الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال بعض الغلاة: إنه كان يعلم علم الله ويقدر قدرته وكفر المسلمون من قال ذلك، فضلاً عن تكفير النافي (1)، وتنازع المسلمون في جواز الصغائر على الأنبياء وجمهورهم يجوِّزون ذلك (2)، وهذا باب واسع.
فما زال المسلمون يتنازعون في شيء من إثبات صفات الكمال، ولا يقول المثبت للنافي إنك كفرت، فإن الكمال الثابت ليس محدوداً يعلمه الناس كلهم، وما من كمال إلا وفوقه كمال آخر، و
الكمال المطلق الذي لا غاية فوقه لله تبارك وتعالى
-، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كمل من الرجال كثير [
…
إلى آخر الحديث] (3) " (4)، وهؤلاء الكاملون بعضهم أكمل من بعض، فإذا نُفي عن بعضهم [نوع](5) من الكمال لم يلزم أن ينفى عنه الكمال، لو كان كذلك لكان من قال إن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل من يونس بن متى متنقصاً (6) بيونس فيكون كافراً؛ لأنه سلبه هذا الكمال.
وأما قوله: (أرأيت رجلين قال أحدهما: لا ضار ولا نافع إلا الله يشير إلى التوحيد، وقال الآخر: إن الرسول لا يضر ولا ينفع، وقال الأول:
= جمهور العلماء وهو ظاهر القرآن والحديث، واتفقوا على أنه صلى الله عليه وسلم لا يقر عليه بل يعلمه الله تعالى به، وأجمع العلماء على استحالته عليه صلى الله عليه وسلم في الأقوال البلاغية واستدلوا بحديث ذي اليدين وسيأتي تخريجه. انظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى، تأليف القاضي عياض بن موسى اليحصبي، تحقيق علي بن محمد البجاوي 2/ 798، طبعة دار الكتاب العربي، وشرح مسلم للنووي 5/ 64 - 95، وفتح الباري لابن حجر 3/ 130.
(1)
في (د) الثاني، وقول المؤلف إشارة لما ذهب إليه البكري من تكفير من نفى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قال إنه صلى الله عليه وسلم هو حقيقة الذات الإلهية فهو يقول: إنه يقدر قدرة الله ويعلم علمه. وقال بذلك بعض الصوفية.
(2)
قال بعصمة الأنبياء من الصغائر الرافضة، وأجازها الجمهور وهو الراجح. انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/ 308، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 4/ 319، والرسل والرسالات تأليف د. عمر سليمان الأشقر ص 107 وما بعدها، الطبعة الرابعة 1410 هـ، الناشر مكتبة الفلاح، ودار النفائس - الكويت.
(3)
ما بين المعقوفين من (د) و (ح) وسقط من الأصل و (ف).
(4)
أخرجه البخاري في (كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ
…
} الآية رقم 3411، 2/ 1058 وطرفه: 3433 واللفظ له.
(5)
كذا في (د) و (ح) بالرفع وفي الأصل و (ف) نوعاً بالنصب.
(6)
كذا في الأصل و (ح)، وفي (ف) بياض وفي (د)(تنقيصاً).
إن الله هو السميع العليم إشارة إلى الحقائق التي [حصرها](1) الرب -سبحانه- في نفسه بهذا الكمال، وقال الآخر: إن الرسول لا يسمع ولا يعلم (2)، أكان يشك مسلم في أن الأول موحد والثاني كافر متنقص [و](3) لا ينفعه تأويله؟ فإن سوء العبارة في حق الرسول صلى الله عليه وسلم كفر وإن صح المقصود، كما دل عليه كلام الإمام وغيره، ألا ترى إلزام الله عز وجل للصحابة بتحسين الخطاب معه وإيراده بكيفية الأدب إلى آخره
…
).
فيقال: أما المثال الأول فهو وإن كان أقرب إلى المطابقة فجوابه من وجوه:
أحدها: أنه إذا كان الكلام في سياق العموم بيان (4) أنه أفضل الخلق مثل أن يقول: لا يضر ولا ينفع إلا الله لا الرسول ولا من دونه؛ أو يقال: إذا كان الرسول الذي هو أفضل الخلق لا يضر ولا ينفع فكيف من دونه ونحو ذلك، فهذا مثل قوله: لا يضر ولا ينفع إلا الله، وأما إذا كان المراد أن الرسول لا يضر ولا ينفع وغيره يضر وينفع فهذا هو التنقيص، وهو نظير أن يقال: الرسول لا يستغاث (به، بل يستغاث)(5) بغيره فهذا تنقيص بلا ريب، فإنه يتضمن تنقيصه عمن الرسول أفضل منه، وهذا تنقيص عن درجته بلا ريب.
ويقال ثانياً: لو قال لا يضر ولا ينفع من الذي قال إنه يكفر بذلك؛ إذا عنى بذلك معنى قوله: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعراف: 188]، فإذا كان لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً وقد أمره الله أن يقول ذلك، فهو أحرى أن لا (6) يملك لغيره، وقد قال:{قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} [الجن: 21]، فأخبر أنه لا يملك من الله لا ضرهم ولا رشدهم، و [قد] (7) قال الله -تعالى-:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128]، وثبت
(1) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (حصر).
(2)
في (ف) لا يعلم ولا يسمع.
(3)
كذا في (ف) و (د) و (ح)، وسقطت من الأصل.
(4)
هكذا في جميع النسخ، والأولى أن تكون هكذا (وبيان).
(5)
ما بين القوسين سقط من (د) و (ح).
(6)
(لا) سقطت من (ف).
(7)
كذا في (د)، وسقطت من الأصل و (ف) و (ح).
عنه في الصحيحين أنه قال: "يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً، يا عباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئاً".
فهذا تخصيص له بنفي ذلك وهو من أصدق الرسل، ومن صدّق الرسول فيما قاله فهو مؤمن ليس، بكافر، فإذا قال القائل: الرسول لا يغني عن بنته ولا عمه ولا عمته من الله شيئاً فكيف من دونهم؟؛ كان هذا من أحسن الكلام وأصدقه.
ويقال ثالثاً: قول القائل [عن](1) مخلوق: إنه لا يضر ولا ينفع؛ تارة مُريد به نفي الاستقلال بذلك على سبيل توحيد الربوبية، بمعنى أن ما يجري على يديه من الضر والنفع فالله هو خالقه؛ وهو الذي يجعله فاعلاً بمشيئته، أو يريد أنه لا ينفع ولا يضر إلا بمشيئة الله وقدرته وإرادته (2)، كما قال تعالى:{وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102] فهذا صحيح، فليس في المخلوقات بهذا الاعتبار شيء ينفع [ويضر](3)، إذ ليس في المخلوقات ما يستقل (4) بإحداث ضرر غيره ونفعه؛ ولا يفعل شيء إلا بإذن الله، كما ليس فيها من يعطي ويمنع بهذا الاعتبار (5).
كما [أن](6) من أسمائه -تعالى- المعطي المانع الضار النافع، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دبر الصلاة، وفي غير هذا الموطن:"اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد"(7)، وكان يقول في
(1) كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل و (ف) غير.
(2)
بياض في (ف).
(3)
كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (ولا ضر).
(4)
في (ف) ما ينتقل.
(5)
كذا في (ف) و (ح)، وفي الأصل و (د)(ولا ينبغي بهذا الاعتبار) وهي زيادة.
(6)
كذا في (ح)، وسقطت، من الأصل و (ف) و (د).
(7)
أخرجه البخاري في (كتاب الأذان، باب الذكر بعد الصلاة) 1/ 256 رقم 844 من حديث المغيرة بن شعبة وأوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: "لا إله إلا الله
…
" الحديث وطرفه 6330.
رقيته: "أذهب البأس رب الناس، واشف أنت الشافى، لا شفاء إلا شفاك"، وفي رواية:"لا شافي إلا أنت، شفاء لا يغادر سقماً"(1).
وتارة يريد به أن الضر والنفع المعتاد مثل الصحة والمرض والغنى والفقر والأمن والخوف واليسر والعسر؛ لا يفعله رسول ولا غيره؛ لا في حياته ولا بعد موته، فهذا صحيح، بخلاف ما يظنه المشركون الغلاة من [النصارى](2) وأشباههم، الذين يظنون أن الأنبياء والصالحين بعد موتهم أو في حياتهم ينزلون المطر ويدفعون العدو وينبتون النبات ويشفون المرضى ونحو ذلك من الحوادث.
وتارة يرى أنه ليس له دعاء مستجاب ولا شفاعة مقبولة وأن طاعته لا تنفع ومعصيته لا تضر ونحو ذلك، فهذا كفر صريح من أراده حُكم بردته وكفره؛ لكن اللفظ المجمل إذا صدر ممن علم إيمانه لم يحمل على الكفر بلا قرينة ولا دلالة، فكيف إذا كانت القرينة تصرفه إلى المعنى الصحيح.
وأما المثل الثاني فلا يشبه ما نحن فيه، فإن قوله تعالى:{هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137] إثبات لهذه (3) الصفة، ومن الناس من يقول: ليس في الآية حصر، (ومن قال: فيها حصر) (4)، قال: المحصور كمال الصفة وليس ذلك إلا لله، فإذا قال: إن الرسول لا يسمع ولا يعلم لم يفهم من هذا اللفظ نفي ما يختص به الرب؛ ولا عموم النفي عن الرسول وغيره، ومعلوم أن الملائكة والإنس والجن والبهائم تسمع وتعلم، فإن الله تعالى:{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} (5)[المائدة: 4]، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم الكلب المعلم (6)، ومن أطلق
(1) أخرجه مسلم في (كتاب السلام، باب استحباب رقية المريض) 4/ 1722 رقم 2191 واللفظ له، والرواية الثانية عند البخاري في (كتاب الطب، باب رقية النبي صلى الله عليه وسلم) 4/ 1834 رقم 5742.
(2)
كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (النصار).
(3)
في (د) هذه.
(4)
ما بين القوسين سقط من (د).
(5)
زاد في (د) {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ
…
} الآية.
(6)
يشير إلى ما أخرجه البخاري عن عدي بن حاتم قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: =
على النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يسمع ولا يعلم، فظاهر هذا اللفظ نفي ذلك عنه وهو كذب ظاهر، ثم قد يكون في سياق نفي علمه بالدين وسمعه لما أوحى إليه وهو كفر صريح، وقد يكون في سياق أنه لا يسمع ولا يعلم إلا ما أسمعه الله إياه وأعلمه إياه، فإنه (1)[ليس](2)، من تلقاء نفسه ليس له [علم بشيء](3)، بل الله هو الذي أسمعه وأعلمه، كما قال تعالى:{وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113]، وكما قال {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]، وكما قال:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)} [يوسف: 3] وكما قال تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)} [الضحى: 7]، فهذا المعنى ليس بكفر بل هو صحيح.
وقد يكون في سياق أن الله هو المختص بكمال السمع والعلم، وأن غيره لا يبلغ مبلغه في ذلك، فهذا أيضاً صحيح، وأما (4) إطلاق أنه لا يسمع ولا يعلم فهو كذب وكفر، بخلاف إطلاق أنه لا ينفع ولا يضر، ولهذا يقول المسلم: لا ينفعني ولا يضرني إلا الله، ولا يقول: لا يسمع ولا يعلم إلا الله؛ بل يقول: لا يعلم ما في نفسي إلا الله، أو لا يسمع كلام العباد كلهم إلا الله، أو لا يسمع سر القول إلا الله -تعالى- ونحو ذلك.
= "إذا أرسلت كلبك المعلم فقتل فكل، وإذا أكل فلا تأكل فإنما أمسكه على نفسه"، قلت: أرسل كلبي فأجد معه كلباً آخر؟ قال: "فلا تأكل، فإنما سميت على كلبك ولم تسم على كلب آخر"(كتاب الوضوء، باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان) 1/ 81 رقم 175.
(1)
في (ف) وإنه.
(2)
ما بين المعقوفين يقتضيه السياق، ولا توجد في جميع النسخ.
(3)
كذا في (د)، و (ح)، وفي الأصل و (ف)(شيء).
(4)
في (د) و (ف) و (ح) فأما.
فصل
قال: (فإن سوء العبارة في حق الرسول صلى الله عليه وسلم كفر وإن صح المقصود، كما دل كلام الإمام وغيره، ألا ترى إلزام الله للصحابة -رضوان الله عليهم- بتحسين الخطاب معه وإيراده بكيفية الأدب، حيث قال لهم: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)} [الحجرات: 2]، وقال عز وجل:{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)} [الحجرات: 4]، وقد نبه في الأول على حبط العمل بسوء الأدب، ولا يحبط العمل كله إلا بالكفر بإجماع أهل السنة، وجعل الاستخفاف به كفراً، كما قال عز وجل:{قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65، 66]، ولا أعلم خلافاً بين النقلة أن الذين نزلت فيهم هذه الآية بسبب كلامهم، لم يكونوا تعرضوا لله بعبارتهم (1)، وإنما تنقصوا رسوله فجعل استخفافهم برسوله استهزاء به سبحانه [و](2) بآياته وكفى بذلك تكفيراً).
والجواب من وجوه: أحدها: أن يقال: لا نسلم أن ما فيه النزاع سوء عبارة، بل هو من أحسن العبارات كما تقدم بيانه.
الثاني: أنه إن كان سوء العبارة في حق الرسول كفر؛ ففي حق الله أعظم كفراً، ومن قال: إنه يستغاث بالمخلوق في كل ما يستغاث فيه بالخالق؛ كانت هذه العبارة [أنه يطلب](3) من المخلوق كل ما (4) يُطلبُ من الخالق، وهذا يُشعر أنه جعل المخلوق نداً للخالق؛ وما أفهم الشرك كان من أسوأ العبارات (5)؛ فيجب أن يكون كفراً؛ يلزم هذا القائل، وقد
(1) في (د) بعبادتهم.
(2)
كذا في (د) و (ح)، وسقطت من الأصل و (ف).
(3)
كذا في (ف) و (د) و (ح)، وسقطت من الأصل.
(4)
في (د) و (ح) كما.
(5)
في (ف) و (د) و (ح) العبارة.
قال رجلٌ للنبي صلى الله عليه وسلم: "ما شاء الله وشئت"، قال (1):"أجعلتني لله نداً!! بل ما شاء الله وحده"، وقال:"لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد"(2)، يقال:"من حلف بغير الله فقد أشرك".
الثالث: أن سوء العبارة ما حصل به سوء (المعبر عنه)(3)، من جعل الرسول يطلب منه الناس ما يطلبونه من الله، فقد آذى الرسول وأساء في حقه، وسلط عليه العامة على اختلاف أغراضهم، هذا يطلب منه إنزال المطر، وهذا يطلب منه غفران الذنوب، وهذا يطلب منه النصر على الأعداء، وهذا يطلب من أن يتزوج، وهذا يطلب منه الولد، وهذا يطلب منه المعيشة، وهذا يطلب منه الملك، وهذا يطلب منه الولاية، (وهذا يطلب منه داراً)(4)، وهذا يطلب منه جارية حسناء، وهذا يطلب منه (5) قضاء دينه، وهذا يطلب منه [سكباجاً](6)، وهذا يشتكي إليه ظهور البدع، وهذا يشتكي إليه ما يظن أنه من البدع.
فنزّلوا المخلوق منزلة الإله، وطلبوا منه جلب المنافع ودفع المضار ما لا يقدر عليه إلا الله تبارك وتعالى، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من لا
(1) في (ف) فقال.
(2)
أخرجه أبو داود في (كتاب الأدب، باب لا يقال خبثت نفسي) 5/ 259 رقم 4980، وابن ماجه في (أبواب الكفارات، باب النهي أن يقال ما شاء الله وشئت) 2/ 392 رقم 2131، والإمام أحمد في المسند 5/ 72، 384، 393، 398، والدارمي في (كتاب الاستئذان، باب في النهي عن أن يقال ما شاء الله وشاء فلان) 2/ 603 رقم 2702 واللفظ له، وأخرجه غيرهم. قال الهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 208 - 209: رواه أبو يعلي ورجاله ثقات. أ. هـ، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة 1/ 363: رجاله ثقات على شرط البخاري لكنه منقطع بين سفيان وبين عبد الملك. أ. هـ، وقال العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/ 214 رقم 137 - في حديث أبي داود وأحمد-: وهذا سند صحيح، رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين غير عبد الله بن يسار وهو الجهني الكوفي وهو ثقة، وثقه النسائي وابن حبان. أ. هـ.
(3)
ما بين القوسين في (د) المعتبر.
(4)
ما بين القوسين سقط من (د).
(5)
(منه) سقطت من (ف).
(6)
كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل كسباجاً وسبق تعريفه.
يسألنا أحب إلينا ممن سألنا"، وكانوا يسألونه ما يقدر عليه؛ فكيف إذا طلبوا منه ما لا يقدر عليه مخلوق؟! وفي الجملة فمطالب الناس لا تنضبط في خيرها وشرها وقلَّتها وكثرتها، فمن سلط الناس على الرسول يطلبون هذا كله منه فهو من أعظم الناس إساءة إليه، وإن كان لا يقصد ذلك لكن عبارته أفهمته؛ فهي من [أسوأ](1) العبارات.
الرابع: إن الكلام إذا كان في سياق توحيد الرب ونفي خصائصه عما سواه؛ لم يجز أن يقال هذا سوء عبارة في حق من دون الله من الأنبياء والملائكة، فإن المقام أجلّ من ذلك، وكل ما سوى الله يتلاشى عند تجريد توحيده، والنبي (2) صلى الله عليه وسلم كان من أعظم الناس تقريراً لما يقال [على هذا](3) الوجه، وإن كان نفسه المسلوب، وهذا كما في الصحيحين من حديث الإفك لما نزلت براءة عائشة من السماء وأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقالت لها أمها: قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت:"والله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا إياكما، لقد سمعتم فلا أنكرتم ولا غيرتم، ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي"(4)، وفي رواية قالت:"نحمد الله لا نحمد أحداً"، وفي رواية:"نحمد الله لا نحمدك"(5)، فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم، وأبوها على مثل هذا الكلام، الذي نفت فيه
(1) كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل و (ف) سوء.
(2)
في (د)(ونبي الله).
(3)
كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل و (ف)(هذا على).
(4)
أخرج البخاري أول الحديث في (كتاب التفسير، باب قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} 3/ 1492 رقم 4757، والإمام أحمد في المسند 6/ 60 بلفظ قريب من لفظ المؤلف، وقوله: "ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي"، أخرجه مسلم في (كتاب التوبة، باب حديث الإفك، وقبول توبة القاذف) 4/ 2136 رقم 2070.
(5)
لم أقف على هاتين الروايتين بهذا اللفظ، وقد أخرج البخاري في (كتاب المغازي، باب حديث الإفك) 3/ 1265 رقم 4143 ولفظه: "بحمد الله لا بحمد أحد ولا أحمدك
…
"، والإمام أحمد في المسند 6/ 367، 368، وانظر: ذكر الروايات في تفسير الطبري 5/ 279، وتفسير ابن كثير 3/ 271، وفتح الباري 38/ 611، وحاشية كتاب "كشف ما ألقاه إبليس من البهرج والتلبيس"، للدكتور عبد العزيز عبد الله الزايد ص 328، وأكثر الروايات: "بحمد الله لا بحمدك" بالباء.
أن يحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يحمد أحد إلا الله، لأن الله -تعالى- هو الذي أنزل براءتها بغير فعل أحد، ولم يقل أحد هذا سوء أدب عليه، وسوء الأدب عليه كفر.
قال البيهقي: ثنا (1) أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت علي بن [حمشاذ العدل](2)، سمعت أحمد بن مسلمة (3) يقول: سمعت محمد بن مسلم [بن واره](4) يقول: سمعت حبان (5) صاحب ابن المبارك يقول: قلت لعبد الله بن لمبارك: قول عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت براءتها من السماء: (بحمد الله لا بحمدك)(6) إني لأستعظم هذا القول؟ فقال عبد الله: "ولت الحمد أهله"(7).
وكذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده، حدثنا محمد بن مصعب، ثنا (8) سلام بن مسكين والمبارك عن الحسن عن الأسود بن سريع أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بأسير، فقال: اللهم إني (9) أتوب إليك ولا أتوب إلي محمد،
(1) في (ف) و (د) حدثنا.
(2)
ما ببن المعقوقين في (د) الحمسا، وفي (ح) الحمساد العدل، وفي الأصل و (ف) حمساد لعدل؛ لم تنقط ورسمت الذال في حمشاذ قريبة من الواو، والصواب ما أثبت أعلاه فهو علي بن حمشاذ العدل أحد شيوخ الحاكم صاحب المستدرك ثقة الحافظ انظر: السير 15/ 398 - 399.
(3)
لم أجد من ذكره، ولعله أحمد بن سلمة بن عبد الله النيسابوري، حافظ حجة عدل رفيق مسلم في الرحلة. انظر السير 13/ 373 رقم الترجمة 174 وهو من تلاميذ ابن واره كما في تهذيب الكمال للمزي.
(4)
في الأصل و (ف) وارث بالثاء، وفي (د) ورات، قلت: ولعلها تصحيف، وسقطت من (ح)، وهو محمد بن مسلم بن واره، حافظ ثقة، يضرب به المثل في الحفظ. انظر: السير 13/ 28.
(5)
هو أبو محمد حبان بن موسى بن سوار السلمي المروزي ثقة. انظر: تقريب التهذيب 1/ 182 رقم 1080.
(6)
في (د)(نحمد الله لا نحمدك).
(7)
لم أجد هذا الأثر، وجميع رجال الإسناد ثقات، وقال الحافظ ابن العربي المالكي في عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي (طبعة دار العلم - سوريا) 11/ 54 قالت العلماء: ولت الحمد أهله. أ. هـ.
(8)
في (د) حدثنا.
(9)
(إني) سقطت من (ف).
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عرف الحق لأهله"(1)، [و](2) رواه أبو عبيد في كتاب الأموال عن عبد الرحمن بن مهدي عن سلام.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُعلم أصحابه تجريد التوحيد (3)، فقال:"لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد"، وقال له رجل: ما شاء الله وشئت فقال: "أجعلتني لله ندّاً، بل (4) ما شاء الله وحده"، وما أحدثه الله عز وجل بغير فعل منه أضافه إلى الله وحده، كما في الصحيحين لما تاب الله على الثلاثة الذين خلفوا وآذن النبي صلى الله عليه وسلم الناس بتوبتهم، فجاء كعب إليه فقال:"يا كعب أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك"، فقال: يا رسول الله أمن عند الله أم من عندك؟ قال: "بل من عند الله"(5)، ومعلوم أنه لو كان من عند النبي صلى الله عليه وسلم لكان من عند الله، بمعنى أن الله خلقه وأحدثه
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند 3/ 435، والطبراني في المعجم الكبير 1/ 286 رقم 839، 840، والحاكم في المستدرك في كتاب التوبة والإنابة 4/ 255 وقال: صحيح الإسناد، وتعقبه الذهبي بقوله: ابن مصعب ضعيف واسمه محمد بن مصعب القرقسائي. أ. هـ، وقال ابن حجر في تقريب التهذيب 2/ 134 رقم 6321 في محمد بن مصعب: صدوق كثير الغلط. أ. هـ، وفي الحديث علة أخرى وهي تدليس الحسن البصري. انظر: كتاب تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس لابن حجر ص 102 رقم 40، وقد أخرج الحديث أيضاً -كما ذكر المؤلف- أبو عبيد بن سلام في كتاب الأموال ص 149 رقم 366، تحقيق محمد خليل هراس (الطبعة الأولى 1406 هـ) مرسلاً عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر الأسود بن سريع.
(2)
كذا في (ف)، وسقطت الواو من الأصل و (د) و (ح).
(3)
انظر: كتاب التوحيد وقرة عيون الموحدين، تأليف الشيخ عبد الرحمن بن حسن النجدي الحنبلي ص 118، باب ما جاء في حماية المصطفى جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك، وكتاب فتح المجيد للشيخ عبد الرحمن أيضاً ص 431 نفس الباب (ولا يوجد معلومات عن الطبعة)، والقول المفيد على كتاب التوحيد للشيخ محمد العثيمين عناية د. سليمان أبا الخيل ود. خالد المشيقح 3/ 276 نفس الباب (الطبعة الأولى 1415 هـ الناشر دار العاصمة الرياض).
(4)
(بل) سقطت من (ف).
(5)
أخرجه البخاري في (كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك) 3/ 1332 رقم 4418 وأطرافه: 4676، 4677 واللفظ له، ومسلم في (كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه) 4/ 2120 رقم 2769.
بتوسط فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فجميع الحادثات من عنده بهذا الاعتبار، ولكن المقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصدر منه فعل في هذه التوبة، إلا أنه بلغ (1) رسالة الله -تعالى- بالتوبة، كما قال في مثل ذلك:{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)} [يونس: 15].
وما يتكلم به الإنسان من تلقاء نفسه وإن كان الله خالقه؛ هو من عند الله باعتبار خلقه وتقديره، فليس هذا المعنى هو ذاك، فإنه هناك مبلِّغ لكلام مرسله والله يجعله مبلغاً له لا يجعله قائلاً من تلقاء نفسه، ولهذا توعد الله من جعل القرآن قول البشر، بقوله:{سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر: 26]، وقد قال تعالى:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42)} [الحاقة: 40 - 42]، فجعله قول رسول من البشر، كما جعله قول رسول من الملائكة؛ في قوله:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)} 19 - 21]، [لأن](2) لفظ الرسول يستلزم المرسل ويدل على أنه مبلغ له عن مرسله لا يتكلم به من تلقاء نفسه، بخلاف من جعله قولاً لمخلوق بشر (3) أو ملك أو جني، أو جعل شيئاً منه قوله، فإن هذا هو الذي توعده الله عز وجل.
وأيما أبلغ قول عائشة رضي الله عنها: "لا أحمد الرسول ولا أحمد إلا الله"، وقول الأسير:"أتوب إلى الله لا إلى محمد"، وقول القائل: لا يستغاث بالرسول بل بالله، أو لا يدعى الرسول وإنما يدعى الله ونحو ذلك؟!! وهو صلى الله عليه وسلم قد بلغ براءتها وكان يحبها ويحب براءتها، وقد خطب الناس قبل ذلك وقال: "من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا
(1)(بلغ) سقطت من (د).
(2)
كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (لا أن).
(3)
كذا في (ف) و (د)، وفي الأصل بشراً بالنصب وهو خطأ لأن "بشر" صفة لمخلوق مجرور مثله.
خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً" (1)، لكن لما لم يجزم ببراءتها، ولم يلطف بها اللطف الذي كان يلطف بها قبل ذلك، لما حصل عنده من الريب، بل كان إذا دخل يقول: "كيف تيكم"؟، ولما خطب قال: "يا عائشة إن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفر [ي](2) الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب؛ تاب الله عليه" (3)، قالت: "أنتم ما برأتموني إنما برأني الله فهو الذي يستحق أن أحمده" (4).
وقد تنازع الناس (5) في النبي صلى الله عليه وسلم هل كان يعلم براءة عائشة رضي الله عنها قبل نزول الوحي؟ (6)، مع اتفاقهم على أنه لم يجزم بالريبة، فمن الناس قال: يعلم
(1) أخرجه البخاري في (كتاب التفسير، باب قوله {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ} الآية) 3/ 1484 رقم 4750، ومسلم في (كتاب التوبة، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف) 4/ 2129 رقم 2770 واللفظ للبخاري.
(2)
كذا في (ف) و (ح) وسقط من الأصل و (د).
(3)
أخرجه البخاري في (كتاب التفسير، باب قوله تعالى: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا
…
} الآية رقم 4750، 3/ 1484، ومسلم في (كتاب التوبة، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف) 4/ 2129 رقم 2770 واللفظ للبخاري.
(4)
لم أجد هذه اللفظة وقد سبق ذكر الروايات وهي قريبة منها.
(5)
في (د) ناس.
(6)
لعل مراد المؤلف رحمه الله من هذا الاستطراد الرد على من يغلو في النبي صلى الله عليه وسلم ويصفه بصفات الرب -تعالى-؛ فهذه المسألة توضح وتبيّن أنه صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب وأن الأمر كله لله -تعالى- وهذه المسألة مسألة دقيقة، ذهب الناس فيها مذاهب:
الأول: منهم من قال: إنه صلى الله عليه وسلم يعلم براءتها لأن فجور الزوجة يقدح في النبوة، ولكن توقف عن إظهار ذلك، واختلفوا في التعليل.
الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم لا يحكم لنفسه إلا بعد نزول الوحي، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يجزم في القصة بشيء قبل نزول الوحي، وأن التنقيب لإقامة الحجة وقطع شبه المخالفين، وذهب لذلك ابن حجر في الفتح 8/ 610، 616 وغيره.
الثالث: منهم من قال: حصل له نوع شك وترجحت البراءة، وأجابوا على الفريق الأول أنه يجوز أن يقال: إنه لا يعد فجور الزوجة منفراً إلا إذا أمسكت بعد العلم به فلا يجوز أن يقع فيجب طلاقها، وإذا طلقت لا يتحقق المنفر المخل بالحكمة.
الرابع: قال آخرون: إنه صلى الله عليه وسلم توقف في أمرها، وسأل عنها، وبحث واستشار، وهو أعرف بالله، وبمنزلته عنده وبما يليق به، لأن هذا من تمام الحكم الباهرة التي جعل الله =
براءتها وكذلك علي؛ ولكن لخوض الناس فيها ورميها بالإفك توقف، قالوا: وذلك أن نساء الأنبياء ليس فيهن بغيّ، كما قال طائفة من السلف:"ما بغت امرأة نبي قط"(1)، لأن في ذلك من العار بالأنبياء ما يجب نفيه، وقال آخرون: بل كان النبي صلى الله عليه وسلم حصل له نوع شك وترجحت عندة براءتها؛ ولما نزل الوحي حصل اليقين، قالوا: والدليل على ذلك أنه استشار في طلاقها [عليًّا](2) وأسامة، فأسامة قال:"أهلك يا رسول الله ولا نعلم إلا خيراً"، وقال علي:"لا يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك"، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم بريرة فقال (3):"ما علمت على عائشة أو ما رأيت؟ "فقالت: ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر، غير أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها حتى تأتي الداجن (4) فتأكله" (5).
= هذه القصة سبباً لها، وابتلاء وامتحان لرسوله، ولجميع الأمة إلي يوم القيامة.
ولما كان هو المقصود صلى الله عليه وسلم بالأذي فلم يليق به أن يشهد براءتها مع علمه، أو ظنه الظن المقارب للعلم ببراءتها، وعنده صلى الله عليه وسلم من القرائن التي تشهد ببراءة الصدّيقة أكثر مما عند المؤمنين، ولكن لكمال صبره وثباته وحسن ظنه بربه، وثقته به، وفّى مقام الصبر والثبات وحسن الظن بربه حقه، حتي جاءه الوحي صلى الله عليه وسلم، وهذا القول أولي الأقوال، وقد ذهب إليه ابن القيم وعبد الغني المقدسي والشايع وغيرهم.
للتوسع انظر: حديث الإفك تأليف عبد الغني المقدسي تحقيق هشام السقا ص 43 وما بعدها، طبعة 1405 هـ، الناشر دار عالم الكتب الرياض، وزاد المعاد في هدي خير العباد لابن قيم الجوزية 3/ 259، تحقيق شعيب وعبد القادر الأرنؤوط الطبعة الخامسة والعشرون 1412 هـ، الناشر مؤسسة الرسالة بيروت - لبنان ومكتبة المنار الإسلامية - الكويت، وفتح الباري لابن حجر 8/ 608 وما بعدها، وروح المعاني للعلامة الألوسي 18/ 122 وما بعدها، وطهارة بيت النبوة تأليف خالد الشايع الطبعة الأولى 1414 هـ، الناشر دار الجلالين ودار الجلالين ودار بلنسية الرياض - السعودية ص 15 وما بعدها.
(1)
روي هذا عن ابن عباس والضحاك وغيرهما. انظر: تفسير الطبري 12/ 161، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 18/ 202.
(2)
كذا في (ط) وهو الصواب لأنه مفعول به منصوب، وفي الأصل و (ف) و (د) و (ح) لعلي.
(3)
في (ف) فقالت.
(4)
الداجن: هي الحمام والشاة وغيرهما التي ألفت البيوت. القاموس المحيط ص 1542 فصل الدال.
(5)
أخرجه البخاري في (كتاب التفسير، باب قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ =
فسؤاله صلى الله عليه وسلم لبريرة واستشارته لعلي وأسامة دليل على حصول الشك فيها، وهو لما خطب ما جزمِ بالبراءة فقال فيما قال:"والله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي"، ولو كان جازماً بالبراءة لقال: إنهم كذبوا على أهلي وافتروا، وإن أهلي لبريئة مما قيل ونحو ذلك، ونفي العلم ليس علماً بالعدم، لكن هذه العبارة تصلح لدفع المتكلم ونهيه وذمه على قبول القول، كما قال تعالى:{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)} [النور: 15].
والعدل الذي عُرفت عدالته إذا (1) لم يعلم فيه من له به خبرة ما ظنه (2) إلا الخير كان عدلاً عنده، فإذا جرحه جارح لم يعلم صدقه بل ترجح عنده كذبه لم يقدح في عدالته ولم يوجب الجزم ببراءته، قال صاحب هذا القول ولولا نزول براءتها من السماء لدام الشك في أمرها، وإن كان لم يثبت شيء، ففرق بين عدم الثبوت مع حد القاذف وبين البراءة المنزلة من السماء من الله عز وجل، ولهذا ذكر غير واحد من العلماء: اتفاق الناس على أن من قذفها بما برأها الله منه فقد كفر (3)؛ لأنه مكذب للقرآن، وأصحاب هذا القول يقولون: النبي صلى الله عليه وسلم تردد هل يطلقها أم لا؟ لما حصل الشك؛ لكون امرأة النبي لا تكون بغيًّا، وكان عزمه أن يطلقها -والعياذ بالله- لو كان ما ذكر صحيحاً؛ لكن تأنّى وانتظر أمر الله؛ حتى بيّن الله له الحق، ومن قال هذا يقول: المحفوظات هن اللواتي يبقين عند النبي ولا يطلقهن، وقد يقال (بل كل)(4) من تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم
= الْفَاحِشَةُ} الآية 3/ 1490 رقم 4757، ومسلم في (كتاب التوبة، باب حديث الإفك وقبول توبة القاذف) 4/ 2129 رقم 2770 اللفظ لمسلم.
(1)
في (د) إذ.
(2)
في (د) ما ظن به.
(3)
نقل ذلك عن الإمام مالك وغيره، ونقل النووي إجماع العلماء على ذلك، وحكاه أبو يعلى وغيرهم. انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 12/ 305، وشرح مسلم للنووي 17/ 122، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/ 276، والموسوعة الفقهية - الكويت 6/ 269.
(4)
في (ف)(بكل).
[محفوظة](1) وإن طلقها.
وقد تنازع الناس فيمن تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وطلقها أو مات عنها قبل الدخول هل تكون من أمهات المؤمنين؟ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره (2)، قيل إنها تكون أمًّا؛ فإن حرمة الأمومة ثبتت بالعقد كما ثبت في أمهات الناس، وقيل: لا تكون من أمهات المؤمنين والصحيح الفرق بين من طلقها ومن مات عنها، فمن مات عنها فهي من أمهات المؤمنين ومن أزواجه في الآخرة، بخلاف من طلقها فإنها تباح لغيره أن يتزوجها، ولولا هذا لم يحصل لهن بالتخيير (فائدة، وقد قال تعالى في آية التخيير)(3): {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ
(1) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (محفظة).
(2)
هذه الأقوال هي:
الأول: أنها ليست من أمهات المؤمنين.
الثاني: أنها من أمهات المؤمنين.
الثالث: التفريق بين المدخول به وغير المدخول بها.
والراجح أن غير المدخول بها ليست من أمهات المؤمنين لما ذكره المؤلف أعلاه من زواج عكرمه. انظر: البداية والنهاية 5/ 286، وغاية السوال ص 225، والموسوعة الفقهية الكويتية 6/ 267.
أما من دخل بها صلى الله عليه وسلم ثم طلقها في حياته صلى الله عليه وسلم فاختلف العلماء قولين:
أحدهما: أنها ليست من أمهات المؤمنين ويجوز لها أن تتزوج واستدلوا بآية التخيير.
والثاني: أنها من أمهات المؤمنين ولا يحل الزواج بها، وقبل الترجيح هنا مسألة مهمة: هل طلق النبي صلى الله عليه وسلم امرأة بعد أن دخل بها؟ الذي في حديث البخاري 3/ 1506 رقم 4786 في كتاب التفسير، باب {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
…
} أن نساءه صلى الله عليه وسلم جميعهن اخترن الآخرة، وضعف روايات الطلاق ابن حجر في الفتح 8/ 670، وانظر: حاشية غاية السول ص 248.
وقد رجح الأول المؤلف في مجموع الفتاوى 32/ 119، وقواه ابن كثير في تاريخه 5/ 286، ورجح الثاني الإمام الشافعي وابن الصلاح وجمع من علماء الشافعية. انظر: غاية السول في خصائص الرسول ص 225، وللتوسع. انظر: غاية السول لابن الملقن ص 223 وما بعدها، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم للإمام محمد يوسف الصالحي الدمشقي ص 235، تحقيق محمد نظام الدين، الطبعة الأولى 1413 هـ، الناشر دار ابن كثير دمشق، بيروت.
(3)
ما بين القوسين سقط من (د).
وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 28]، وقد تزوج عكرمة بن أبي جهل امرأة كان طلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقره الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- على ذلك (1).
الخامس: أن يقال ما حد سوء العبارة التي تكون كفراً؟ فإن هذا كلام مجمل لم يحصل (2) قائله مراده به، فإن أراد أن كل صفة هي ثابتة في نفس الرسول له (3) إذا نفاها [عنه](4) إنسان باجتهاده يكون مسيئاً في العبارة؛ لزم أن كل من أثبت له صفة يكفر من نفاها، فالقائلون بالعصمة يكفرون نفاتها وإن كانوا جمهور الأمة، كذلك من أوجب له حقاً كالصلاة عليه في الصلاة يكفر من نفى هذا الحق وإن كانوا جمهور الأمة.
السادس: أن يقال لا نسلم أن المقصود [إذا](5) صح يكفر المعبر بعبارة يقال إنها سيئة، وهذا قول لم يقله أحد من أئمة المسلمين (6)، بل
(1) المرأة التي تزوج عكرمة هي قتيلة بنت الأشعث، وقد أخرج الحاكم في المستدرك 4/ 38 كتاب معرفة الصحابة قال: قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه وفد كندة قتيلة بنت قيس أخت الأشعث بن قيس في سنة عشرة، ثم اشتكى في النصف من صفر ثم قبض يوم الاثنين ليومين مضيا من شهر ربيع الأول ولم تكن قدمت عليه ولا دخل بها، ووقت بعضهم وقت تزويجه إياها فزعم أنه تزوجها قبل وفاته بشهر، وزعم آخرون أنه تزوجها في مرضه، وزعم آخرون أنه أوصى أن تخير قتيلة إن مات فيضرب عليها الحجاب وتحرم على المؤمنين، وإن شاءت فلتنكح من شاءت، فاختارت النكاح فتزوجها عكرمة ابن أبي جهل بحضرموت فبلغ أبا بكر، فقال: لقد هممت أن أحرق عليهما، فقال عمر بن الخطاب: ما هي من أمهات المؤمنين ولا دخل بها النبي صلى الله عليه وسلم ولا ضرب عليها، وزعم بعضهم أنها ارتدت. أ. هـ.
وللتوسع انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 14/ 168، وكتاب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تأليف محمد بن يوسف الصالحي الدمشقي ص 257، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 18/ 88 - 89، طبعة دار نهضة مصر - القاهرة.
(2)
في (ط)(يحصر).
(3)
(له) سقطت من (د).
(4)
كذا في (ف) وفي الأصل و (د) و (ح) عن.
(5)
كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (إذ).
(6)
في (ف) المسلمون.
هم مجمعون على نقيضه، وأن المسلم إذا عني معني صحيحاً في حق الله أو الرسول ولم يكن خبيراً بدلالة الألفاظ؛ (فأطلق لفظاً)(1) يظنه دالاً على ذلك المعنى وكان دالاً على غيره، أنه لا يكفر، ومن كفر مثل هذا كان أحق بالكفر؛ فإنه مخالف للكتاب والسنة وإجماع المسلمين، وقد قال تعالى:{لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة: 104]، وهذه العبارة كانت مما يقصد به اليهود إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم؛ والمسلمون لم يقصدوا ذلك فنهاهم الله عنها ولم يكفرهم بها، والمطلق لمثل هذا علي الله لا يكفر، فكيف علي الرسول!!.
وقوله: (إن كلام الإمام (2) أو غيره دل علي [أن](3) ذلك ممنوع)، فإن إمام الحرمين أجل من أن يقصد مثل هذا، وإن سُلم أنه قال ذلك؛ ولا ينفع هذا المحتج تسليم ذلك له، فالكلام مع من قال هذا لو كان مجتهداً؛ دع إذا كان القائل ممن ليس له وجه في مذهبه، ولا يجوز لأحد أن يقلده ولا يفتي بقوله فيما هو دون هذه المسألة، فكيف بمثل (4) هذه المسألة المتعلقة بالتكفير والدماء (5)، وجهل مثل هذا المفتي بالشرع وأدلته [يوقعه](6) فيما لم يقله أحد من علماء المسلمين، ولهذا يقع في فتاويه من العجائب ما لا يقوله أحد، فإنه يحب أن يفتي بمجرد رأيه ونظره مع قلة علمه لمسالك الأحكام ومدارك الحلال والحرام وأقوال أئمة الإسلام.
وأما قوله: (أترى (7) إلزام الله للصحابة بتحسين الخطاب معه وإيراده بكيفية الأدب حيث قال لهم: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2]،
(1) ما ببن القوسين سقط من (ف).
(2)
هو إمام الحرمين أبو المعالي الجويني وقد سبق ترجمته.
(3)
ما بين المعقوفتين يقتضيه السياق ولم يرد في جميع النسخ.
(4)
في (ف) في مثل.
(5)
في (د) الدعاء
(6)
كذا في (ط)، وفي جميع النسخ (توقعه).
(7)
في ص 362 أورد المؤلف النص (ألا ترى).
وقال تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]، وقال:{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4]).
فيقال له: هذه الآيات كلها حجة عليك، فإن الذين رفعوا أصواتهم فوق صوته نهوا عن ذلك وحرم ذلك عليهم، فكان ذلك سوء أدب ولم يكفروا بإجماع المسلمين، بل كانوا معذورين فيما فعلوا قبل النهي، فمن أطلق عبارة لها معنى صحيح ولم يعلم (1) أنها مكروهة كيف يكفر!! وهذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر كما ثبت ذلك في الصحيح (2)، ومن كفرهما فهو أحق بالكفر.
وقد ثبت في الصحيح أن ثابت بن قيس بن شماس -وكان يرفع صوته- خاف لما نزلت هذه الآية أن يكون من أهل النار، فبشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة (3)، وهو أحد المشهود لهم بالجنة كما شهد بها للعشرة وغيرهم، وكذلك دعاؤه باسمه لم يقل أحد من المسلمين: إنه كان كفراً ممن دعاه، وكذلك الذين نادوه من وراء الحجرات كانوا من جفاة الأعراب وقالوا: يا محمد أخرج إلينا فسموه باسمه، وإنما وصفهم الله بأن أكثرهم لا يعقلون لم يقل إنهم مرتدون.
وأما قوله: (فقد نبه في الأول على حبط العمل بسوء الأدب، ولا يحبط العمل كله إلا بالكفر بإجماع أهل السنة).
فيقال: بل الآية دلت على نقيض هذا فإنه قال: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ
(1) سقطت من (د).
(2)
يشير إلى ما أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ
…
} الآية 3/ 1537 رقم 4845، قال ابن أبي مليكة: كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجل آخر، قال نافع: لا أحفظ اسمه، فقال: أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي، قال: ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} ، قال ابن الزبير: فما كان عمر يُسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه، ولم يذكر ذلك عن أبيه، يعني أبا بكر.
(3)
أخرجه البخاري في (كتاب التفسير، باب تفسير سورة الحجرات) 3/ 1538 رقم 4846 من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وأوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس
…
الحديث".
لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2]، أي خشية أن تحبط أعمالكم، فدلت علي أن العمل لم يحبط بما تقدم من سوء الأدب؛ ولكن يخاف إذا رفعوا أصواتهم أن يجرهم ذلك إلى كفر يحبط العمل وهم لا يشعرون، فالمحبط ما يخاف حصوله لا ما وقع منهم، وهذا كما يقال المعاصي بريد الكفر، فإن رفع الصوت عليه والجهر له كجهر بعضكم لبعض قد يفضي بصاحبه إلي الاستعلاء عليه ونحو ذلك مما هو كفر.
ثم يقال: ما نحن فيه ليس من هذا الباب، فإن الرافع قد فعل ما يعلم أنه مذموم في حق الرسول، فإن رفع الإنسان صوته علي غيره يعلم كل أحد أنه قلة احترام له، وليس أنه كمن تكلم بعبارة لا يعلم بها بأساً؛ قصد بها معنًى صحيحاً، ألا ترى أن الصحابة لما كانوا يقولون راعنا؛ وهذه الكلمة قد يقصد بها معنًى فاسداً (1)، وهم لا [يقصدون](2) ذلك لكن كان ذريعة لغيرهم نهوا (3) عنها، ولم يقل: إنكم كفرتم، ولا قيل فيها: أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون؛ بل فرق الله -تعالى- بين قولهم راعنا وبين رفع الصوت عليه، وسوء العبارة مع صحة القصد من باب قولهم: راعنا، وهذه الآية حجة علي بطلان ما فهمه من كلام الإمام وغيره.
ومن الحكايات [المعروفة](4) عن الشافعي أن ربيع (5) قال له في مرضه: يا أبا عبد الله قوى الله ضعفك، فقال: يا أبا محمد لو قوي ضعفي لهلكت، فقال له الربيع: لم أقصد إلا خيراً، فقال: لو شتمتني صريحاً لعلمت أنك لم تقصد إلا الخير، فقال الربيع: كيف أقول؟ قال: قل: برأ الله ضعفك، فإن الشافعي نظر إلى حقيقة اللفظ وهو نفس الضعف، والربيع قصد
(1) في (د) و (ح)(فاسد) بالضم.
(2)
كذا في (د) و (ح) وفي الأصل و (ف) يقصدوا.
(3)
كذا في جميع النسخ والأولى فنهوا عنه.
(4)
كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (المعرفة).
(5)
هو أبو محمد الربيع بن سليمان بن عبد الجبار بن كامل المرادي بالولاء، المؤذن، صاحب الإمام الشافعي، وراوي كتبه، توفي سنة 270 هـ، وهذه الحكاية أوردها السبكي في طبقات الشافعية 1/ 261. انظر: ترجمته في طبقات الشافعية الكبري 1/ 259، والأعلام 3/ 14.
أن يسمي [الضعيف](1) ضعفاً كما يسمى العادل عدلاً، ثم [لما] (2) علم الشافعي بحسن قصده أوجب أن يقول: لو سببتني صريحاً -أي صريحاً في اللغة- لعلمت أنك لم تقصد إلا خيراً (3)، فقدم عليه علمه بحسن قصده ولم يجعل سوء العبارة منقصاً، وقد يسبق اللسان بغير ما قصد القلب، كما يقول الداعي من الفرح:"اللهم أنت عبدي وأنا ربك"(4)؛ ولم يؤاخذه الله.
فصل
وأما قوله: (وجعل الاستخفاف به كفراً كما قال الله عز وجل {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65 - 66]، ولا أعلم خلافاً بين النقلة أن الذين نزلت فيهم هذه الآية بسبب كلامهم و (5) لم يكونوا تعرضوا لله بعبارتهم؛ وإنما تنقصوا رسوله، فجعل استخفافهم برسوله استهزاء به سبحانه وبآياته وكفى بذلك [كفراً](6)، ثم ذكر ما نقله من الكتاب الذي صنفته المسمى:"بالصارم المسلول على شاتم الرسول").
فيقال: لا ريب أن الاستخفاف بالنبي صلى الله عليه وسلم كفر، والاحتجاج بهذه الآية يدل على أن الاستهزاء بالله كفر؛ وبآيات الله كفر، وبرسوله كفر، من جهة أن الاستهزاء كفر وحده بالضرورة، فلم يكن ذكر الاستهزاء بآياته وبرسوله [شرطاً](7)[في ذلك](8)، فعلم أن الاستهزاء بالرسول أيضاً كفر وإلا لم يكن في ذكره فائدة،
(1) كذا في (ح) و (ط) وفي الأصل و (ف) و (د)(ضعف) ولا يستقيم المعنى.
(2)
كذا في (د) و (ح) وسقط من الأصل و (ف).
(3)
في (ف) الخير.
(4)
يشير إلى ما أخرجه مسلم في (كتاب التوبة، باب الحض على التوبة والفرح بها) 4/ 2105 رقم 2747، وأوله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه
…
الحديث".
(5)
سقطت الواو من (ف).
(6)
كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (كفر) بدون ألف، وفي ص 362 ذكر المؤلف الجملة ورسم هذه الكلمة:(تكفيراً).
(7)
كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل و (ف) شرط بدون ألف.
(8)
ما بين المعقوفتين من (ف) و (د) و (ح)، وسقط من الأصل.
وكذلك الاستهزاء بالآيات، وأيضاً فإن الاستهزاء بهذه الأمور متلازم، فإن من استهزأ بآيات الله التي جاء بها الرسول فهو مستهزئ بالرسول ضرورة، ومن استهزأ بالرسول فهو مستهزئ برسالته حقيقة، ومن استهزأ بآيات الله ورسوله فهو مستهزئ به (1)، ومن استهزأ بالله فإنه مستهزئ بآياته ورسوله بطريق الأولي، وأما الذين نزلت فيهم هذه الآية فقد [نزلت في المنافقين في غزوة تبوك](2).
لكن هؤلاء الضالون أولى بالدخول في الاستهزاء بالله وبآياته ورسوله من منازعيهم، فإن كانت الآية تتناول المتأولين من أهل القبلة كانوا أحق بالدخول، وإن لم تتناول المتأولين كان منازعوهم أحق بالخروج منها لو كانوا مخطئين، وأما [مع](3) كونهم مصيبين فلا وجه لتناول الآية لهم، وذلك أن هؤلاء الضالون مستخفون بتوحيد الله، يعظمون دعاء غيره من الأموات (4)، وإذا أمروا بالتوحيد ونهوا عن الشرك استخفوا به، كما أخبر تعالى عن المشركين بقوله {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42)} [الفرقان: 41 - 42]، فاستهزءوا بالرسول لما نهاهم عن الشرك، وقال تعالى عن المشركين:{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36)} [الصافات: 35، 36] قال (5) تعالى: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)} [الصافات: 37]، وقال تعالى عن المشركين:{وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)} [ص: 4 - 7]، وقالت عاد لهود عليه السلام: {يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ
(1) في (ف) زاد الناسخ حقيقة ثم شطبها.
(2)
بياض في جميع النسخ؛ في الأصل و (ف) بمقدار سبع كلمات؛ وفي (د) و (ح) بمقدار كلمتين، وما بين المعقوفتين هو ما يتطلبه السياق، وانظر: سبب نزول الآية في تفسير الطبري 5/ 409.
(3)
كذا في (ف) و (د) و (ح)، وسقطت من الأصل.
(4)
في (د) الأمور.
(5)
في (ف) الله.
آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: 53 - 56].
وما زال المشركون يسوؤون (1) الأنبياء (2) ويصفونهم بالسفاهة والضلال والجنون إذا دعوهم إلى التوحيد؛ لما في أنفسهم من تعظيم الشرك، قال تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (3) (62)} [الأعراف: 59 - 62]، (وقال كذلك) (4):{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (5) (71)} [الأعراف: 65 - 71].
فأعظم ما سفهوه لأجله وأنكروه هو التوحيد، وهكذا تجد من فيه شبه من هؤلاء من بعض الوجوه إذا رأى من يدعو إلى توحيد الله وإخلاص الدين له؛ وأن لا يعبد الإنسان إلا الله ولا يتوكل إلا عليه؛ استهزأ بذلك لما عنده من الشرك، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ
(1) في مجموع الفتاوى 15/ 48: يسبون.
(2)
في (د) بالأنبياء، وفي (ح) إلى الأنبياء.
(3)
الآية الأخيرة سقطت من الأصل و (ف)، وهي في (د) و (ح).
(4)
ما بين القوسين في (د) و (ح)(ثم قال تعالى).
(5)
في (د) ذكر الآيات إلى قوله تعالى: {عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ} إلى قوله: {مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} .