحج آدم وموسى، وإذا كان موسى محجوجاً، كان موسى قد عرف أنه لا حجة له على آدم، وأنه (6) لم يكن له أن يعاتبه على ذلك، فيكون موسى رجع عن هذا، وما رجع عنه النبي ولم يقر عليه لم يُقْتد به باتفاق المسلمين، كالمنسوخ وأولى.

وكذلك لطمه لملك الموت إن كان مأذوناً له فيه أو معفوًا عنه؛ وهو من

(1) يشير إلى قوله تعالى: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)} [طه: 94]

(2)

يشير إلى قوله تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} [الأعراف: 150].

(3)

يشير إلى ما أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب قوله:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} 5/ 1344 رقم 7517 عنه- صلى الله عليه وسلم لما علا فوق السماء السابعة قال موسى: "ربِّ لم أظن أن ترفع علي أحدًا

الحديث".

(4)

في (د) هم (زيادة).

(5)

كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (أظهر).

(6)

في (د) أن.

ص: 406

خصائصه أو من خصائص الرسل فلا كلام فيه، وإن قيل: إن هذا سائغ للأنبياء كلهم فلا بد من دليل الاختصاص بالأنبياء، وأما إن قيل: إن موسى رجع عن تلك اللطمة لما اختار الموت وأجاب إلى ما طلب منه الملك من إجابة ربه؛ كان هذا مما رجع عنه موسى، ومثل ذلك ليس مما يقتدى فيه بالأنبياء، وذلك أن موسى لطمه بغضاً للموت؛ فلما رجع إليه وخيّره بين أن يضع يده على متن ثور فما وارته يده من شعره فإنه يعيش بها سنه وبين الموت؛ اختار الموت.

الوجه السادس: إن قول موسى: إن آدم أغوى الناس وأخرجهم من الجنة، وإنه خيبهم وأخرجهم من الجنة، إما أن يقول: إنه صدق، وإما أن يقول: لم يكن كذلك، وإنما قاله (1) باجتهاد وتأويل، فإن [قال] (2): إنه صدق لا خطأ فيه، قيل: فمن الذي منع غير موسى أن يقول: الصدق الذي [لا خطأ](3) فيه، وقول القائل ليس لواحد منا أن يقول: الصدق الذي لا خطأ فيه الذي قاله الأنبياء؛ دعوى مجردة لا يثبت بها حكم، لكن صاحب هذا الكلام يتكلم بحاله وما يخطر (4) له من غير اعتصام بالأدلة الشرعية.

وإن قيل: إن موسى عليه السلام[قاله](5) مجتهداً متأولاً ولم يكن الأمر كذلك، أو قال بحسب اعتقاده ولم يكن الأمر كذلك؛ كان كقول النبي صلى الله عليه وسلم:"لم أنس ولم تقصر الصلاة"؛ فإنه قال معتقداً أنه أتم الصلاة، فقال له ذو اليدين: بل قد نسيت، فقال:"أكما يقول ذو اليدين"، قالوا: نعم (6)، وكذلك

(1) في (د) قال.

(2)

ما بين المعقوفتين زيادة اقتضاها السياق.

(3)

كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل أخطأ.

(4)

في الأصل (بنا) فوق السطر وهي زيادة.

(5)

كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (قال).

(6)

أخرجه مسلم في (كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له) رقم 573، 1/ 403 والترمذي في (كتاب الصلاة، باب ما جاء في الرجل يسلم في الركعتين من الظهر والعصر) رقم 399، 2/ 248 وأبو داود في (كتاب الصلاة، باب السهو في السجدتين) رقم 1008، 1/ 612 والنسائي في (كتاب السهو، باب ما يفعل من سلم من ركعتين ناسيًا وتكلم) رقم 1222، 3/ 20 وغيرهم، واللفظ للنسائي، وقد سبق تخريج قطعة من الحديث ص 395.

ص: 407

لما قال في النخل: "ما أظنه يعني -التلقيح- يغني شيئًا"، ثم قال لهم:"إنما أخبركم عن ظني فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله فإني لن أكذب على الله"، وفي لفظ:"أنتم أعلم بأمر دنياكم، وأما ما كان من أمر دينكم فإلي"(1).

وأما لطم موسى عين ملك الموت فليس هو إخباراً عن نبي وإنما هو فعل من الأفعال؛ فليس مما نحن فيه، وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات"؛ فيقال له: أتقول إنه لا يجوز لنا أن نصدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما قال: "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات"، بالمعنى الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم أي شيء كان أم ليس لنا ذلك؟ فإن قلت: لنا ذلك، بطلت حجتك، وإن قلت: ليس لنا أن نقول ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لفظًا ومعنى كان هذا ممنوعاً، وهو من جملة ما يرد عليك، وإن لم يذكر عن (2) ذلك حجة؛ بل ولا نقله هذا (3) عن إمام من أئمة المسلمين، ونحن قد ذكرنا دلالة الكتاب والسنة والإجماع على أن الأخبار الصادقة التي أخبرت بها الأنبياء نفياً وإثباتاً لنا أن نخبر بها كما أخبروا بها لفظًا ومعنى.

الوجه السابع: أن يقال هذه الكلمات هي من باب المعاريض، والمعرَّض يقصد معنى ويفهم المستمع غيره، والكلام مبدؤه عناية (4) المتكلم (5) ومنتهاه إفهام المستمع، فالمعرض إذا عنى حقًا والمستمع فهم باطلًا كان الكلام صدقًا باعتبار [الغاية السائغة](6) وكذباً باعتبار الإفهام، ولهذا لم يرخص في المعاريض فيما يجب بيانه؛ للخلل (7) في (8) البيع

(1) أخرجه مسلم في (كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعًا) 4/ 1835 - 1836 رقم 2361، 2363، وابن ماجه في (أبواب الأحكام، باب تلقيح النخل 2/ 68 رقم 2495، 2496، والإمام أحمد في المسند 6/ 123 وغيرهم بألفاظ قريبة من لفظ المؤلف.

(2)

الأولى (على).

(3)

في (ف) هذه.

(4)

في (ف) غاية.

(5)

في (د) للمتكلم.

(6)

كذا في مجموع الفتاوى 28/ 223، وفي الأصل (العنائه) وتحتها كالخط، وفي

(ف) العان (بدون نقط)، وبياض في أصل (د) وفي الهامش (المعينائه) وكذلك في أصل (ح).

(7)

في (ف) الخلل وفي (د) و (ح) للخل.

(8)

(في) سقطت من (ف) و (د) و (ح).

ص: 408

والشهادة والإفتاء ونحو ذلك باتفاق، ويجوز للمظلوم [التعريض](1) في الأيمان وغيرها، وأما ما ليس بظالم ولا مظلوم ففيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره، قيل: يجوز له التعريض، وقيل: لا يجوز مع اليمين ويجوز بدونها (2).

فقول إبراهيم عليه السلام: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] قيل: أراد سقيم القلب من كفركم، وقوله: أختي، أراد أخته في الدين؛ كما جاء ذلك مصرحًا به في الحديث الصحيح؛ حيث قال:"فإنه ليس على الأرض مؤمن غيري وغيرك"، وقوله:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]، قيل: إنه قصد [تعليقه](3) بالشرط وهو قوله: {إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)} (4)[الأنبياء: 63].

ومن هذا قول نائب يوسف: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70]، فإن يوسف أمره بالنداء؛ لكن نداء يوسف: سارقون ليوسف من أبيه وهو صادق فيما عناه، وما ذكره هذا الذي يلبس الحق بالباطل كحاطب ليل من التأويلات ليس مما يبنى عليه مسألتنا، فإنه ليس في شيء من ذلك أنه لا يجوز أن يخبر بما أخبر به الرسول لفظًا ومعنى، والناس قد ذكروا هذه التأويلات وغيرها، فتأويل المتأول إني سقيم أي سأسقم، إما لأن الظاهر مرضه، أو لاطلاعه على ذلك هو تأويل؛ و (5) قول غيره: أريد سقيم القلب تأويل ثان؛ وهو أقرب من كون الصفة حاضرة؛ والأول أقرب من كون السقم أراد به سقم البدن، لكن يقال: استعمال السقم والمرض في سقم القلب ومرضه هو حقيقة،

(1) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (التعرض).

(2)

التعريض لغة: ضد التصريح. القاموس المحيط ص 834، واصطلاحًا: هو أن تذكر كلاماً يحتمل مقصودك وغير مقصودك، إلا أن قرائن أحوالك تؤكد حمله على مقصودك. الكليات لأبي البقاء ص 762. وقد اختلف الفقهاء في حكمه على ثلاثة أقوال كما ذكر المؤلف، والراجح -والله أعلم- فمن ليس بظالمٍ ولا مظلوم أنه لا فرق بين التعريض بيمين أو دونها، فقد حلف بعض الصحابة معرضًا وأقره النبي صلى الله عليه وسلم، وكثير من الفقهاء لا يفرقون في حكم التعريض بيمين أو دونها. انظر: المغني لابن قدامة 11/ 244، وروضة الطالبين للنووي 11/ 82 - 81، والمحلى لابن حزم 8/ 43 - 44، وفتح الباري 10/ 725 - 726، ونيل الأوطار 10/ 149 - 150.

(3)

كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل تعليله.

(4)

انظر: الجامع لأحكام القرآن 15/ 92، وفتح الباري 6/ 482.

(5)

سقطت الواو من (د).

ص: 409

بخلاف قوله إني سقيم بمعنى سأسقم فإن هذا لا يفهم إلا بقرينة، فيكون ذلك التأويل أولى، وأما التأويل الآخر بمعنى القابلية (1) فبعيد؛ فإن الموجود لا يوصف بكل ما يقبله من المعدومات، إذ لو كان كذلك لجاز أن يقال عن كل مخلوق: إنه معدوم، وعن كل مؤمن إنه كافر، وعن كل كافر إنه مؤمن، وعن كل غني إنه فقير، وعن كل عفيف إنه فاجر، وعن كل سليم إنه أشل وأقطع.

والتأويلا [ن](2) المذكوران في قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} أن الإله (3) الأكبر سبب للتكسير تأويل فاسد، فإن السبب في كل صنم (4) ما قام به من التصوير، لا سيما قوله بل فعله كبيرهم يقتضي أنه لم يفعله إلا كبيرهم، فلا يكون السبب أنه التصوير الذي قام به؛ وهذا باطل قطعًا فإن التصوير القائم بكل صنم موجب لكسره؛ لا يحتاج إلى تصوير صنم أكبر منه، وأما التهكم فهو أحسن، وكذلك قوله: من قال إنه نوى التعليق بقوله: {إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} .

وقوله: وحديث المحاجة وإن احتمل أن لا يكون في دار التكليف، فنحن نعلم أنهم لا يقابلون بعضهم بعضاً بما يرونه [خلافاً](5) للأدب منهم، فهذا كلام متناقض، وهو كلام من نظر في كلام شارحي الحديث، ولم يميز بين حق ذلك وباطله؛ وأخذ من ذلك ما ظنه موافقًا لدعواه، فلا له تمييز في أقوال الناس بين حقها وباطلها، ولا له معرفة بطرق الاستدلال، فلا [ذاكر](6) لكلام منقول ولا مبيّن لمعنى مقبول، ولا نقل ولا توجيه لا ذكر ولا أثر.

والعلم شيئان إما نقل مصدق، وإما بحث محقق؛ وما سوى ذلك فهذيان [مسروق](7)، وكثير من كلام هؤلاء هو من هذا القسم؛ من الهذيان، وما يوجد فيه من نقل فمنه ما لا يميز صحيحه عن فاسده؛ وفيه ما لا ينقله على وجهه؛ ومنه ما يضعه (8) في غير موضعه، وأما بحثه واستدلاله على مطلوبه

(1) في (د) المقابلية.

(2)

كذا في (ف) و (د) و (ح)، وسقطت من الأصل.

(3)

(الإله) سقطت من (د).

(4)

(صنم) سقطت من (د).

(5)

كذا في (د)، وفي الأصل و (ف) و (ح)(خلاف) بالرفع، والصواب ما أثبت أعلاه، لأنه منصوب.

(6)

كذا في (ف)، وفي الأصل (ذكرًا)، وفي (د) و (ح)(ذكر)، وما أثبت أعلاه يوافق ما بعده.

(7)

كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (مسرق).

(8)

في (د) ما لا يضعه.

ص: 410

فمن العجائب، (فلا يتحقق)(1)(حسن الاستدلال بالأدلة)(2)، حتى يميز بين ما يدل وما لا يدل، ولا مراتب الأدلة حتى يقدم الراجح على المرجوح إذا تعارض دليلان، ولهذا كان أصول الفقه مقصوده معرفة الأدلة الشرعية؛ جنس الدليل، وهذا فيه [آية](3)(الخلاص من كناية)(4)[ترد](5) الحق (6).

وقد قيل: إنما يفسد الناس نصف متكلم ونصف فقيه ونصف نحوي ونصف طبيب، هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد اللسان، وهذا يفسد الأبدان، لا سيما إذا خاض هذا في مسألة لم يسبق إليها عالم ولا معه فيها نقل عن أحد، ولا هي من مسائل النزل بين العلماء فيختار أحد القولين، بل هجم فيها على ما يخالف دين الإسلام المعلوم بالضرورة عن الرسول، فإنا بعد معرفة ما جاء به الرسول نعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن يدعو أحدًا من الأموات لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بعيرها، ولا بلفظ الاستعاذة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا إلى ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله.

لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين؛ لم يمكن (7) تكفيرهم بذلك حتى يتبيّن (8) لهم ما جاء به الرسول مما يخالفه،

(1) ما بين القوسين في (ف)(لا تحقق)، وفي (د) و (ح)(تحقق).

(2)

ما بين القوسين في (د) و (ف) و (ح)(جنس الأدلة)، وكذلك في متن الأصل، لكنها مصححة، جنس إلى حسن، بمسح نقطة الجيم، والنون التي قبل السين، وعلامة فوقها للهامش وفيه (الاستدلال) صح، و (الأدلة) فوقها (ب).

(3)

كذا في (ح)، وقبل الألف أثر كشط، وفي الأصل و (ف) و (د)(كناية)، ولا يستقيم المعنى.

(4)

ما بين القوسين سقط من (ف).

(5)

كذا في (ح)، وفي الأصل و (د)(تراد)، وفي (ف)(ترا).

(6)

(الحق) سقطت من (ف)، وفي الجملة تكرار، فزاد في الأصل و (د) و (ح)(أدنى إلى الخلاص كناية ترا)، وليس في (ف) هذا التكرار، والجملة فيها (وهذا فيه كناية ترا).

(7)

في (د) يكن.

(8)

في (ح)(يُبين)، وهذه الكلمة اختلف في رسمها بعض أهل السنة من أئمة الدعوة السلفية في نجد وبعض مناوئيهم، فقد ذكر صاحب "جلاء الغمة في تكفير هذه الأمة" أنها رسمت:"يتبين" بتقديم الياء المثناة من تحت على المثناة الفوقية ثم باء موحدة =

ص: 411

ولهذا ما بينّت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الدين إلا تفطن؛ وقال هذا أصل دين الإسلام، وكان بعض الأكابر [من](1) الشيوخ العارفين من أصحابنا يقول هذا أعظم ما بيّنته لنا لعلمه بأنّ هذا أصل الدين.

وكان هذا وأمثاله في ناحية أخرى يدعون الأموات، ويسألونهم ويستجيرون بهم، ويتضرعون إليهم، وربما كان ما يفعلونه بالأموات أعظم، لأنهم إنما يقصدون الميت في ضرورة نزلت بهم فيدعونه دعاء المضطر، راجين قضاء حاجاتهم بدعائه أو الدعاء به أو الدعاء عند قبره (2)، بخلاف عبادتهم لله ودعائهم إياه [فإنهم](3) يفعلونه في كثير من الأوقات على وجه العادة والتكلف، حتى إن العدو الخارج عن شريعة الإسلام [لما](4) قد دمشق خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف ضرهم، وقال بعض الشعراء:

يا خائفين من التتر

لوذوا بقبر أبي عمر

= بعدهما؛ من نسخة صحيحة على هوامشها خطه بيده (أي ابن تيمية) رحمه الله. أ. هـ. ورد عليه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن في "مصباح الظلام" أنها رسمت: "يبين". انظر: "مصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام" ص 323 - 325 ط. الشيخ إسماعيل بن عتيق.

وفي سياق غير هذا السياق ذكر علوي الحداد في "مصباح الأنام وجلاء الظلام" أنها رسمت: "يتبين"، ورد عليه الشيخ سليمان بن سحمان في "الأسنة الحداد" بالتشكيك في نسبة الكلام لشيخ الإسلام ابن تيمية، ثم ذكر هذا الموضع، ورسم هذه الكلمة "يُبين"، ثم قال: فزاد هؤلاء المحرفون هذه الزيادة وكتبوها بالياء التحتية ثم المثناة الفوقية وحرفوا وتصرفوا. انظر: الأسنة الحداد في رد شبهات علوي الحداد ص 154، 157 ط. الثانية 1376 هـ بأمر الملك سعود.

والأصل قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53]، وقوله:{مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ} [النساء: 115].

وانظر: أقوال شيخ الإسلام ابن تيمية في قضية التكفير المواضع التالية من منهاج السنة 4/ 131 - 452، 5/ 87 - 157 - 158، 244، 6/ 115.

(1)

كذا في (د) و (ح)، وسقطت من الأصل و (ف).

(2)

في هامش الأصل: الأول شرك والثاني وسيلة إليه. أ. هـ. قلت: أي دعاء الميت شرك، والدعاء عند القبر وسيلة إلى الشرك.

(3)

كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (فإنه).

(4)

كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (لم).

ص: 412

أو قال:

عوذوا بقبر أبي عمر

ينجيكم من الضرر (1)

فقلت لهم: هؤلاء الذين تستغيثون بهم لو كانوا معكم في القتال لانهزموا، كما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد، فإنه كان قد قضى أن العسكر ينكسر لأسباب اقتضت ذلك، ولحكمة كانت لله عز وجل في ذلك، ولهذا كان أهل المعرفة بالدين والمكاشفة لم يقاتلوا في تلك المرة لعدم القتال الشرعي؛ الذي أمر الله به ورسوله، [ولما](2) يحصل في ذلك من الشر والفساد وانتفاء النصرة المطلوبة في القتال، فلا يكون فيه ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة؛ لمن عرف هذا وهذا، وإن كان كثيراً من [المقاتلين](3) الذين اعتقدوا هذا قتالاً شرعياً أجروا على نياتهم.

فلما كان بعد ذلك جعلنا نأمر الناس بإخلاص الدين لله والاستغاثة به، وأنهم لا يستغيثون إلا إياه، لا يستغيثون بملك مقرّب ولا نبي مرسل، كما قال تعالى يوم بدر:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال: 9]، ورُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوم بدر يقول:"يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث"(4)، وفي لفظ: "أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين

(1) لم أجد قائل هذا البيت. وفي البداية والنهاية لابن كثير 14/ 33 ذكر تربة الشيخ أبي عمر بالسفح، ولعله: أبو عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة ت 607 هـ، وقد نسج الناس حوله خرافات حتى جعلوه قطباً، وهو أخو الموفق صاحب المغني. انظر: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية 1/ 458.

(2)

كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (ولَم).

(3)

كذا في (ح)، وفي الأصل و (ف) و (د)(القائلين).

(4)

أخرجه الترمذي في (كتاب الدعوات، باب 91) 5/ 539 رقم 3524، والحاكم في المستدرك في كتاب الدعاء 1/ 509 وقال: صحيح الإسناد، وتعقبه الذهبي بقوله: عبد الرحمن لم يسمع من أبيه، وعبد الرحمن ومن بعده ليسوا بحجة. أ. هـ ، والنسائي في عمل اليوم والليلة ص 397 رقم 611 وقال محققه د. فاروق حمادة: إسناده منقطع. أ. هـ، وابن السني في عمل اليوم والليلة ص 132 رقم 339، وأبو يعلى في مسنده 1/ 404 رقم 530، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 180 - 181: رواه الطبراني في الصغير والأوسط من طريق سلمة بن حرب بن زياد الكلابي عن أبي مدرك عن أنس، وقد ذكر الذهبي سلمة في الميزان فقال: مجهول كشيخه أبي مدرج، وقد وثق ابن حبان سلمة وبقية رجاله ثقات. =

ص: 413

ولا إلى أحد من خلقك" (1).

فلما أصلح الناس [أمورهم](2)، وصدقوا في الاستغاثة بربهم؛ نصرهم على عدوهم نصراً عزيزاً؛ لم يتقدم نظيره، ولم تهزم التتار مثل هذه الهزيمة قبل ذلك أصلاً، لما صح من تحقيق توحيده طاعه رسوله ما لم يكن قبل ذلك، فإن الله ينصر رسله (3) والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.

ونحن نتكلم على ما ذكره (4)؛ وإن لم يختص بمسألتنا، لما فيه من تمام الكلام على ما ذكره كله.

أما حديث احتجاج آدم موسى عليهم السلام فإن هذا الحديث فهم منه كثير من الناس المتقدمين والمتأخرين أن آدم احتج بالقدر على فعل الذنب، فصاروا أحزاباً: حزب من أهل الكلام كذبوا الحديث كأبي علي الجبائي وغيره؛ وقالوا: نحن نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن سابق علم الله وكتابه لا يكون حجة لأحد في ترك مأمور أو فعل محظور؛ وهذا يناقض ذلك، فيكون كذباً على النبي صلى الله عليه وسلم، وحزب من الصوفية والعامة شر من هؤلاء جعلوا هذا الحديث حجة على دفع الذم والعقاب عن الكفار والفساق والعصاة وسموا هذا حقيقة، وهو حقيقة القدر، وقال منهم طائفة: من شهد القدر ارتفع عنه الملام؛ وقالوا: آدم كان شاهد القدر.

ودخل في ذلك طائفة من أعيان الشيوخ والعلماء، فظنوا أن الخواص يرتفع عنهم الذم والعقاب بشهود القدر دون العامة، ومنهم من قال: هذا عين الجمع، وهو أن لا يرى الفاعل إلا واحد، ومنهم من جعل هذا من أفضل

= أ. هـ. وجميعهم بألفاظ متقاربة وقريبة من لفظ المؤلف.

(1)

ذكره الديلمي في الفردوس 1/ 445 رقم 1815 عن أبي بكر بلفظه، وقد أخرجه أبو داود في (كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح) 5/ 534 رقم 5090 بلفظ قريب، وكذلك ابن حبان في صحيحه في (كتاب الرقائق، باب الأدعية 3/ 250 رقم 970 وقال محققه شعيب الأرنؤوط: إسناده محتمل للتحسين. أ. هـ ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 137: رواه الطبراني وإسناده حسن. أ. هـ. وقد أخرجه غيرهم.

(2)

كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (أمرهم).

(3)

كذا في الأصل و (ح) وفي (ف) و (د) رسوله.

(4)

في (د) ما ذكر.

ص: 414

مقامات العارفين؛ ومن لوازم سلوك السالكين، ومنهم من جعل هذا منتهى سير العارفين، وسموا ملاحظة هذا فناء في توحيد الربوبية أو اصطلاماً ونحو ذلك، فالذين جعلوا هذا منتهى للوصول رفعوا استحسان الحسنات واستقباح القبائح، وقالوا: استحسان الحسنات واستقباح السيئات يكون لأصحاب البقاء والفرق؛ لا لأهل الجمع والاصطلام والفناء في التوحيد، وأما الذين جعلوه مقاماً أو لازمًا للسالك فقالوا: بعد هذا مقام أعلى منه وهو مشهد الفرق الثاني.

وكان قد وقع بين الجنيد (1) وأبي الحسين [النوري](2) وأصحابهما كلام في الفرق الثاني واضطربوا، كما ذكر ذلك أبو سعيد ابن الأعرابي (3) في "كتاب طبقات النساك"، وذكر أن كلامهم في الفناء والجمع لم يشتركوا فيه إلا في [العبارة](4)، وأن هذا يشير إلى معنى غير المعنى الذي يشير إليه هذا، وأنه لم يحصل ما يعبر عنه بالفرق الثاني، وذكر أن أبا [الحسين النوري](5) لما قدم بغداد بعد أن كان خرج عنها، وكان قد خرج هو وغيره في محنة

(1) هو الجنيد بن محمد النهاوندي ثم البغدادي، يوافق السلف في الاعتقاد، وعنده تعبد وزهد على طريقة الصوفية، نسبت إليه رسائل مكذوبة. انظر: السير 14/ 66 ترجمة رقم 34، والأعلام 2/ 141.

(2)

في جميع النسخ النووي، وبعض المؤلفين يذكره هكذا، والصواب النوري بالراء كما في كتب التراجم، وكما ذكره المؤلف في كتاب الاستقامة 1/ 158، 179، 180، 251، 410، 2/ 15 - 16 وهو أبو الحسين أحمد بن محمد الخرساني الزاهد، من الصوفية بالعراق، فسد عقله، وجرت عليه محنة في بغداد، لما أمر الخليفة المعتمد في سنة 264 هـ بالقبض على الصوفية، لما نسبوا للزندقة، انقبض عن الصوفية وجفاهم، وغلبت عليه العلة، وعمي ولزم الصحارى، توفي قبل الجنيد سنه 295 هـ. انظر: السير 14/ 70 ترجمة رقم 35، والبداية والنهاية 11/ 113.

(3)

هو أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد الأعرابي البصري الصوفي، جمع وصنف، وتعبد وتأله، وحمل "السنن" عن أبي داود، لا يقبل شيئًا من اصطلاحات الصوفية إلا بحجة، توفي في سنة 340 هـ. انظر: السير 5/ 407 ترحمة رقم 229، والأعلام 1/ 208 ولم أقف على كتاب "طبقات النساك".

(4)

كذا في (ف) وفي الأصل و (د) و (ح)(العبادة) بالدال.

(5)

في جميع النسخ (أبا الحسن النووي) والصواب ما أثبت أعلاه.

ص: 415

الصوفية التي جرت لما قام عليهم غلام خليل (1) سنة بضع وستين ومائتين، وكتب منهم نحو سبعين نفساً، واتهمهم بالزندقة، فوضعوا منهم جماعة [في](2) الحبس، وسافر بعضهم، واختبأ بعضهم، وكان فيهم من هو مظلوم؛ ومنهم من هو متعبد، وكان غلام خليل فيه عبادة وزهد وفيه نوع قلة معرفة (3) أيضاً، ولهذا يقال إنه كان يضع الأحاديث في الفضائل، وهذا قد بسطه أبو سعيد بن الأعرابي، وغيره ذكر ذلك مختصراً.

وذكر أبو سعيد أن [النوري](4) لما رجع مسألة أصحاب الجنيد عن الفرق الذي بعد الجمع ما علامته؟ وما الفرق بينه وبين الفرق الأول؟ قال: فسألوه عن هذا المعنى -لا أدري بهذا اللفظ أم بغيره إلا أني قد حفظت المعنى وأثبته-، قال: وكنت إذا مررت به بالرقة سنة سبعين (5)، قال لي: من بقي من أصحابنا فأخبرته، فسألني عن جماعة، ثم سألني عن الجنيد وما يتكلم فيه ومن يجتمع إليه، فأخبرته؛ وقلت: إنهم يشيرون إلى شيء يسمونه الفرق الثاني والصحو، فقال لي: اذكر لي شيئًا منه؛ فذكرت له بعض ما كنت أظنه؛ فضحك، ثم قال: أي شي يقول (6) في هذا ابن الجلحي (7)؟ فقلت: [ما يجالسهم](8)، قال فأبو

(1) هو أبو عبد الله أحمد بن محمد بن غالب الباهلي البصري، غلام خليل، سكن بغداد، له جلالة عجيبة، وأمر بالمعروف، وصحة معتقد، إلا أنه يروي الكذب الفاحش، اعترف بوضع الحديث، لم يزل يقص ويحذر من الصوفية، ويغري بهم السلطان والعامة، حتى أُمر المحتسب بطاعة خليل فطلب القوم، وبث الأعوان في طلبهم، وكتبوا، فكانوا نيفاً وسبعين نفساً، واختفى عامتهم، وحبس منهم جماعة، وهرب النوري إلى الرقة.

مات سنة 275 هـ وحمل إلى البصرة. انظر: السير 13/ 282 ترجمة رقم 136، والبداية والنهاية 11/ 58.

(2)

كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (بالحبس).

(3)

في الأصل و (ف) و (د)(ومعرفة)، وسقطت الواو من (ح) وهو الصواب.

(4)

النووي في جميع النسخ والصواب النوري بالراء.

(5)

أي سبعين بعد المائتين كما في السير 14/ 75.

(6)

في (ف) تقول.

(7)

لم أجد له ترجمة، وفي السير للذهبي 14/ 75: الخلنجي.

(8)

كذا في السير للذهبي 14/ 75، وفي جميع النسخ ما أجالسهم، ولا يستقيم المعنى.

ص: 416

أحمد القلانسي (1)؟ فقلت: مرة يوافقهم، وربما خالفهم إلى معاني الجمع، فقال: أي شيء تقول أنت؟ فقلت: ما عسى أن أقول أنا، ولكن ما تقول في هذا يا أبا الحسين فإني أحب أن أسمع منك في هذا خاصة شيئًا؟ فقال: لا، أو تقول أنت، فحملني حرصي على أن أسمع منه أن قلت ما كان عندي في ذلك الوقت، قلت: أنا أحسب يا أبا الحسين أن هذا الذي يسمونه فرقاً ثانيًا هو عين من عيون الجمع، يتوهمون به أنهم قد خرجوا عن الجمع، وإنما هو أحد عيون الجمع، فقال: هو كذلك، وأنت [إنما](2) سمعت هذا من أبي أحمد القلانسي، فأخبرته أني ما سمعته من أبي (3) أحمد، فلما قدمت بغداد حدثت (4) أبو أحمد بذلك، وكان أبو أحمد يعارض ذلك ولا يقطع به، وربما وافقهم فأعجبه قول أبي الحسين، وكذلك كان عند أبي الحسين، فأما أبو أحمد فقد كان (5) ربما قال: هو صحو وخروج عن الجمع؛ وربما قال: هو شيء من الجمع، ثم قال أبو الحسين ببغداد لما [شاهدهم] (6): ليس هو عيناً من عيون الجمع، ولا صحواً من الجمع وفرقاً ثانياً، ولكنهم رجعوا إلى ما يعرفون، وحملوا الشيء على عقولهم، فهم يسددون بجهلهم وليس معهم مما يذكرون إلا هذا العلم وهذا الوصف، وكأنهم قد اصطلحوا عليه، وكان يومئ إلى أنهم يتكلمون عن غير حقيقة، وإنما هو شيء يأخذه بعضهم عن بعض، فيزيد بعضهم من بعض بقدر فصاحتهم في العبارة دون الحقيقة، ولهذا كان قوله أول ما قدم بغداد (7).

(1) هو أبو أحمد، مصعب بن أحمد البغدادي القلانسي، شيخ الصوفية كان مقدمًا على جميع مريدي بغداد، لما فيه من السخاء والأخلاق، مات سنة 270 بمكة. انظر: السير 13/ 170 الترجمة رقم 101.

(2)

كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (ما).

(3)

في (د) أني.

(4)

كذا في السير 14/ 75، وفي جميع النسخ (حدث) ولا يستقيم المعنى.

(5)

(كان) سقطت من (د).

(6)

كذا في (ف) و (د) و (ح) والسير 14/ 75، وفي الأصل (شهدهم).

(7)

يقصد أبا الحسين النوري.

ص: 417

قال: أبو سعيد ثم باتوا معه ليلة لم أكن معهم كان ابن عطاء (1) ورويم (2)، فأقبل ابن عطاء يسأله فإذا أصابه بشيء عكسه عليه ابن عطاء، ثم يسأله عما ينشيه، فإذا أجابه؛ قال: هذا ضد الجواب الأول يا أبا الحسين قياسًا وتشبيهاً، فكان منه إليه كلام فيه جفاء، وكذلك فعل أيضاً، فقالوا: إنه يقول الشيء وضده ولا يعرف هذا [إلا قول](3) سوفسطا (4) ومن قال بقوله، وكان بينهم وحشة بذلك، وكان يكثر منهم التعجب، وقالوا للجنيد ذلك، فأنكر عليهم حينئذٍ، وقال: لا تقولوا مثل هذا لأبي الحسين، ولكنه رجل به علة قد تغير دماغه، ثم إنه انقبض عن جميعهم بعد تلك الليلة، وأظهر لمن اتهمه منهم الجفاء، وترك مجالستهم، ثم غلبت العلة، وذهب بصره، ولزم الصحارى والجبانات والمقابر، وكانت له في ذلك أحوال طويلة كثيرة يطول شرحها وذكرها (5).

قال: ولم أحضره عند موته، قال (6) جماعة من أصحابنا يقولون: من رأى أبا الحسين بعد قدومه الرقة؛ ولم يكن رآه قبل ذلك فكأنه لم يره لتغيره بعد قدومه، إلا أنه مات وهم عنده يتكلمون في شيء سكوتهم عنه أولى بهم، لأنه ليس شيئًا عندهم يعرفونه، وإنما يتوهمونه (7) فيتكهنون فيه ويتعسفون بظنونهم (8)،

(1) هو أبو العباس، أحمد بن محمد بن سهل بن عطاء البغدادي، كان زاهداً، عابداً، صحح حال الحلّاج، وامتحن بسببه حتى مات، فقد عقله ثمانية عشر عاماً، ثم ثاب إليه، مات سنة 309 هـ. انظر: السير 4/ 255 ترجمة رقم 160، والبداية والنهاية 11/ 154.

(2)

في (د)(دريم) وهو: أبو الحسن وقيل أبو محمد، رويم بن أحمد، وقيل: رويم بن محمد بن يزيد بن رويم البغدادي، وهو رويم الصغير، وجده رويم الكبير أيام المأمون، امتحن في بغداد أيام غلام خليل، وفر إلى الشام، مات ببغداد سنة 303 هـ. انظر: السير 14/ 234 ترجمة رقم 138، والأعلام 3/ 37.

(3)

ما بين المعقوفتين من السير 12/ 75، وفي جميع النسخ (القول).

(4)

في السير 14/ 75 ولا نعرف هذا إلا قول سوفسطاً. وهم السوفسطائيون: فرقة من فلاسفة اليونان كانوا مجادلين مغالطين في العلم، أنكروا المحسوسات والبدهيات. انظر: الفلسفة اليونانية تأليف يوسف كرم ص 45.

(5)

انظر: هذه الحكاية في السير للذهبي 14/ 74 - 75 بشيء من التفصيل.

(6)

كذا في جميع النسخ، وفي (ط)(كان).

(7)

في (د)(يتوهمون).

(8)

كذا في (ح)، وفي الأصل لم تنقط، وفي (ف) و (د)(بطولهم).

ص: 418

وقد كانوا عند غيره (1) ممن لا أُسميه كذلك.

قال أبو سعيد: فإذا كان أولئك كذلك، فكيف بمن حدث بعدهم ممن أخذ عنهم؟ قال: ومنعني من الطبقة التي كانت بعد هؤلاء أشياء كثيرة، إلا [أن](2) جملة ذلك وإن كانوا قوماً صالحين فاضلين فما يدرون ما كان يقول أولئك في هذه المعاني التي أشرنا إليها، ولا ما كانوا يشيرون إليه إلا بالتوهم والبلاغات وذكر كلامًا طويل (3).

قلت: الصوفية بعد هؤلاء هم على هذا الاضطراب، منهم من قال بالفرق الثاني كالجنيد وأصحابه، وهؤلاء هم المصيبون المسددون، ومنهم من نفاه، ومنهم من تردد فيه، ومنهها من قال: إنه أكبر من [المتكلم](4) فيه، وسبب ذلك أن الإنسان يشهد أولاً الفرق حسه وعقله وهواه؛ من غير نظر إلى أن الله خالق كل شيء وهذا هو الفرق الأول، فإذا توجه إلى الله رأى أن الله خالق كل شيء، وربه ومليكه، كل ما في الوجود بمشيئته وقدرته، وهذا شهود صحيح، بحيث يغيب عن نفسه وعن غيره، ويفنى بمشهوده عن شهوده، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته، فلا يبقى ناظراً إلا إلى توحيد الربوبية وهو أن الله خالق كل شيء.

وهذا المشهد ليس فيه تفريق بين المأمور والمحظور، ولا بين المعروف والمنكر، ولا بين أوليائه وأعدائه، ولا بين المؤمنين والكفار، ولا بين ما يلائم الإنسان وما يخالفه، وهذا لا يتصور أن يدوم بقاء العبد فيه، فإن نفسه لا بد أن تفرق بين ما يلائمها وبين ما يضرها، كما تفرق بين [الخبز

(1) في (ف) و (ح)(غير قبره).

(2)

كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (ن) سقطت الهمزة.

(3)

قال الذهبي في السير 15/ 409 - 410 عن الصوفية: والله دققوا وعمقوا، وخاضوا في أسرار عظيمة ما معهم على دعواهم فيها سوى ظن وخيال، ولا وجود لتلك الأحوال من الفناء والمحو والصحو والسكر؛ إلا مجرد خطرات ووساوس، ما تفوه بعباراتهم صديق، ولا صاحب، ولا إمام من التابعين، فإن طالبتهم بدعاويهم مقتوك، وقالوا: محجوب، وإن سلمت لهم قيادك تخبط ما معك من الإيمان، وهبط بك الحال على الحيرة والمحال، ورمقت العباد بعين المقت، وأهل القرآن والحديث بعين البعد، وقلت: مساكين محجوبون. فلا حول ولا قوة إلا بالله. أ. هـ.

(4)

كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (التكلم).

ص: 419

والتراب] (1) وبين الماء والبول.

ولكن من قال بأن الفناء هو الغلبة، منهم من جعل ذلك نزولاً من العبد من عين الجمع إلى الفرق، ومنهم من يقول [بل](2) القيام بالفرق هو [لصلاح](3) العامة لا لنفسه، ومنهم من يسمي هذا تلبيساً، ويقول: هذا للأنبياء، وربما قال: الفرق لأجل المارستان يصلح به العامة الذين هم كالمجانين، [و] (4) قد يقول هؤلاء: الكمال أن يكون الجمع في قلبك مشهوداً، والفرق في لسانك موجوداً، وأن يكون (5) باطنك حقيقة وظاهرك شريعة، ومنهم من يقول: الفرق بين هذه الأشياء الضرورية التي لا بد منها للإنسان بخلاف غيرها، ومنهم من يقول: هذا الفناء والاصطلام ليس هو الغاية، بل هو مقام عال (6) لا بد للسالك من سلوكه إياه، و [من](7) لم يقم فيه لم يصل إلى حقيقة المعرفة (8).

(وهذا غلط، فإن هذا من عوارض الطريق لا من لوزامه، فإن حاصله عدم شهود الحقائق)(9) على ما هي عليه، وهذا نوع من نقص الشهود والعلم ورؤية الأمر على ما هو عليه، ولكن هذا (10) يعرض لبعض المتوجهين إذا رأى أن الله خالق كل شيء يجمع في رؤيته هذا ولم يشهد الفرق، فإنه سبحانه وان خلق الأشياء كلها بمشيئته وقدرته؛ فقد أمر بطاعته ونهى عن معصيته؛ وهو يحب ما أمر به ويبغض ما نهى عنه، وهذا هو الفرق الشرعي ليس هو الفرق [الطبيعي](11).

وهذا الفرق فرض على كل مسلم لا يكون مؤمناً إلا به، وصاحب هذا

(1) كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل (الخير والشر)، وفي (ف)(الخير والتراب).

(2)

كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (باء)(بالقيام).

(3)

كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (الصلاح).

(4)

كذا في (ح)، وسقط من الأصل و (ف) و (د).

(5)

في (د) يكون (بدون نقط الياء).

(6)

في (ف) و (د) عالي.

(7)

في (د) و (ح)، وسقطت من الأصل و (ف).

(8)

في (د) و (ح) معرفة الحقائق.

(9)

ما بين القوسين سقط من (د).

(10)

(هذا) سقطت من (د).

(11)

كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (الطبيعي).

ص: 420

يشهد أن لا إله إلا الله، فيعلم أن الله هو المعبود دون ما سواه، وأنه أرسل الرسل يأمرون الناس بطاعته وينهونهم عن معصيته، ومن لم يشهد هاتين الشهادتين لم يكن مسلماً، وأما مجرد رؤية الله خالق كل شيء فهذا كان (1) يقر به المشركون عباد الأصنام ، فمن وقف في الجمع لا يفرق بين مأمور ومحظور لم يكن مسلمًا فضلًا عن أن يكون وليًّا لله تبارك وتعالى، لكن هؤلاء يقولون نحن نثبت الفرق العائد إلى حظ الإنسان، بأن فعل المأمور سبب للثواب وفعل المحظور (2) سبب للعقاب، والثواب والعقاب حظ للعبد، والكامل الخالي [عن](3) حظوظه الذي لا يريد إلا ما يريد ربه هو صاحب الفناء، وهو الذي لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة، فالفرق لا يعود إلى الله ولا إلى صاحب الفناء.

وأصل غلط هؤلاء [أنهم](4) لم يثبتوا لله إلا الإرادة العامة المتناولة لكل مقدور (5) ومعلوم أنه لو كان الأمر كذلك لكان الفرق سببًا بالنسبة إلى الله، لكن هذا غلط من المثبت لملة إبراهيم ودين الرسل، كما قد بسط في غير هذا الموضع.

وكثير من هؤلاء قد التبس عليهم هذا الموضع وهم متناقضون فيه، فإن الجمع العام لا يتصور أن يقوم فيه أحد دائماً، بل لا بد إن كان مسلمًا أن يوجب ما أوجبه الله ورسوله؛ ويحرم ما حرمه الله ورسوله، وإلا لم يكن مسلماً، فلا بد من فرق بحسب دينه، وإذ لم يكن له دين فرق بحسب هواه وطبعه، فمن لم يفرق فرقاً رحمانياً فرق فرقاً نفسانياً وشيطانياً، ومن لم يفرق فرقاً شرعياً فرق فرقاً [طبعياً](6)، وقول أبي سعيد ابن الأعرابي ومن وافقه: إن هذا الفرق عين من عيون الجمع يتوهمون به أنهم قد خرجوا عن الجمع، وإنما هو [أحد](7) عيون الجمع، يعني به -والله أعلم- أن شاهد الفرق ما

(1) في (ف)(لما كان)، وفي (د) ما كان.

(2)

كذا في الأصل و (ح)، وفي (ف) و (د) المحذور.

(3)

كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (من).

(4)

كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (لأنهم).

(5)

والإرادة نوعان: إرادة كونية قدرية، وإرادة شرعية، وقد سبق بيان هذه المسألة.

(6)

كذا في (د) و (ف) و (ح)، وفي الأصل (طبيعياً).

(7)

كذا في (د) و (ح) ، وفي الأصل و (ف)(حد).

ص: 421

أمر الله به ونهى عنه مع مشاهدته بذلك، وتوحيد الإلهية بأن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومحبته لما أمر الله به وبغضه لما نهى الله عنه، فهو يشهد أن الله رب ذلك كله، وأنه الذي جعل المسلم مسلماً، وجعل آل إبراهيم أئمة يدعون إلى الخير، وآل فرعون أئمة يدعون إلى النار، فهو في هذا الفرق؛ يشهد الجمع، ويشهد -مع ما قام بقلبه من الفرق بين المأمور والمحظور- أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه هو الذي جعله يعبده ويطيعه، وهو المَانّ عليه بذلك، لا يكون كمن يشهد الفرق بين الطاعة والمعصية، ولم يشهد أن الله هو الذي مَنّ عليه بالطاعة ويسَّرها عليه.

فشهود الجمع [بلا](1) فرق يورث تعطيل الأمر والنهي، حتى لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة، وشهود الفرق بلا جمع يورث تعطيل التوكل والشكر، وبورث العجب وتعظيم النفس، [وكلا] (2) هما نقص عما تحت الجمع من عبودية الله -تعالى- ومن تحقق قوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]، فلا بد من الفرق في عين الجمع، [ومن الجمع](3) في شهود الفرق، وأيضًا فإن الله -تعالى- مع خلقه لكل شيء بمشيئه وقدرته؛ فهو يحب ما أمر به ويرضاه ويبغض ما نهى عنه ويسخطه، فلا بد مع شهود المشيئة العامة من شهود المحبة والرضا الخاص.

وكثير من الناس القدرية [و](4) الجهمية الجبرية ومن دخل معهم في التصوف جعلوا الإرادة نوعاً واحداً، وجعلوها هي المحبة والرضا، قالت القدرية: والله لا يحب الكفر والفسوق والعصيان، فيكون في ملكه ما لا يشاء ولم يخلقه، وقالت الجهمية: بل كل ما وقع فهو بمشيئة الله، والمشيئة هي الإرادة وهي المحبة والرضا؛ فكل ما وقع فإنه يحبه ويرضاه، ولكن يريد ويحب ويرضى المأمور به مأموراً به دينًا يثيبْ (5) عليه، ويريد ويحب ويرضى المنهي

(1) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (بل).

(2)

كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (كل).

(3)

كذا في (ت) ، وسقطت من جميع النسخ.

(4)

سقطت الواو من جميع النسخ، وهي في (ط)، وما بعدها يدل على أن المؤلف يتكلم عن فرقتين.

(5)

في (ف) بدون نقط.

ص: 422

عنه منهياً عنه معاقباً عليه، فالفرق بينهما يعود إلى أنه يريد ويحب ويرضى أن يُنعّم (1) هؤلاء، ويعذب هؤلاء، من غير فرق يعود إليه، ولا يحب بعض المخلوقات ويبغض بعضًا؛ كما لا يشاء بعضها دون بعض، فعنده لا يحب بعض المخلوقات دون بعض.

والجهمية الجبرية والقدرية المعتزلة ومن وافقهم مشتركون في أنه ليس بين المأمور والمحظور فرق يعود إلى الرب تبارك وتعالى، والقائلون بالجمع من غير فرق يشاركون هؤلاء، ورأوا أنه لا فرق بالنسبة إلى الرب؛ ولكن الفرق يعود إلى العبد من حيث إن أحد العملين يقتضي حصول لذة له، والآخر يقتضي حصول ألمٍ له، وهذا من حظوظ العباد.

ثم قال غلاة هؤلاء: وهذا الفرق من العبد نقص؛ لأنه فرق يعود إلى نفسه؛ [فالعبد](2) له سعيٌ في حظ النفس، وأما الكمال فهو أن يفنى العبد بمراداته (3) جملة ولا يبقى له حظ، وأن لا يشهد إلا ربه، وإرادة الرب عز وجل عندهم هي المشيئة المتناولة لكل شيء، وهي المحبة والرضا عندهم، ولهذا قالوا: إنه حينئذٍ لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة.

ومعلوم بالاضطرار من دين الرسل أن هذا ليس بمجرد ولا حال الأنبياء والأولياء؛ بل هم متفقون على استحسان ما أحبه الله واستقباح [ما](4) نهى الله عنه؛ والحب في الله والبغض في الله؛ وذلك أوثق عرى الإيمان (5)، فصار العالم منهم بخلق الله وأمره وشرعه وقدره؛ الذين يفرقون بين مشيئة الله ومحبته

(1) في (د)(ينغم).

(2)

كذا في (د)، وفي الأصل و (ف) و (ح) فالعمل.

(3)

في (د) لمراداته.

(4)

كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (من).

(5)

يشير إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "أوثق عرى الايمان الحب في الله والبغض في الله"، وقد أخرجه الطيالسي في مسنده 3/ 101 رقم 747 (طبعة دار المعرفة بيروت، مكتبة المعارف الرياض) عن البراء بن عازب واللفظ له، والإمام أحمد في المسند 4/ 286.

وقد أعلّ الهيثمي طرق الحديث في مجمع الزوائد 1/ 89 - 90، وكذلك الدوسري في المنهج السديد ص 180 رقم 368 وقال بعد ذكر طرقه: فالحديث بمجموع هذه الطرق إلا الأخيرة أي (طريق حنش عن عكرمة عن ابن عباس لأن فيها متروكًا) حسن لغيره بلا ريب. أ. هـ.

ص: 423