الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بل
لعن الذين يتخذون القبور مساجد
، وقال أيضاً في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره:"لا تتخذوا قبري عيداً وصلّوا عليّ حيث كنتم فإن صلاتكم تبلغني"، فنهى أن يتخذ قبره عيداً؛ وهذا معنى المشاعر فإن المشاعر تتخذ أعياداً (1)، أي يجتمع الناس عندها في أوقات معتادة، والعيد اسم للوقت والمكان الذي يعتاد الاجتماع فيه، وقد يعبر به عن نفس الاجتماع المعتاد (2)، ولهذا سمى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة عيداً وقال:"إن هذا يوم جعله الله للمسلمين عيداً"(3).
وقد ثبت عن عمر بن الخطاب أنه رأى قوماً ينتابون مكاناً يصلّون فيه، قال: ما هذا، قالوا: مكاناً صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد، إنما هلك من كان قبلكم بهذا من أدركته فيه الصلاة فليصل وإلا فليمض"(4)، فقد نهاهم عن اتخاذ آثار الأنبياء مساجد.
وهذا لا ينافي قول عتبان بن مالك للنبي صلى الله عليه وسلم إن السيول تحول بيني وبين قومي، فلو صليت في بيتي في مكان أتخذه مصلى، "فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين"(5)، لأن عتبان كان مقصوده بناء مسجد لحاجته إليه وتبرك
(1) من هنا يبدأ فراغ في السطر في (ف) لم يكتب فيه بمقدار ثلاث كلمات، وليس في الكلام سقط.
(2)
انظر: لسان العرب 3/ 319، والقاموس المحيط ص 386 مادة عود.
(3)
أخرجه ابن ماجه في (أبواب إقامة الصلاة، باب ما جاء في الزينة يوم الجمعة)؛ 1/ 197 رقم 1085، والطبراني في المعجم الصغير 1/ 149 رقم 350 طبعة كمال الحوت، وعبد الرزاق في المصنف مرسلاً 3/ 197 رقم 5301، وابن أبي شيبة في مصنفه 1/ 435 رقم 5016، قال الدوسري في النهج السديد ص 75 رقم 135: الحديث بهذه الطرق حسن لغيره. أ. هـ.
(4)
أخرج الأثر ابن أبي شيبة في مصنفه 2/ 151 رقم 7550، وسعيد بن منصور في سننه كما نقل المؤلف عنه في اقتضاء الصراط 2/ 751 - 752، وعبد الرزاق في مصنفه 2/ 118 - 119 رقم 2734، وابن وضاح في البدع والنهي عنها ص 41 - 42 (الطبعة الثانية 1402 هـ، الناشر دار الرائد العربي بيروت - لبنان) وصحح إسنادها المؤلف في قاعدة جليلة ص 203، وابن كثير في مسند الفاروق تحقيق د. عبد المعطي قلعجي ص 142 - 143 (الطبعة الأولى 1411 هـ، الناشر دار الوفاء المنصورة - مصر)، وقال العلامة الألباني في تحذير الساجد ص 93 صحيح على شرط الشيخين. أ. هـ وصححه غيرهم.
(5)
أخرجه البخاري في (كتاب الصلاة، باب المساجد في البيوت) 1/ 151 رقم =
بكون النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه أولاً، كما أنه صلى الله عليه وسلم بنى مسجد قباء وبنى مسجده، والمسجد الذي يتخذه بناء أفضل من غيره، كما فُضل المسجد الحرام ومسجد سليمان [عليه السلام](1)، بخلاف من لم يكن مقصوده إلا بناء مسجد لأجل ذلك الأثر.
وأما ما نقل عن ابن عمر أنه كان يتحرى في سفره النزول في مكان النبي صلى الله عليه وسلم والصلاة في مصلاه (2)، فمن الناس من رخص في مثل ذلك، بخلاف ما إذا اجتمع على ذلك الناس؛ [ومن الناس](3) من قال هذا أمر انفرد به ابن عمر رضي الله عنه (4).
والخلفاء الراشدون [و](5) الأكابر من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار لم يكونوا يفعلون ذلك، وهم أعلم من ابن عمر وأعظم اتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، فلو كان هذا مستحباً لفعله هؤلاء.
= 425 بلفظ أطول من لفظ المؤلف. وقد شرح المؤلف رحمه الله هذا الحديث في مواضع أخرى. انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 17/ 468.
(1)
ما بين المعقوفتين من (د) و (ح) وسقط من الأصل و (ف)، ومسجد سليمان هو مسجد بيت المقدس، فقد أخرج البخاري في (كتاب الأنبياء، لم يبوب) 2/ 1040 رقم 3366 عن النبي صلى الله عليه وسلم أن بين بناء المسجد الحرام والمسجد الأقصى أربعون سنة.
وكما هو معلوم أن الذي بنى المسجد الحرام هو إبراهيم عليه السلام، وبين إبراهيم وسليمان عليه السلام أكثر من ذلك، لذا اختلف العلماء على عدة أقوال، والراجح أن إبراهيم عليه السلام أسس المسجد الحرام، ويعقوب بن إسحاق عليه السلام أسس المسجد الأقصى بعد بناء إبراهيم الكعبة بأربعين سنة، وسليمان عليه السلام جدد بناء بيت المقدس. والله أعلم.
انظر: تاريخ الطبري 1/ 286، وقصص الأنبياء لابن كثير 506، وفتح الباري لابن حجر 6/ 540 - 505، وخصائص الجزيرة العربية د. بكر أبو زيد ص 43 هـ. الثانية 1418 هـ الناشر دار ابن الجوزي.
(2)
أخرجه البخاري في (كتاب الصلاة، باب المساجد التي على طرق المدينة والمواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم) 1/ 167 رقم 483.
(3)
ما بين المعقوفتين من (د) و (ح) وسقط من الأصل و (ف)، وفي هامش الأصل لعله (ومن الناس).
(4)
أطال المؤلف في الكلام على هذه المسألة في اقتضاء الصراط 2/ 750 - 757.
(5)
كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (من).
وأيضاً لما فتح المسلمون تستر (1) وجدوا فيها قبر دانيال وكان أهل البلد يستسقون به، فكتب في ذلك أبو موسى إلى عمر بن الخطاب (2)، فكتب إليه " [أن أحفر] (3) بالنهار ثلاثة عشر قبراً وادفنه بالليل في واحد منها لئلا [يفتتن به] (4) الناس فيستسقون به"(5).
فهذه كانت (6) سنة الصحابة -رضوان الله عليهم- ولهذا لم يكن في زمن الصحابة والتابعين لهم بإحسان على وجه الأرض في ديار الإسلام مسجد مبني على قبر، ولا مشهد يزار لا بالحجاز ولا اليمن ولا الشام ولا مصر ولا العراق ولا خراسان، وقد ذكر مالك رحمه الله أن وقوف الناس للدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم بدعة لم يفعلها الصحابة ولا التابعون، [وقال: لا] (7) يصلح
(1) تستر: بالضم ثم السكون، وفتح التاء الأخري وراء، وهي تعريب شوشتر ومعناه النزه والحسن والطيب واللطيف، من إقليم خوزستان فيه أنهار كثيرة أعظمها نهر تستر، ينسب إليها جماعة منهم سهل التستري، وفيها وجد دانيال الذي نحن بصدد ذكره. انظر: معجم البلدان 2/ 34 - 36 رقم 2517.
(2)
في (ف) رضي الله عنه، ومن هنا يبدأ فراغ في الأسطر مثل ما سبق.
(3)
ما بين المعقوفتين من (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (انحفر).
(4)
كذا في (د) و (ح) وفي الأصل و (ف) يعتريه، وما أثبت أعلاه يوافق لفظ الأثر في مصادره.
(5)
وردت عدة روايات في دفن دانيال عليه السلام، فذكر الطبري في تاريخه 2/ 505 الخبر ولم يذكر طريقة الدفن، وقال البلاذري في فتوح البلدان ص 386 (الطبعة الأولى بمطبعة الموسوعات القاهرة - مصر) إن أبا موسى دفنه في نهر وأجرى الماء عليه، وقال ابن كثير في قصص الأنبياء ص 529، وروى ابن أبي الدنيا هذا الخبر من غير وجه في، كتابه القبور وذكر إخفاء أبي موسى لقبره لكيلا يعلم به أحد. (ولم أقف على كتاب القبور لابن أبي الدنيا مطبوعاً أو مخطوطاً)، وروى ابن كثير في البداية والنهاية 2/ 40، وفي قصص الأنبياء ص 528 عن أبي العالية.
قال: حفرنا ثلاثة عشر قبراً متفرقة، فلما كان بالليل دفناه وسوينا القبور كلها، لنعميه عن الناس فلا ينبشونه، قلت: فما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره فيمطروا
…
إلى آخره.
قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح إلى أبي العالية. أ. هـ.
(6)
إلى هنا انتهى الفراغ في أسطر (ف).
(7)
كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (قال ولا).
[آخر](1) هذه الأمة إلا ما أصلح أولها (2).
فأما ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور فإنما هو دعاء للميت كالدعاء في الصلاة على جنازته، والسنة في الدعاء التعميم كما في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بعلي وهو يدعو فقال:"يا علي عمّ فإن فضل العموم على الخصوص كفضل السماء على الأرض"(3)، ولهذا يقال في دعاء الجنازة:"اللهم اغفر لحيّنا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا"(4)، ولم يخص الميت بالدعاء.
وكذلك يقال في السلام على الموتى: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية"(5)، كما يقال في الصلاة: "السلام
(1) كذا في (د) و (ح) وسقطت من الأصل و (ف).
(2)
انظر: الشفاء للقاضي عياض 2/ 205 تحقيق محمد أمين فره وآخرين، الناشر مكتبة الفارابي ومؤسسة علوم القرآن دمشق.
(3)
أخرجه أبو داود في المراسيل، باب ما جاء في الدعاء، ص 101 عن عمرو بن شعيب: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد خرج لصلاة الفجر، وعلي يقول: اللهم اغفر لي، اللهم ارحمني، اللهم تب علّي، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم على منكبه، وقال:"عم ففضلُ ما بين العموم والخصوص كما بين السماء والأرض"، والبيهقي في السنن الكبرى 3/ 130 في (كتاب الصلاة، باب ما على الإمام من تعميم الدعاء) بنحوه مرسلاً، وعزاه جمال الدين المزي في تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف، تصحيح عبد الصمد شرف الدين 13/ 326 رقم 19171 (الطبعة الأولى 1403 هـ، الناشر الدار القيمة بمباي - الهند ومعه النكت الظراف لابن حجر) لأبي داود في المراسيل وذكره بلفظ المؤلف.
(4)
أخرجه أبو داود في (كتاب الجنائز، باب الدعاء للميت) 3/ 539 رقم 3201، والترمذي في (كتاب الجنائز، باب ما يقول في الصلاة على الميت) 3/ 343 رقم 1024 واللفظ له، وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي في (كتاب الجنائز، باب الدعاء) 4/ 74 رقم 1984، وأحمد في المسند 8/ 305، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 33: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. أ. هـ.
(5)
أخرجه مسلم في (كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة) 1/ 218 رقم 249 وفي (كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور) 2/ 669 رقم 974، وأبو داود في (كتاب الجنائز، باب ما يقول إذا زار القبور أو مر بها) رقم 3237، 3/ 558، والنسائي في (كتاب الجنائز، باب الأمر بالاستغفار للمؤمنين) رقم 2035، 4/ 791، وابن ماجه في =
علينا وعلى عباد الله الصالحين" (1)، وكما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا ذكر نبينا قال "يرحمنا الله وفلاناً" (2)، وكما يقول الخطيب وأستغفر الله لي ولكم. والمقصود [بالصلاة على](3) الجنازة (4) الدعاء للميت وغيره يدخل تبعاً، بخلاف من يكون قصده أن يدعو لنفسه بالميت أو عند الميت وهذا كله من الدعاء عند القبور.
وأما دعاء الميت وسؤاله بلفظ الاستغاثة وغيرها، كقول الداعي أطلب منك المغفرة أو الرحمة أو قضاء الدين أو النصر على العدو، فهذا مما نهى عنه القرآن، قال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)} [الإسراء: 56]- 57]، في التفسير الصحيح عن مجاهد {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} ، قال: عيسى ابن مريم وعزير والملائكة، وكذلك عن إبراهيم النخعي قال: كان ابن عباس يقول في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} هو عزير المسيح والشمس والقمر (5).
وكذلك روى شعبة عن السدي عن أبي صالح عن ابن عباس قال:
= (أبواب الجنائز، باب ما يقال إذا دخل المقابر) 1/ 283 رقم 1546 جميعهم بألفاظ متقاربة، وقريبة من سياق المؤلف ولفظه. وقد أخرجه غيرهم.
(1)
أخرجه البخاري في (كتاب الأذان، باب التشهد في الآخرة) رقم 831، 1/ 253 من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأوله: "كنا إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم
…
الحديث".
(2)
أخرجه الترمذي في (كتاب الدعاء، باب ما جاء أن الداعي يبدأ لنفسه) رقم 3385، 5/ 463 عن أبيّ بن كعب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر أحداً فدعا له بدأ بنفسه" وقال: حديث حسن غريب صحيح، وابن ماجه (أبواب الدعاء، باب إذا دعا أحدكم فليبدأ بنفسه) رقم 3897، 2/ 345 ولفظه: "يرحمنا الله وأخا عاد".
(3)
ما بين المعقوفين من (د) و (ح) وسقط من الأصل و (ف).
(4)
في الأصل و (ف) بالجنازة زيادة باء في أولها.
(5)
انظر: تفسير الطبري 8/ 96، وتفسير ابن كثير 3/ 47.
عيسى وأمه والعزير في هذه الآية (1): {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} (2).
وروى قتادة عن عبد الله بن معبد الزماني (3) عن ابن مسعود قال: كان قبائل من العرب يعبدون صنفاً من الملائكة يقال لهم الجن، ويقولون هم بنات الله، فأنزل الله تبارك وتعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} (4)، وفي رواية عن الزماني (5) عن عبد الله بن عتبة بن مسعود (عن عبد الله) (6) قال: نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفراً من الجن، فأسلم الجنيون والأنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون بإسلامهم، فنزلت:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} (7).
وكذلك قال ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: {الَّذِينَ يَدْعُونَ} الملائكة تبتغي إلى ربها الوسيلة {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} ، قال: وهؤلاء الذين عبدوا الملائكة من (8) المشركين (9).
وكذلك ذكر العوفي في تفسيره عن ابن عباس قال: كان أهل الشرك يقولون: نعبد الملائكة والمسيح وعزيراً (10).
وثبت أيضاً في [صحيح البخاري](11) عن ابن مسعود أنه قال: كان ناس
(1)(الآية) سقطت من (د).
(2)
انظر: تفسير الطبري 8/ 96، وتفسير ابن كثير 3/ 47.
(3)
في (د) و (ح) الرماني بالراء، وما أُثبت أعلاه بالزاي هو الصواب. انظر: تقريب التهذيب لابن حجر 1/ 537 رقم 3644.
(4)
انظر: تفسير الطبري 8/ 96.
(5)
في (د) و (ح) الرماني.
(6)
ما بين القوسين سقط من (د)، وهو عبد الله بن مسعود الصحابي رضي الله عنه.
(7)
أخرجه مسلم في كتاب التفسير، باب في قوله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} 4/ 2321 رقم 3030.
(8)
من هنا يبدأ فراغ في أسطر (ف)، وليس فيه سقط في الكلام كما سبق إيضاحه.
(9)
انظر: تفسير الطبري 8/ 96.
(10)
انظر: تفسير ابن كثير 3/ 46.
(11)
ما بين المعقوفين من (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (الصحيح للبخاري).
يعبدون قوماً من الجن فأسلم (1) الجن وبقي الإنس على كفرهم فأنزل الله -تعالى- {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} (2) يعني الجن (3).
وهذا معروف عن ابن مسعود من غير وجه، وهذه الأقوال كلها حق، فإن الآية تعم كل من كان معبوده عابداً لله سواء كان من الملائكة أو من الجن أو من البشر، والسلف رضي الله عنهم في تفسيرهم يذكرون جنس المراد بالآية على نوع التمثيل، كما يقول الترجمان لمن سأله ما معنى لفظ الخبز؟ فيريه رغيفاً فيقول هذا، فالإشارة إلى نوعه لا إلى عينه.
وليس مرادهم بذلك تخصيص نوع دون نوع مع شمول الآية للنوعين، فالآية خطاب لكل من دعا من دون الله مدعواً، وهذا موجود في الملائكة والجن والإنس.
وقد اختار [الطبري](4) قول من فسرها بالملائكة أو الجن لأنهم كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يبتغون إلى ربهم الوسيلة، بخلاف المسيح والعزيز فإنهما لم يكونا [موجودين](5) على عهده، فلم يكونا حينئذٍ ممن يبتغي الوسيلة، إذ ابتغاء الوسيلة العمل بطاعة الله والتقرب إليه بالصالح من الأعمال، فأما من كان لا سبيل له إلى العمل، فبم يبتغي إلى ربه الوسيلة، وهذا الذي قاله إن كان صواباً فهو أبلغ في النهي عن دعاء المسيح وعزير وغيرهما من الأموات من الأنبياء والصالحين، فإنه إذا كان الحي الذي يتقرب إلى ربه بالعمل لا يجوز دعاؤه، فدعاء الميت الذي لا يتقرب بالعمل أولى أن لا يجوز؛ وإن كانت الآية تعم هذا وهذا، فهي دالة على ذلك، فدلالتها ثابتة على كل تقدير.
(1) إلى هنا انتهى الفراغ في أسطر (ف).
(2)
في (د) زاد {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} .
(3)
(كتاب التفسير، باب {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56)} 3/ 1460 رقم 4714 بلفظ قريب جداً.
(4)
كذا في (ت) و (ط)، وفي الأصل و (ف) و (د) و (ح) الطبراني وهو تصحيف، لأن هذا الاختيار لابن جرير الطبري صاحب التفسير. انظر: 8/ 97، واختار ذلك أيضاً ابن كثير القرآن العظيم 3/ 47 وهو الصواب، والله أعلم.
(5)
كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (ماجودين).
والصحيح أنها تعم هؤلاء وهؤلاء، وذلك أن أولئك (1) كانوا في حياتهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة، وهو لم يقيد ذلك بزمن النزول بل أطلق، وإذا قال القائل: آدم ونوح وإبراهيم وموسى يعبدون الله ولا يشركون به، عُلم أن مراد هذا دينهم، قال تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} [المائدة: 44]، كان حكم [النبيون] بها قبل نزول الآية بدهر.
والعرب تقول: مرض (2) حتى لا يرجونه، وشربت الإبل حتى يجيء البعير فيقول برأسه كذا، ومنه قراءة من قرأ:{وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} [البقرة: 214] وهذا ماض (3)، وقد قال -تعالى-:{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58]، وهذا قد مضى قبل نزول القرآن والفعل مضارع لأنه حكى حالهم في الماضي.
ولهذا يقول النحاة: هذا حكاية حال (4)، كقوله:{وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} [الكهف: 18]، فإن قيل: المعروف في مثل هذا أن يقال كانوا يفعلون (5)، كما قال -تعالى-:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90].
قيل: لكن إذا كان في الكلام ما يبيّن المراد لم يحتج إلى ذلك، لا سيما إذا ذكر ماضٍ وحاضر عمهم الخطاب فهنا يتعين حذف كان، لأن المقصود الإخبار عن حال هؤلاء الحاضرين لا يخبر عنهم بكان، كما تقول: المؤمنون من الأولين والآخرين يعبدون الله لا يشركين به، (وإذا أفردت الماضي قلت: المؤمنون كانوا يعبدون الله لا يشركون به) (6).
(1) في (د) و (ح) هؤلاء.
(2)
في (د) مض.
(3)
قرأ نافع بالرفع {حَتَّى يَقُولُ} والباقون بالنصب، والرفع على تأويله بالحال، والنصب على تأويله بالمستقبل، والاختيار بالنصب لأن جماعة القراء عليه. انظر: تفسير الطبري 2/ 354، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 3/ 34، وشرح التحفة الوردية لزين الدين أبي حفص الوردي، تحقيق د. عبد الله الشلال ص 372 طبعة 1409 هـ الناشر مكتبة الرشد الرياض.
(4)
في (د) و (ح)(هؤلاء) وهي زيادة.
(5)
في (د) يفعلونه.
(6)
ما بين القوسين سقط من (د).
والَاية هنا قُصد بها التعميم لكل ما يُدعى من دون الله، وكل من دعا ميتاً أو غائباً من الأنبياء والصالحين سواء كان بلفظ الاستغاثة أو غيرها؛ فقد تناولته هذه الآية، كما تتناول من دعا الملائكة والجن.
ومعلوم أن هؤلاء كلهم يكونون وسائط فيما يُقدّره الله بأفعالهم، ومع هذا فقد نهى الله -تعالى- عن دعائهم، وبيّن أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين، ولا تحويله، لا يرفعونه (1) بالكلية ولا يحولونه من موضع إلى موضع أيضاً، فلا يرفعونه ولا يحولونه من حال إلى حال كتغيير صفته أو قدره، ولهذا قال:{وَلَا تَحْوِيلًا} ، فذكر نكرة تعم أنواع التحويل، يقال: كشف البلاء، أي: أزاله ورفعه، ويقال: كشف عنه أي أظهره وبيّنه، فمن الأولى قوله:{ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)} [النحل: 54]، وقوله:{وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [المؤمنون: 75]، وقوله:{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)} (2)[الأعراف: 135].
ومن الثاني قوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] لم يقل يوم يكشف الساق، وهذا يبيّن خطأ من قال المراد بهذه كشف الشدة، وأن الشدة تسمى ساقاً، فإنه لو أريد ذلك لقيل يوم يكشف [الساق](3) أو يكشف الشدة، وأيضاً فيوم القيامة لا يكشف الشدة عن الكفار، والرواية في ذلك عن ابن عباس [ساقطة](4) الإسناد (5).
(1) في (د) و (ح)(ولا يعرفونه) بزيادة واو.
(2)
في جميع النسخ: "فلما كشفنا عنهم العذاب إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون".
(3)
بياض في جميع النسخ، وفي هامش الأصل (لعله الساق)، قلت: وهو الأقرب للصواب، وفي هامش (د)(عند الشدة).
(4)
كذا في (ح) وفي الأصل و (د) و (ف) ساقط.
(5)
لم يتنازع الصحابة -رضوان الله عليهم- في شيء من آيات الصفات، إلا في تفسير هذه الآية فرُوي عن ابن عباس وطائفة أن المراد به الشدة، وأن الله يكشف عن الشدة في الآخرة، وعن أبي سعيد وطائفة أنهم عدوها في الصفات؛ للحديث الذي رواه أبو سعيد في الصحيحين. انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 6/ 394، ومختصر الصواعق لابن قيم 1/ 25.
والروايات عن ابن عباس رضي الله عنهما أخرجها الطبري في تفسيره 12/ 197. =
والاستغاثة هي طلب كشف الشدة، فكل من دعا ميتاً أو غائباً من الأنبياء والصالحين (أو دعا الملائكة)(1) أو دعا الجن، فقد دعا [من](2) لا يغيثه، فلا يملك كشف الضر عنه ولا تحويله.
وقد قال -تعالى-: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)} [الجن: 6]، كان أحدهم إذا نزل بواد يقول: أعوذ بعظيم هذا
= وضعَّف الروايات عن ابن عباس محمد بن موسى نصر في كتابه صفة الساق لله تعالى بين إثبات السلف وتعطيل الخلف ص 23 الطبعة الأولى 1413 هـ، الناشر مكتبة الغرباء الأثرية المدينة، ونقل تضعيفها عن سليم الهلالي في ص 26؛ كما ضعفها مشهور حسن في الردود ص 113، وقال ابن القيم في مختصر الصواعق المرسلة 1/ 25: إنما أثبتوا صفة الساق بحديث أبي سعيد الخدري المتفق على صحته وهو حديث الشفاعة الطويل (أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} 5/ 2321 رقم 7439 وفيه: "فيكشف عن ساقه"، ومن حمل الآية على ذلك قال في قوله تعالى:{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم: "فيكشف عن ساقه" وتنكيره للتعظيم والتفخيم، كأنه قال يكشف عن ساق عظيمة. أ. هـ. قلت: وقد وردت أحاديث أخرى صحيحة في صفة الساق. انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 1/ 124 - 129 الطبعة الرابعة 1405 هـ، المكتب الإسلامي بيروت - لبنان.
وأيضاً يقال: إن ظاهر القرآن يدل على ذلك من جهة أنه أخبر أنه يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود، والسجود لا يصلح إلا لله، فعلم أنه هو الكاشف عن ساقه سبحانه وتعالى. أ. هـ. صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة، تأليف علوي عبد القادر السقاف ط. الأولى 1414 هـ الناشر دار الهجرة ص 138.
وبهذا فسر الآية ابن جرير الطبري في تفسيره 12/ 199، وابن كثير في تفسير القرآن العظيم 4/ 407 مع ذكرهم للروايات السابقة وغيرها، وهذا هو الصواب، وإنما منع بعضهم حمل الآية على ذلك لإنكارهم صفة الساق أصلاً، وما علموا أنها ثابتة بالحديث الصحيح المتفق على صحته، وحمل معنى الآية على ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أولى من تفسير الصحابي وإن زعموا الصحة، أما الصحابة وسلف الأمة الذين فسروا الآية بالشدة فهم مثبتون لصفة الساق وليس من التأويل الذي هو صرف الآية عن ظاهرها، بل حكاية لقول أهل اللغة. وللتوسع. انظر: صفة الساق لله -تعالى- بين إثبات السلف وتعطيل الخلف، تأليف محمد موسى نصر ص 15 وما بعدها، والردود والتعقبات على ما وقع للإمام النووي، تصنيف مشهور بن حسن ص 111 - 121 الطبعة الثانية 1415 هـ دار الهجرة.
(1)
ما بين القوسين سقط من (د).
(2)
كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (ما).
الوادي من سفهائه، فقالت الجن: الإنس يستعيذوننا فزيدوهم رهقاً (1).
وقد نص الأئمة (2) كأحمد وغيره على أنه لا يجوز [الاستعاذة](3) بمخلوق (4)، وهذا مما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق، قالوا لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استعاذ بكلمات الله وأمر بذلك، كقوله:"أعوذ بكلمات الله التامات كلها من شر ما خلق"(5)، "وأعوذ بكلمات الله التامات كلها من غضبه وعذابه (6) وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون"(7)"وأعوذ بكلمات الله التامات [التي] (8) لا يجاوزهن بر ولا فاجر، و (9) من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض و (من شر) (10) ما ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقاً بخير يا رحمن"(11).
(1) انظر: تفسير ابن جرير الطبري 12/ 263، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير 4/ 428 - 429.
(2)
في (د) الآية.
(3)
كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل الاستغاثة، وفي هامش الأصل:(لعل الاستعاذة صواب).
(4)
نقل ذلك عن الإمام أحمد الخطابي في معالم السنن 5/ 105 بهامش سنن أبي داود، طبعة 1401 هـ مطبعة المستشرقين، وقاله البخاري في خلق أفعال العباد ص 89.
(5)
أخرجه مسلم في (كتاب الذكر والدعاء، باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره) 4/ 2080 رقم 2708 بدون قوله "كلها".
(6)
في (ف)(عقابه) وهي موافقة لرواية الترمذي وأحمد وغيرهما.
(7)
أخرجه الترمذي في (كتاب الدعوات، باب 93) رقم 3528، 5/ 541، وقال الترمذي. حديث حسن غريب، وأبو داود في (كتاب الطب، باب كيف الرقى) رقم 3893، 4/ 218 - 219، وأحمد في المسند 2/ 181 واللفظ للترمذي بدون قوله "كلها"، وقد أخرجه غيرهم.
وفي الحديث عنعنة ابن إسحاق وهو مدلس، قال: بشير عيون في حاشية الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب لابن القيم بتحقيقه، الطبعة الثالثة 1409 هـ، الناشر مكتبة المؤيد ص 212: ولكن له شاهد مرسل في الموطأ وابن السني. أ. هـ.
(8)
كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (الذي).
(9)
سقطت الواو من (د).
(10)
ما بين القوسين سقط من (د) و (ح).
(11)
أخرجه الإمام أحمد في المسند 3/ 419 من حديث عبد الرحمن بن خنبش =
قالوا: والاستعاذة لا تجوز بالمخلوق، وقول القائل أعوذ بالله معناه أستجير بالله، فإذا لم يجز أن يستغاث بمخلوق لا نبي ولا غيره، فإنه لا يجوز أن يقال له:"أنت خير معاذ يستغاث به" بطريق الأولى والأحرى.
ولهذا قال بعض الشعراء لبعض الرؤساء الممدوحين:
يا من ألوذُ به فيما أؤمله
…
ومن أعوذ به فيما أُحاذره
لا يجبر الناسُ عظماً أنت كاسره
…
ولا يهيضون عظماً أنتَ جابره (1)
فقول القائل لمن مات من الأنبياء أو غيرهم: بك أستجير من كذا وكذا، كقوله: بك أستعيذ، وقوله: بك أستغيث في معنى ذلك، إذا كان مطلوبه منع الشدة أو رفعها، والمستعيذ بطلب منع المستعاذ منه أو رفعه، فإذا كان مخوفاً (2) طلب منعه، كقوله: "أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب
= واللفظ له، وابن السني في (عمل اليوم والليلة، باب من يخاف مردة الشياطين) رقم 642 ص 238، ومالك في الموطأ في (كتاب الشعر، باب ما يؤمر بالتعوذ منه) رقم 210/ 950 ، وأبو يعلى في مسنده رقم 6844، 12/ 237، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 127: رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني، ورجال إسنادي أحمد وأبي يعلى وبعض أسانيد الطبراني رجال الصحيح. أ. هـ.
وقال العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 2/ 518 رقم 840: والإسناد صحيح، ورجاله إلى ابن خنبش على شرط مسلم، وقد اختلفوا في صحبته، وقد اختار الحافظ ابن حجر في الإصابة قول من جزم بأن له صحبة، وهذا الحديث يشهد لذلك، فإنه قد صرح فيه أنه أدرك النبي صلى الله عليه وسلم. أ. هـ.
(1)
البيتان لأبي الطيب المتنبي -الشاعر المشهور- في مدح جعفر بن كيغلغ من قصيدة مطلعها:
حاشى الرقيب فخانته ضمائره
…
وغيض الدمع فانهلت بوادره
انظر: ديوان المتنبي طبعة 1403 هـ، الناشر دار بيروت - لبنان ص 41، وقد أسرف في المدح. قال ابن كثير في البداية والنهاية 11/ 275: بلغني عن شيخنا العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية: أنه كان ينكر على المتنبي، هذه المبالغة في مخلوق، ولقول: إنما يصلح هذا لجناب الله سبحانه وتعالى، وقال ابن القيم: سمعت ابن تيمية يقول: ربما قلت هذين البيتين في السجود، أدعو الله بما تضمناه في الذل والخضوع. أ. هـ. وقال ابن القيم أيضاً في شفاء العليل في القضاء والقدر 2/ 191: ولو قال ذلك في ربه وفاطره لكان أسعد به من مخلوق مثله. أ. هـ.
(2)
في (د) و (ح) لخوف.
القبر" (1)، وإن كان حاضراً: طلب رفعه كقوله (2) في الحديث الصحيح: "أعوذ بعزة [الله](3) وقدرته من شر ما أجد وأحاذر" (4)، فتعوَّذ بالله من شر الموجود وشر المحاذر.
والداعي يطلب أحد شيئين: إما حصول منفعة أو دفع مضرة، فالاستعاذة والاستجارة والاستغاثة كلها من نوع الدعاء والطلب، وقول القائل لا [يستعاذ](5) به ولا يستجار به ولا يستغاث (6) به ألفاظ متقاربة.
ولما كانت الكعبة بيت الله الذي يدعى ويذكر عنده؛ فإنه سبحان يستجار به ويستغاث به هناك، ويتمسك المتمسك (7) بأستار الكعبة كما يتعلق المتعلق بأذيال من يستجير به، ومنه قول عمرو (8) بن سعيد لأبي شريح:"إن الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فاراً بدم ولا فاراً بخربة"(9)، وفي الحديث الصحيح:
(1) أخرجه مسلم في (كتاب المساجد، باب ما يستعاذ منه في الصلاة) 1/ 412 رقم 588 وأوله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع. يقول: اللهم إني أعوذ بك
…
الحديث".
(2)
في (د) كلمة غير واضحة.
(3)
كذا في (ف) و (د) و (ح) وسقطت من الأصل.
(4)
أخرجه مسلم في (كتاب السلام، باب استحباب وضع يده على موضع الألم مع الدعاء) رقم 2202، 4/ 1728 من حديث عثمان بن أبي العاص وأوله: "أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعاً
…
".
(5)
كذا في (د) و (ح) وفي الأصل (يسغاث) وفي (ف)(يستغاث).
(6)
في (ف) ولا يستعاذ.
(7)
في (د) الممسك.
(8)
في (د) عمر، والصواب عمرو، وهو عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية القرشي الأموي يُعرف بالأشدق، قال عنه ابن حجر في فتح الباري 1/ 264: ليست له صحبة ولا كان من التابعين لهم بإحسان. أ. هـ.
وأبو شريح اختلف في اسمه، والمشهور أنه خويلد بن عمرو، أسلم قبل الفتح وهو من خزاعة، حمل بعض ألوية قومه، له صحبة، توفي سنة 68 هـ بالمدينة. انظر: فتح الباري 4/ 51.
(9)
أخرجه البخاري في (كتاب العلم، باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب) 1/ 60 رقم 104، واللفظ له بسياق أطول من سياق المؤلف. و (لا تُعيذ) بضم المثناة أوله أي مكة لا تعصم العاصي عن إقامة الحد عليه. و (لا فاراً) بالفاء والراء المشددة أي: هارباً عليه دم يعتصم بمكة كيلاً يقتص منه. و (بخربة) بفتح المعجمة وإسكان الراء: يعني السرقة كذا ثبت تفسيرها في رواية المستملي، والخربة بالضم يعني: الفساد. انظر: فتح الباري لابن حجر 1/ 265.
"يعوذ عائذ بهذا البيت"(1).
ومنه قول القائل:
ستور بيتك ذيلُ الأمن منك وقد
…
عَلَّقْتُها مستجيراً أيها الباري
وما أظنك لما أن عَلِقْتُ بها
…
خوفاً من النار تدنيني من النارِ (2)
ويسمى ذلك المكان المستجارة (3)، وقد كان من السلف من يدخل بين الكعبة وأستارها فيستعيذ ويستجير بالله ويدعوه ويتضرع إليه هناك.
ويجوز مدح الله والثناء عليه بالنظم وكذلك دعاؤه، كما قال الأسود بن سريع للنبي صلى الله عليه وسلم لما نظم شعراً في مدح الله -تعالى- فقال: إني حمدت ربي بمحامد، فقال:"إن ربك يحب الحمد"(4)، فلم ينكر عليه ذلك، لكن رُوي أنه قال ولم يستنشده، وروى أنه استنشده كما روى الإمام أحمد في مسنده عن الأسود بن سريع قال: قلت يا رسول الله إني مدحت ربي (5) بمدحه ومدحتك بأخرى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"هات وابدأ بمدحة الله"(6).
(1) أخرجه مسلم في (كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب الخسف بالجيش الذي يؤم البيت) 4/ 2208 رقم 2882 من حديث أم سلمة رضي الله عنها وأوله: "دخل الحارث بن أبي ربيعة وعبد الله بن صفوان وأنا معهما -أي عبيد الله القطبية- على أم سلمة فسألها عن الجيش الذي يخسف به، وكان ذلك أيام الزبير فقالت: "يعوذ عائذ بالبيت
…
" الحديث.
(2)
لم أعرف القائل.
(3)
في (ف) المستجار.
(4)
أخرجه الإمام أحمد في المسند 3/ 435 والحاكم في المستدرك في كتاب معرفة الصحابة 3/ 614 وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، والطبراني، في المعجم الكبير 1/ 282 بالأرقام: 820، 821، 822، 823، 824، 825، والبخاري في الأدب المفرد باب من الشعر لحكمة ص 289 رقم 864 ط كمال الحوت، واللفظ لحاكم وحسنه العلامة ناصر الدين الألباني في صحيح الأدب المفرد للإمام البخاري ص 320 رقم 660، الطبعة الثانية 1415 هـ، الناشر دار الصديق الجبيل - السعودية.
(5)
في (ف) و (د) و (ح) الله.
(6)
أخرجه الإمام أحمد في المسند 3/ 435، 4/ 24، واللفظ له، والحاكم في المستدرك 3/ 615 كتاب معرفة الصحابة وقال: حديث صحيح الإسناد، وتعقبه الذهبي بقوله: معمر له مناكير، اسمه معمر بن بكار السعدي. أ. هـ والطبراني في المعجم الكبير 1/ 282 رقم 819، والبخاري في الأدب المفرد باب من مدح في الشعر ص 125 رقم 343 =
ولكن ثبت عنه أنه كان يستنشد (1) الشريد بن السويد الثقفي شعر أمية بن أبي الصلت وهو يقول: هيه هيه (2).
وذلك مثل قوله:
مجّدوا الله فهو للمجد أهل
…
ربنا في السماء أمسى كبيرا
[بالبناء](3) الأعلى سبق الناس
…
وسوَّى [فوق](4) السماء سريرا
شرجعاً ما يناله بصر العين
…
ترى دونه الملائك صورا (5)
وقوله:
[زحل](6) وثور تحت رجل يمينه
…
والنسر للأخرى ليث مرصد (7)
= ترتيب كمال الحوت الطبعه الثانية 1405 هـ، الناشر عالم الكتب بيروت - لبنان، وقد ضعفه العلامة الألباني في ضعيف الأدب المفرد ص 45 رقم 55، الطبعة الأولى 1414 هـ، الناشر دار الصديق الجبيل، وقال: ضعيف بهذا التمام. أ. هـ والراجح -والله أعلم- أنه لم يستنشده.
(1)
في الأصل و (ف) زيادة (هاء).
(2)
أخرجه مسلم في كتاب الشعر ولم يبوب 4/ 1767 رقم 2255 ولفظه: "قال ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فقال: هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت؟ قلت: نعم، قال: "هيه" فأنشدته بيتاً، فقال: "هيه"، ثم أنشدته بيتاً فقال: "هيه حتى أنشدته مائة بيت" وزاد في رواية: "إن كاد ليسلم".
(3)
كذا في (د) و (ح) وفي وصل و (ف)(فالبناء)، وما أثبت أعلاه هو الموافق لهذه الأبيات في مصادرها.
(4)
كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (قو) هكذا.
(5)
انظر: ديوان أمية بن أبي الصلت، جمع بشير يموت ص 33 - 34 (الطبعة الأولى 1934 م، الناشر المكتبة الأهلية بيروت - لبنان) وفيه البيت الثاني قبل الثالث:
ذلك المنشئ الحجارة
…
والموتى أحياهم وكان قديرا
وذكر هذه الأبيات ابن كثير في البداية والنهاية 2/ 233.
والشرجع هو الطويل. انظر: لسان العرب 8/ 179، وقال ابن كثير في البداية والنهاية 1/ 11: الشرجع هو العالي المنيف، ولا منافاة، فالشرجع وصف للسرير وهو العرش. أ. هـ. وصوراً جمع أصور وهو: المائل العنق لثقل حمله. لسان العرب 4/ 474 مادة صور.
(6)
في جميع النسخ (رجل)، وعند الدارمي وابن كثير في تاريخه وديوانه أمية بن أبي الصلت (زحل) وفي المسند (رجل) كما سيأتي، ونقل عن المسند ابن كثير في البداية والنهاية 2/ 232، والهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 127 قوله (زحل) بالزاي وهو الصواب، ولعل ما في المسند خطأ طباعي.
(7)
أخرجه الإمام أحمد في المسند 1/ 256، والدارمي في (كتاب الاستئذان، باب =
وغير ذلك.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أخاكم لا يقول الرفث"(1) يعني ابن رواحة، وذلك كقوله الذي أنشده للنبي صلى الله عليه وسلم:
شهدت بأن وعد الله حق
…
وأن النار مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طاف
…
وفوق العرش رب العالمينا (2)
وتحمله ملائكة شداد
…
ملائكة الإله مسوّمينا (3)
[وقوله](4):
وفينا رسول الله يتلو كتابه
…
إذا انشق معروف من الفجر ساطع
[أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا
…
به موقنات أن ما قال واقع] (5)
يبيت يجافي جنبه عن فراشه
…
إذا استثقلت بالكافرين المضاجع (6)
= في الشعر) 5/ 602 رقم 2706، ولفظه عن ابن عباس قال: صدق النبي صلى الله عليه وسلم أمية بن أبي الصلت في شيء من شعره فقال:
زحل وثور
…
(البيت) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صدق
…
" إلخ.
وفي سنده محمد بن إسحاق وهو مدلس، وقد عنعن، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 127: رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني ورجاله ثقات وفيه ابن إسحاق مدلس. أ. هـ. وانظر: البداية والنهاية لابن كثير 2/ 232، وديوان أمية بن أبي الصلت، جمع بشير يموت ص 25.
وزُحَلُ: اسم كوكب. انظر: لسان العرب 11/ 303 مادة زحل، وثور برج من بروج السماء على التشبيه. لسان العرب 4/ 112 مادة ثور، ونسر هو أحد كوكبين في السماء معروفين على التشبيه بالنسر الطائر. لسان العرب 5/ 204 مادة نسر.
(1)
أخرجه البخاري في (كتاب التهجد، باب فضل من تعارَّ في الليل فصلى) برقم 1155، 1/ 344 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وطرفه رقم 6151.
(2)
في الأصل: (وقوله) حيث فصل البيت الثالث وهو مخالف لجميع النسخ.
(3)
أخرجه الدارمي في الرد على الجهمية ص 46 رقم 82، وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق ص 343 جزء عبد الله بن جابر وعبد الله بن زيد، تحقيق د. شكرى فيصل وآخرين (طبعة مجمع اللغة العربية بدمشق - سوريا) واللفظ لابن عساكر، قال بدر البدر في تخريج الرد على الجهمية حاشية ص 47: وطرقه ضعيفة ضعفاً لا يقوي بعضها بعضاً ومتنه منكر. أ. هـ.
(4)
كذا في (ف) و (د) و (ح)، وتقدمت في الأصل قبل البيت الثالث.
(5)
كذا في (ح) وهو الموافق لما ورد في صحيح الإمام البخاري، وفي ديوان ابن رواحة رضي الله عنه، وفي الأصل و (ف) و (د) تأخر هذا البيت بعد الثالث.
(6)
هذه الأبيات جزء من حديث أبي هريرة المتقدم، أخرجه البخاري في =
ومن ذلك ما كان النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة يتمثلون به:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا
…
ولا تصدّقنا ولا صلّينا
فأنزلنْ سكينة علينا
…
وثَبِّت الأقدام إن لاقينا
إن الأُولى قد بغوا علينا
…
إذا أرادوا فتنة أبينا (1)
وهذا النظم فيه دعاء الله.
فأنزلن سكينة علينا
…
وثبت الأقدام إن لاقينا
ومثل هذا البيت قولهم: اللهم، ويقال فيه لَاهُمَّ إن العيش، كما في قول عبد المطلب:
لاهُمَّ إن المرء يمنع رحله
…
(وحلاله)(2) فامنع حِلالك (3)
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:
إن تغفر اللهم تغفر جمّاً
…
وأي عبد لك لا (4) ألمّاً (5)
= (كتاب التهجد، باب فضل من تعارَّ في الليل فصلى) 1/ 344 رقم 1155 وطرفه رقم 6151، وانظر: ديوان عبد الله بن رواحة ودراسة في سيرته وشعره جمع د. وليد القصاب ص 93، الطبعة الأولى 1402 هـ، الناشر دار العلوم.
(1)
أخرجه البخاري في (كتاب المغازي، باب غزوة الخندق) رقم 4107، 3/ 1252 - 1253 من حديث البراء بن عازب قال: لما كان يوم الخندق، وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأيته ينقل من تراب الخندق، حتى وارى عني التراب بجلد بطنه -وكان كثير الشعر- فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة، وهو ينقل التراب، فذكر الأبيات، قال: ثم يمد صوته بآخرها. وأطرافه رقم: 4105، 7236.
(2)
ما بين القوسين سقطت من (د).
(3)
هذا البيت لعبد المطلب بن هشام جد الرسول صلى الله عليه وسلم، قاله يستنصر بالله عز وجل على أبرهة حيث أراد هدم الكعبة، فقال وهو آخذ بحلقة باب الكعبة هذا البيت دون قوله (وحلاله) ويتلوه:
لا يغلبن صليبهم
…
ومحالهم غدوا محالك
انظر: سيرة ابن هشام 1/ 51، وتاريخ الأمم والملوك للطبري 1/ 442، والبداية والنهاية لابن كثير 2/ 176.
لاهُمَّ: يريد اللهم، حذفت الألف واللام. انظر: لسان العرب 12/ 555 مادة لهم، وسيرة ابن هشام 1/ 51، وحِلالك: بالكسر، القوم المقيمون المتجاورون، يريد بهم سكان الحرم. لسان العرب 11/ 165 مادة حلل.
(4)
في (د) ما.
(5)
أخرجه الترمذي في (كتاب تفسير القرآن، باب من سورة النجم) 5/ 396 رقم =
ومنه قول الصحابة:
اللهم إن العيش عيش الآخرة
…
فاغفر للأنصار والمهاجرة (1)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل به، لكن رُوي أنه قال:"فاغفر للمهاجرين والأنصار"(2)، وهذا دعاء في الشعر وقد أقر الصحابة على قوله، فدل على جوازه.
وإن كان هو صلى الله عليه وسلم لا يقول الشعر، فذلك من خصائصه كما قال -تعالى-:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69]، فهو صلى الله عليه وسلم لم يكن ينظم الشعر ولكن هل تمثل به؟ أو لم يتمثل بشعر؟ فيه نزاع ليس هذا موضعه (3).
= 3284 عن ابن عباس في تفسيره قوله: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم وذكر البيت -قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث زكريا بن إسحاق، والحاكم في المستدرك في كتاب التفسير 2/ 470 وقال:"صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، وابن جرير الطبري في تفسيره 11/ 527 - 528 في تفسير سورة النجم الآية 32 عن مجاهد قال: وكان أهل الجاهلية يطوفون بالبيت وهم يقولون- وذكر البيت، وقال ابن كثير في تفسير القرآن العظيم 4/ 256 ساقه ابن أبي حاتم والبغوي من حديث أبي عاصم النبيل وفي صحته مرفوعاً نظر. أ. هـ.
والراجح أن قائل هذا البيت هو أمية بن أبي الصلت كما نسبه إليه ابن منظور في لسان العرب 12/ 549 مادة لم، وابن كثير في تاريخه 2/ 230، وفضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد لفضل الله الجيلاني 2/ 318 الطبعة الثانية 1388 هـ الناشر المطبعة السلفية ومكتبتها القاهرة - مصر ويتلوه:
إني إذا ما حدث ألما
…
أقول ياللهم ياللهما
(1)
أخرجه البخاري في (كتاب المغازي، باب غزوة الخندق) 3/ 1250 رقم 4099 وطرفه 4100 من حديث أنس يقول: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال: .... الحديث"، وهذا البيت ينسب لعبد الله بن رواحة، وتمثل به النبي صلى الله عليه وسلم. انظر: فتح الباري لابن حجر 7/ 501.
(2)
أخرجه البخاري في الموضع السابق من صحيحه رقم 4098، قال ابن حجر في فتح الباري 7/ 501: قوله (فاغفر للمهاجرين والأنصار) وفي حديث أنس بعده: (فاغفر للأنصار والمهاجرة)، وكلاهما غير موزون، ولعله صلى الله عليه وسلم تعمد ذلك. أ. هـ.
(3)
والصحيح جواز تمثل، النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من الشعر حاكياً عن غيره، لما ثبت عن المقداد بن شريح عن أبيه عن عائشة قال: قيل لها: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت: كان يتمثل بشعر ابن رواحة، ويتمثل ويقول:"ويأتيك بالأخبار من لم تزود". =
وليس كل الشعر مذموم بل منه ما هو مباح كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن من الشعر لحكمة"(1)، وقد قال -تعالى-:{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)} [الشعراء: 224 - 227].
فقد استثنى ممن ذمه [الله](2) من الشعراء من ذكره، فدل ذلك على أنه ليس كل الشعراء مذمومين، وقد ثبت في الصحيح أنه كان ينصب لحسان بن ثابت منبراً ويأمره بهجاء المشركين ويقول:"اللهم أيده بروح القدس"(3)، وفي رواية:"إن روح القدس معك ما نافحت عن [الله و] (4) رسوله"(5).
وقد سمع شعر خزاعة؛ لما قدموا عليه حين عدت بنو بكر على خزاعة وأنشدوه القصيدة المعروفة التي فيها:
= أخرجه الإمام أحمد في المسند 6/ 138، وغيره، وصححه العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 5/ 89 رقم 2057، ولا منافاة بين الحديث وقوله تعالى:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69]، فإن التمثل بالبيت وإصابة القافية من الرجز وغيره، لا يوجب أن يكون قائلها عالماً بالشعر، ولا يسمى شاعراً باتفاق العلماء.
وللتوسع. انظر: تفسير الطبري 10/ 461، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 15/ 51 - 53 وغاية السول في خصائص الرسول لأبي حفص عمر الأنصاري المشهور بابن الملقن، تحقيق عبد الله بحر الدين عبد الله ص 135 - 136، الطبعة الأولى 1414 هـ، الناشر دار البشائر الإسلامية بيروت - لبنان.
(1)
أخرجه البخاري في (كتاب الأدب، باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه) برقم 6145، 4/ 1936 من حديث أبي بن كعب.
(2)
كذا في (د) و (ح) وزاد في (د) تعالى، وسقط لفظ الجلالة من الأصل و (ف).
(3)
أخرجه البخاري في (كتاب الصلاة، باب الشعر في المسجد) رقم 453، 1/ 159 وطرفاه رقم 3212، 6153.
(4)
ما بين المعقوفين من (ح)، وهو الموافق للفظ الحديث عند مسلم وأبي داود، وسقط من الأصل و (ف) و (د).
(5)
أخرجه مسلم في (كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل حسان بن ثابت) رقم 2490، 4/ 1935 وأبو داود في (كتاب الأدب، باب ما جاء في الشعر) رقم 5015، 5/ 280 واللفظ له.
إن قريشاً أخلفوك الموعدا
…
ونقضوا ميثاقك المؤكدا (1)
إلى آخرها، وكذلك سمع قصيدة كعب بن زهير المشهورة التي أولها: بانت سعاد (2).
إلى غير ذلك من الأدلة الشرعية التي تدل على أن من الشعر ما يجوز إنشاده (3) وإنشاؤه واستماعه، ومما يبيّن حكمة الشريعة وَعِظم قدرها؛ وأنها كما قيل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق (4).
إذ الذين خرجوا عن المشروع زين لهم الشيطان أعمالهم حتى خرجوا إلى الشرك، فطائفة من هؤلاء يصلّون إلى الميت، ويدعو أحدهم الميت فيقول: اغفر لي وارحمني ونحو ذلك، ويسجد لقبره، ومنهم من يستقبل القبر ويصلّي إليه مستدبراً لكعبة، ويقول القبر قبلة الخاصة، والكعبة قبلة العامة، وهذا يقوله من هو أكثر الناس عبادة وزهداً، وهو شيخ متبوع، ولعله أمثل
(1) هذا البيت من قصيدة عمرو بن سالم الخزاعي ومطلعها:
يا رب إني ناشداً محمدا
…
حلف أبيه وأبينا الأتلدا.
انظر: السيرة لابن هشام 4/ 394، ومنح المدح أو شعراء الصحابة ممن مدح الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي الفتح المشهور بابن سيد الناس، تحقيق عفت وصال حمزة ص 169 (الطبعة الأولى 1407 هـ الناشر دار الفكر دمشق - سوريا)، وسياق ابن هشام يخالف سياق المؤلف.
(2)
هذه القصيدة لكعب بن زهير بن أبي سلمى المازني من أهل نجد، اشتهر في الجاهلية، ولما ظهر الإسلام هجا النبي صلى الله عليه وسلم وشبب بنساء المسلمين، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، فضاقت عليه الأرض، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم مستأمناً وقد أسلم، وأنشده لاميته المشهورة التي مطلعها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ
…
متيم إثرها لم يفد مكبولُ
فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم وخلع عليه بردته، ولذلك سميت البردة، توفي سنة 26 هـ. انظر: السيرة لابن هشام 4/ 503، والبداية والنهاية لابن كثير 4/ 35، وقصيدة البردة لكعب بن زهير شرح أبي البركات ابن الأنباري، دراسة وتحقيق د. محمود زيني دحلان ص 790، الطبعة الأولى 1400 هـ الناشر مكتبة تهامة الرياض.
(3)
إنشادها سقطت من (د).
(4)
رويت هذه الحكمة عن مالك بن أنس رحمه الله إمام دار الهجرة. انظر: ذم الكلام وأهله للهروي 4/ 124 رقم 885 ت. الأنصاري هـ. الأولى 1419 هـ، الناشر مكتبة الغرباء المدينة النبوية.
أتباع شيخه، يقوله في شيخه (1).
وآخر من أعيان الشيوخ المتبوعين أصحاب الصدق والاجتهاد في العبادة والزهد؛ يأمر المريد أول ما يتوب أن يذهب إلى قبر الشيخ فيعكف عليه عكوف أهل التماثيل، وجمهور هؤلاء المشركين بالقبور يجدون عند عبادة القبور من الرقة والخشوع والدعاء وحضور القلب، ما لا يجده أحدهم في [مساجد الله التي](2) أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه.
وآخرون يحجون إلى القبور، وطائفة صنفوا كتباً وسموها مناسك حج المشاهد، كما صنف، أبو عبد الله محمد بن النعمان (3) الملقب بالمفيد -أحد شيوح الإمامية- كتاباً في ذلك وذكر فيه من الحكايات المكذوبة عن أهل البيت ما لا يخفى كذبه على من له معرفة بالنقل.
وآخرون يسافرون إلى قبور المشايخ؛ وإن لم يسموا ذلك منسكاً وحجّاً فالمعنى واحد، ومن هؤلاء من يقول: وحق النبي الذي تحج إليه المطايا،
(1) نقل أحمد أبو العباس المرسي عن شيخه الشاذلي قريباً من هذا قال: يقول الشاذلي: لو كان الحق سبحانه يرضيه خلاف السنة لكان التوجه في الصلاة للقطب الغوث أولى من التوجه للكعبة. أ. هـ انظر: الطبقات الكبرى للشعراني 2/ 13.
ويقول شيخ الرافضة المجلسي: استقبال القبر للزائر بمنزلة استقبال القبلة وهو وجه الله أي جهته التي أمر الناس باستقبالها في تلك الحال. أ. هـ ورجح المجلسي أيضاً وجوب اتخاذ القبر قبلة في الصلاة. انظر: أصول مذهب الشيعة 2/ 473 - 474.
(2)
كذا في (ف) و (د) وفي الأصل (المساجد الذي) وفي (ح)(مساجد التي).
(3)
هو أبو عبد الله محمد بن النعمان العكبري، يلقب بالشيخ المفيد، رافضي من الإمامية، انتهت إليه رئاسة المذهب في زمانه، له نحو مائتي مصنف، كان يستأجر الصبيان الأذكياء، وبذلك كثر تلامذته، مات سنة 413 هـ. انظر: السير 17/ 344 ترجمة رقم 213 والأعلام 7/ 21.
واسم كتابه كاملاً: "مناسك حج مشاهد الأبرار لمن عنى إليهم من المقيمين والزوار". انظر: التوضيح عن توحيد الخلاق ص 217، ولم أجد من ذكر هذا الكتاب.
وكتب الرافضة الداعية لزيارة القبور كثيرة حتى قال أحد شيوخهم اليوم وهو آغا برزك الطهراني في كتابه "الذريعة إلى تصانيف الشيعة" 20/ 316 - 326: إن ما صنفه شيوخهم في المزار ومناسكه قد بلغ ستين كتاباً، نقلاً عن أصول مذهب الشيعة للدكتور ناصر القفاري 2/ 467.
فيجعل الحج إلى القبر لا إلى بيت الله عز وجل، وكثير من هؤلاء أعظم قصده من الحج قصد قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا حج البيت.
وبعض الشيوخ المشهورين بالدين والزهد والصلاح صنف كتاباً سماه [الاستغاثة](1) بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والمنام (2)، وهذا الضال استعان بهذا الكتاب، وقد ذكر في مناقب هذا الشيخ أنه حج مرة وكان قبر النبي صلى الله عليه وسلم منتهى قصده؛ ثم رجع ولم يذهب إلى الكعبة، وجعل هذا من مناقبه، فإن كان هذا مستحباً فينبغي [لمن يجب عليه حج البيت إذا حج أن يجعل المدينة منتهى قصده](3) ولا يذهب إلى مكة؛ فإنه زيادة كلفة ومشقة مع ترك الأفضل، وهذا لا يفعله عاقل.
وبسبب الخروج عن الشريعة صار بعض أكابر الشيوخ عند الناس ممن يقصده الملوك والقضاة والعلماء والعامة، على طريقة ابن سبعين (4) قيل عنه أنه كان يقول: البيوت المحجوجة ثلاثة: "مكة، وبيت المقدس، [والبندر] (5) الذي للمشركين بالهند"، وهذا لأنه كان يعتقد أن دين اليهود ودين النصارى حق، وجاء بعض إخواننا العارفين قبل أن يعرف حقيقته، فقال له: أريد أن أسلم على يديك، قال: على دين اليهود والنصارى أو المسلمين، فقال له: اليهود والنصارى ليسوا كفاراً؟!! [قال](6): لا تشدد عليهم، لكن دين الإسلام أفضل.
ومن هؤلاء من يرجح الحج إلى المقابر على الحج إلى البيت، ومنهم
(1) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل استغاثة.
(2)
يريد بذلك أبو عبد الله محمد بن موسى بن النعمان المزالي المالكي، وسبق التعريف به وبكتابه.
(3)
ما بين المعقوفتين من (ف) و (د) و (ح) وسقط من الأصل.
(4)
هو أبو محمد قطب الدين عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن سبعين الإشبيلي، من القائلين بوحدة الوجود، له "أسرار الحكمة المشرقية"، جاور في غار حراء بعض الأوقات يرتجي أن يأتيه الوحي، نقلت عنه عظائم من الأقوال والأفعال، هلك سنة 669 هـ. انظر: البداية والنهاية 13/ 29، والأعلام 3/ 280. وسيأتي ذكر بعض كتبه في دعاء الكواكب وعبادتها.
(5)
كذا في (د) وفي الأصل و (ف) البد.
(6)
كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل سقطت اللام.
من يرجح الحج إلى البيت لكن قد يقول أحدهم: إنك إذا زرت قبر الشيخ مرتين أو ثلاثاً كان كحجة (1)، ومن الناس من يجعل مقبرة الشيخ بمنزلة عرفات يسافرون إليها وقت الموسم يعرّفون بها، كما يُعَرِّفُ المسلمون بعرفات، كما يُفعل هذا بالمشرق والمغرب (2).
ومنهم من يجعل السفر إلى المشهد والقبر الذي يعظمه أفضل من الحج،
(1) وهذا كثير عند الرافضة، وإليك مثال ذلك: يقول الخميني في كشف الأسرار ترجمه للعربية د. محمد البنداري، وعلق عليه سليم الهلالي، وقدم له د. محمد الخطيب ص 83 - 84 (الطبعة الثانية الناشر دار عمار عمان - الأردن): ينقل الشيخ الطوسي عن أبي عامر -واعظ أهل الحجاز- قوله: إنني ذهبت إلى الصادق عليه السلام، وسألته: ما هو أجر من يزور أمير المؤمنين ويبني قبره؟ فرد على سؤالي: يا أبا عامر! لقد روى أبي عن جده الحسين بن علي، بأن الرسول قال لأبي:
…
(وذكر أن قبور الأئمة من بقاع الجنة وغير ذلك) ثم قال: إن من يبني قبوركم؛ ويأتي إلى زيارتها، يكون كمن شارك سليمان بن داود في بناء القدس، ومن يزور قبوركم يصيبه ثواب سبعين حجة غير حجة الإسلام، وتمحى خطاياه، ويصبح كمن ولدته أمه توّاً. أ. هـ. [كذا العبارة ركيكة في الأصل]، ثم أخذ الخميني في شرحها.
وجاء في بعض كتبهم أن زيارة قبر الحسين تعدل عشرين حجة، وجاء في أخرى أنها تعدل ثلاثين حجة زاكية متقبلة مبرورة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزادت في روايات أخرى حتى وصلت سبعين حجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثمانين حجة. انظر: أصول مذهب الشيعة 2/ 452 وما بعدها.
(2)
في (ف)(المشرق والمغرب) وفي (د) و (ح)(في المغرب والمشرق).
والتعريف: هو اجتماع الناس يوم عرفة في غير عرفة في المساجد لذكر الله -تعالى- وهذا اختلف فيه، ففعله ابن عباس وعمرو بن حريث رضي الله عنهما من الصحابة وطائفة من التابعين، ورخص فيه الإمام أحمد ولم يستحبه، ونهى عنه وأنكره عبد الرحمن بن أبي بكرة وابن المسيب وإبراهيم النخعي والإمام مالك وأبو حنيفة وغيرهم، قال أبو بكر الطرطوشي: فاعلموا رحمكم الله أن هؤلاء الأئمة علموا فضل الدعاء يوم عرفة، ولكن علموا أن ذلك بموطن عرفة لا غيرها، ولم يمنعوا من خلا، بنفسه فحضرته نية صادقة أن يدعو الله -تعالى-، وإنما كرهوا الحوادث في الدين، وأن يظن العوام أن من السنة يوم عرفة بسائر الآفاق الاجتماع للدعاء. أ. هـ. انظر: المصنف لابن شيبة 3/ 287، وكتاب الحادث والبدع، تأليف أبي بكر محمد بن الوليد الطرطوشي ص 126 - 127، والمغني لابن قدامة وبهامشه الشرح 2/ 259، واقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 2/ 643.
هذا موقف أهل العلم المجيزين والمانعين، فكيف إذا كانت عند القبور وبذكر غير الله -تعالى-، وقد ورد النهي عن تعظيم القبور والدعاء عندها.
ويقول أحد المريدين للآخر وقد حج سبع حجج إلى بيت الله العتيق أتبيعني زيارة قبر الشيخ بالحجج السبع؟ فشاور الشيخ، فقال: لو بعت لكنت مغبوناً، ومنهم من يقول: من (1) طاف بقبر الشيخ سبعاً كان كحجة، ومنهم من يقول: زيارة المغارة الفلانية ثلاث مرات كحجة، ومنهم من يحكي عن الشيخ الميت أنه قال: كل خطوة إلى قبره كحجة؛ ويوم القيامة لا أبيع (2) بحجة، وأنكر بعض الناس ذلك فتمثل له الشيطان بصورة الشيخ في منامه وزبره (3) على إنكاره ذلك.
وهؤلاء وأمثالهم صلاتهم ونسكهم لغير الله رب العالمين، فليسوا على ملة إبراهيم إمام الحنفاء، وليسوا من عمار المساجد الذين قال الله فيهم:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)} [التوبة: 18]، فعُمَّار مساجد الله لا يخشون إلا الله، وعُمَّار مساجد المقابر يخشون غير الله ويرجون غير الله.
حتى إن طائفة من أصحاب الكبائر الذين لا [يتحاشون](4) فيما يفعلونه من القبائح؛ كان [إذا رأى](5) قبة الميت أو الهلال الذي على رأس القبة خشي من فعل [الفواحش](6)، ويقول أحدهم لصاحبه: ويحك هذا هلال القبة، فيخشون المدفون تحت الهلال؛ ولا يخشون الذي خلق السموات والأرض وجعل أهِلَّةَ السماء مواقيت للناس والحج.
وهؤلاء إذا نوظروا خوّفوا مناظرهم كما صنع المشركون بإبراهيم، قال تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ
(1)(من) سقطت من (د).
(2)
في (د) و (ح) أسع.
(3)
في هامش الأصل (صوابه وزجره)، قلت: بل هو تفسير لها، فالزّبْرُ: الزجر، وزَبَرَه: نهاه وانتهره. انظر: لسان العرب 4/ 315 مادة زبر.
(4)
كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل و (ف) يخشون.
(5)
كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل و (ف) بذى.
(6)
كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (الواحش).
أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (1)(81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)} [الأنعام: 80 - 82].
وآخرون قد جعلوا الميت بمنزلة الإله، والشيخ الحي المتعلق به كالنبي، فمن الميت يطلب قضاء الحاجات وكشف الكربات، وأما الحي فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه، وكأنهم (2) قد عزلوا الله عن أن يتخذوه إلهاً، وعزلوا محمداً صلى الله عليه وسلم عن أن يتخذوه رسولاً.
وقد يجيء الحديث العهد بالإسلام؛ أو التابع لهم الحسن الظن بهم أو غيره يطلب من الشيخ الميت؛ إما دفع ظلم ملك يريد أن يظلمه أو غير ذلك، فيدخل ذلك (3) السادن فيقول: قد قلت للشيخ، والشيخ يقول للنبي، والنبي يقول: لله، والله قد بعث رسولاً إلى (4) السلطان فلان، فهل هذا إلا محض دين المشركين والنصارى!! وفيه من الكذب والجهل ما لا يستجيزه كل مشرك ونصراني ولا يروج عليه!! ويأكلون من النذور وما يؤتى به إلى قبورهم ما يدخلون به في معنى قوله:{إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34]، فإنهم يأكلون أموال الناس بغير حق ويصدون عن سبيل الله، ويعوضون بأنفسهم ويمنعون غيرهم، إذ التابع لهم يعتقد أن هذا هو سبيل الله ودينه، فيمتنع بسبب ذلك عن الدين الحق الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه.
والله -تعالى- لم يذكر في كتابه المشاهد بل ذكر المساجد وأنها (5) خالصة له، قال تعالى:{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 29]، وقال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ
(1) في (ف) و (د) و (ح) قال الله تعالى.
(2)
في (د) و (ح) وكانوا.
(3)
في (ف) فراغ في وسط السطر، وليس فيه سقط في الكلام.
(4)
إلى هنا انتهى الفراع في وسط السطر في (ف).
(5)
في (د) فإنها.
الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)} [التوبة: 17 - 18]، وقال تعالى:{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ} [الحج: 40].
ولم يذكر بيوت الشرك كبيوت الأصنام والمشاهد، ولا ذكر بيوت النار، لأن الصوامع والبيع لأهل الكتاب، فالممدوح من ذلك ما كان مبنياً قبل النسخ والتبديل، كما أثنى على اليهود والنصارى والصابئين الذين كانوا قبل النسخ والتبديل، يؤمنون بالله واليوم الآخر ويعملون صالحاً.
بخلاف [بيوت](1) الأصنام وبيوت النار وبيوت الصابئة المشركين، كالذين يسمونه هيكل العلة الأولى، هيكل العقل، هيكل النفس، هيكل زحل، هيكل المشترى، هيكل المريخ، هيكل الشمس، هيكل عطارد، هيكل الزهرة، هيكل القمر (2)، فإن هذه البيوت ليس في أهلها مؤمن ولم يكن في أهلها عبادة أمر الله بها، فبيوت الأوثان (3) وبيوت النيران (4) وبيوت الكواكب وبيوت المقابر لم يمدح الله شيئاً منها، ولم يذكر ذلك إلا في قصة من لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف: 21]، فهؤلاء الذين اتخذوا على أهل الكهف مسجداً كانوا من النصارى (5)، الذين
(1) كذا في (ف) و (د) و (ح) وسقطت من الأصل.
(2)
هذه الهياكل للصابئة المشركين يجعلون لكل كوكب هيكلاً مخصوصاً، ولهذه الكواكب عبادات ودعوات مخصوصة، ويصورونها في تلك الهياكل، ويتخذون لها أصناماً تخصها، ويقربون لها القرابين. انظر: الملل والنحل 2/ 49 - 50، وإغاثة اللهفان 2/ 360.
(3)
بيوت الأوثان: هي بيوت للأصنام التي تعظم ويهدى لها، ولها سدنة وحجَّاب، ويطاف بها، وينحر عندها، مثل بيت مناة كان على ساحل البحر بين مكة والمدينة، وبيت اللات بالطائف، وبيت العزى وغيرها، ومن بيوت الأوثان بيت بمولتان وبيت سدوسان بالهند، وغيرها. انظر: الملل والنحل 2/ 243، وإغاثة اللهفان 2/ 308 - 315.
(4)
بيوت النيران للمجوس وهم يعظمون النار، وهي كثيرة من أهمها: بيت نار بطوس، وآخر في نواحي بخارى يدعى قباذان، وجدد زرادشت بيت نار بسابور، وفي بلاد الروم على أبواب القسطنطينة (استامبول اليوم) بيت نار اتخذه سابور بن أردشير فلم يزل كذلك إلى أيام المهدي وغيرها كثير. انظر: الملل والنحل 1/ 254.
(5)
انظر: تفسير ابن جرير الطبري 8/ 197، وتاريخ الأمم والملوك 1/ 372، =
لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، وفي رواية، "والصالحين"(1).
وفي الصحيحين عنه أنه لما ذكر له كنيسة بأرض الحبشة وذُكرَ حُسنها وتصاويرها، فقال:"أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوَّروا فيه تلك التصاوير، أولئك شِرار الخلق عند الله يوم القيامة"(2)، فجمع بين التصاوير والمقابر، وفي الصحيح عن أبي الهياج الأسدي قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " [ألا أبعثك] (3) على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن لا أدع قبراً مشرفاً إلا سويته ولا تمثالاً إلا طمسته"(4)، وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل الكعبة حتى أخرج ما فيها من التماثيل (5).
وقد رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "إنا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها"(6).
= والبداية والنهاية لابن كثير 2/ 114.
(1)
سبق تخريج هذا الحديث، وأما لفظ "الصالحين"، فأخرجه مسلم في (كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها (1/ 337 رقم 532 ولفظه: "ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد
…
" الحديث.
(2)
أخرجه البخاري في (كتاب الصلاة، باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مسجد) برقم 427، 1/ 152 وأطرافه 434، 1341، 3873، ومسلم في (كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور) رقم 528، 1/ 376، بألفاظ قريبة من لفظ المؤلف.
(3)
كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (لابعثك).
(4)
أخرجه مسلم في (كتاب الجنائز، باب الأمر بتسوية القبر) 2/ 666 رقم 969.
(5)
أخرجه البخاري في (كتاب الحج، باب من كبر في نواحي الكعبة) برقم 1601، 1/ 477 من حديث ابن عباس ولفظه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة فأمر بها فأخرجت، فأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل
…
" الحديث، وطرفه 3352، 4288.
(6)
أخرجه البخاري تعليقاً في (كتاب الصلاة، باب الصلاة في البيعة) 1/ 155، وعبد الرزاق في مصنفه 1/ 411 ورقم 1610، 1611 موصولاً عن أسلم مولى عمر حين قدم الشام صنع له رجل من النصارى طعاماً، وقال لعمر: إني أحب أن تجيئني، وتكرمني =
وقد تنازع الفقهاء في الصلاة في الكنيسة، وقال البخاري: قال ابن عباس: "لا بأس في الصلاة في الكنيسة"(1)، وقيل: يكره مطلقاً، وقيل: يرخص فيها، والصحيح أنه إن كان فيها تماثيل كانت بمنزلة المساجد المبنية على القبور، وبمنزلة دار الأصنام، فالمصلي فيها مشابه لمن يعبد غير الله، وإن كانت [نيته](2) الصلاة لله، كما أن المصلي عند طلوع الشمس وعند غروبها لما شابه من يعبد غير الله نُهي عن ذلك سداً للذريعة، وأيضاً فالملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة، فكيف يصلّي فيه؟ ولهذا لم يدخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة حتى أزيلت الصور، بخلاف الكنيسة التي لا صور فيها، فإن قيل: تكره لكونها محل الكفر، قيل: الصلاة في محل الكفر بمنزلة فتح دار الكفر فجعلها دار إسلام؛ وبمنزلة صلاة المسلمين في دار الحرب، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم ثقيفاً أن يتخذوا. مسجدهم موضع بيت اللات (3) بعد هدم اللات، وكانوا يسمونها الربة.
= أنت وأصحابك، وهو رجل من عظماء النصارى، فقال عمر: "
…
الأثر"، ووصله ابن حجر في تغليق التعليق 2/ 232 تحقيق سعيد عبد الرحمن القزقي، الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان، ودار عمار عمان - الأردن.
(1)
أخرجه البخاري في الموضع السابق 1/ 155، ولفظه:"وكان ابن عباس يصلي في البيعة إلا بيعة فيها تماثيل"، قال ابن حجر في فتح الباري 1/ 700: وصله البغوي في الجعديات وزاد فيه: فإن كان فيها تماثيل خرج فصلى في المطر.
ومذاهب العلماء في هذه المسألة على ثلاثة مذاهب كما ذكر المؤلف أعلاه، وهي: المنع مطلقاً، وقال به الإمام مالك وبعض الشافعية، والإذن مطلقاً، وقال به ابن حزم في المحلى وبعض أصحاب الإمام أحمد، والثالث: المنع من الصلاة في الكنيسة أو البيعة إذا كان فيها صورٌ أو تماثيل، وقال به جمع من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم والتابعين ورجحه المؤلف، وهو الراجح، والله أعلم.
انظر: المحلى، تأليف أبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم 4/ 81 (طبعة المكتب التجاري بيروت - لبنان)، والفتاوى الكبرى لابن تيمية 1/ 115 (الطبعة الأولى 1407 هـ الناشر دار القلم بيروت - لبنان)، وفتح الباري لابن حجر 1/ 699 - 700.
(2)
كذا في (د) و (ح) وفي الأصل و (ف)(نية).
(3)
أخرجه أبو داود في (كتاب الصلاة، باب في بناء المساجد) رقم 450، 1/ 311 من حديث عثمان بن العاص ولفظه:"أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجعل مسجد الطائف حيث كان طواغيتهم"، وابن ماجه في (أبواب المساجد، باب أين يجوز بناء المساجد) رقم 728 =
ولهذا فضل ذاكر (1) الله في الغافلين، وقيل (2): إنه كالشجرة الخضراء بين الشجرة اليابس (3)، فالعابد بين أهل الكفر والغفلة أعظم أجراً من غيره، فإن (4) قيل الصلاة فيها غصب لهم، قيل له: الكنائس ليست ملكاً لأحد، وليس لهم أن يمنعوا من يعبد الله؛ لأنا صالحناهم على هذا، بل قد شرط عليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يوسعوا أبوابها للمارة.
ومن ذلك أن هؤلاء المشركين من الصابئة ونحوهم لما كانوا يعبدون الكواكب والملائكة؛ وربما سموها العقول والنفوس وجعلوها وسائط بين الله وبين خلقه، وأهل التوحيد لا يعبدون إلا الله، ويطيعون رسله الذين أمروا بعبادته وحده لا شريك له، فقالت الصابئة المشركون للحنفاء: نحن نتخذ الروحانيين وسائط، وأنتم تتخذون البشر وسائط؛ فديننا أفضل من دينكم، فأخذ يعارضهم طائفة من النظار [كالشهرستاني](5) في كتابه المعروف بالملل والنحل (6) وغيره، ويذكرون أن توسط البشر أولى من توسط الروحانيات
= 1/ 134، ضعفه الألباني في ضعيف سنن ابن ماجه ص 58 رقم 159 (الطبعة الأولى 1408 هـ المكتب الإسلامي بيروت).
(1)
في (د) ذكر.
(2)
(وقيل) سقطت من (د).
(3)
هذا النص قطعة من حديث أخرجه الحسين بن عرفة في جزئه، تحقيق عبد الرحمن الفريوائي الطبعة الأولى 1406 هـ، الناشر مكتبة دار الأقصى الكويت ص 66 - 67 رقم 45 ولفظه:" .... وذاكر الله في الغافلين مثل الشجرة الخضراء في وسط الشجر الذي تحات ورقه من الصريد"، الصريد: أي البرد.
ومن طريقه أبي نعيم في الحلية 6/ 181، والبيهقي في شعب الإيمان (باب في محبة الله، فصل في إدامة ذكر الله) 1/ 334 بعناية عزيز بيك القادري النقشبندي، الطبعة الثانية سنة 1406 هـ بحيدر آباد الهند، ضعفه العلامة العراقي في تخريج الإحياء 1/ 241 رقم 919، والعلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة 2/ 120 رقم 671، (الطبعة الرابعة 1408 هـ الناشر مكتبة المعارف الرياض).
(4)
في (ف) و (د) و (ح) وإن.
(5)
كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (كالشهرساني).
(6)
انظر: الملل والنحل 2/ 6 - 48، ومحصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين، تأليف فخر الدين محمد بن عمر الرازي، راجعه وعلق عليه طه عبد الرؤوف سعد ص 323 - 325 (الطبعة الأولى 1404 هـ الناشر دار الكتاب العربي بيروت - لبنان وبذيله تلخيص المحصل للطوسي)، فقد ذكر أدلة الفلاسفة على تفضيل =
العلوية، وناظروهم مناظرة يعرف تقصيرهم فيها؛ لأنهم بنوها على أصل فاسد وهو مقايسة وسائط المشركين بوسائط الحنفاء، وهذا جهل بدين الحنفاء، فإن الحنفاء ليس بينهم وبين الله -تعالى- واسطة في العبادة والدعاء والاستعانة، بل يناجون ربهم ويدعونه ويعبدونه بلا واسطة، وإنما الرسل بلغتهم عن الله عز وجل ما أمر به وأحبه من العبادات وغيرها، وما نهى عنه فهم وسائط في التبليغ والدلالة، وهم مع المؤمنين كدليل الحاج مع [الحجاج](1)، وكإمام الصلاة مع المصلين، فالرسل -صلوات الله عليهم وسلامه- يعرّفون الناس طريق الله تبارك وتعالى؛ كما يعرف دليل الحاج طريق مكة -[شرّفها](2) الله- ثم الناس يعبدون الله كما أن الحاج يقيمون مناسك الحج، والرسل أيضاً يقتدى بهم في الأفعال التي يتأسى بهم فيها، كما يقتدي المأموم بالإمام في الصلاة، وكل مصل يعبد ربه منه إليه (بلا واسطة)(3)، وأولئك الصابئة من الفلاسفة غاية سعادة النفوس أن تصل إلى العقل الفعال.
وأصحاب [رسائل](4) إخوان الصفا (5) صنفوا رسائلهم على أصول هؤلاء ممزوجة بما أخذوه من دين الحنفاء، وأرادوا بزعمهم أن [يجمعوا](6)
= الروحانيات ولم يرد عليها أو يذكر أدلة المسلمين، وعلق طه عبد الرؤوف سعد بقوله: في هذا الكلام خبط كثير وأخذ في الرد عليه.
(1)
كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل الحاج.
(2)
كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل شرفه.
(3)
ما بين القوسين في (د)(بواسطة).
(4)
كذا في (د) و (ح) وفي الأصل و (ف)(وسائل).
(5)
إخوان الصفا: فرقة من فرق الباطنية، ومذهبهم مزيج من أقوال الفلاسفة، والباطنية، والمعتزلة، يتظاهرون بالتشيع، ولهم مذهب في الكواكب والأفلاك وأثرهما في عالم الكون والفساد، ويقولون بالفيض، وعدد رسائلهم اثنتان وخمسون جعلوها في أربعة أقسام، وقد كتموا أسماءهم، طبعت عدة طبعات. انظر: كتاب إخوان الصفا، تأليف عمر الدسوقي ص 48 وما بعدها (الطبعة الثالثة الناشر دار النهضة مصر - القاهرة)، ومقدمة رسائل إخوان الصفاء لبطرس البستاني 1/ 5 - 20 (طبعة 1376 الناشر دار صادر ودار ببروت - لبنان).
(6)
كذا في (ح) وفي الأصل و (ف) و (د) يجمع.
بين الحنفية والصابئة، فضلوا وأضلوا، وأما الحنفاء فعندهم أنه ما من عبد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب وترجمان (1)، وعندهم أن الملائكة عباد الله يفعلون ما أمرهم الله به، ومن أثبت أن دون الله روحاً يكون مبدعاً للعالم فهو أكفر عند الحنفاء مشركي العرب، فإن مشركي العرب كانوا يقرون بأن الله خالق كل شيء، لا يثبتون دونه شيئاً أبدع (2) العالم، ولما قال من قال منهم: إن الملائكة بنات الله؛ لم يجعلوا الملائكة مبدعة للعالم.
وأما هؤلاء الفلاسفة [يقولون](3): إن الصادر الأول عن العقل الأول؛ وأن كل مما سواه صادر عنه، فالعقل الأول هو رب كل ما سوى الله عندهم، وكذلك كل عقل هو مبدع ما سواه عندهم، حتى ينتهي الأمر إلى العقل العاشر فهو عندهم مبدع ما تحت الفلك.
ومعلوم أن المسلمين واليهود والنصارى ومشركي العرب وغيرهم لا يجعلون أحداً من دون الله أبدع كل ما تحت السماء، وهؤلاء يجعلون الملائكة التي أخبرت، بها الرسل هي العقول والنفوس التي زعموها، ومنهم من يجعل العقل الأول هو القلم؛ ويجعل النفس هي اللوح، ومنهم من يحتج بالحديث الموضوع:"أول ما خلق الله العقل"(4)، مع أنهم حرَّفوا
(1) يشير إلى ما أخرجه البخاري في (كتاب الزكاة، باب الصدقة قبل الرد) 1/ 42 رقم 1413 وأطرافه رقم 6539، 7443، 7512، ومسلم في (كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة؛ ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار: 2/ 703 رقم 1016 من حديث عدي بن حاتم.
(2)
في (د)(ابدأ) وفي (ح) ابدء.
(3)
كذا في (ف) و (د) وفي الأصل و (ح)(يقول).
(4)
روى الحديث بأسانيده ابن الجوزي في الموضوعات 1/ 174 - 176 ثم قال: وهذا لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى بسنده عن الدارقطني قال: كتاب العقل وضعه أربعة أولهم ميسرة بن عبد ربه، ثم سرقه منه داود بن المحبر فركبه بأسانيد غير أسانيد ميسرة، فسرقه عبد العزيز بن أبي رجاء فركبه بأسانيد أخر، ثم سرقه سليمان بن عيسى السجزي فأتى بأسانيد أخر. أ. هـ.
وقد بيّن وضع الحديث السخاوي في المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، تصحيح عبد الله محمد الصديق وتقديم عبد الوهاب عبد اللطيف ص 118 رقم 233 (طبعة 1375 هـ، الناشر مكتبة الخانجي - مصر ومكتبة المثنى ببغداد - =
لفظه فرووه (1)"أولُ"[بالضم](2)، وإنما لفظه:"أَوَّلَ ما خلق الله العقل، قال له: أقبل فأقبل، ثم قال: له أدبر فأدبر"، وفي لفظ (3):"لما خلق الله العقل قال له ذلك"، فالحديث حجة على نقيض مذهبهم، فكيف وهو موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث، وقد بسطت الكلام على هذه الأمور في مواضع آخر.
وهذا قد يوجد في كلام أبي حامد [و](4) كثير من [متأخري](5) المتصوفة والمتكلمين، أدخلوا (6) في دين الحنفاء من دين المشركين، حتى صنف بعضهم تصنيفاً في ذلك مثل مصنف الرازي في "السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم"(7)، وآخرون صنفوا في الحروف وطبائعها والدعاء بأسماء ذكروها في أوقات (8)، كما صنف [بعضهم في
= العراق)، وجلال الدين السيوطي في اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة 1/ 129 - 130 (الطبعة الثالثة 1401 هـ الناشر دار المعرفة بيروت - لبنان)، والعلجوني في كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث 1/ 236 - 237 رقم 723 (الطبعة الثانية 1351 هـ، الناشر دار إحياء التراث العربي بيروت - لبنان).
(1)
في (د)(فراوه).
(2)
في الأصل (بالظم).
(3)
في (د) لفظه.
(4)
كذا في (ح) وسقطت من الأصل و (ف) و (د).
(5)
كذا في (ف) و (د) وفي الأصل متأخر.
(6)
في (د) أدخلوه.
(7)
ذكر الرازي بعض مباحث هذا الكتاب في كتابه المطالب العالية من اتخاذ القرابين وتعظيم المزارات وسؤال الموتى. انظر: المطالب العالية ص 216، 219، 223، 243، نقلاً عن موقف ابن تيمية من الأشاعرة للمحمود 2/ 667.
(8)
ممن ألف في الحروف محيي الدين ابن عربي وادعى أن لها أسراراً مثل كتاب "السبعة"، و"كتاب البيان والحروف الثلاثة"، وله "رسالة الألف" و"رسالة الميم والواو والنون" وكتاب "الياء" ضمن رسائل ابن عربي طبعة حيدر آباد الهند. انظر: تاريخ فلاسفة الإسلام، تأليف محمد لطفي جمعة ص 259.
وصنف ابن سبعين في علم الحروف والأسماء مثل كتاب "الدرج" و"لسان الفلك الناطقة عن وجه الحقائق"، "ولمحة الحروف" وغيرها. انظر: ابن، سبعين وفلسفته الصوفية تأليف د. أبو الوفا الغنيمي التفتازاني ص 140 - 143 الطبعة الأولى 1973 م، الناشر دار الكتاب اللبناني بيروت - لبنان. وقد ادعى الباطنية أيضاً أن للحروف أسراراً، ذكر اليمني في عقائد الثلاث وسبعين 2/ 532 - 535 طرفاً من أقوالهم فيها ورد عليهم.
دعاء المقبور] (1)، ودعاء المقبور من أعظم الوسائل إلى ذلك.
وقد قدم بعض شيوخ (2) المشرق وتكلم معي في هذا، فبينّت له فساد هذا، فقال: أليس قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور"(3)، فقلت هذا مكذوب باتفاق أهل العلم لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحدٌ من علماء الحديث، وبسبب هذا وأمثاله ظهر مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:"لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضَبٍّ لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن"(4)، وفي الحديث الآخر الصحيح:"لتسلكن أمتي مسالك الأمم قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع، قالوا: يا رسول الله فارس والروم؟ قال: ومن الناس إلا هؤلاء"(5)؟ فاتخاذ القبور مساجد هو من فعل اليهود والنصارى، وأما
(1) بياض في جميع النسخ بمقدار ثلاث كلمات، وفي هامش (ف) مكتوب بياض في الأصل، وما بين المعقوفين يقتضيه السياق، وقد صُنف في دعاء المقبور بعض المؤلفات، قال العلامة سليمان بن عبد الله في التوضيح عن توحيد الخلاق ص 217 - في الكلام على دعاء القبور-: وحتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتاباً سماه مناسك حج مشاهد الأبرار لمن عني عليهم من المقيمين والزوار، وصنف بعضهم كتاباً سماه:"روضة الأبرار في دعوة الأولياء الأخيار في الشدائد المدلهمة الغزار".
(2)
في (د) الشيوخ.
(3)
هذا الحديث موضوع، ذكره العجلوني في كشف الخفاء 1/ 85 وعزاه لابن كمال باشا، وبيّن وضعه ابن القبم في إغاثة اللهفان 1/ 333، ومحمد نسيب الرفاعي في التوصل إلى حقيقة التوسل المشروع والممنوع ص 352، الطبعة الثالثة 1399 هـ وغيرهم.
(4)
أخرجه البخاري في (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لتتبعن سنن من كان قبلكم" 5/ 2285 رقم 7320، ومسلم في كتاب العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى 4/ 2054 رقم 2669، ولفظ الصحيحين: "
…
شبراً بشبراً وذراعاً بذراع
…
"، وأما لفظ: "
…
حذو القذة بالقذة
…
"، فقد أخرجه الإمام أحمد في المسند 4/ 125.
والقذة: أي كل واحدة منهما على قدر صاحبتها. النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير 4/ 28.
(5)
أخرجه البخاري في نفس الكتاب والباب 5/ 2285 رقم 7319، ولفظه:"لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي، بأخذ بالقرون قبلها .. "، ولفظ:"لتسلكن أمتي مسالك" لم أجده إلا في مستدرك الحاكم 1/ 129. ولفظه: "لتسلكن سنن من قبلكم".
الخروج عن الملة بالكلية إلى دعوى الكواكب واتخاذ العلويات وسائط في العبادة كمقالات الفلاسفة؛ فهذا ليس من دين اليهود والنصارى ولا فارس والروم المتنصرة، بل هو (1) من فعل الروم الصابئة والمشركين، كالفلاسفة الذين كانوا بمقدونية (2) وغيرها، وهؤلاء كانوا مشركين إلى أن دخل إليهم دين النصارى، وآخر ملوكهم هو بطليموس (3) صاحب "المجسطي" كان [بعد](4) المسيح عليه السلام بمدة قليلة، وأما أرسطو (5) فإنه كان قبل المسيح بأكثر من [ثلاثمائة](6)، فإنه كان في زمن الإسكندر بن [فيلبس](7) " الذي تؤرخ به
(1) في (ف) هي.
(2)
في (ف) سقط أول الاسم، ومقدونية هي: قطر في أوروبا واقع في شمال اليونان اشتهرت في زمن الإسكندر ومدت نفوذها على جميع بلاد اليونان وممالك شاسعة من آسيا، وهي الآن من اليونان. انظر: دائرة معارف القرن العشرين، تأليف محمد فريد وجدي 9/ 308 ط الرابعة 1386 هـ.
(3)
في (ف) بطلميوس، وهو بطليموس القلوذي صاحب "المجسطي" في الفلك، أصله يوناني، وعاش في الإسكندرية في القرن الثاني بعد الميلاد، وكتابه المجسطي يتكون من ثلاث عشرة مقالة، وأول من عني بتفسيره وأخرجه إلى العربية يحيى بن خالد بن برمك، وقد ذكر غير واحد من مؤرخي العرب أن بطليموس القلوذي صاحب كتاب المجسطي واحداً من ملوك البطالسة، وليس كذلك، فإن آخر ملوكهم يدعى قلوبطره (كيلوباترا). انظر: الفهرست لابن النديم ص 327 تحقيق رضا تجدد، وطبقات الأطباء والحكماء، تأليف ابن جلجل تحقيق فؤاد السيد ص 37 (طبعة المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية)، وحاشية منهاج السنة لابن تيمية 1/ 318، تحقيق د. محمد رشاد سالم، ودائرة معارف القرن العشرين تأليف محمد فريد وجدي 28/ 238.
(4)
كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل يعبد.
(5)
يقال: أرسطاطليس، وأرسطوطاليس، وهو الأقرب إلى الأصل اليوناني، وهو ابن نيقوماخس، وهو أول من وضع التعاليم المنطقية، جعله فيلبس المقدوني أستاذاً لابنه الإسكندر، ولما ولي الإسكندر المملكة كان وزيره، مولده قبل ميلاد المسيح 384 ق. م وله كتب في المنطق والطبيعيات، والإلهيات والأخلاق.
انظر: طبقات الأطباء والحكماء ص 25، وتاريخ الفلسفة اليونانية، تأليف يوسف كرم ص 112 وما بعدها الناشر دار القلم بيروت - لبنان، ودائرة المعارف الإسلامية 1/ 612.
(6)
كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (ثلاث مائة).
(7)
كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (فيليس) بالياء، وهو: الإسكندر بن فيلبس المقدوني، وفي دائرة المعارف الإسلامية اسم أبوه فليب، ولد سنة 356 ق. م، تتلمذ على =
النصارى اليوم، وكان بين المسيح وبين نبينا صلى الله عليه وسلم ستمائة سنة شمسية وستمائة وعشرين قمرية، وكان هذا الإسكندر قبل المسيح بنحو من أربعمائة سنة.
وكانت الصابئة من النبط الذين بالعراق والجزيرة (1)؛ كالبطائح (2) وحران وغيرهما، من الصابئة المشركين من أئمة الفلاسفة، وإبراهيم الخليل بعث إليهم، وفي مولده قولان قيل: بالعراق، وقيل: بحرَّان، وهذا قول أهل الكتاب، وكذلك هو في التوراة التي عندهم (3)، ويقال إن قبر أبيه بسور حران وبها آثار الصابئة، كالهياكل التي للعلة الأولى والعقل والنفس والكواكب، وما زال بها أكابرهم كثابت بن قرة (4) وأمثاله، وقد ذكر
= أرسطو، تولى الملك وله من العمر 20 سنة، حارب الفرس وانتصر عليهم، وهو الذي بنى الإسكندرية بمصر، وإليه تنسب، ودفن فيها، وليس هو ذي القرنين المذكور في القرآن. انظر: تاريخ الطبري 1/ 338 - 340، وكتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار المشهور بالخطط، تأليف تقي الدين أبي العباس المقريزي 1/ 150 طبعة مكتبة المثنى ببغداد سنة 1970 م مصورة عن طبعة بولاق سنة 1294 هـ، وطبقات الأطباء والحكماء ص 26، 28، ودائرة المعارف الإسلامية 2/ 126.
(1)
الجزيرة تقع بن دجلة والفرات مجاورة للشام من أهم مدنها حران والرها والرقة ونصبين وغيرها، فتحها عياض بن غنم سنة 17 هـ. انظر: معجم البلدان 2/ 156 - 157 رقم 3109.
(2)
البطائح جمع بطيحه بالفتح ثم الكسر سميت بطائح واسط لأن المياه تبطحت فيها أي سالت واتسعت في الأرض، وهي أرض واسعة بين واسط والبصرة، كانت قديماً قرى متصلة وأرضاً عامرة، فسال عليها الماء وطرد أهلها. انظر: معجم البلدان 1/ 534 رقم 1998.
(3)
اختلف في مولد إبراهيم عليه السلام، ففي التوراة إشارة إلى أنه ولد في أور الكلدانيين أي بالعراق. انظر: سفر التكوين الإصحاح 11 فقرة 29، وذكر الاختلاف في مولده ابن جرير في تاريخ الأمم والملوك 1/ 142 ولم يرجح، وقال ابن كثير في قصص الأنبياء ص 131: وعندهم -أي في التوراة- إن إبراهيم عليه السلام هو الأوسط، وأن هاران مات في حياة أبيه في أرضه التي ولد فيها، وهي أرض الكلدانيين، يعنون أرض بابل.
وهذا هو الصحيح المشهور عند أهل السير والتواريخ والأخبار، وصحح ذلك الحافظ ابن عساكر. أ. هـ.
(4)
هو ثابت الحراني الفيلسوف، الصابئ، كان يتوقد ذكاء، قيل: إنه منجم المعتضد =
عبد اللطيف بن يوسف (1) أن (2) الفارابي (3) كان قد تعلق بالفلسفة في بلاده فلما دخل حران وجد بها من الصابئة من أحكمها عليه، وابن سينا إنما حذق (4) فيها بما وجده من كتب الفارابي.
فهؤلاء وأتباعهم حقيقة قولهم هو قول الصابئة المشركين الذين هم شر من مشركي العرب، وهؤلاء عند من لا يقبل الجزية إلا من أهل الكتاب؛ لا تؤخذ منهم الجزية؛ إلا أن يدخلوا في دين أهل الكتاب، والناس لهم في تفسير الصابئة وأحكامهم اضطراب كثير ليس هذا موضعه (5)، وسبب ذلك أنهم
= -الخليفة العباسي- لم يكن في زمانه من يماثله في الطب والفلسفة. وحفيده ثابت: ابن سنان، ماتا على ضلالهم.
حدثت له مع أهل مذهبه (الصابئة) أشياء أنكروها عليه في المذهب، فحرم عليه رئيسهم دخول الهيكل. من كتبه:"الذخيرة في علم الطب"، ترجم كثيراً من الكتب إلى العربية، هلك سنة 288 هـ. انظر: السير 13/ 485 ترجمة رقم 232 والأعلام 2/ 98.
(1)
هو موفق الدين أبو محمد عبد اللطيف بن الفقيه يوسف بن محمد الموصلي ثم البغدادي الشافعي، نزل حلب، ويعرف قديماً بابن اللباد، وبابن نقطة، من الفلاسفة، غلب عليه علم الطب والأدب وبرع فيهما، وسمع الحديث والفقه، له "تهذيب كلام أفلاطون" وغيره، مات سنة 629 هـ. انظر: السير 22/ 320 ترجمة رقم 195 والأعلام 61/ 4.
(2)
(أن) سقطت من (د).
(3)
هو أبو نصر، محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ، التركي الفارابي، أخذ المنطق والفلسفة اليونانية وشرحهما لذا يُطلق عليه المعلم الثاني، له تصانيف مثل "آراء أهل المدينة الفاضلة" و"الموسيقى الكبير"، قال الذهبي: "من ابتغى الهدى منها، ضل وحار، ومنها تخرج ابن سينا، هلك سنة 339 هـ. انظر: السير 15/ 416 ترجمة رقم 231 والأعلام 7/ 20.
(4)
في (ف) حذف.
(5)
اختلف العلماء في أخذ الجزية من الصابئة، وذلك لاختلافهم في تعريف الصابئة، فمن جعلهم من أهل الكتاب قال بأخذ الجزية منهم، ومن جعلهم من غير أهل الكتاب لم يقبل منهم الجزية، وتردد بعض العلماء وجعل الفصل فيهم لأهل الكتاب فإن جعلوهم منهم أخذت منهم الجزية وإن كفروهم لم تؤخذ منهم.
وقال آخرون هم أفضل حالاً من المجوس فتقبل منهم الجزية، وفرق آخرون؛ فقالوا: الصابئة فرق فمن كان فيه شبه من أهل الكتاب أخذت منه الجزية، ومن كان من عبدة الكواكب والأوثان لم تقبل منه. =
أنواع مختلفة؛ فكل طائفة تصف النوع الذي عرفته، والفلاسفة لا يجمعهم مذهب ولا يجتمعون على شيء، بل هم أجناس يختلفون كثيراً، ولكن هذه الفلسفة التي يسلكها الفارابي وابن سينا وابن رشد (1)[والسهروردي المقتول](2) ونحوه فلسفة [المشائين](3)، وهي المنقولة عن أرسطو الذين يسمونه المعلم الأول؛ فإن له كتباً متعددة في المنطق وأجزائه، وفي الطبيعيات مثل كتاب:"سمع الكيان"(4) والذي يتكلم فيه على الأجسام كلاماً كلياً، وكتاب "السماء [والعالم] "(5)، وكتاب "الآثار العلوية" وغير ذلك (6)، وأما
= وقد سبق في تعريف الصابئة أنه لم يبق منهم إلا الصابئة المندائيين وهؤلاء فيهم شبه من أهل الكتاب حيث يدعون أن نبيهم يحيى عليه السلام وكتابهم الزبور، فتؤخذ منهم الجزية.
انظر: المغني لابن قدامة 10/ 568 - 569 وبهامشه الشرح الكبير، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/ 434، والموسوعة الفقهية من إصدار وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت 26/ 294 - 299.
(1)
هو أبو الوليد، محمد بن أبي القاسم أحمد ابن شيخ المالكية أبي الوليد بن رشد القرطبي، يلقب بابن رشد الحفيد تميزاً عن جده، برع في الفقه ثم أقبل على علوم الأوائل وعني بكلام أرسطو، له "شرح أرجوزة ابن سينا" في الطب، وكتاب "جوامع كتب أرسطوطاليس"، وغيرها مات محبوساً بداره بمراكش لأجل الفلسفة في أواخر سنة 595 هـ. انظر: السير 21/ 309 ترجمة رقم 164، والأعلام 5/ 318.
(2)
كذا في (ح) وفي الأصل و (ف)(السهروري المقبول) وفي (د)(السهروري المقتول)، وهو شهاب الدين يحيى بن حبش بن أميرك السهرودي، الفيلسوف أفتى فقهاء حلب بكفره، قال: باكتساب النبوة، قال الذهبي:"كان أحمق طياشاً منحلاً"، له كتاب "التلويحات اللوحية والعرشية" و "هياكل النور" وغيرها، قتل على الزندقة في أوائل سنة 587 هـ. انظر: السير 21/ 207 ترجمه رقم 102، والأعلام 8/ 140.
(3)
كذا في (د) و (ح) وفي الأصل، (المتابين) وفي (ف)(المثابين). والمشاؤون هم أتباع أرسطو، وسموا بذلك لأن أرسطو كان يعلم تلاميذه ماشياً، وهم يمشون. انظر: المعجم الفلسفي، تأليف جميل صليبا 2/ 373 باب الميم.
(4)
في (د) الكيسان وفي (ح) الكيسبان.
(5)
كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل والمعالم.
(6)
كتب أرسطو المنطقية هي: "المقولات"، و"العبارة"، و"التحليلات الأولى أو القياس"، و"التحليلات الثانية أو البرهان"، و"الجدل"، و"الأغاليط". =
كلامه في [الإلهيات](1) فقليل جداً وفيه خطأ كثير، وكانوا يسمون ذلك علم (ما بعد)(2) الطبيعة أو علم ما قبل الطبيعة، ويسمونه الفلسفة الأولى والحكمة العليا؛ لكونهم يتكلمون فيه على الأمور الكلية العامة؛ كالوجود وانقسامه إلى جوهر وعرض، وعلة ومعلول، وقديم وحادث، وواجب وممكن، وأما نفس معرفتهم بالله والملائكة وأنبيائه فبعيدة جداً، وقد بسطنا الكلام عليهم في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن ما دخل في هؤلاء من دين الحنفاء الذي بعث الله به (3) رسله فهو أقل مما دخل في الإسلام من دين اليهود والنصارى، ولهذا لم يكن على عهد الصحابة والتابعين من أدخل شيئاً من دين هؤلاء، بل كان يوجد من ينقل عن أهل الكتاب وعلمائهم مثل كعب (4) ووهب (5) ومالك بن دينار (6) ومحمد بن إسحاق (7)، ومثل ما ينقله عبد الله بن
= وأما كتبه الطبيعية: هي "السماع الطبيعي" أو "سمع الكيان"، و"السماء" و"الكون والفساد"، و"الآثار العلوية". انظر: تاريخ الفلسفة اليونانية، تأليف يوسف كرم طبعة دار القلم بيروت ص 115. وقد نُسب إليه كتاب العالم وضم إلى كتاب السماء ولقبا بالسماء والعالم، أنه لا تصح نسبة كتاب العالم له. انظر: المرجع السابق ص 116.
(1)
كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (الهيأة).
(2)
ما بين القوسين سقط من (د).
(3)
(به) سقطت من (د).
(4)
هو كعب بن ماتع الحميري اليماني، كان يهودياً فأسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وقَدِم المدينة في أيام عمر رضي الله عنه فجالس الصحابة وأخذ عنهم السنن، وكان يحدثهم عن الكتب الإسرائيلية، توفي رحمه الله بحمص ذاهباً للغزو في أواخر خلافة عثمان، عن مائة وأربع سنين. انظر: السير 3/ 489 ترجمة رقم 111، والأعلام 5/ 228.
(5)
هو أبو عبد الله وهب بن منبه بن كامل بن سيح الأنباري، اليماني، أخذ عن بعض الصحابة، كابن عباس وغيره، وعلمه في الإسرائيليات، وقد امتحن، وحبس وضرب، لاتهامه بالقدر، ولي قضاء صنعاء، مات سنة 114 هـ، وقيل 113 هـ، انظر: السير 4/ 544 رقم 219، والأعلام 8/ 125.
(6)
هو أبو يحيى مالك بن دينار البصري، سمع من بعض الصحابة، كان أبوه من سبي سجستان، وهو من ثقات التابعين، توفي في البصرة سنة 127 هـ وقيل 130 هـ. انظر: السير 5/ 362 ترجمة رقم 306 والأعلام 5/ 260.
(7)
هو أبو بكر، محمد بن إسحاق بن يسار القرشي المطلبي، مولاهم المدني، =
[عمرو](1) عن الكتب التي أصابها يوم اليرموك، وانما استجاز لهذا؛ لما رواه البخاري في الصحيح عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"بلّغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي فليتبوأ مقعده من النار"(2)، فلما رخص في الحديث عن بني إسرائيل استجاز ذلك عبد الله بن [عمرو] (3) وعبد الله بن عباس وغيرهما؛ لكن لا يأخذون من ذلك ديناً؛ لما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرأون التوراة ثم يفسرونها بالعربية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم"(4)، (وفي لفظ) (5):"فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه، وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه، وقولوا: آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون"(6)، وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا لأنا قد أمرنا أن نؤمن
= وقيل: أبو عبد الله، صاحب السيرة النبوية، كان جده يسار من سبي عين التمر، وهو أول من دوَّن العلم بالمدينة، كان بحراً في العلم، ولكنه ليس بالمجود كما ينبغي، يدلس في حديثه، فأما الصدق؛ فليس بمدفوع عنه، قال الذهبي: ولا ريب أنه حمل ألواناً عن الذمة أي أهل الكتاب. أ. هـ. توفي سنة 152 هـ أو 153 هـ. انظر: السير 7/ 33 ترجمة رقم 15 والأعلام 6/ 28.
(1)
كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل عمر، والصواب ما أثبت أعلاه، فإن عبد الله بن عمرو بن العاص الصحابي المشهور قد اطلع على كتب أهل الكتاب فكان يحدث منها، وليس على إطلاقة، بل كان يحدث في حدود ما فهمه من الإذن كما ذكر المؤلف. انظر: تاريخ ابن جرير 3/ 340، والبداية والنهاية 8/ 259، والتفسير والمفسرون تأليف د. محمد حسين الذهبي، الطبعة الثانية 1396 هـ، الناشر دار الكتب الحديثة - القاهرة 1/ 174.
(2)
أخرجه البخاري في (كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل) رقم 3461، 2/ 1076 بلفظه وزاد: "
…
علي متعمداً"، والشطر الثاني من الحديث عند البخاري في (كتاب العلم، باب أثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم) رقم 107، 1/ 61 بدون لفظه "متعمداً".
(3)
كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل عمر.
(4)
أخرجه البخاري في (كتاب التفسير باب {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} 3/ 1355 رقم 4485 وطرفه رقم 7362، 7542، والإمام أحمد 4/ 136 واللفظ له.
(5)
ما بين القوسين سقط من (ط) وجعل الروايتين حديثاً واحداً، ولم يفصل بينهما.
(6)
أخرجه البخاري في (كتاب الاعتصام، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تسألوا أهل =
بما أنزل إليهم، وقد أخبر الله أنهم يكذبون ويحرفون، فما حدثوا به إذا لم نعلم صدقهم فيه ولا كذبهم؛ لم نكذبه لجواز أن يكون مما أنزل، ولم نصدقه لجواز أن يكون مما كذبوه، ولما كانت تلك الأحاديث الإسرائيليات قد كثرت صار بعض الناس يدخل في بعض خصائصهم، ولم يكن قد ظهر في المسلمين شيء من آثار اليونان والهند، إلى أن عربت بعض كتب هؤلاء وهؤلاء حدث في الناس من التشبه بأولئك ما كان أعظم من التشبه بأهل الكتاب.
حتى آل الأمر إلى دولة العُبيديين؛ وهم ملاحدة في الباطن أخذوا من مذاهب الفلاسفة والمجوس ما خلطوا به أقوال الرافضة، فصار خيار ما يظهرونه من الإسلام دين الرافضة، وأما في الباطن فملاحدة شر من اليهود والنصارى؛ وإلا من لم يصل منهم إلى منتهى دعوتهم فإنه يبقى رافضياً داخل الإسلام، ولهذا قال فيهم العلماء:"ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر المحض"(1)، وهم من أشد الناس تعظيماً للمشاهد ودعوة الكواكب ونحو ذلك من دين المشركين، وأبعد الناس عن تعظيم المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وآثارهم في القاهرة تدل على ذلك (2).
ولقد كنت لما رأيت آثارهم أبين للناس أصل ذلك وحقيقة دينهم، وأنهم من أبرأ الناس في رسول الله صلى الله عليه وسلم ديناً ونسباً، وقد صنف العلماء فيهم وفي أصولهم كتباً نظرية وخبرية (3).
= الكتاب عن شيء) 5/ 2295 رقم 7362 وسبق ذكر أطرافه، قال ابن كثير في التفسير 3/ 416:"انفرد به البخاري"، وقال ابن حجر في الفتح 8/ 216: "زاد في الاعتصام {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} ، وزاد الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان عن محمد بن المثنى عن عثمان بن عمر بهذا الإسناد، وما {أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} .
(1)
قائل هذه العبارة هو أبو حامد الغزالي في فضائح الباطنية ص 25، الطبعة الأولى 1413 هـ، الناشر دار البشير عمان الأردن.
(2)
مثل مسجد الحسين المبني على رأس الحسين المزعوم في القاهرة، وسيأتي الكلام عليه.
(3)
من هذه الكتب: "كشف الأسرار في الرد على الباطنية" الباقلاني ت 403 هـ، =
ومنهم الإسماعيلية من أصحاب دور الدعوة، وأما النصيرية (1) فهم من الغلاة الذين يعتقدون إلهية علي، والغلاة مع أنهم أكفر من اليهود والنصارى؛ فأولئك الإسماعيلية في الباطن أعظم كفراً وإلحاداً منهم، وهذا باب واسع ليس هذا موضعه (2).
وإنما المقصود التنبيه على أنه [بسبب](3) الخروج عن الشريعة في كثير
= و"كشف أسرار الباطنية" تأليف إسماعيل بن علي بن أحمد البستي ت 420 هـ، و"كشف أسرار الباطنية"، تأليف محمد بن مالك بن أبي الفضائل اليماني ت 470 هـ، و"فضائح الباطنية" لأبي حامد الغزالي ت 505 هـ. وانظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 35/ 145 - 161، 35/ 128.
وقال عبد القادر البغدادي في الفرق بين الفرق ص 294: "والذي يصح عندي من دين الباطنية أنهم دهرية زنادقة، يقولون بقدم العالم، وينكرون الرسل والشرائع كلها".
وقد أجمع على كفرهم وضلالهم وكذب نسبهم أهل الإسلام في زمنهم وإلى هذا اليوم، ومن ذلك ما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية 11/ 370 - 371 في أحداث سنة ثنتين وأربعمائة، قال: "وفي ربيع الآخر كتب جماعة من العلماء والقضاة والأشراف، والصالحين والفقهاء والمحدثين محاضر تتضمن الطعن والقدح في نسب الفاطميين وهم ملوك مصر وليسوا كذلك
…
وأن الحاكم وسلفه لا نسب لهم في ولد علي بن أبي طالب، ولا يتعلقون بسبب وأنه منزه عن باطلهم، وأن الذي ادعوه إليه باطل وزور
…
وأن هذا الحاكم بمصر وسلفه كفار فساق فجار، ملحدون زنادقة، معطلون، للإسلام جاحدون، ولمذهب المجوسية الوثنية معتقدون، وقد عطلوا الحدود وأباحوا الفروج، وأحلوا الخمر، وسفكوا الدماء، وسبوا الأنبياء، ولعنوا السلف. وقد كتب خطه في المحضر خلق كثير منهم المرتضى والرضى العلويين" باختصار. وللتوسع. انظر: السير للذهبي 15/ 213، وتاريخ الخلفاء، تأليف جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد ص 4 - 6 (الطبعة الثالثة 1383 هـ، الناشر مطبعة المدني القاهرة - مصر).
(1)
النصيرية: فرقة من غلاة الباطنية، وأرجح الآراء أنهم يُنسبون إلى ابن النصير مولى الحسن العسكري أو من أصحابه وهو من محمد بن نصير البصري النميري المتوفى سنة 260 هـ، وقيل 270 هـ، وعقائدهم كما ذكر المؤلف من تأليه علي واستحلال المحارم، والنصيرية توجد حالياً في شمال سوريا ولبنان وفي لواء أنطاكية واسكندرونة بتركيا، ويرفضون هذه التسمية ويطلقون على أنفسهم العلويين. انظر: مقالات الإسلاميين للأشعري 1/ 83، والملل والنحل 1881، وعقائد الثلاث وسبعين لليمني 2/ 488، ودراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين، تأليف د. أحمد جلى ص 311 - 314.
(2)
انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 35/ 145 - 161.
(3)
كذا في (ف) و (ح) وفي الأصل و (د)(سبب).
من البدع الشركية أفضى الأمر بأقوام إلى أن خرجوا إلى دين المشركين؛ بل المشركين المعطلين، وكثير من الناس لا يعرف هذا؛ يحسب أن هذا هو دين الله لأجل لبس الحق بالباطل، وهذا مما نهى الله عنه وذم به أهل الكتاب؛ حيث قال:{وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)} [البقرة: 42].
الوجه الرابع: أن يقال: الغلاة المشركون هم في الحقيقة بخسوا الرسل ما يستحقونه من التعظيم؛ دون الأمة الوسط أهل التوحيد المتبعين لشريعة الرسل (1)، وبيان (2) ذلك بأمور: منها أن النصارى يقولون: إنهم يعظمون المسيح، وكذلك الغالية في علي والأئمة أو الشيوخ أو غيرهم، وهم في الحقيقة متنقصون (3)[لهم](4)، فإن المسيح عليه السلام أمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له؛ وأخبرهم أنه عبد الله، فهم إذا اتبعوه كان له من الأجر مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء (5)، (كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من دعى إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، من غير أن ينقص [من أجورهم] (6) شيئاً") (7)، [ويكونون](8) سعداء أولياء لله من أهل الجنة (9)، وإذا غلوا فيه واتخذوه ربا انقطع العمل الصالح الذي كان يحصل بتوحيدهم وطاعتهم، وحصل لهم مع ذلك عذاب أليم، وإن كان هو سليماً من العذاب؛ لكن فَوَّتوه الأجر الذي كان يحصل له بتوحيدهم وطاعتهم.
وأما أهل الاستقامة فهم إذا وحَّدوا الله وعبدوه كما شرعته لهم الرسل
(1) في (ف) الرسول.
(2)
في (ف)(بين).
(3)
في (د)(منقصون).
(4)
كذا في (ف) و (د) و (ح) وسقطت من الأصل.
(5)
في (ف) شيئاً من أجورهم، و (وشيء) سقطت من (د).
(6)
ما بين المعقوفين من (ف)، وفي (ح)(شيء من أجورهم) وسقط من الأصل.
(7)
ما بين القوسين سقط من (د)، والحديث أخرجه مسلم في (كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة) 4/ 2060 رقم 2674 واللفظ له.
(8)
كذا في (ف)، وفي الأصل و (د) و (ح) يكونوا.
(9)
في (ف) الجبة.
وأطاعوهم صاروا أولياء لله مستيقنين لثوابه، وحصل للرسول بالذي دعاهم مثل أجورهم، وكان في هذا من التعظيم للرسل ما ليس في طريق الغلاة.
الأمر الثاني: إن أهل التوحيد والسنة يدعون لهم دائماً فينتفعون بذلك الدعاء، وأهل الشرك والبدعة يكلفونهم حوائجهم، [وأين](1) من يحصل بسعيه (2) منفعة لهم؟ إلى من يكلفهم ويؤذيهم بسؤاله؟ واعتبر هذا بحال الصديق الذي كان يعاون الرسول بماله ونفسه ولا يسأله شيئاً، أين منزلته من منزلة من يسأله ويكلفه ولا يعاونه؟.
الأمر الثالث: إن أهل التوحيد والسنة يصدقونهم فيما أخبروا، ويطيعونهم فيما أمروا، ويحفظون ما قالوا؛ ويفهمونه ويعملون به؛ وينفون عنه تحريف الغالين وانتحال [المبطلين](3)؛ وتأويل الجاهلين؛ ويجاهدون من خالفهم؛ ويفعلون ذلك تقرباً إلى الله طلباً للجزاء منه لا منهم، وأهل الجهل والغلو لا يميزون بين ما أمروا به ونهوا عنه، ولا بين ما صح عنهم وما كُذِبَ عليهم، ولا يفهمون حقيقة مرادهم؛ ولا يتحرون طاعتهم ومتابعتهم، بل هم جهال بما أتوا به معظمون لأغراضهم؛ إما لينالوا (4) منهم منفعة، أو ليدفعوا بهم عن أنفسهم مضرة.
فالسدنة الذين عند القبور ونحوهم غرضهم يأكلون أموال الناس بهم، وأتباعهم غرضهم تعظيم أنفسهم عند الناس وأخذ أموالهم لهم، والصادق المحض المتدين منهم غرضه (أنه إذا)(5) سألهم واستغاث بهم في دفع شدة أو طلب حاجة قضوها له، فأي الفريقين أشد تعظيماً أولئك أو هؤلاء؟.
الأمر الرابع: أن أولئك الغلاة المشركين إذا حصل لأحدهم مطلوبه ولو من كافر لم يقبل على الرسول، بل يطلب حاجته من حيث ظن أنها تقضى؛
(1) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل ابن.
(2)
في (ف)(البسعيه).
(3)
كذا في (د) و (ح) وفي الأصل و (ف) المعطلين، وهذه الجملة مقتبسة من مقدمة كتاب الرد على الجهمية، للإمام أحمد بن حنبل ص 85، تحقيق د. عبد الرحمن عميرة.
(4)
في (ف) ليسألوا.
(5)
ما بين القوسين غير واضح في (د).
فتارة يذهب إلى ما يظنه قبر رجل صالح؛ أو يكون فيه قبر أو منافق، وتارة يعلم أنه كافر ومنافق ويذهب إليه، كما يذهب قوم إلى الكنيسة، وإلى مواضع يقال لهم إنها (1) تقبل النذر، فهذا يقع فيه عامتهم.
وأما الأول فيقع فيه خاصتهم، حتى إن بعض أصحابنا المباشرين لقضاء القضاة لما بلغه أني أنهى عن ذلك صار عنده من ذلك شبهة ووسواس؛ لما يعتقده من الحق فيما أذكر؛ ولما عنده من المعارضة لذلك، قال لبعض أصحابنا سرّاً: أنا جربت (2) إجابة الدعاء عند قبر بالقرافة، فقال له ذلك الرجل: فأنا ذاهب معك إليه ليعرف (قبر من هو)(3)؟ فذهبا إليه، فوجدا مكتوباً عليه عبد علي، فعرفوا أنه إما رافضي وإما إسماعيلي.
وكان بالبلد جماعة كثيرون يظنون بالعبيديين (4) أنهم أولياء لله صالحون، فلما [ذكرت](5) لهم أن هؤلاء كانوا [منافقين](6) زنادقة وخيار من فيهم الرافضة، جعلوا يتعجبون، ويقولون: نحن نذهب بالفرس التي بها مغل إلى قبورهم فتُشفى عند قبورهم، فقلت لهم: هذا من أعظم الأدلة على كفرهم، وطلبت طائفة من سياس الخيل، فقلت: أنتم بالشام ومصر إذا أصاب الخيل المغل أين تذهبون [بها](7)؛ فقالوا: في الشام يذهب بها إلى قبور اليهود والنصارى، وإذا كنا في أرض الشمال يذهب بها إلى القبور التي ببلاد الإسماعيلية كالعليقة والمنيقة (8) ونحوهما، وأما في مصر فيذهب بها إلى دير
(1)(أنها) تكررت في (د).
(2)
في (ف) اجرب.
(3)
ما بين القوسين في (ح)(من هو)، وفي (ف)(قبر منه) وفي (د)(ليعرف منه).
(4)
في (ف) و (د) و (ح)(في العبيدين).
(5)
كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (ذكت).
(6)
كذا في (د) و (ح) وفي الأصل و (ف) منافقون، والصواب ما أثبت أعلاه لأنها خبر كان منصوب بالياء.
(7)
في جميع النسخ: بهم وهو تصحيف.
(8)
العليقة والمنيقة: من حصون الباطنية الإسماعيلية في شمال بلاد الشام من أعمال طرابلس، انتزعها منهم بيبرس المملوكي سنة 668 هـ، والعليقة سنة 669 هـ. انظر: صبح الأعشى في صناعة الإنشا، تأليف أبي العباس أحمد بن علي القلقشندي، طبعة مصررة عن =
[هناك](1) للنصارى، ونذهب بها إلى قبور هؤلاء الأشراف، وهم يظنون أن العبيديين شرفاء لما أظهروا أنهم من أهل البيت، فقلت: هل يذهبون بها إلى قبور صالحي المسلمين مثل قبر الليث بن سعد (2) والشافعي وابن القاسم (3) وغير هؤلاء؟ فقالوا: لا، فقلت لأولئك: اسمعوا، إنما يذهبون بها إلى قبور الكفار والمنافقين، وبيّنت لهم سبب ذلك، قلت: لأن هؤلاء يعذبون في قبورهم والبهائم تسمع أصواتهم، كما ثبت في ذلك في الحديث الصحيح (4)، فإذا سمعت ذلك فزعت، فبسبب الرعب الذي حصل لها تنحل بطونها فتروث؛ فإن الفزع يقتضي الإسهال، فيعجبون من ذلك، وهذا المعنى كثيراً ما كنت أذكره للناس، ولا (5) أعلم أن أحداً قاله، ثم وجدته قد ذكره بعض العلماء (6).
= الطبعة الأميرية 4/ 179 - 181، وغلاة الشيعة الباطنية في الشام، تأليف د. يوسف درويش غوانمه ص 33، الطبعة الأولى 1401 هـ، الناشر جمعية عمال المطابع التعاونية عمان - الأردن.
(1)
كذا في (د) و (ح) وفي الأصل و (ف)(هنا)، والمؤلف ألف آخر الكتاب بالشام بعد سنة 714 هـ.
(2)
هو أبو الحارث الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي، مولى خالد بن ثابت بن ظاعن، الإمام الحافظ، عالم الديار المصرية، تولى القضاء فيها، وكان ثقة، كثير الحديث، سخياً له ضيافة، مات سنة 175 هـ. انظر: السير 8/ 136 ترجمة رقم 12، والرحمة الغيثية بالترجمة الليثية للحافظ ابن حجر العسقلاني ص 235 - 265، ضمن مجموعة الرسائل المنيرية، إدارة الطباعة المنيرية سنة 1343 هـ، الناشر مكتبة طيبة الرياض.
(3)
هو أبو عبد الله عبد الرحمن بن القاسم العتقي، صاحب الإمام مالك، كان ذا مال ودنيا، فأنفقها في العلم وله قدم في الورع والتأله، له "المدونة" ستة عشر جزءاً، توفي سنة 191 هـ. انظر: السير 9/ 120 رقم الترجمة 39، والأعلام 3/ 323.
(4)
منه ما أخرجه البخاي في (كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر) رقم 1374، 1/ 408 عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم
…
وأما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس، فيقال: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين".
(5)
في (ف) ولم.
(6)
ذكر المؤلف هذا المعنى في مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 35/ 139 - 140.
والمقصود هنا أن كثيراً من الناس يعظم قبر من يكون في الباطن كافراً ومنافقاً؛ ويكون هذا عنده والرسول (1) من جنس واحد؛ لاعتقاده أن الميت يقضي حاجته إذا كان رجلاً صالحاً، كلا هذين عنده من جنس من يستغيث به، وكم من مشهد يعظمه الناس وهو كذب، بل يقال إنه قبر كافر كالمشهد الذي بسفح جبل لبنان الذي يقال له (2): إنه قبر نوح، [فإن أهل] (3) المعرفة يقولون: إنه قبر بعض العمالقة (4).
وكذلك مشهد الحسين الذي بالقاهرة (5)؛ وقبر أبيّ بن كعب الذي
(1) في (ف) والرسول عنده.
(2)
(له) سقطت من (ف).
(3)
ما بين المعقوفين من (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل فأهل.
(4)
قال ابن كثير في قصص الأنبياء ص 97: روى ابن جرير والأزرقي عن عبد الرحمن بن سابط أو غيره من التابعين مرسلاً أن قبر نوح عليه السلام بالمسجد الحرام، وهذا أقوى وأثبت من الذي يذكره كثير من المتأخرين، من أنه ببلدة بالبقاع تعرف اليوم "بكرك نوح"، وهناك جامع قد بني بسبب ذلك فيما ذكر. أ. هـ. وجزم بكذب هذا المشهد السخاوي في "المقاصد الحسنة" ص 481 (الطبعة الأولى 1399 هـ الناشر دار الكتب العلمية بيروت)، وملا علي القاري في "الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة" تحقيق د. محمد لطفي الصباغ ص 385 (الطبعة الثانية 1406 هـ، الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان)، والزرقاني في "مختصر المقاصد الحسنة للسخاوي"، تحقيق د. محمد لطفي الصباغ طبعة 1401 هـ، الناشر مكتب التربية العربي لدول الخليج.
(5)
اختلف الناس في الموضع الذي دفن فيه رأس الحسين رضي الله عنه على ثلاثة أقوال:
الأول: أن يزيد بن معاوية بعث برأس الحسين إلى عمرو بن سعيد نائبه بالمدينة فدفنه عند أمه أو أخيه الحسن بالبقيع رضي الله عنهما.
الثاني: أن رأس الحسين لم يزل في خزانة يزيد حتى توفي فأُخذ من خزانته فكفن ودفن داخل باب الفراديس من مدينة دمشق.
ومنهم من قال: كفنه وطيبه سليمان بن عبد الملك ودفنه في مقبرة المسلمين، فلما جاء العباسيون نبشوه وأخذوه معهم.
الثالث: أنه دفن مع الجسد في كربلاء وهذا قول الرافضة، ولقال: إن موضع قبر جسد الحسين عُفي أثره حتى لم يطلع عليه أحد.
وقد رجح الإمام القرطبي في التذكرة 2/ 739 القول الأول؛ فقال: "هذا أصح ما قيل في ذلك، ولذلك قال الزبير بن بكار: إن الرأس حُمل إلى المدينة، والزبير أعلم أهل النسب وأفضل العلماء"، وابن تيمية في كتابه مكان رأس الحسين ضمن مجموع الفتاوى 27/ 468 - 469، ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية عن الإمام البخاري في التاريخ أن الرأس حُمل إلى =
بدمشق (1)؛ اتفق العلماء على أنها كذب، ومنهم من قال: هما [قبران](2) لنصرانيين، وكثير من المشاهد متنازع فيها وعندها شياطين تضل بسببها من تضل، ومنهم من يرى في المنام شخصاً يظن أنه المقبور ويكون ذلك شيطاناً تصور بصورته أو بغير صورته، كالشياطين الذين يكونون بالأصنام، وكالشياطين الذين يتمثلون لمن يستغيث بالأصنام والموتى والغائبين، وهذا كثير في زماننا وغيره، مثل أقوام يرصدون بعض التماثيل التي بالبراني بديار مصر بإخميم (3)
= المدينة. انظر: "ناحية من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية" ص 18 ولم أجده في مظانه في كتاب التاريخ الكبير والصغير للبخاري. وقد ذكر الخلاف في مشهد القاهرة السخاوي في المقاصد ص 481، وملا علي القاري في الأسرار المرفوعة ص 385، والزرقاني في مختصر المقاصد ص 222 ومالوا إلى تكذيب المشهد.
وضعّف ابن كثير في البداية والنهاية 8/ 192 بعض رواة القول الثاني وقال: ولم يُنقل عن أحد من أهل العلم أن الرأس حُمل إلى عسقلان ومنه إلى القاهرة، بل أجمعوا على أن المشهد الذي بالقاهرة كذب مختلق، وأن العبيديين أيادوا أن يروجوا بالمشهد ما ادعوه من النسب الشريف. أ. هـ ونقل ابن تيمية في مجموع الفتاوى 27/ 459 عن طائفة من العلماء أن المشهد العسقلاني فيه قبر بعض الحواريين أو غيرهم من أتباع عيسى بن مريم.
وللتوسع. انظر: التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة للإمام القرطبي 2/ 734 - 740، تحقيق د. السيد الجميلي (الناشر دار ابن زيدون بيروت ومكتبة مدبولي القاهرة)، ومكان رأس الحسين لابن تيمية ضمن مجموع الفتاوى 17/ 451، 459، 483 - 486، والسير للذهبي 3/ 319، والبداية والنهاية لابن كثير 8/ 192 - 193، والأعلام 2/ 243.
(1)
في (ف) في دمشق. وقد اتفق أهل العلم على أن وفاة أبيّ بن كعب "كانت بالمدينة في آخر خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنهما. انظر: السير 1/ 398، والأعلام 1/ 82 وزاد ابن تيمية في مكان رأس الحسين ضمن مجموع الفتاوى 27/ 460 أن أُبياً لم يقدم دمشق. أ. هـ.
وقال ياقوت الحموي في معجم البلدان 2/ 533 في التعريف بدمشق: وفي شرقي البلد قبر عبد الله بن مسعود وأبيّ بن كعب، وهذه القبور هكذا يزعمون فيها، والأصح الأعرف الذي دلت عليه الأخبار أن أكثر هؤلاء بالمدينة مشهورة قبورهم هناك. أ. هـ.
وبهذا جزم السخاوي في المقاصد الحسنة ص 481، والملا علي القاري في الأسرار المرفوعة ص 385، والزرقاني في مختصر المقاصد الحسنة ص 222.
(2)
كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (قبراني).
(3)
في معجم البلدان البرابي، وإخميم بالكسر ثم السكون، وكسر الميم، وياء ساكنة، وميم أخرى: بلد بالصعيد، وهو بلد قديم على شاطئ النيل بمصر، وفي غربيه جبل صغير، ومن أصغى إليه بإذنه سمع خرير الماء، ولغطاً شبيهاً بكلام الآدميين لا يدري ما =
وغيرها، يرصدون التماثيل (1)[مدة](2) لا يتطهرون طهر المسلمين ولا يصلّون صلاة المسلمين ولا يقرأون؛ حتى يتعلق الشيطان تلك الصورة فيراها تتحرك فيضع فيها [شمعة](3) أو غيرها، فيرى شيطاناً قد خرج له فيسجد لذلك الشيطان حتى يقضي بعض حوائجه، وقد يمكّنه من فعل الفاحشة به حتى يقضي بعض حوائجه.
ومثل هؤلاء كثير في شيوخ الترك الكفار، [يسمونه](4) البوى (5) وهو المخنث إذا طلبوا منه بعض هذه الأمور؛ أرسلوا له من ينكحه؛ [وينصبون](6) له حركات عالية في ليلة ظلماء؛ وقربوا له خبزاً وميتة؛ وغنوا غناء يناسبه، بشرط أن لا يكون عندهم من يذكر الله، ولا هناك شيء فيه شيء من ذكر الله، ثم يصعد ذلك الشيخ المفعول به في [الهواء](7) ويرون الدف يطير في [الهواء](8) ويضرب من مد يده إلى الخبز، ويضرب الشيطان بآلات اللهو وهم يسمعون، ويغني لهم الأغاني التي كانت تغنيها (9) آباؤهم الكفار، ثم قد يغيب ذلك الطعام فيرونه وقد نُقل إلى بيت البوى (10)، وقد لا يغيب ويقربون له ميتة يحرقونها بالنار، ويقضي بعض حوائجهم، ومثل هذا كثير جداً للمشركين.
= هو؟، وبإخميم عجائب كثيرة قديمة منها البرابي (هكذا في المعجم) والبرابي أبنية عجيبة فيها تماثيل وصور، واختلف في بانيها، وفي جدران البرابي صور للآدميين وحيوان، منها ما يعرف، وما لا يعرف. انظر: معجم البلدان 1/ 150 - 151 رقم 331.
(1)
في (ف) التمثال.
(2)
كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (مذة) بالذال.
(3)
كذا في (ف)، وفي الأصل و (د) و (ح) سمعه.
(4)
كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (فيسمونه).
(5)
في (د) و (ح) البودي، وقد ذكره المؤلف في مجموع الفتاوى 35/ 112، فقال عن شيوخ الصوفية الذين لهم أحوال شيطانية:"يقال لأحدهم: "البوى" أي المخنث. أ. هـ. ثم ذكر ما ذكر عنه هنا.
(6)
كذا في (ف) وفي الأصل و (د) وينصبوا بحذف النون، والصواب بإثباتها.
(7)
كذا في (ح)، وفي الأصل و (ف) و (د) الهوى.
(8)
كذا في (ح)، وفي الأصل و (ف) و (د) الهوى.
(9)
في (د) و (ح) غنى.
(10)
في (د) و (ح) البودي.
فالذي يجري عند المشاهد من جنس ما يجري عند الأصنام، وكثير من المشاهد كذب وكثير منها مشكوك فيه؛ وسبب ذلك أن معرفة المشاهد ليس (1) من الدين الذي تكفّل الله بحفظه للأمة لعدم حاجتهم إلى معرفة ذلك.
والمقصود أن هؤلاء يؤول بهم الأمر إلى أن يسووا بين الأنبياء وغير الأنبياء، بل بين الأنبياء والكفار، ويطلبون من هذا ما (2) يطلبون من هذا، فأي الفريقين أشد تعظيماً للأنبياء؟ هؤلاء أو من يوجب تعظيمهم واتباع شريعتهم، ويفرق بين الحق الذي جاؤوا به وبين غيرهم؛ ولا ينزل أحداً منزلتهم، ولا يشبه بهم من ليس منهم.
فصل
قال: (وهذا الرجل المبتدع يأتي (بالألفاظ التي)(3) هي عين التنقيص بسوء فهمه، ويحتج لها جهلاً أو عناداً بألفاظ التنزيه تمويهاً منه أو جهلاً، فقول أبي يزيد (4): استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق الغريق -إن صح تنزيهه (5) للباري- على أن غير هذه العبارة خير منها، وإن كنا نعلم أن المراد بها هو المراد بقول القائل: لا يستغاث إلا بالله، ولا يفرج الكربة إلا الله).
الجواب من وجوه: أحدها: أن يقال: المبتدع من شرع ديناً لم يأذن به الله، لا من أمر بما أمر الله به ونهى عما نهى الله عنه، ومن أعظم المبتدعين من جوّز أن (6) يستغاث بالمخلوق الحي والميت في كل ما يستغاث فيه بالله عز وجل بل من جوز أن يسأل الميت ويدعي على أي وجه كان، بل من حمل ألفاظ الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم[على أن](7) المراد بها التوسل به،
(1) في (ف) ليست.
(2)
في (ف) من.
(3)
في (ف)(بألفاظ التي) وفي (د) و (ح)(بألفاظ).
(4)
مصححة في الأصل، وغير منقوطة في (ف) وهو أبو يزيد البسطامي سبق التعريف.
(5)
في (ف) تنزيه.
(6)
(أن) تكررت في الأصل.
(7)
ما بين المعقوفين من (ت)، وهو مما يقتضيه السياق، وفي هامش (ح) لعله (على أن)، وسقط من الأصل و (ف) و (د).
وجعل توسل الصحابة هو توسلهم بذاته أو الإقسام به على الله -تعالى-؛ ولم يعلم أن المراد بها التوسل بشفاعته،
ومن أعظم المبتدعين من جعل التوحيد كفراً والشرك إيماناً، وكفر من هم أحق بالإيمان من طائفته، ونفي الكفر عن طائفته الذين هم أحق بالكفر ممن كفروه.
الثاني: أن يقال دعواه أن الألفاظ التي ذكرت [هي](1) عين التنقيص، قد بُين أنه من أعظم الكذب، وأن التنقيص والشرك لما ذكره ألزم، وأن المدعي أن هذا تنقيص كذب (2) بإتفاق المسلمين، فإنه قد علم بالاضطرار من دين المسلمين أن مثل هذا الكلام لا يحكم على صاحبه بالتنقيص [ولا بالكفر](3) ولا بما هذا الكلام أحسن منه.
الثالث: إن قول المجيب ليس (4) هو قوله وحده؛ بل [هو](5) قول جميع أئمة الدين وعلماء المسلمين، فليس في علماء المسلمين من يقول: إنه يستغاث بالمخلوق في كل ما يستغاث الله فيه، ولا من يقول: إن الميت يستغاث به في كل ما يستغاث بالله فيه، بل قول القائل: إن الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله لا تطلب إلا منه، متفق عليه بين علماء المسلمين، وما علمت إلى ساعتي هذه أحداً من علماء المسلمين الذين يستحقون الإفتاء نازع في هذا، بل ثبت عندي عن عامة من بلغني كلامه من [العلماء](6) الموافقة على هذا، وإنما عرف نزاع بعضهم في السؤال به، وأما الشيوخ الذين يسألون الميت فهؤلاء ليس فيهم أحد ممن يرجع المسلمون إلى فتياه، وإنما فعلوا نظيره، والفقيه قد يفعل شيئاً على
(1) كذا في (د) وسقطت من الأصل و (ف) و (ح).
(2)
في (ف) كاذب.
(3)
بياض في جميع النسخ بمقدار كلمتين، وفي هامش الأصل و (ف) و (د)(بياض في الأصل) وما بين المعقوفين مما يقتضيه السياق وقد حكم بهما البكري للمؤلف.
(4)
سقطت من (ف).
(5)
كذا في (د) وسقطت من الأصل و (ف) و (ح).
(6)
كذا في (ح) وهامش الأصل، وفي الأصل و (د) علماء، وفي هامش (ف)(المسلمين)، وسبق نقل المؤلف لإجماع العلماء في مصر في عصره على موافقته.
العادة، [وإذا] (1) قيل له: هذا من الدين لم يمكنه أن (2) يقول ذلك، ولهذا قال بعض السلف:"لا تنظر إلى عمل الفقيه ولكن سله يصدقك".
فصل
قال: (وأما قول هذا المبتدع لا يستغات بالرسول فإنه كفر، لأنه لفظ يقتضي سلب صلاحية الرسول لأن يكون وسيلة إلى الله -تعالى- في طلب الإغاثة، وهذا نفي لوصف من أوصاف الكمال الثابت له صلى الله عليه وسلم.
أرأيت رجلين قال أحدهما: لا ضار ولا نافع إلا الله يشير إلى التوحيد، وقال الآخر: إن الرسول لا يضر ولا ينفع، وقال الأول: إن الله السميع العليم إشارة للحقائق التي حصرها الرب -سبحانه- في نفسه بهذا الكلام، وقال الآخر: إن الرسول لا يسمع ولا يعلم، أكان يشك مسلم في أن الأول موحد والثاني كافر منقص ولا ينفعه تأويله).
والجواب من وجوه أحدها: أن (3) ما ذكرته افتراء، فإن أحداً لم يخص الرسول بهذا النفي لا خطاباً ولا كتاباً، ولا نفي كل ما يسمى استغاثة، فلا النفي عام ولا المنفى عنه مخصوص، وأنت [ادعيت](4) هذا وهذا على المجيب؛ وكلاهما (5) كذب، وجواب السؤال ينطق بخلاف هذين، وقد بيّن فيه أن (6)[ما لا يقدر عليه إلا الله فلا](7) يطلب من مخلوق لا الرسول ولا غيره، وحينئذٍ فهذا التفصيل أبين من النفي المطلق الذي قاله أبو يزيد وغيره من المسلمين، فإذا كان ذلك سائغاً فهذا أولى.
(1) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (فإذا).
(2)
في الأصل مكتوب فوقها لعل (إلا).
(3)
سقطت من (ف).
(4)
كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل الدعيت.
(5)
في (ف) وكلامهما.
(6)
في (ف) تنطق.
(7)
بياض في جميع النسخ، بمقدار ثلاث كلمات في الأصل و (ف)، وأربع في (د)، وما بين المعقوفين من جواب شيخ الإسلام على سؤال الاستغاثة والذي سبق ذكره كاملاً، وهو ما يقتضيه السياق.
الثاني: [أنه تقدم](1) أن المخصص بالذكر إذا كان لتحقيق (2) العموم كان ذلك تعظيماً للمخصوص بالذكر، فإذا قيل: لا يعبد إلا الله لا الأنبياء ولا غيرهم، ولا يستغاث بمخلوق لا الأنبياء ولا غيرهم ونحو ذلك، كان هذا تعظيماً للرسول وتبييناً أنه لا أحد أرفع منه من الخلق، وخصائص الرب عز وجل منتفية (3) عنه وعن غيره بطريق الأولى، وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم:"لو كنت متخذاً من أهل (4) الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم خليل الله"، وفي رواية:"إني أبرأ إلى كل خليل من خلته"(5) فبيّن أن خلة المخلوقين منتفية (6) عن كل أحد حتى عن الصديق وهو أحق بها لو كانت ممكنة، ولو خص بالذكر لفظاً في سياق يفهم منه العموم كان حسناً كقوله [تعالى] (7):{وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا} (8)[آل عمران: 80].
وكذلك إذا كان سبب التخصيص حاجة المستمع إما لسؤاله عن ذلك؛ وإما لحاجته إليه، كقوله تعالى:{لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ} [النساء: 172]، وكقوله (9):{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ} (10)[المائدة: 75]، فإن الحاجة داعية إلى ذكر المسيح لوقوع النزاع فيه.
فلو تنازع اثنان هل يخص النبي بالحلف به دون سائر الأنبياء؟ فقال أحدهما: لا يحلف به، لم يكن هذا تنقيصاً؛ بل هذا هو قول الجمهور وهو الصواب، وكذلك إذا تنازع اثنان هل يخص بالاستغاثة به أو بالإقسام على الله
(1) ما بين المعقوفين من (ح) وفي الأصل و (ف) و (د)(أن يقدم)، وما أُثبت أعلاه هو الصواب لأنه تقدم ذكر ذلك.
(2)
في (د) التحقيق.
(3)
في (ف) منفية.
(4)
(أهل) سقطت من (ف).
(5)
أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب الخوخة والممر في المسجد) 1/ 162 رقم 466، ومسلم في (كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أبي بكر الصديق) 4/ 1855 رقم 2383 بروايات متعددة، واللفظ لمسلم.
(6)
في (ف) منفيه.
(7)
كذا في (د) و (ح) وسقطت من الأصل و (ف).
(8)
في (ف) تكملة الآية: {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} .
(9)
في (ف) قوله بدون كاف.
(10)
في (ف) تكملة الآية: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} .
به بعد موته؟ فقال أحدهما: لا يستغاث ولا يقسم به، فإن هذا ليس من خصائصه لكان من هذا الباب.
الثالث: قوله عن أبي يزيد: غير هذه العبارة خير منها، قول باطل، فإن
ما قال أبو يزيد -رحمة الله عليه- تلقاه الناس بالقبول، وقال (1) بعده أبو
عبد الله القرشي قال: "استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون
بالمسجون"، وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا
استعنت فاستعن بالله"، وقوله لطائفة من أصحابه: "لا تسألوا الناس شيئاً"، ومنه قوله تعالى: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 8]، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في صفة السبعين ألفاً: "هم الذين لا يكتوون ولا يتطيرون ولا يسترقون"، فالاسترقاء طلب الرقية من المخلوق.
وكأنه يقول: هذا فيه جعل المخلوقين كلهم مثل الغريق؛ ويدخل في ذلك الأنبياء وغيرهم، وفي الناس من يمكنه إغاثة غيره، فيقال: أبو يزيد أراد -والله أعلم- الاستغاثة المطلقة التي لا تصح إلا بالله، وهو أن يطلب من المخلوق ما لا يقدر عليه إلا الله، كإزالة المرض والانتصار على العدو وهداية القلب، وهذا القدر يمكن المسؤول أن يتسبب فيه؛ أن يدعو الله له ويجيب الله دعاءه، كما أنه [قد](2) يمكن بعض الغرقى أن يمسك غيره ويخلصه إذا كان فيه قوة على ذلك، وإن كان أراد كل ما يسمى استغاثة بحيث لا يُطلب من [المخلوق شيء](3)، فهذا كقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يسترقون"، وقوله:"إذا سألت فاسأل الله".
وحينئذٍ فالمسؤول كائن من كان لا يفعل شيئاً إلا بمشيئة الله وقدرته، فهو أحوج إلى معونة [الله](4) من الغريق إلى من يخلصه، فإن الغريق غايته أن يموت؛ وهذا إن لم يغثه الله لم يفعل شيئاً قط بل هلك، فافتقار الخلق إلى
(1) في (ف) قاله.
(2)
كذا في (ف) و (د) و (ح)، وسقطت من الأصل.
(3)
كذا في (ح)، وفي الأصل (المخلق شيئاً)، وفي (ف) و (د)(المخلوق شيئاً)، والصواب ما أثبت أعلاه لأن شيئاً نائب الفاعل.
(4)
كذا في (ح)، وسقطت من الأصل و (ف) و (د).
الخالق [أعظم](1) من افتقار الغريق إلى المنقذ، والمسجون إلى من يرسله، ولهذا قيل: استغاثة المخلوق بالمخلوق أبلغ من هذا، كالاستغاثة بالمعدوم.
الرابع: قوله: وإن كنا نعلم أن المراد بها، المراد بقول القائل: لا يستغاث إلا بالله، ولا يفرج الكربة إلا الله، فيقال: هذا يقتضي تصويب هذا النافي، وعلى قولك لا يكون هذا النفي صواباً؛ لأنك قلت: إنه يستغاث بالمخلوق في كل ما يستغاث فيه بالله، وحينئذٍ فهذا الإثبات يناقض ذلك السلب العام، وقد تقدم (أن دعواه أن المثبت)(2) هو عين المنفي في كلام الله ورسوله خطأ، بل ما نفاه الرب عن غيره لم يثبته له، والمنفي عن المخلوق ما اختص الرب به، وكذلك قول أبي يزيد وغيره.
وأما على ما ادعاه فالاستغاثة بالمخلوق عامة في كل شيء؛ فلا يكون شيء من الأشياء [لا](3) يجوز أن يستغاث بالمخلوق فيه، فلا تنفى الاستغاثة عن (4) غير الله، إذا كانت ثابته للمخلوق في كل شيء؛ إلا أن يقال المنفي هو الاستغاثة الكاملة أو التي يستقل بها المغيث (5)، كما يقال: لا موجود إلا الله -تعالى-، فيقال: وهذه العبارة لا موجود إلا الله، ليست عبارة منقولة عن السلف والأئمة (6).
والنافي إذا أراد بالنفي الكمال مع القرينة جاز ذلك، كما يقال: لا عالم إلا فلان، ولا حاكم إلا فلان، ومنه قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} إلى قوله (7): {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2 - 4].
وقد بيّنا في غير هذا الموضع (8) أن الله ورسوله لم [ينفيا](9) اسماً من
(1) كذا في (ف) و (د) و (ح) وسقطت من الأصل.
(2)
ما بين القوسين سقط من (ف).
(3)
كذا في (ح) وسقطت من الأصل و (ف) و (د).
(4)
في (ف) من.
(5)
في (ف) المستغيث.
(6)
يجوز الإخبار بهذه العبارة عن الله عز وجل، ولا يسمى بها سبحانه. انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 6/ 142؛ وبدائع الفوائد لابن القيم 1/ 76.
(7)
تكملة الآيات: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} .
(8)
انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 22/ 530 - 532، 19/ 291 - 292.
(9)
كذا في (د) و (ف)، وفي الأصل (لم ينفوا)، وفي (ح)(يُنفى).
مسمًّى شرعي إلا لانتفاء بعض ما يجب فيه؛ لا [ينتفى](1)(لانتفاء)(2) الكمال المتسحب، بل [و](3) لا بانتفاء (4) الكمال الواجب، كقوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات: 15]، ونظائرها في القرآن، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا صلاة إلا بأم القرآن"(5)، وأما قوله:"لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه"(6)، وقوله:"لا صلاة لجار المسجد إلا [في] (7) المسجد"(8)،
(1) كذا في (ف) و (د)، وفي الأصل (ينفوا) وفي (ح)(يُنفى).
(2)
في (ف) إلا بانتفاء.
(3)
كذا في (ف) و (د) و (ح)، وسقطت (الواو) من الأصل.
(4)
في (ف)(ينفي) وفي (د)(بنفي).
(5)
أخرجه البخاري في (كتاب الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها) 1/ 234 رقم 765، ومسلم في (كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة) ج 295 رقم 394، وأخرجه غيرهم، بلفظ قريب من لفظ المؤلف.
(6)
أخرجه أبو داود في (كتاب الطهارة، باب في التسمية على الوضوء) 1/ 60 رقم الحديث 101 (ط. عزت الدعاس)، والترمذي في (كتاب الطهارة، باب ما جاء في التسمية عند الوضوء) رقم 25، 1/ 37 قال أبو عيسى: قال أحمد بن حنبل: "لا أعلم في هذا الباب حديثاً له إسناد جيد"، قال محمد بن إسماعيل:"أحسن شيء في هذا الباب حديث رباح بن عبد الرحمن -يعني هذا الحديث-"، وابن ماجه في (أبواب الطهارة، باب ما جاء في التسمية في الوضوء) رقم 413، 1/ 78، والدارمي في (كتاب الوضوء والصلاة، باب التسمية في الوضوء) رقم 697، 1/ 141 واللفظ له.
(7)
كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (بالمسجد) بالباء.
(8)
أخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 246 وسكت عنه، وعبد الرزاق في المصنف 1/ 497 رقم 1915، والبيهقي في السنن الكبرى 13/ 111 في (كتاب الصلاة، باب المأموم يصلي خارج المسجد) عن علي وأبي هريرة مرفوعاً، والدارقطني في السنن 1/ 420 (باب الحث لجار المسجد على الصلاة فيه) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقد ضعف بعض طرق الحديث أبو الطيب محمد شمس الحق في التعليق المغني على الدارقطني بهامش سنن الدارقطني تصحيح عبد الله هاشم يماني المدني (طبعة دار المحاسن للطباعة القاهرة - مصر) 1/ 422، وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى 22/ 531 "وهذا اللفظ قد قيل: إنه لا يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر عبد الحق الإشبيلي: أنه رواه بإسناد كلهم ثقات (هكذا في الأصل)، وبكل حال فهو مأثور عن علي، ولكن نظيره في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من سمع
…
"، وضعفه ابن حجر في فتح الباري 1/ 579، وقال العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/ 217 رقم 183: الحديث ضعيف لا حجة فيه. أ. هـ.
وقوله: "من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة له"(1)، فهذه الأحاديث قد اختلف في صحتها، واختلف في نفي الكمال بها في مذهب أحمد وغيره، فإن قيل: إنها صحيحة وجب العمل بموجبها، وكذلك قوله:"لا صيام لمن لم يبيِّت الصيام من الليل"(2)، قد اختلف في صحته، فليس شي هذا الباب حديث صحيح، اتفق العلماء على أن المراد به نفي الكمال المستحب.
وقول القائل: لا يستغاث إلا بالله [ولا يسأل إلا الله](3) ونحو ذلك فليس هو نفياً لمسمًّى شرعي؛ بل لغوي وهو نفيٌ معناه النهي، كقوله [لا يستعان](4) إلا بالله، ولا [يسأل](5) إلا الله ونحو ذلك، وهذا النهي عام في كل شيء؛ لكن النهي في أكثره نهي تحريم؛ وبعضه نهي تنزيه، [والأولى](6) للإنسان أن لا يسأل أحداً إلا الله، كما وصى النبي صلى الله عليه وسلم طائفة من أصحابه بذلك، وهو نهي تحريم فيما لا يقدر عليه إلا الله وغير ذلك، وهو أيضاً نهي تحريم إذا طلب من المخلوق تمام مطلوبه، فإن مطلوبه لا يقدر عليه إلا الله،
(1) أخرجه أبو داود في (كتاب الصلاة، باب في التشديد في ترك الجماعة) رقم 551، 1/ 374، وابن ماجه في (أبواب المساجد، باب التغليظ في التخلف عن الجماعة) رقم 777، 1/ 142 ولفظه: "
…
فلم يأته .... "، والحاكم في المستدرك 1/ 246 كتاب الصلاة واللفظ له، وصححه ووافقه الذهبي، قال العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/ 218 أخرجه أبو داود وابن ماجه والدارقطني والحاكم والبيهقي وسند ابن ماجه صحيح، وقد صححه النووي والعسقلاني والذهبي ومن قبلهم الحاكم. أ. هـ.
(2)
أخرجه النسائي في (كتاب الصيام، باب ذكر اختلاف الناقلين لخبر حفصة) 4/ 196 رقم 2329، 2330، والترمذي في (كتاب الصوم، باب ما جاء لا صيام لمن لم يعزم من الليل) 3/ 108 رقم 730، وأبو داود في (كتاب الصيام، باب النية في الصيام) 2/ 823 رقم 2454، وابن ماجه في (أبواب الصيام، باب ما جاء في فرض الصوم من الليل) 1/ 331 رقم 1702، وأحمد في المسند 6/ 287، قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى 7/ 34:"قد رواه أهل السنن وقيل إن رفعه لم يصح، وإنما يصح موقوفاً على ابن عمر أو حفصة".
(3)
ما بين المعقوفين من (ح) وفي (د)(لا يسأل إلا بالله) بزيادة باء في لفظ الجلالة، وسقط من الأصل و (ف).
(4)
كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (يستغاث).
(5)
كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (سأل).
(6)
بياض في جميع النسخ بمقدار ثلاث كلمات في الأصل و (ف) و (د)، (ح)
بمقدار كلمتين، وفي هامش (ف) و (د) بياض في الأصل، وما بين المعقوفين، يقتضيه السياق.
وإنما يقدر المخلوق على بعض أسباب مخلوقة، وبهذا وجب على العبد أن لا يتوكل إلا على الله، فإنه لا يقدر غير الله على حصول مطلوبه، إذ مطلوبه وإن كان له أسباب فالمخلوق المعين؛ إنما يقدر عليس بعض أسبابه، ثم ذلك المخلوق لا يفعل شيئاً إلا بمشيئة الله وقدرته.
الخامس: قوله: (وأما قول هذا المبتدع لا يستغاث بالرسول فإنه كفر .. إلى آخره).
فيقال له أولاً: ليس هذا قوله، فإنه لا ينفي عنه أن يستغاث به فيما يليق بمنصبه، بل قد صرح بجواز ذلك أيضاً، فإنه لا يخصُّ الرسول لا بالذكر ولا [بالنفي](1)، بل إنما قيل هذا على سبيل العموم؛ وهو أنه (2) لا يستغاث بميت أصلاً لا الرسول ولا غيره، ولا يستغاث بمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الخالق.
ويقال ثانياً: دعواك أن هذا التخصيص كفر، أحق بأن يكون كفراً؛ بل يقال لك: لا نسلم أنه باطل فضلاً عن أن يكون كفراً، وهذا عند [التخصيص] (3) إذا قال: لا يستغاث به بعد موته ونحو ذلك، بمنزلة أن يقال: لا يُسأل ولا يدعى بعد موته، أو لا يصلى على الرسول عند الذبح (4)، أو لا تجب الصلاة على الرسول في الصلاة (5) ونحو ذلك من العبارات النافية
(1) ما بين المعقوفين. بياض في جميع النسخ بمقدار كلمه وفي هامش (ف) بياض في الأصل، وقد سبق معان قريبة من هذا.
(2)
في (ف) أن.
(3)
كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل (المخصص)، وفي (ف)(المتخصص).
(4)
اختلف العلماء، فقال الجمهور: لا تشرع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند الذبح، ومذهب الإمام مالك والمنصوص عن الإمام أحمد كراهته وأقوى أدلتهم أن هذا الموطن يفرد بذكر الله -تعالى-، كما ورد في سنة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده في الذبح.
وقال الإمام الشافعي: يستحب ذلك، واستأنس بقول الله -تعالى-:{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)} [الشرح: 4]، أي لا أُذكر إلا ذكرت معي.
والراجح قول الجمهور اتباعاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الذبح. المغني وبهامشه الشرح الكبير 11/ 5، وتفسير ابن كثير 3/ 515، وتلخيص الاستغاثة ص 151.
(5)
خلاف العلماء في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير على ثلاثة أقوال:
الأول: ذهب بعض أهل العلم إلى أنها واجبة وهي ركن من أركان الصلاة، من لم =
[لبعض الأمور](1) عن الرسول، وقد يكون اللفظ مطلقاً لتقييده بسؤال السائل، مثل أن يقال: هل يصلى عليه عند الذبح؟ فيقال: لا يصلى عليه، ويقال: هل يستغاث به بعد موته وفي (2) مغيبه؟ فيقال: لا يستغاث به.
لكن إن كان المستمع يفهم من هذه العبارة أنه لا يسأل في حياته شيئاً ولا يستشفع به، بمعنى أنه ليس أهلاً لذلك، لم يجز إطلاق هذه العبارة إذا عنى بها المتكلم معنى صحيحاً وهو يعلم أن المستمع يفهم منها معنًى فاسداً؛ لم يكن له أن يطلقها لما فيه من التلبيس، إذ المقصود من الكلام البيان دون التلبيس، إلا حيث يجوز التعريض خاصة، وليس هذا موضع تعريض، ولو قدر أن مطلقاً أطلقها وكنى بها معنى صحيحاً، والمستمع فهم منها الكفر؛ لم يكفر المتكلم بذلك، لا سيما إذا لم يعلم أن المستمع يفهم المعنى الفاسد.
وكلام الله ورسوله وكلام العلماء مملوء بما يفهم الناس منه معنًى فاسداً، فكان العيب في فهم الفاهم لا في كلام المتكلم الذي يخاطب جنس الناس، كالمصنف لكتاب أو الخطب (3) على المنبر ونحو هؤلاء، فإن هؤلاء لا يكلفون أن يأتوا بعبارة لا يفهم منها مستمع ما معنًى ناقصاً، فإن ذلك لا
= يأت بها بطلت صلاته، وفرق بعض هؤلاء بين العمد والنسيان.
الثاني: أنها واجبة ومن فروض الصلاة، وهو مذهب الشافعية، والصحيح في المذهب عند الحنابلة وغيرهم، واختلف هؤلاء في القدر الواجب، فقال طائفة: الواجب هو اللهم صل على محمد، والزيادة مندوبة، وذهب الآخرون إلى أن ذلك واجب إلى قوله: إنك حميد مجيد.
الثالث: أنها مندوبة، وذهب إليه جماهير العلماء من السلف والخلف، حتى نقل الطبري والطحاوي الإجماع على ذلك، ولا تصح دعوى الإجماع.
والراجح -والله أعلم- أن الواجب هو: اللهم صل على محمد، والزيادة مندوبة.
انظر: المغني وبهامشه الشرح الكبير 1/ 577 - 578، والجامع لأحكام القرآن 14/ 235 - 236، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/ 508، وفتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي المملكة سابقاً، جمع وترتيب محمد بن عبد الرحمن بن قاسم 2/ 221 - 222، الطبعة الأولى 1399 هـ، بمطبعة الحكومة بمكة المكرمة.
(1)
بياض في جميع النسخ، بمقدار كلمتين في الأصل و (ف) و (د) وفي (ح) بمقدار كلمة، وفي هامش الأصل و (ف) و (د) بياض في الأصل، وما بين المعقوفين يقتضيه السياق.
(2)
(وفي) سقطت من (ف).
(3)
كذا في جمع النسخ، وفي (ط) الخطيب.
يكون إلا إذا علم مقدار فهم كل من يسمع كلامه ويقرأ كتابه، وهذا ليس في طاقة بشر، والله -تعالى- ما أرسل رسولاً إلا بلسان قومه ليبيّن لهم، فما (1) يمكن بيان الرسول إلا على طريقة اللغة المعروفة، وإن وقع خطأ في فهم بعض الناس، والله -تعالى- أنزل كتابه بلسان الرب، وهو لا بد أن ينزله بلسان من الألسنة، وأكمل الألسنة لسان العرب، وأكمل البلاغة بلاغة القرآن باتفاق أهل العلم بذلك.
وقد غلط في كثير من فهم القرآن، من لا يحصيه إلا الله، حتى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فهم طائفة من قوله:{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] أن المراد به الخيوط التي هي من جنس الحبال (2)، وفهم بعضهم من قوله:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] أن المراد دخولها والتعذيب فيها (3)، وفهم بعضهم من قوله:{فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)} [الانشقاق: 8] أنه قد يناقش العبد الحساب وينجو (4)، ومثل هذا كثير.
(1) في (ف) فيما، وكذلك في الأصل، ولكنها مصححة في هامش الأصل.
(2)
يشير إلى ما أخرجه البخاري في (كتاب التفسير، باب {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ
…
} الآية 3/ 1364 رقم 4509 عن الشعبي عن عدي قال: أخذ عدي عقالاً أبيض وعقالاً أسود، حتى كان بعض الليل نظر، فلم يستبينا، فلما أصبح، قال: يا رسول الله جعلت تحت وسادتي، قال:"إن وسادك إذاً لعريض، أن كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادتك" وطرفه رقم 4510، 4511.
(3)
يشير إلى ما أخرجه مسلم في (كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أصحاب الشجرة، أهل بيعة الرضوان) 4/ 1942 رقم 2496 عن أم مبشر، أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة:"لا يدخل النار -إن شاء الله- من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها"، فقالت: بلى يا رسول الله! فانتهرها، فقالت حفصة:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"قد قال الله عز وجل: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)} ".
وأخرجه ابن ماجه في (أبواب الزهد، باب ذكر البعث) 2/ 444 رقم 5335، ولفظه: "
…
من شهد بدراً أو الحديبية
…
" الحديث.
(4)
يشير إلى ما أخرجه البخاري في (كتاب التفسير، باب {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)} 3/ 1584 رقم 4939 عن عائشة رضي الله عنهما قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس أحد يحاسب إلا هلك"، قالت: قلت: يا رسول الله، جعلني الله فداك، أليس يقول الله عز وجل:{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)} ، قال:"ذاك العرض يعرضون، ومن نوقش الحساب هلك".
السادس: قوله: (لأنه (1) لفظ يقتضي سلب صلاحية الرسول لأن يكون وسيلة إلى الله في طلب الإغاثة، وهذا نفي لوصف من أوصاف الكمال).
فيقال له: نفي الاستغاثة به في شيء مخصوص أو وقت مخصوص، لا يفهم أحد منها نفي التوسل به ولا نفي كونه سبباً، وإنما يفهم منها نفي الطلب منه لذلك الشيء أو في ذلك الحال، وما ذكرته فيما تقدم من أن المتوسل به مستغيث به، قول لم يقله أحد قبلك لا من العرب ولا من العجم، وليس لأحد أن يفسر اللفظ بمعنى لا يعرفه أحد.
السابع: (إن قوله: يقتضي سلب صلاحيته الرسول لأن يكون وسيلة إلى الله)، قول باطل، فإن قول القائل: لا يستغاث به نفي بكون هذا مشروعاً، ولا سيما إذا كان في سياق الإفتاء وبيان الأحكام الشرعية، والصيغة صيغة خبر، فإنه لم يرد نفي إمكان شرع، فضلاً عن أن يقتضي نفي الصلاحية، فإذا قيل: الرسول لا يسجد له، لم يقتضِ أن ذلك غير ممكن أن يشرعه الله، فقد أمر الملائكة بالسجود لآدم، وقد سجد ليوسف [أبواه](2) وإخوته، ومحمد صلى الله عليه وسلم أفضل من آدم ويوسف؛ فكيف يفهم من هذا اللفظ أنه لا يصلح لما يصلح له آدم ويوسف عليهم السلام.
وكذلك إذا قيل: النبي لا يورث؛ لم يكن هذا نفياً: لإمكان أن يبيح الله أن يورث، أو نفياً لاستحقاق شيئاً يمكن أن يورث عنه.
وكذلك إذا قيل: كان الصحابة قد نهوا أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء؛ لم يكن في هذا نفي لما يسأل عنه؛ ولا نفي لإمكان أن يشرعه الله ورسوله، كما أن (3) قوله تعالى:{لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]، لا يقتضي نقصاً (4)[بالمسئول](5)، وقوله:{أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 108]، وقوله: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ
(1) في (د) و (ح) أنه.
(2)
كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل أبوه، وما أثبت أعلاه هو الصواب لأنه فاعل.
(3)
(أن) سقطت من (د).
(4)
في (ف) نقضا (بالضاد).
(5)
كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (بالسؤال).
الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153]، فَنَهى الأمم أن تسأل الأنبياء هذه المسائل، (لا يقال إنه نفي لصلاحية الرسل أن يكونوا وسيلة في حصول المسؤول)(1)، [وذلك](2) نفي لصفة الكمال؛ إذ ليس فيه إلا النهي عن السؤال، ليس فيه نفي لصلاحية (3) المسؤول أن يسأل؛ ولا نفي قدرته على حصول المسؤول، ولا شيء من هذا، بل قد يكون النهي عن السؤال لصلحة المنهي (4)، ولما في سؤاله من المفسدة.
وقوله: لا يستغاث به هو مثل قوله: لا يسأل، هو نهي عن سؤاله وعن الاستغاثة [به](5)، لما في ذلك من مصلحة المنهي ومن مصلحة الرسول ومن توحيد الرب، وأيضاً فقول القائل: لا يصلح أن يستغاث به، أو لا يصلح أن يكون وسيلة إلى الله في حصول الإغاثة، قد يريد: لا يصلح شرعاً بمعنى أن هذا لم يشرع، وقد يريد لا يصلح أي أن هذا غير ممكن في حقه، فلو قدر أن نفي الاستغاثة نفي للصلاحية (6) فالصلاحية لفظ مجمل.
وبالجملة فكلام هذا الرجل كثير منه نزاع لفظي، مع كونه لفظياً فهو يعبر عن المعنى بلفظ لم يعبر به غيره، وينكر على غيره أن يعبر عن المعنى بالعبارة المستعملة فيه، ففيه جهل وظلم، جهل، بدلالة اللفظ في استعماله، واستعمال اللفظ فيما لم يستعمل فيه قط، وينكر على من يستعمله في معناه، ويريد أن يلزمهم بالقبيح الذي [ارتكبه](7)، ويحمل كلامهم على المعنى الباطل؛ لظنه أن اللفظ يحتمله مع أنهم [قد](8) صرحوا بنقيض ذلك المعنى بعبارة صريحة، فيدع (9) محكم (10) كلامهم وتمسك بمتشابهه الذي هو متشابه في ظنه؛ مبتغياً للفتنة بذلك، وليس مقصوده معرفة مراد المتكلم وتأويله، بل
(1) ما بين القوسين سقط من (د).
(2)
في (ح)(وليس ذلك).
(3)
في (د) الصلاحية.
(4)
في (ف) النهي.
(5)
كذا في (ح) وسقط من الأصل و (ف) و (د).
(6)
في (د) الصلاحية.
(7)
كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (رتكبه).
(8)
كذا في (ف) و (د) و (ح) وسقطت من الأصل.
(9)
في (ف) و (د) و (ح) فبدع.
(10)
(محكم) سقطت من (د).
غرضه ما يقوله الناس عنه من إرادة العلو في الأرض والفساد بالظلم.
يبيّن هذا الجواب الثامن: وهو أنه قد ذكر المجيب في أول جوابه فقال: قد ثبت بالسنة المستفيضة بل المتواترة واتفاق الأمة؛ أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو الشافع المشفع، وأنه سيد ولد آدم، وأنه يشفع في الخلائق (1) يوم القيامة، وأن الناس يستشفعون به فيطلبون منه أن يشفع لهم إلى ربهم فيشفع لهم، وفيه أيضاً تقرير ما كان أصحابه يفعلونه من التوسل به والاستشفاع به، وفي الجواب: والاستغاثة بمعنى أن يطلب من الرسول ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيها مسلم (2)، فإذا كانت هذه الألفاظ الصريحة فيه، فلو قدر أن فيه إطلاق نفي الاستغاثة، هل كان يقال إن فيه ما يقتضى نفى صلاحيته أن يكون وسيلة إلى الله في حصول الاستغاثة؟ وقد بيّن فيه (3) تقرير ما كان الصحابة [يفعلونه](4) من التوسل به والاستشفاع به، وقرر فيه أن الناس يستشفعون به ويتوسلون بشفاعته في الدنيا والآخرة، وأنه يستغاث به بمعنى أنه يطلب منه كل ما هو اللائق بمنصبه، فإذا كان قد بيّن ثبوت هذه الأمور؛ هل يمكن أن ينفي معها صلاحيته لبعضها؟! ومعلوم أن حصول [الاستشفاع والتوسل به](5) أبلغ من الصلاحية له، فإذا كانت هذه الأمور قد أُثبتت فكيف يُنفى معها الصلاحية لذلك؟ والألفاظ بإثباتها صريحة، واللفظ الذي توهم فيه نفي الصلاحية؛ غايته أن يكون محتملاً لذلك، ومعلوم أن مفسر كلام المتكلم يقضي على [مجمله](6)، وصريحه يقدم على [كنايته](7)، ومتى صدر لفظ صريح في معنى ولفظ مجمل نقيض ذلك المعنى و (8) غير نقيضه؛ لم يحمل
(1) في (د) للخلائق.
(2)
سبق إيراد المؤلف لجزء كبير من الجواب.
(3)
في (ف) و (د) و (ح) من.
(4)
كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل و (ف)(يفعلون) وما أثبت أعلاه هو الصواب.
(5)
ما بين المعقوفتين بياض في جميع النسخ بمقدار كلمتين، وفي هامش (ف) و (د) بياض في الأصل، وما أثبته هو مما سبق ذكره قبل أربعة أسطر.
(6)
كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل و (ف)(محمله) بالحاء.
(7)
كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل و (ف) كتابته.
(8)
كذا في جميع النسخ، وفي (ط)(أو) وهو الأولى.
على نقيضه جزماً حتى يترتب عليه الكفر؛ إلا من فرط الجهل والظلم.
التاسع: أنه لو فرض أن معنى اللفظ ما ذكرته، فإذا كان [مطلق](1) اللفظ لا يعرف معناه، إلا ما أراده (2) بنفسه لم يكن كافراً بإجماع المسلمين، وإن اعتقد أن ما نفاه هو مدلول اللفظ، وما نفاه منتفٍ عنه إجماعاً أو في قول سائغ؛ لم يكن هذا كافراً عند أحد من المسلمين.
العاشر: قوله: (يقتضي سلب صلاحية الرسول لأن يكون وسيلة إلى الله في طلب الإغاثة) كلام مجمل، فيقال لك: ما تعني به؟ أتريد أن النبي صلى الله عليه وسلم والرجل الصالح وغيرهما لا يكون بعد موته وسيلة إلى الله في طلب الإغاثة منه؟ (أو أنه لا يكون حياً ولا ميتاً وسيلة إلى الله في طلب الإغاثة منه؟)(3) وقوله: لا يكون وسيلة، تريد به أن لا يتوسل به أي بذاته أو بدعائه وشفاعته أو غير ذلك؟ فإن أردت أن الميت نبياً كان أو غير نبي لا يكون وسيلة إلى الله في طلب الإغاثة، بمعنى أن يطلب منه [أن يكون](4) وسيلة في طلب الغوث منه، قيل لك: هذا صحيح، ولم قلت إن الأمر بالعكس، ومن أين لك في الشرع أن يطلب من الميت وسيلة إلى الله في طلب الإغاثة منه؟! بل وكذلك إن أردت أن الاستغاثة بالحي والميت [تكون](5) وسيلة إلى الله في طلب الغوث منه، ومن أين لك أن الطالب من المخلوق يكون طالباً من الله عز وجل؟! ومن الذي قال: إن السائل بمخلوق [و](6) الداعي له والمستغيث به نبياً كان المدعو أو غير نبي؛ يكون المخلوق المستغاث وسيلة إلى الله في [الطلب](7) منه؟!!.
وهذا أمر مخالف للعقل واللغة والشرع، فمن الذي جعل الطلب من هذا وسيلة في الطلب من هذا في كل شيء وعلى كل حال؟! بل من طلب من
(1) كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل و (ف) المطلق.
(2)
في (د) ما أن أراده.
(3)
ما بين القوسين سقط من (ف).
(4)
ما بين المعقوفين من (ح) وفي الأصل و (ف) و (د)(لا يكون).
(5)
كذا في (ح) وفي الأصل و (ف) و (د)(يكون).
(6)
كذا في (ف) و (د) و (ح) وسقط من الأصل.
(7)
كذا في (ف) وفي الأصل و (د)(ح)(طلب).
الرسول أو غيره فإنما يطلب مقدوره، فيطلب منه الدعاء والشفاعة؛ ويكون دعاؤه وشفاعته وسيلة في حصول المطلوب، [لا أن](1) ذلك يكون طلباً من الله، وأنت قد جعلت كل ما يطلب من [غير](2) الله وسيلة من وسائل الله، فما هذه الوسائل التي يكون المتوسل بها طالباً من الله، فإن الطلب من الله معروف معلوم، فيقال: دعا الله وسأله واستعانه واستغاث به وطلب منه ورغب إليه واستجاره واستعاذه ونحو ذلك، وليس هنا (3) مخلوق يكون الاستغاثة به وسيلة في هذا الطلب، وكأن [هذا](4) يجعل نفس الطلب من الصالح طلباً من الله.
ويقول: إن الصالح لمنزلته عند الله من طلب منه شيئاً فإن الله تعالى يعطيه ذلك، كما إذا طلب من الله، وهذا حال كثير من (5) الجاهلين الضالين يستغيث أحدهم بشيخه في كل ما يهمه، فإذا خاف أحداً أو طلب حاجة استغاث بالشيخ [أو](6) الغائب والميت، فيقول: يا شيخ فلان أنا في حسبك يا سيدي فلان ونحو ذلك من العبارات، ومنهم من يقول: هذا وقتك يا شيخ فلان، أو يقول: إن لم تحضر يا شيخ فلان وإلا فُعِلَ بنا وصُنِعَ، وقد يقول: إن كنت رجلاً صالحاً صاحب حال فأرني حالك، ويقول: إن كان لك جاه عند الله فهذا وقت جاهك، وقد يستغيث أحدهم بعدة مشايخ، فيقول: يا سيدي فلان وفلان وفلان، ثم من هؤلاء من يتصور له صورة إنسان يظنها الشيخ أو ملكاً تصور على صورته وسارّه وكالمه [أو قضى بعض حاجاته](7) ونحو ذلك، ومنهم من [يتصور](8) له ذلك في صورة طائر، ومنهم من يتصور
(1) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق، وفي جميع النسخ (لأن).
(2)
كذا في (ف) و (د) و (ح)، وسقط من الأصل.
(3)
في (د) هذا.
(4)
كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (هذ) سقطت الألف.
(5)
في (د)(أبي) وهي زيادة.
(6)
كذا في (د) وسقط من الأصل و (ف) و (ح).
(7)
ما بين المعقوفين بياض في جميع النسخ بمقدار كلمتين، وفي هامش (د) بياض في الأصل، ثبت أعلاه كرره المؤلف في مواضع من هذا الكتاب.
(8)
كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (تتصور).
له في صورة حيوان آخر، وتكون تلك الشياطين تتصور بتلك الصور لأولئك المشركين الذين دعوا من دون الله آلهة أخرى وطلبوا منهم ما لا يجوز أن يطلب إلا من الله، كما كان المشركون يطلبون من الأوثان ما يطلب من الله، وكما يطلب عباد الكواكب منها ما لا يطلب من الله، وكذلك عباد الأنبياء والملائكة، قال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)} [الإسراء: 56 - 57]، وقال تعالى:{وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)} [آل عمران: 80]، وهؤلاء لا (1) يتصور أن يقضى لهم جميع مطالبهم ولا أكثرها، كما أن ما تخبر به الشياطين من الأمور الغائبة لا يصدقون فيه كله ولا في أكثره، بل يصدقون في واحدة ويكذبون في أضعافها، ويقضون لهم حاجة واحدة ويمنعونهم أضعافها، ويكون فيما أخبروا به وأعانوا عليه إفساد حال الرجال في الدين والدنيا، وهذه الأمور لبسطها موضع [آخر](2).
والمقصود أن كثيراً من [الضالين](3) الجاهلين يستغيثون بمن يحسنون به الظن من الأموات والغائبين في كل ما يستغاث الله فيه، ولا يتصور أن هؤلاء يسألونهم مطالبهم كلها ولا أكثرها، بل غاية ما يطلبونه منهم من جنس تحصيل المنافع ودفع المضار و (4) لا يحصل، بل قد يُحصّل بعض المطالب، كما يحصل لعباد الأصنام والكواكب وغيرهم من المشركين، ويكون ما يخبرون به ويفعلونه شبهة للمشركين، كما أن ما يخبر به الكاهن ونحوه من الأخبار فإنه يصدق في واحدة ويكذب في شيء كثير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لو آتوا بالأمر على وجهه لكان، ولكن يخلطون بالكلمة الواحدة مائة كذبة"(5).
(1)(لا) سقطت من (د).
(2)
كذا في (د) و (ح)، وسقطت من الأصل و (ف).
(3)
كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل الصالحين.
(4)
الواو سقطت من (ف).
(5)
أخرجه البخاري في (كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده) 2/ 1012 رقم 3210 وأطرافه: 3288، 5762، 6213، 7561، ومسلم في (كتاب السلام، باب تحريم =
فهذا القول الذي يقوله هذا هو مطابق لأحوال هؤلاء المشركين الضالين، لكن هذا ليس يقوله مسلم ولا عاقل يتصور ما يقول، بل هو من جنس قول النصارى:(دعاء المسيح)(1) دعاء لله، لكن أولئك يقولون باعتبار الحلول والاتحاد، وأما بدون هذا (فهو كلام)(2) غير معقول، فإن الله -تعالى- أمر أن يدعى هو ويسأل هو، ولم يجعل دعاء أحد من المخلوقين دعاء له بل قد نهى الله عن دعائه، ولو كان هذا حقًّا لكان من دعا الملائكة والأنبياء دعا الله (3) ولا يكون مشركاً؛ والله قد جعلهم مشركين، وقد قال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)} [الإسراء: 56 - 57]، فإن هؤلاء الضالين جعلوا الصالحين مع الله سبحانه وتعالى كالوكيل مع موكله، فإذا طُلب من الوكيل الدعاء كانت المطالبة للموكل في المعنى؛ لكن هذا ليس من أقوال الموحدين، بل هو من أعظم شرك الملحدين.
والرسول لم يضمن للخلق أن يرزقهم ويحاسبهم ولا يجيب دعاءهم، بل هذا كله أخبر أنه لله وحده، قال تعالى:{فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)} [الرعد: 40]، وقال:{قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)} [الأنعام: 50]، وقال:{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)} [الأعراف: 188]، وقال:{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)} [التوبة: 59]، فبيّن تعالى أن التحسب بالله وحده والرغبة إلى الله وحده، وأما الإيتاء فلله والرسول لأن الحلال ما حلله الرسول والحرام ما حرمه الرسول؛ كما قال تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]،
= الكهانة وإتيان الكهان) 4/ 1750 رقم 2228 وغيرهما بألفاظ متقاربة.
(1)
ما بين القوسين سقط من (د).
(2)
في (ف) فكلام.
(3)
في (ف) لله.
فالله -تعالى- قد جعل الرسول مبلِّغاً لكلامه؛ الذي هو أمره ونهيه ووعده ووعيده.
وهؤلاء يجعلون الرسل والمشايخ يدبرون العالم بالخلق والرزق وقضاء الحاجات وكشف الكربات (1)، وهذا ليس من دين المسلمين، بل النصارى تقول هذا في المسيح وحده بشبهة الاتحاد والحلول، ولهذا لم يقولوا ذلك في إبراهيم وموسى وغيرهما من الرسل، مع أنهم في غاية الجهل في ذلك، فإن الآيات التي بعث بها موسى أعظم، ولو كان الحلول ممكناً لم يكن للمسيح خاصية توجب اختصاصه بذلك؛ بل موسى أحق بذلك، ولهذا خاطبت من خاطبته من علماء النصارى وكنت أتنزل معهم إلى أن أطالبهم بالفرق بين المسيح وغيره من جهة الإلهية، فلم [يجدوا](2) فرقاً، بل أُبيّن لهم أن ما جاء به موسى من الآيات أعظم؛ فإن كان هذا حجة في دعوى الإلهية فهو أحق، وأما ولادته من غير أب فهو يدل على قدرة الخالق لا على (3) أن المخلوق أفضل من غيره (4).
وإن إراد بقوله: (يقتضي سلب صلاحية الرسول لأن يكون وسيلة إلى الله في طلب الإغاثة) أنه لا يتوسل بذاته فلا يقسم به على الله، ولا يقال أسألك برسولك أو أسألك بجاه رسولك.
فيقال: أولاً: نفي الاستغاثة بهم لا يفهم أحد منها نفي السؤال به.
ويقال: ثانياً: وهب (5) أنه أراد هذا؛ فما الدليل على جواز السؤال لله بذوات (6) المخلوقين أو مطلقاً وبعد موتهم؟! ولمن قال هذا من الصحابة والتابعين لهم بإحسان؟ والصحابة إنما كانوا يتوسلون بدعائه وشفاعته، ولهذا
(1) ذكر ذلك كثيراً الشعراني في طبقاته في تراجم الصوفية.
(2)
كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل و (ف)(يجدون) بثبوت النون وهو خطأ.
(3)
(على) سقطت من (د).
(4)
إحدى هذه المناظرات كانت في قاعة الترسيم بالقاهرة، فلما أقام عليهم الحجة، احتجوا بما يفعله جهال الصوفية عند رأس الحسين، وقبر نفيسة وغيرهما، فلما أبان الشيخ ضلال هؤلاء وجهلهم؛ قالوا: الذي ذكرته خير من الدين الذي نحن وهؤلاء عليه. انظر: ناحية من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية، بقلم خادمه إبراهيم الغياني ص 24 - 25.
(5)
في (د) وهبوا.
(6)
في (د) و (ف) بذات.
توسلوا بعده بالعباس ولو كان التوسل بذاته ممكناً بعد الموت لم يعدلوا إلى العباس، والأعمى إنما توجه بدعائه وشفاعته، وكذلك الصحابة في الاستغاثة، وكذلك الناس يوم القيامة يستغيثون به ليشفع لهم إلى الله، فهم يتوسلون بشفاعته، [أما](1) بمجرد (2) الذات بعد الممات فلا دليل عليه ولا قاله أحد من السلف، بل المنقول عنهم يناقص ذلك، وقد نص غير واحد من العلماء على أن هذا لا يجوز؛ وإن نقل عن بعضهم جوازه، فقد قال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59].
ويقال: ثالثاً: وهب أن قائل ذلك أخطأ في هذا النفي؛ لكن ليس كل مخطئ يكفر؛ لا سيما إذا قاله متأولاً باجتهاد أو تقليد.
وإن أراد بقوله: لا يكون وسيلة أي لا يكون الإيمان به ومحبته وطاعته وموالاته، واتباع سنته والمجاهدة على دينه ونحو ذلك وسيلة إلى الله؛ فهذا لم ينفه أحد، ونفي الاستغاثة به لا ينفي هذه الوسائل، وهذه وسائل في حصول الثواب والقرب من الله وسعادة الدنيا والآخرة، لا في مجرد الاستغاثة، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو الوسيلة إلى سعادة الدنيا والآخرة بهذا الاعتبار، ومن نفى كونه وسيلة إلى الله بهذا الاعتبار فهو كافر حقًّا، فإنه نفى رسالته التي هي أصل الإيمان.
الحادي عشر: قوله: (وهذا نفي لوصف من أوصاف الكمال الثابتة له صلى الله عليه وسلم).
فيقال له: لا نسلم أن هذا نفي لشيء من صفات الكمال؛ بل ولا نفي لشيء موجود، بل هو نفي لشيء منتف في نفس الأمر.
ويقال له: ثانياً: هذا الوصف عندك ثابت لآحاد الناس؛ بل (3) قولك يقتضي أنه ثابت لكل مخلوق، وما ثبت لآحاد الناس لم يكن من خصائص الرسل التي تعد من كمالاتهم، فلا يقول عاقل: إن ما شاركه (4) فيه عامة
(1) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (لا).
(2)
في (د) مجرد.
(3)
في الأصل (قرد)، وفي (ف)(قود) ويظهر أنها زيادة، وليست في (د) و (ح).
(4)
في (د) شارك بدون (هاء).
الناس يكون من كمالات لرسل (1) التي يكون نفيها قدحاً في رسالته.
ويقال: ثالثاً: لو قدر أنه وصف كمال؛ فليس كل من نفى وصفاً من أوصاف الكمال يكون كافراً، إذا كان متأولاً في ذلك، دع من نفى وصفاً من صفات كمال الرسول على سبيل التأويل.
وقد قال طوائف من السلف [والخلف](2): إنه يقعده معه على العرش وأنكر ذلك آخرون (3)، (وقال قوم: إنه كتب بيده عام الحديبية خرقاً للعادة ونفى ذلك آخرون (4)، وقال قوم: إنه كان يجوع ويربط الحجر على بطنه مع
(1) في (ف) و (د)(الرسالة)، وزاد في الأصل بعد الرسل (له).
(2)
كذا في (ف) و (د) و (ح) وسقطت من الأصل.
(3)
قال المؤلف في درء تعارض العقل والنقل 5/ 237: وحديث قعود النبي صلى الله عليه وسلم على العرش، رواه بعض الناس من طرق كثيرة مرفوعة، وهي كلها موضوعة، وإنما الثابت أنه عن مجاهد وغيره من السلف، وكان السلف والأئمة يروونه ولا ينكرونه، ويتلقونه بالقبول. أ. هـ ونقل ابن القيم في بدائع الفوائد 3272 عن القاضي (أبي يعلى) أن المروزي (وهو أحمد بن علي بن سعيد المروزي ت 292 هـ) جمع فيه كتاباً وذكر طرقه وأنه قول أبو داود وأحمد وأصرم
…
وذكر خلقاً من السلف. أ. هـ. والراجح: أن تفسير المقام المحمود بالقعود على العرش لا يصح، لا سيما وقد روي عن مجاهد مثل ما عليه الجماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم: أن المقام المحمود هو المقام الذي يشفع فيه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، وقد ذهب إلى هذا ابن عبد البر في التمهيد 19/ 64، 7/ 157 - 158، والواحدي كما نقل عنه شهاب الدين محمود الألوسي في روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني 15/ 131 (الطبعة دار التراث القاهرة - مصر) وللتوسع. انظر: العلو للذهبي 124 - 126.
(4)
ما بين القوسين تأخر في (د) إلى ما بعد الجملة التي بعده. وكتابة النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية وردت فيها أحاديث، فقد أخرج البخاري في (كتاب المغازي، باب عمرة القضاء) 3/ 1288 رقم 4251 من حديث البراء ولفظه: " .... ثم قال -أي النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: "امح رسول الله" قال علي: لا والله لا أمحوك أبداً. فأخذ رسول الله الكتاب -وليس يحسن أن يكتب- فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله، لا يدخل مكة
…
" الحديث. ومسلم في (كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية في الحديبية) 3/ 1409 - 1411 رقم 1783.
وقد اختلف الناس في هذه المسألة فأنكر كثير من فقهاء الأندلس وغيرهم الكتابة، وشنعوا على من قال به حتى نسبوه إلى الكفر والزندقة، وقال بجواز ذلك أبو ذر الهروي وأبو الوليد الباجي وصنف فيه كتاباً وحكاه عن السمناني، واختلف هؤلاء فقال بعضهم: =
قدرته على حصول ما يأكل، ونفى ذلك آخرون (1)، وقال ابن مسعود والجمهور: إنه خاطب الجن ورآهم، ونفى ذلك ابن عباس وآخرون (2)، وقال ابن عباس وطائفة: إنه رأى ربه، ونفى ذلك آخرون من الصحابة وغيرهم (3)،
= إنه صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى عرف الكتابة، وقال آخرون إنه صلى الله عليه وسلم كتب في الحديبية على سبيل الإعجاز، والراجح أنه لا يلزم من كتابة اسمه الشريف صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم وهو لا يحسن الكتابة أن يصير عالماً بالكتاب ويخرج عن كونه أمياً، فإن كثيراً ممن لا يحسن الكتابة يعرف تصور بعض الكلمات ويحسن وضعها خصوصاً الأسماء. وللتوسع. انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 13/ 352، وشرح مسلم للنووي 12/ 379 - 380، وغاية السول في خصائص الرسول لابن الملقن ص 132 - 134، وفتح الباري لابن حجر 7/ 641 - 642.
(1)
وردت أخبار كثيرة في ربط النبي صلى الله عليه وسلم الحجر على بطنه من الجوع، مع أن الله -تعالى- عرض عليه صلى الله عليه وسلم أن يجعل له بطحاء مكة ذهباً، أو الجبال ذهباً، وقال بموجب هذه الأخبار جمهور العلماء، وردها وضعفها بعضهم كابن حبان وتمسكوا بأحاديث الوصال في الصوم، وأنه صلى الله عليه وسلم يطعمه ربه ويسقيه.
وقد أكثر الناس الرد عليه بما ورد في صحيحه من ربط النبي صلى الله عليه وسلم الحجر على بطنه. والراجح مذهب الجمهور، ويمكن الجمع بأن الإطعام والسقيا في حال الوصال في الصوم، والجوع وربط الحجر على غير المواصلة. والله أعلم.
انظر: صحيح البخاري (كتاب الصوم، باب الوصال) 2/ 583 الأحاديث رقم 1961، 1962، 1963، 1964 وغيرها، والبداية والنهاية 6/ 54، وفتح الباري 4/ 260 - 261، ورفع الخفا شرح ذات الشفا، تأليف محمد بن الحاج الكردي، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي وصابر الزيباري 2/ 78 - 81، الطبعة الأولى 1407 هـ، الناشر دار عالم الكتب بيروت - لبنان.
(2)
والصواب في هذه المسألة ما ذهب إليه الجمهور وابن مسعود، فإن ابن مسعود أعلم بقصة الجن من عبد الله بن عباس لأنه حضرها وحفظها، وابن عباس كان إذ ذاك طفلاً، لأن قصة الجن كانت قبل الهجرة، والله أعلم.
انظر: دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني 2/ 365 - 372، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 19/ 1 - 4، وآكام المرجان في أحكام الجان لبدر الدين الشبيلي الحنفي ص 55.
(3)
الخلاف في حصول الرؤية للنبي صلى الله عليه وسلم بين الصحابة مشهور، والمأثور عن عائشة رضي الله عنها الإنكار الشديد على من قال بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه -جلّ وعلا- بعينه، وتابعها بعض الصحابة كابن مسعود، وجاء عن ابن عباس في بعض الروايات التصريح بالرؤية مطلقاً وفي الأخرى التقيد بالرؤية القلبية.
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى 6/ 509: وليس في الأدلة ما يقتضي أنه رآه بعينه ولا ثبت ذلك عن أحد من الصحابة ولا في الكتاب والسنة ما يدل على ذلك. أ. هـ. وقال =
بل نفس المعراج قال الجمهور: إنه كان ببدنه؛ وآخرون من السلف والخلف قالوا إنه كان بروحه فقط (1)، وقال طائفة من العلماء: إنه [كان](2) يملك الفيء ونفى ذلك آخرون (3)، وقال أكبر المنتسبين إلى السنة: إنه والأنبياء أفضل من الملائكة، وآخرون قالوا: الملائكة أو بعضهم أفضل من الأنبياء (4)، وقال جمهور المسلمين: إنه أفضل الأنبياء وتوقف في ذلك بعض الحنفية
= ابن حجر في الفتح 2/ 782: يجب حمل مطلقها على مقيدها
…
فيمكن الجمع بأن يحمل نفي عائشة على رؤية البصر وإثبات ابن عباس على رؤية القلب. أ. هـ، وهذا هو الراجح والله أعلم، وللتوسع. انظر: كتاب التوحيد لابن خزيمة 2/ 477، وشرح مسلم للنووي 3/ 7 - 9، وفتح الباري لابن حجر 6/ 782 - 783، والمسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة لعبد الإله الأحمدي 2/ 145 - 151.
(1)
والصواب أنه أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم ببدنه يقظة لا مناماً، وبه قال أكثر الناس ومعظم السلف وعامة المتأخرين من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين، والآثار تدل عليه ولا يعدل عن ظاهرها إلا بدليل ولا استحالة في حملها عليه. انظر: كتاب التوحيد لابن منده 1/ 124 وما بعدها، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 10/ 205 - 210، وشرح مسلم للنووي 2/ 567 - 568.
(2)
كذا في (ف) و (د) و (ح) وفىِ الأصل (كا) بدون نون.
(3)
قال الشافعي وبعض أصحاب أحمد إن الفيء ملك للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، ورد عليهم جمهور العلماء بعدة أدلة منها ما أخرجه البخاري في (كتاب فرض الخمس، باب قول الله تعالى:{فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} 2/ 959 رقم 3117 ولفظه: "ما أعطيكم ولا أمنعكم، إنما أنا قاسم أضع حيث أمرت".
والراجح أن الفيء يصرف في مصالح المسلمين وإليه ذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد في أحد قوليه. والله أعلم. للتوسع. انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 8/ 13 - 15، والمغني لابن قدامة 7/ 298، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 28/ 565، وفتح الباري 6/ 268 وكتاب الفيء والغنيمة ومصارفهما تأليف محمد الربيع ص 171 الطبعة الأولى 1413 هـ.
(4)
يقول بتفضيل الأنبياء وصالحي البشر على الملائكة أهل السنة، ويقول المعتزلة بتفضيل الملائكة، وللأشاعرة قولان منهم من يفضِّل الأنبياء والأولياء، ومنهم من يقف ولا يقطع. وقالت الرافضة: إن جميع الأئمة أفضل من جميع الملائكة، وهذه المسألة لا يتوقف عليها أصل من أصول الاعتقاد، ولا يتعلق بها من الأمور الدينية كبير من المقاصد، وهي من فضول المسائل. ولهذا لم يتعرض لها كثير من أهل الأصول. انظر: شرح مسلم للنووي 15/ 43، وشرح العقيده الطحاوية لابن أبي العز ص 301 - 311.
وغيرهم (1)، وادعى بعض الناس أنه كان يحفظ القرآن قبل أن ينزل به جبرائيل (2) عليه السلام[عليه](3) ورد ذلك جمهور المسلمين وعلماؤهم (4)، وقال قوم من هذا النمط إن جميع الأنبياء تلقوا العلم بالله منه وأنه كان موجوداً قبلهم ورد ذلك جمهور المسلمين وعلماؤهم (5)، وقال بعضهم إنه كان لا يسهو في الصلاة وإنما كان يتعمد (6) ذلك، ورد ذلك جمهور المسلمين وعلماؤهم،
(1) توقف بعض العلماء في تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم على جميع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- لورود أحاديث النهي عن التفضيل مثل ما أخرجه البخاري في (كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139)} 2/ 1060 رقم 3413، ولفظه:"ما ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن متى"، ونقل القرطبي في الجامع لأحكام القرآن 3/ 362 عن شيخه قال: فلا يقال: النبي أفضل من الأنبياء كلهم ولا من فلان ولا خير، كما هو ظاهر النهي. أ. هـ، ونقل القرطبي أيضاً في الجامع 3/ 363 التوقف عن التفضيل عن ابن عطية. أ. هـ.
والصواب تفضيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم جمعاً بين أدلة القرآن والسنة، والنهي عن التفضيل إنما يكون لمن يقوله برأيه، أو من يقوله على وجه الفخر، أو على وجه الانتقاص بالمفضول، أو من يقوله بحيث يؤدي إلى الخصومة والتنازع أو ما شابه ذلك.
وللتوسع. انظر: تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص 132، تحقيق محمد محيي الدين الأصفر، وشرح مسلم للنووي 15/ 42 - 43، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 3/ 362 - 364، وتفسير ابن كثير 1/ 304.
(2)
في (د)(جبريل).
(3)
كذا في (ف) و (د) و (ح)، وسقطت من الأصل وزاد في (د) صلى الله عليه وسلم.
(4)
سبق التعليق على هذه المسألة في ص 207 وانظر: الكبريت الأحمر بهامش اليواقيت والجواهر ص 6.
(5)
لغلاة الصوفية في النبي صلى الله عليه وسلم مذاهب شتى، فمنهم من يرى أنه حقيقة الذات الإلهية، ومنهم من يرى أنه نور من نور الله وغير ذلك، ومراد شيخ الإسلام من يرى أنه صلى الله عليه وسلم حقيقة الذات الإلهية، يقول الدمرداش في معرفة الحقائق ص 7 نقلاً عن شبهات التصوف ص 77: حقيقة الحقائق هي المرتبة الإنسانية الكمالية الإلهية الجامعة لسائر المراتب كلها وهي المسماة بحضرة الجمع، وبأحدية الجمع، وبها تتم الدائرة، وهي أول مرتبة تعينت في غيب الذات وهي الحقيقة المحمدية. أ. هـ. ويقول الكمشخائلي في جامع الأصول ص 107 نقلاً عن شبهات التصوف ص 77: صور الحق هو محمد لتحققه بالحقيقة الأحدية والواحدية. أ. هـ. وانظر ضلالهم في هذه المسألة والرد عليهم في شبهات التصوف لأبي حفص عمر قريشي ص 76 وما بعدها.
(6)
قال بعصمة الأنبياء من السهو وغيره الرافضة، وتابعهم الصوفية وأنه صلى الله عليه وسلم تعمد السهو، والصواب جواز النسيان عليه الصلاة والسلام في أحكام الشرع وهذا مذهب =