الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَقِيَّة أَخْبَار بني الْأَحْمَر واستيلاء الْعَدو على غرناطة وَسَائِر الأندلس مِنْهَا وانقراض كلمة الْإِسْلَام مِنْهَا
كَانَت دولة بني الْأَحْمَر فِي هَذِه الْمدَّة متماسكة والفتنة بَين أعياصها متشابكة والعدو فِيمَا بَين ذَلِك يخادعهم عَمَّا بِأَيْدِيهِم ويراوغهم ويسالمهم تَارَة ويحاربهم إِلَى أَن كَانَت دولة السُّلْطَان أبي الْحسن عَليّ ابْن السُّلْطَان سعد ابْن الْأَمِير عَليّ ابْن السُّلْطَان يُوسُف ابْن السُّلْطَان مُحَمَّد الْغَنِيّ بِاللَّه فنازعه أَخُوهُ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن سعد الْمَدْعُو بالزغل قدم من بِلَاد النَّصَارَى وبويع بمالقة وَبَقِي بهَا مُدَّة وَعظم الْخطب واشتدت الْفِتَن وشرق الْمُسلمُونَ بداء الْخلاف الْوَاقِع بَين هذَيْن الْأَخَوَيْنِ وتكالب الْعَدو عَلَيْهِم وَوجد السَّبِيل إِلَى تَفْرِيق كلمتهم والتمكن من فسخ عَهدهم وذمتهم وَذَلِكَ أَعْوَام الثَّمَانِينَ وَثَمَانمِائَة ثمَّ انْقَادَ أَبُو عبد الله لأبي السحن فسكنت أَحْوَال الأندلس بعض الشَّيْء ثمَّ خرج عَلَيْهِ وَلَده أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي الْحسن وأسره النَّصَارَى فِي بعض الوقعات فراجع النَّاس طَاعَة أبي الْحسن ثمَّ نزل لِأَخِيهِ أبي عبد الله الزغل عَن الْأَمر لآفة أَصَابَته فِي بَصَره ثمَّ إِن الْعَدو عمد لأسيره أبي عبد الله ابْن الْحسن فوعده ومناه وَأظْهر لَهُ من أكاذيبه وخدعه غَايَة مناه وَبَعثه للتشغيب على عَمه طلبا لتفريق كلمة الْمُسلمين وَعكس مُرَادهم وتوصلا إِلَى مَا بَقِي عَلَيْهِ من حصون الْمُسلمين وبلادهم وطالت الْفِتْنَة بَين الْعم وَابْن الْأَخ وكل عقد كَانَ بَين الْعَدو وَبَينه انحل وانفسخ وخبت الْعَامَّة الَّذين هم أَتبَاع كل ناعق فِي ذَلِك وَوضعت وَكَانَ ذَلِك من أعظم الْأَسْبَاب الْمعينَة لِلْعَدو على التَّمَكُّن من أَرض الأندلس والتهامها واستئصال كلمة الْإِسْلَام مِنْهَا ثمَّ إِن ابْن الْأَخ استولى على غرناطة بعد خُرُوج الْعم عَنْهَا إِلَى الْجِهَاد ففت ذَلِك فِي عضده وَعطف إِلَى وَادي آش فاعتصم بهَا وحاصر الْعَدو مالقة فقاتله أَهلهَا بِكُل مَا أمكنهم حَتَّى إِذا لم يَجدوا لِلْقِتَالِ مساغا نزلُوا على الْأمان فاستولى الْعَدو عَلَيْهَا أَوَاخِر شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة ثمَّ استولى بعد ذَلِك على وَادي آش وأعمالها صلحا وَدخل فِي طَاعَته صَاحبهَا أَبُو عبد الله الْعم بعد
أَن استهوى الْعَدو قواده بالأموال الجزيلة ثمَّ إِن الْعَدو خذله الله وَأرْسل أَبَا عبد الله بن أبي الْحسن صَاحب غرناطة وَعرض عَلَيْهِ الدُّخُول فِي الخطة الَّتِي دخل فِيهَا عَمه من النُّزُول لَهُ عَن الْبِلَاد على أَمْوَال جزيلة يبذلها لَهُ وَيكون تَحت حكمه مُخَيّرا فِي أَي بِلَاد الأندلس شَاءَ فَشَاور رَعيته فاتفق النَّاس على الِامْتِنَاع والقتال فَعِنْدَ ذَلِك أرهف الْعَدو حَده وَجعل غرناطة وَأَهْلهَا من شَأْنه بعد أَن استولى أثْنَاء هَذِه الْفِتَن والتضريبات على حصون كَثِيرَة لم نتعرض لذكرها حَتَّى لم يبْق لَهُ إِلَّا غرناطة وأعمالها وَقد اختصرنا مُعظم هَذِه الْأَخْبَار إِذْ لم تكن من مَوْضُوع الْكتاب وَإِنَّمَا ألممنا بِهَذِهِ النبذة تتميما للفائدة وَزِيَادَة فِي الإمتاع وَلما كَانَ الْيَوْم الثَّانِي وَالْعشْرُونَ من جُمَادَى الْآخِرَة سنة سِتّ وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة خرج الْعَدو بمحلاته إِلَى مرج غرناطة وأفسد الزَّرْع ودوخ الأَرْض وَهدم الْقرى وَأمر بِبِنَاء مَوضِع بالسور والحفير فأحكمه وَكَانَ النَّاس يظنون أَنه عازم على الِانْصِرَاف فَإِذا بِهِ قد صرف عزمه إِلَى الْحصار وَالْإِقَامَة وَصَارَ يضيق على غرناطة كل يَوْم ودام الْقِتَال سَبْعَة أشهر وَاشْتَدَّ الْحصار بِالْمُسْلِمين غير أَن النَّصَارَى على بعد الطّرق بَين غرناطة والبشرات مُتَّصِلَة بالمرافق وَالطَّعَام يَأْتِي من نَاحيَة جبل شلير إِلَى أَن تمكن فصل الشتَاء وكلب الْبرد وَنزل الثَّلج فانسد بَاب الْمرَافِق وَانْقطع الجالب وَقل الطَّعَام وَاشْتَدَّ الغلاء وَعظم الْبلَاء وَاسْتولى الْعَدو على أَكثر الْأَمَاكِن خَارج الْبَلَد وَمنع الْمُسلمين من الْحَرْث وَالسَّبَب وضاق الْحَال وَبَان الاختلال وَعظم الْخطب وَذَلِكَ أول سنة سبع وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة وطمع الْعَدو فِي الِاسْتِيلَاء على غرناطة بِسَبَب الْجُوع والغلاء دون الْحَرْب والقتال ففر نَاس كَثِيرُونَ من الْجُوع إِلَى البشرات ثمَّ اشْتَدَّ الْأَمر فِي شهر صفر من السّنة وَقل الطَّعَام وتفاقم الْخطب فَاجْتمع نَاس مَعَ من يشار إِلَيْهِ من أهل الْعلم كَأبي عبد الله الْمُوَافق شَارِح الْمُخْتَصر وَغَيره وَقَالُوا انْظُرُوا لأنفسكم وَتَكَلَّمُوا مَعَ سلطانكم فأحضر السُّلْطَان أَبُو عبد الله بن أبي الْحسن أهل دولته وأرباب مشورته وَتَكَلَّمُوا فِي هَذَا الْأَمر وَأَن الْعَدو يزْدَاد مدده كل يَوْم وَنحن لَا مدد لنا وَكُنَّا نظن أَنه يقْلع عَنَّا فِي فصل الشتَاء فخاب الظَّن وَبنى وَأسسَ وَأقَام وَقرب
منا فانظروا لأنفسكم وَأَوْلَادكُمْ فاتفق الرَّأْي على ارْتِكَاب أخف الضررين وشاع أَن الْكَلَام وَقع بَين النَّصَارَى ورؤساء الأجناد قبل ذَلِك فِي إِسْلَام الْبَلَد خوفًا على نُفُوسهم وعَلى النَّاس ثمَّ عددوا مطَالب وشروطا أداروها وَزَادُوا أَشْيَاء على مَا كَانَ فِي صلح وَادي آش مِنْهَا أَن صَاحب رومة يُوَافق على الِالْتِزَام وَالْوَفَاء بِالشّرطِ إِذا مكنوه من حَمْرَاء غرناطة والمعاقل والحصون وَيحلف على عَادَة النَّصَارَى فِي العهود وَتكلم النَّاس فِي ذَلِك وَذكروا أَن رُؤَسَاء أجناد الْمُسلمين لما خَرجُوا للْكَلَام فِي ذَلِك امتن عَلَيْهِم النَّصَارَى بِمَال جزيل وذخائر ثمَّ عقدت بَينهم الوثائق على شُرُوط قُرِئت على أهل غرناطة فانقادوا إِلَيْهَا ووافقوا عَلَيْهَا وَكَتَبُوا الْبيعَة لصَاحب قشتالة فقبلها مِنْهُم وَنزل سُلْطَان غرناطة أَبُو عبد الله عَن الْحَمْرَاء وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه
وَفِي ثَانِي ربيع الأول من السّنة أَعنِي سنة سبع وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة استولى النَّصَارَى على الْحَمْرَاء ودخلوها بعد أَن استوثقوا من أهل غرناطة بِنَحْوِ خَمْسمِائَة من الْأَعْيَان رهنا خوف الْغدر وَكَانَت الشُّرُوط سَبْعَة وَسِتِّينَ شرطا مِنْهَا تَأْمِين الصَّغِير وَالْكَبِير فِي النَّفس والأهل وَالْمَال وإبقاء النَّاس فِي أماكنهم ودورهم ورباعتهم وعقارهم وَمِنْهَا إِقَامَة شريعتهم على مَا كَانَت وَلَا يحكم على أحد مِنْهُم إِلَّا بِشَرِيعَتِهِ وَأَن تبقى الْمَسَاجِد كَمَا كَانَت والأوقاف كَذَلِك وَأَن لَا يدْخل النَّصَارَى دَار مُسلم وَلَا يغصبوا أحدا وَأَن لَا يولي على الْمُسلمين نَصْرَانِيّ أَو يَهُودِيّ مِمَّن يتَوَلَّى عَلَيْهِم من قبل سلطانهم وَأَن يفتك جَمِيع من أسر فِي غرناطة حَيْثُ كَانُوا وخصوصا أعيانا نَص عَلَيْهِم وَمن هرب من أُسَارَى الْمُسلمين وَدخل غرناطة لَا سَبِيل عَلَيْهِ لمَالِكه وَلَا لغيره وَالسُّلْطَان يدْفع ثمنه لمَالِكه وَمن أَرَادَ الْجَوَاز إِلَى العدوة لَا يمْنَع ويجوزون فِي مُدَّة عينت فِي مراكب السُّلْطَان لَا يلْزمهُم إِلَّا الْكِرَاء ثمَّ بعد تِلْكَ الْمدَّة يُعْطون عشر مَالهم والكراء وَأَن لَا يُؤْخَذ أحد بذنب غَيره وَأَن لَا يجْبر من أسلم على الرُّجُوع لِلنَّصَارَى وَدينهمْ وَأَن من تنصر من الْمُسلمين يُوقف أَيَّامًا حَتَّى يظْهر حَاله ويحضر لَهُ حَاكم من الْمُسلمين وَآخر من النَّصَارَى فَإِن أَبى الرُّجُوع إِلَى الْإِسْلَام تَمَادى على مَا أَرَادَ وَلَا يُعَاتب
على من قتل نَصْرَانِيّا أَيَّام الْحَرْب وَلَا يُؤْخَذ مِنْهُ مَا سلب من النَّصَارَى أَيَّام الْعَدَاوَة وَلَا يُكَلف الْمُسلم بضيافة أجناد النَّصَارَى وَلَا يسفر لجِهَة من الْجِهَات وَلَا يزِيدُونَ على المغارم الْمُعْتَادَة وترفع عَنْهُم جَمِيع الْمَظَالِم والمغارم المحدثة وَلَا يطلع نَصْرَانِيّ للسور وَلَا يتطلع على دور الْمُسلمين وَلَا يدْخل مَسْجِدا من مَسَاجِدهمْ ويسير الْمُسلم فِي بِلَاد النَّصَارَى آمنا فِي نَفسه وَمَاله وَلَا يَجْعَل عَلامَة كَمَا يَجْعَل الْيَهُود وَأهل الدجن وَلَا يمْنَع مُؤذن وَلَا صَائِم وَلَا مصل وَلَا غَيره من أُمُور دينه وَمن ضحك مِنْهُم يُعَاقب ويتركون من المغارم سِنِين مَعْلُومَة وَأَن يُوَافق على كل الشُّرُوط صَاحب رومة وَيَضَع خطّ يَده وأمثال هَذَا مِمَّا تركنَا ذكره
وَبعد انبرام ذَلِك وَدخُول النَّصَارَى للحمراء وَالْمَدينَة جعلُوا قائدا بالحمراء وحكاما ومقدمين بِالْبَلَدِ وَلما علم بذلك أهل البشرات دخلُوا فِي هَذَا الصُّلْح وشملهم حكمه على هَذَا الْوَجْه ثمَّ أَمر الْعَدو بِبِنَاء مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي الْحَمْرَاء وتحصينها وتجديد بِنَاء قُصُورهَا وَإِصْلَاح سورها وَصَارَ الطاغية يخْتَلف إِلَى الْحَمْرَاء نَهَارا ويبيت بمحلته لَيْلًا إِلَى أَن اطْمَأَن من خوف الْغدر فَدخل الْمَدِينَة وَتَطوف بهَا وأحاط خَبرا بِمَا يرومه مِنْهَا ثمَّ أَمر سُلْطَان الْمُسلمين أَن ينْتَقل لسكنى البشرات وَأَنَّهَا تكون لَهُ فِي سكناهُ بأندرش فَانْصَرف إِلَيْهَا وَأخرج الأجناد مِنْهَا ثمَّ احتال عَدو الله فِي نَفْيه لبر العدوة وَأظْهر أَن السُّلْطَان الْمَذْكُور طلب مِنْهُ ذَلِك ثمَّ كتب لصَاحب المرية أَنه سَاعَة وُصُول كتابي هَذَا لَا سَبِيل لأحد أَن يمْنَع مولَايَ أَبَا عبد الله من السّفر حَيْثُ أَرَادَ من بر العدوة وَمن وقف على هَذَا الْكتاب فليصرفه وليقف مَعَه وَفَاء بِمَا عهد لَهُ فَانْصَرف السُّلْطَان أَبُو عبد الله فِي الْحِين بِنَصّ هَذَا الْكتاب وَركب الْبَحْر فَنزل بمليلة واستوطن فاسا وَكَانَ قبل ذَلِك قد طلب الْجَوَاز لناحية مراكش فَلم يسعف بذلك وَحين جَوَازه لبر العدوة لَقِي شدَّة وَغَلَاء وبلاء ثمَّ إِن النَّصَارَى نكثوا الْعَهْد وَنَقَضُوا الشُّرُوط عُرْوَة عُرْوَة إِلَى أَن آل الْحَال لحملهم الْمُسلمين على التنصر سنة أَربع وَتِسْعمِائَة بعد أُمُور وَأَسْبَاب أعظمها عَلَيْهِم أَنهم قَالُوا إِن القسيسين كتبُوا على جَمِيع من أسلم من النَّصَارَى أَن
يرجع مهرعا لدينِهِ فَفَعَلُوا ذَلِك وَتكلم النَّاس وَلَا جهد لَهُم وَلَا قُوَّة ثمَّ تعدوا ذَلِك إِلَى أَمر آخر وَهُوَ أَن يَقُولُوا للرجل الْمُسلم إِن جدك كَانَ نَصْرَانِيّا فَأسلم فترجع أَنْت نَصْرَانِيّا وَلما تفاحش هَذَا الْأَمر قَالَ أهل البيازين على الْحُكَّام فَقَتَلُوهُمْ وَهَذَا كَانَ السَّبَب الْأَعْظَم فِي التنصر قَالُوا لِأَن الحكم خرج من عِنْد السُّلْطَان أَن من قَامَ على الْحَاكِم فَلَيْسَ إِلَّا الْمَوْت إِلَّا أَن يتنصر فينجو من الْمَوْت وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُم تنصرُوا عَن آخِرهم بادية وحاضرة وَامْتنع قوم من التنصر واعتزلوا النَّصَارَى فَلم يَنْفَعهُمْ ذَلِك وامتنعت قرى وأماكن كَذَلِك مِنْهَا بلفيق وأندرش وَغَيرهمَا فَجمع لَهُم الْعَدو الجموع واستأصلهم عَن آخِرهم قتلا وسبيا إِلَّا مَا كَانَ من جبل بللنقة فَإِن الله تَعَالَى أعانهم على عدوهم وَقتلُوا مِنْهُم مقتلة عَظِيمَة مَاتَ فِيهَا صَاحب قرطبة وأخرجوا على الْأمان إِلَى فاس بعيالهم وَمَا خف من أَمْوَالهم دون الذَّخَائِر
ثمَّ بعد هَذَا كُله كَانَ من أظهر التنصر من الْمُسلمين يعبد الله فِي خُفْيَة وَيُصلي فَشدد النَّصَارَى فِي الْبَحْث عَنْهُم حَتَّى إِنَّهُم أحرقوا كثيرا مِنْهُم بِسَبَب ذَلِك ومنعوهم من حمل السكين الصَّغِيرَة فضلا عَن غَيرهَا من الْحَدِيد وَقَامُوا فِي بعض الْجبَال على النَّصَارَى مرَارًا فَلم يقيض الله تَعَالَى لَهُم ناصرا إِلَى أَن كَانَ إِخْرَاج النَّصَارَى إيَّاهُم جملَة أَعْوَام سَبْعَة عشر وَألف بعد أَن ساكنوهم بغرناطة وأعمالها نَحوا من مائَة وَعشْرين سنة كَانُوا فِيهَا تَحت ذمَّة النَّصَارَى كَمَا رَأَيْت وَالْأَمر لله وَحده وَلما أجلاهم الْعَدو عَن جَزِيرَة الأندلس خرجت أُلُوف مِنْهُم بفاس وألوف أخر بتلمسان ووهران وَخرج جمهورهم بتونس فتسلط عَلَيْهِم فِي الطرقات الْأَعْرَاب وَمن لَا يخْشَى الله تَعَالَى من الأوباش ونهبوا أَمْوَالهم وَهَذَا بِبِلَاد تلمسان وفاس وَنَجَا الْقَلِيل من هَذِه الْمضرَّة وَأما الَّذين خَرجُوا بنواحي تونس فَسلم أَكْثَرهم وَكَذَلِكَ بتطاوين وسلا وبيجة الجزائر وَلما استخدم سُلْطَان الْمغرب الْأَقْصَى وَهُوَ الْمَنْصُور السَّعْدِيّ مِنْهُم عسكرا جرارا وَسَكنُوا سلا كَانَ مِنْهُم من الْجِهَاد فِي الْبَحْر مَا هُوَ مَشْهُور وحصنوا قلعة سلا وَهِي رِبَاط الْفَتْح وبنوا بهَا الْقُصُور والحمامات والدور
قَالَ أَبُو الْعَبَّاس الْمقري فِي نفح الطّيب وهم الْآن يَعْنِي فِي حُدُود الثَّلَاثِينَ وَألف بِهَذَا الْحَال وَوصل جمَاعَة مِنْهُم إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة الْعُظْمَى وَإِلَى مصر وَالشَّام وَغَيرهَا من بِلَاد الْإِسْلَام وانقضى أَمر الأندلس وعادت نَصْرَانِيَّة كَمَا كَانَت أول مرّة وَالله وَارِث الأَرْض وَمن عَلَيْهَا وَهُوَ خير الْوَارِثين
وَفِي السّنة الَّتِي استولى الإصبنيول على غرناطة انكشفت لَهُم أَرض ماركان الَّتِي كَانَت مَجْهُولَة قبل هَذَا التَّارِيخ لسَائِر الْأُمَم وَذَلِكَ أَن الْحُكَمَاء الأقدمين من اليونان وَغَيرهم أَجمعُوا على أَن شكل الأَرْض كرة وَأَن المَاء قد غمر أحد جانبيها كُله بِحَيْثُ صَارَت الأَرْض فِيهِ كَأَنَّهَا بَيْضَة مغرقة فِي طست مَاء قد رسب فِيهِ أَكْثَرهَا وبرز أقلهَا وَأَجْمعُوا على أَن هَذَا البارز مِنْهَا هُوَ المسكون ببني آدم وَغَيرهم من الْحَيَوَانَات وَهُوَ الْمقسم إِلَى سَبْعَة أَقسَام تسمى الأقاليم وَلم يهتدوا إِلَى أَن الْجَانِب الآخر منكشف عَنهُ المَاء وَلَا أَنه مسكون كَهَذا الْجَانِب بل جزموا بِأَنَّهُ مَاء صرف يُسمى الْبَحْر الْمُحِيط وَاسْتمرّ هَذَا الِاعْتِقَاد عِنْدهم وَنَقله الْخلف عَن السّلف وَوَضَعُوا فِيهِ التآليف العديدة إِلَى أَن كَانَت سنة سبع وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة وَهِي السّنة الَّتِي استولى فِيهَا الإصبنيول على غرناطة وَسَائِر الأندلس فاتفق أَن ظهر فِي تِلْكَ الْمدَّة رجل من فرنج جنوة اسْمه كلنب بِضَم الْكَاف وَاللَّام كَانَت حرفته الملاحة وَالسّفر فِي الْبَحْر وَكَانَ بعيد الهمة مُولَعا بالشهرة مغرى بِالذكر وَحسن الصيت فخطر بِبَالِهِ أَن جَانب الأَرْض الَّذِي أغفل الْحُكَمَاء الْأَولونَ ذكره وَزَعَمُوا أَنه بَحر صرف رُبمَا يكون مسكونا كَهَذا الْجَانِب
وَكَانَ جنس البرتغال فِي هَذِه الْمدَّة قد كثرت أسفارهم فِي الْبَحْر وملكوا عدَّة محَال من جزائره الخالدات فَحصل لكلنب الجنويزي بعض غيرَة ونفاسة مِنْهُم وَأَرَادَ أَن يَأْتِي بأعظم مِمَّا فعلوا فعزم على التلجيج فِي الْبَحْر الْمُحِيط والإبعاد فِيهِ عَسى أَن يظفر بمراده فتطارح على ملك البرتغال واسْمه يَوْمئِذٍ يوحنا الثَّانِي فِي أَن يُعينهُ على مَا هُوَ بصدده ويمده بِمَا يكون سَببا فِي نيل مقْصده فَلم يلْتَفت إِلَى قَوْله وَلَا عرج على رَأْيه وَمن قبل مَا كَانَ أهل
جنوة يحمقونه وينسبونه إِلَى التهور بِمثل هَذِه الآراء فَلَمَّا لم يجد عِنْد ملك البرتغال مُرَاده تطارح على ملكة الإصبنيول وَهِي يَوْمئِذٍ إيسابيلا الشهيرة الذّكر عِنْدهم فأسعفته وَهَيَّأْت لَهُ ثَلَاث سفائن وشحنتها بِالرِّجَالِ وَالسِّلَاح والزاد وَالْمَال وَدفعت ذَلِك إِلَيْهِ فسافر بهَا كلنب فِي الْبَحْر الْمُحِيط على سمت الْمغرب حَتَّى أرسى بِبَعْض الجزائر الخالدات فأراح بهَا أَيَّامًا ثمَّ سَافر على السمت الْمَذْكُور ملججا مُدَّة من شَهْرَيْن وَلما طَال السّفر على أَصْحَابه الَّذين مَعَه أَرَادوا قَتله وبينما هم فِي ذَلِك ظَهرت لَهُ أَرض ماركان فَسَار حَتَّى أرسى بأجفانه على ساحلها فِي الْيَوْم الثَّامِن عشر من ذِي الْحجَّة سنة سبع وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة الْمَذْكُورَة فعثر مِنْهَا على أَرض وَاسِعَة ذَات أقطار ونواحي وجبال وأنهار تفوت الْحصْر حَتَّى قيل إِنَّهَا تَسَاوِي نصف هَذَا المسكون من الأَرْض أَو تزيد وَإِذا فِيهَا خلق كثير من بني آدم كهذه إِلَّا أَنهم لم يفقهوا قَوْله وَلَا فقه قَوْلهم فَعَاد كلنب إِلَى ملكة الإصبنيول بعد أَن بنى هُنَالك حصنا وَترك بِهِ بعض الْجند وسَاق من تِلْكَ الأَرْض بعض الغرائب من حَيَوَان وَغَيره إِثْبَاتًا لمدعاه فَلَمَّا قدم على الملكة بعد مغيبه سَبْعَة أشهر وَأحد عشر يَوْمًا أعظمت قدره ونوهت باسمه وسرت بِمَا أَتَى بِهِ من ذَلِك كُله وعدت ذَلِك من سعادتها إِلَى مَا تسنى لَهَا من الظفر بِجَزِيرَة الأندلس والاستيلاء عَلَيْهَا وَتبين للفرنج حِينَئِذٍ أَن الأَرْض معمورة من كلا الْجَانِبَيْنِ لَا من جَانب وَاحِد كَمَا اعتقده الأقدمون فَحِينَئِذٍ تسارعت أجناسهم إِلَى أَرض ماركان واقتسموها واعتنوا بعمرانها وسموها الدُّنْيَا الجديدة فَكَانَت من أعظم الْأَسْبَاب فِي انتعاشهم وتقويتهم وضخامة دولهم واتساع خطط ممالكهم والأمور كلهَا بيد الله
وَمن جملَة مَا كَانَ مفقودا بِأَرْض ماركان نوع الْخَيل وَكَذَا غَيرهَا من الْحَيَوَانَات الْأَهْلِيَّة وَلما رَأَوْا الأدمِيّ رَاكِبًا على الْفرس مسرجا ظنوه قِطْعَة وَاحِدَة وَأَن الْفَارِس وفرسه حَيَوَان وَاحِد خلق على تِلْكَ الْكَيْفِيَّة إِلَى غير ذَلِك وأخبار أَرض ماركان وَكَيْفِيَّة العثور عَلَيْهَا ثمَّ التَّرَدُّد إِلَيْهَا واعتمارها بعد ذَلِك طَوِيلَة وملخصها مَا ذَكرْنَاهُ وَالله تَعَالَى الْمُوفق بمنه