الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَهَذَا آخر النّصْف الأول من كتاب الاستقصا لأخبار دوَل الْمغرب الْأَقْصَى قد شرعنا فِي إمْلَائِهِ منتصف رَجَب الْفَرد الْحَرَام من سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وفرغنا مِنْهُ فِي منتصف ذِي الْحجَّة الْحَرَام فِي السّنة الْمَذْكُورَة ونشرع بعون الله تَعَالَى فِي الْجُزْء الثَّانِي مِنْهُ مفتتحا بِمَا يكون كالتوطئة لدولة بني وطاس من أَخْبَار البرتغال على الْجُمْلَة وعَلى الله تَعَالَى الْكَمَال بمنه وفضله
أَخْبَار البرتغال بالمغرب الْأَقْصَى على الْجُمْلَة
اعْلَم أَن هَذَا الْمغرب الْأَقْصَى حرسه الله وكلأه بِعَين حفظه لم يزل بِجَمِيعِ ثغوره وسواحله وأقطاره مُنْذُ الْفَتْح الإسلامي إِلَى الْمِائَة التَّاسِعَة مَحْفُوظًا الجوانب من طروق أُمَم الفرنج وَغَيرهم من أَعدَاء الدّين محفوف الأكتاف بالحامية من جنود الْمُسلمين مرهوبة شَوْكَة ملوكه عِنْد أُمَم النَّصْرَانِيَّة جيلا بعد جيل وَأمة بعد أمة ودولة بعد دولة لم تكن الفرنج تحدث نَفسهَا بغزو شَيْء من بِلَاده أَو طرق ثغر من ثغوره أَو الِاسْتِيلَاء على شَيْء من سواحله وَلم يكن أَهله أَيْضا يتوقعون ذَلِك مِنْهُم وَلَا يخشونه بل هم الَّذين كَانُوا يغزون الفرنج فِي عقر دِيَارهمْ وأعز بِلَادهمْ ويحامون عَن بِلَاد الأندلس وسواحل إفريقية وَغَيرهَا مَتى هاج أَهلهَا هيج من ذَلِك حَسْبَمَا تقدّمت الْأَخْبَار المفصحة عَن ذَلِك وَلم يبلغنَا أَن جِنْسا من أَجنَاس الفرنج فِيمَا قبل الْمِائَة التَّاسِعَة غزا شَيْئا من أَطْرَاف الْمغرب الْأَقْصَى أَو ثغرا من ثغوره بِقصد الِاسْتِيلَاء والتملك إِلَّا مَا كَانَ من مَدِينَة سلا الَّتِي دَخلهَا الإصبنيول غدرا أَيَّام الْفِتْنَة بَين اليعقوبين ثمَّ خَرجُوا عَنْهَا لمُدَّة يسيرَة حَسْبَمَا مر وَإِلَّا مَا كَانَ من محاصرة أهل جنوة لسبتة ثمَّ الإقلاع عَنْهَا كَذَلِك وَنَحْو هَذَا مِمَّا لَا يعْتَبر فَلَمَّا دخلت الْمِائَة التَّاسِعَة وَمضى صدرها وتداعت دوَل الْمغرب من بني أبي حَفْص بإفريقية وَبني زيان بالمغرب الْأَوْسَط وَبني مرين بالمغرب الْأَقْصَى
وَبني الْأَحْمَر بالأندلس وأشرفت على الْهَرم وَحدثت الْفِتَن بَين الْمُسلمين ودامت فيهم وَاشْتَغلُوا بِأَنْفسِهِم دون الِالْتِفَات إِلَى جِهَاد الْعَدو ومطالبته فِي أرضه وبلاده على مَا كَانَ لَهُم من الْعَادة قبل ذَلِك وَافق ذَلِك ابْتِدَاء ظُهُور الجلالقة وهم الإصبنيول والبرتغال وهم البرطقيز بِجَزِيرَة الأندلس واستفحال أَمرهم فكثرت أسفار البرتغال فِي الْبَحْر الْمُحِيط ودام تقلبهم فِيهِ ومرنوا عَلَيْهِ حَتَّى حصلوا على عدَّة جزائر مِنْهُ واكتشفوا بعض الرؤوس الساحلية من أَرض السودَان وَغَيرهَا ثمَّ شرهوا لتملك سواحل الْمغرب الْأَقْصَى فَهَجَمُوا عَلَيْهَا وجالدوا أَهلهَا دونهَا حَتَّى تمكنوا مِنْهَا ونشبوا فِيهَا فَقَوِيت شوكتهم وَعظم ضررهم على الْإِسْلَام وطمحت نُفُوسهم للاستيلاء على مَا وَرَاء ذَلِك حَسْبَمَا تقف عَلَيْهِ مُبينًا فِي موَاضعه إِن شَاءَ الله
فاستولوا فِي سنة ثَمَان عشرَة وَثَمَانمِائَة على مَدِينَة سبتة بعد محاصرتهم لَهَا سِتّ سِنِين على مَا فِي بعض تواريخ الإفرنج ثمَّ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَثَمَانمِائَة استولوا على قصر الْمجَاز ثمَّ استولوا فِي سنة تسع وَسِتِّينَ وَثَمَانمِائَة على طنجة ثمَّ فِي حُدُود سنة سِتّ وَسبعين وَثَمَانمِائَة ملكوا آصيلا وَفِي هَذَا التَّارِيخ نَفسه أَو قبله بِيَسِير استولوا على مَدِينَة آنِفا وَبَعض سواحل السوس ثمَّ فِي حُدُود سنة سبع وَتِسْعمِائَة نزلُوا بِأَرْض الجديدة فِيمَا بَين آزمور وتيط وبنوا بهَا حصن البريجة وَطَالَ مقامهم بهَا ثمَّ فِي سنة عشر وَتِسْعمِائَة استولوا على مَدِينَة العرائش ثمَّ بعد ذَلِك بِيَسِير فِي حُدُود الْعشْر وَتِسْعمِائَة على مَا تَقْتَضِيه تواريخ الفرنج ملكوا حصن آكادير وَمَا اتَّصل بِهِ من سواحل السوس الْأَقْصَى ثمَّ ملكوا فِي حُدُود اثْنَتَيْ عشرَة وَتِسْعمِائَة رِبَاط آسفي ثمَّ عطفوا على ثغر آزمور فاستولوا عَلَيْهِ فِي سنة أَربع عشرَة وَتِسْعمِائَة ثمَّ المعمورة وَهِي المهدية ملكوها أَيْضا فِي حُدُود سنة عشْرين وَتِسْعمِائَة وَفِي هَذَا التَّارِيخ نَفسه رجعُوا إِلَى مَدِينَة آنِفا بعد هدمها فبنوها وسكنوها وَبِالْجُمْلَةِ فَلم يبْق من ثغور الْمغرب الْأَقْصَى بيد الْمُسلمين إِلَّا الْقَلِيل مثل سلا ورباط الْفَتْح وفجئ الْمُسلمُونَ من هَذَا البرتغال بِالْأَمر الْعَظِيم ودهوا مِنْهُ بالخطب الجسيم واستحوذ عَدو الله على بِلَاد الهبط وضايقهم بهَا حَتَّى
انحازوا إِلَى الْأَمْصَار المنزوية عَن الْأَطْرَاف والقرى النائية عَن السواحل وَكَانَ ذَلِك كُله فِيمَا بَين انْقِرَاض دولة بني وطاس وَظُهُور دولة الشرفاء السعديين وَلَقَد ذكر فِي مرْآة المحاسن أَن قصر كتامة كَانَ فِي صدر الْمِائَة الْعَاشِرَة مقصدا للتجار وسوقا تجلب إِلَيْهِ بضائع العدوتين وسلعها قَالَ إِذْ كَانَ الْقصر الْمَذْكُور ثغرا بَين بِلَاد الْمُسلمين وَبَين بِلَاد النَّصَارَى تحط بِهِ رحال تجار الْمُسلمين من آفَاق الْمغرب وتجار الْحَرْبِيين من أصيلا وطنجة وَقصر الْمجَاز وسبتة وَلِأَنَّهُ كَانَ مَحل عناية سُلْطَان الْمغرب إِذْ ذَاك مُحَمَّد الشَّيْخ بن أبي زَكَرِيَّاء الوطاسي فَإِن الْقصر قَاعِدَة بِلَاد الهبط الَّتِي كَانَت موقد شرارة السُّلْطَان الْمَذْكُور ومشب ناره وموشج عصبيته مَعَ مجاورته لبلاد الْحَرْب فَكَانَ نظره مصروفا إِلَيْهِ واختصاصه مَوْقُوفا عَلَيْهِ وَتقبل بنوه من بعده مذْهبه فِيهِ اه كَلَامه فَهَذَا يدلك على مَا كَانَ عَلَيْهِ الْعَدو خذله الله من المضايقة للْمُسلمين فِي ثغورهم وبلادهم وَللَّه الْأَمر من قبل وَمن بعد
وَلما نزل بِأَهْل الْمغرب الْأَقْصَى مَا نزل من غَلَبَة عَدو الدّين واستيلائه على ثغور الْمُسلمين تباروا فِي جهاده وقتاله وأعملوا الْخَيل وَالرجل فِي مقارعته ونزاله وتوفرت دواعي الْخَاصَّة مِنْهُم والعامة على ذَلِك وصرفوا وُجُوه الْعَزْم لتَحْصِيل الثَّوَاب فِيمَا هُنَالك فكم من رَئِيس قوم قَامَ لنصرة الدّين غيرَة واحتسابا وَكم من ولي عصر أَو عَالم مصر بَاعَ نَفسه من الله وَرَأى ذَلِك صَوَابا حَتَّى لقد اسْتشْهد مِنْهُم أَقوام وَأسر آخَرُونَ وَبلغ الله تَعَالَى جَمِيعهم من الثَّوَاب مَا يرجون فَمن اسْتشْهد مِنْهُم فِي سَبِيل الله سَيِّدي عِيسَى ابْن الْحسن المصباحي دَفِين الدعداعة بِأَرْض البروزي من بِلَاد طليق وَأَبُو الْحسن عَليّ بن عُثْمَان الشاوي من أَصْحَاب الشَّيْخ أبي مُحَمَّد الغزواني وَأَبُو الْفضل فرج الأندلسي ثمَّ المكناسي وَأَبُو عبد الله مُحَمَّد القصري الْمَعْرُوف بسقين قَتله النَّصَارَى عِنْد ضريح الشَّيْخ أبي سلهام وَكَانَ قد قَصده للزيارة ففتكوا بِهِ هُنَالك وكل هَؤُلَاءِ مَعْدُود فِي أَوْلِيَاء الله تَعَالَى وَمِمَّنْ أسر مِنْهُم ثمَّ خلصه الله الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن ساسي دَفِين تانسيفت من أحواز مراكش وَالشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الله الكوش دَفِين جبل الْعرض من أحواز
فاس ووالد صَاحب دوحة الناشر وَهُوَ أَبُو الْحسن عَليّ بن مِصْبَاح الحسني عرف بِابْن عَسْكَر وَالشَّيْخ الْعَلامَة أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد ابْن القَاضِي المكناسي أحد قُضَاة سلا وَهُوَ صَاحب جذوة الاقتباس والمنتقى الْمَقْصُور وَغَيرهمَا من التآليف الحسان أسر وَهُوَ ذَاهِب إِلَى الْحَج وَأَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي الْفضل التّونسِيّ الْمَعْرُوف بخروف نزيل فاس وَشَيخ الْجَمَاعَة بهَا هَؤُلَاءِ كلهم أَصَابَهُ الْأسر ثمَّ خلصه الله بعد حِين وَغير هَؤُلَاءِ مِمَّن لم يحضرنا ذكرهم أجزل الله ثوابهم وَيسر بمنه حسابهم وَلَقَد ألف النَّاس فِي ذَلِك الْعَصْر التآليف فِي الحض على الْجِهَاد وَالتَّرْغِيب فِيهِ وَقَالَ الخطباء والوعاظ فِي ذَلِك فَأَكْثرُوا ونظم الشُّعَرَاء والأدباء فِيهِ ونثروا فَمِمَّنْ ألف فِي ذَلِك الْبَاب فَأفَاد الشَّيْخ المتفنن البارع الصُّوفِي أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم ابْن يَجِيش التازي قَالَ فِي الدوحة وقفت لَهُ على تأليف أَلفه فِي الحض على الْجِهَاد فِي سَبِيل الله فَكَانَ مِمَّا يَنْبَغِي أَن يتَنَاوَل باليدين وَيكْتب دون المداد باللجين أودعهُ نظما ونثرا وَمِمَّنْ نظم فِي ذَلِك فأجاد الشَّيْخ الصَّالح المتصوف الْمُجَاهِد أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن يحيى البهلولي قَالَ فِي الدوحة كَانَ هَذَا الشَّيْخ مِمَّن لَازم بَاب الْجِهَاد وَفتح لَهُ فِيهِ وَله فِي ذَلِك أشعار وقصائد زجليات وَغَيرهَا وَكَانَ معاصرا للسُّلْطَان أبي عبد الله مُحَمَّد ابْن مُحَمَّد الشَّيْخ الوطاسي الْمَعْرُوف بالبرتغالي فَكَانَ إِذا جَاءَهُ زَائِرًا حضه على الْغَزْو فيساعده على مَا أَرَادَ من ذَلِك وَلما توفّي السُّلْطَان الْمَذْكُور ودالت الدولة لوَلَده السُّلْطَان أَحْمد وغص بالشرفاء القائمين عَلَيْهِ بِبِلَاد السوس عقد الْهُدْنَة مَعَ النَّصَارَى المجاورين لَهُ بِبِلَاد الهبط وصاحبهم سُلْطَان البرتغال فَبلغ ذَلِك الشَّيْخ أَبَا عبد الله الْمَذْكُور فآلى على نَفسه أَن لَا يلقى السُّلْطَان الْمَذْكُور وَلَا يمشي إِلَيْهِ وَلَا يقبل مِنْهُ مَا كَانَ عينه لَهُ وَالِده من جِزْيَة أهل الذِّمَّة بفاس لقُوته وضرورياته فَمَكثَ على ذَلِك إِلَى أَن حَضرته الْوَفَاة وَكَانَ فِي النزع وَأَصْحَابه دائرون بِهِ فَقَالَ لَهُ بَعضهم يَا سَيِّدي أخْبرك أَن السُّلْطَان أَمر بالغزو ونادى بِهِ وحض النَّاس عَلَيْهِ والمسلمون فِي شرح لذَلِك وَفَرح فَفتح الشَّيْخ عَيْنَيْهِ وتهلل وَجهه فَرحا وَحمد الله وَأثْنى عَلَيْهِ
فَفَاضَتْ نَفسه وَهُوَ مسرور بذلك وَلِهَذَا الشَّيْخ زجليات ومقطعات حسان فِي الحض على الْجِهَاد مِنْهَا اللامية الْمَشْهُورَة الَّتِي خَاطب بهَا السُّلْطَان أَبَا عبد الله الْمَذْكُور ومطلعها
(قل للأمير مُحَمَّد
…
يَا طلعة الْهلَال)
(لويلة فِي السواحل
…
من أفضل الليال)
وَمِنْهَا القصيدة الَّتِي مطْلعهَا
(ظهر الرمل مرادي
…
والعسكر يَا كرام)
(نَفسِي على الْجِهَاد
…
سبلت وَالسَّلَام)
وَمِنْهَا القصيدة الَّتِي أَولهَا
(قُم للْجِهَاد رعاك الله منتهجا
…
نهج الرشاد إِلَى الأقوام لَو فَهموا)
(من بعد أندلس مَا زلت محتدما
…
لَو كَانَ يمكنني فِي اللَّيْل أحتزم)
إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يطول ذكره قَالَ صَاحب الدوحة حَدثنِي الْفَقِيه الْعدْل أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد الدغموري القصري قَالَ كَانَ الشَّيْخ أَبُو عبد الله يَقُول مَا غزونا غَزْوَة قطّ إِلَّا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِيهَا ويخبرني بِجَمِيعِ مَا يتَّفق لي ولأصحابي فِي تِلْكَ الْغَزْوَة وَله رضي الله عنه فِي شَأْن الْجِهَاد والرجولية حِكَايَة ظريفة وَهِي أَنه غز مرّة غَزْوَة إِلَى الثغور الهبطية ثمَّ قدم مِنْهَا مَعَ أَصْحَابه فَوجدَ زَوجته فُلَانَة بنت الشَّيْخ أبي زَكَرِيَّاء يحيى بن بكار قد توفيت وَصلى النَّاس عَلَيْهَا بِجَامِع الْقرَوِيين وإمامهم الشَّيْخ غَازِي ابْن الشَّيْخ أبي عبد الله مُحَمَّد بن غَازِي الإِمَام الْمَشْهُور فوصل الشَّيْخ أَبُو عبد الله وَوجد جنازتها على شَفير الْقَبْر وَالنَّاس يحاولون دَفنهَا فَقَالَ لَهُم مهلا ثمَّ تقدم وَأعَاد الصَّلَاة عَلَيْهَا مَعَ أَصْحَابه الَّذين قدمُوا مَعَه فبادر النَّاس إِلَيْهِ بالإنكار فِي تَكْرِير الصَّلَاة فِي الْجِنَازَة بِالْجَمَاعَة مرَّتَيْنِ فَقَالَ لَهُم على البديهة صَلَاتكُمْ الَّتِي صليتم عَلَيْهَا فَاسِدَة لكَونهَا بِغَيْر إِمَام فَقَالُوا لَهُ كَيفَ ذَلِك يَا سَيِّدي قَالَ لِأَن شَرط الإِمَام الذكورية وَهِي مفقودة فِي صَاحبكُم لِأَن الَّذِي لم يتقلد سَيْفا فِي سَبِيل الله قطّ وَلم يضْرب بِهِ وَلَا عرف الْحَرْب كَمَا كَانَ نَبينَا صلى الله عليه وسلم وَلم يتعبد بالسيرة النَّبَوِيَّة فَكيف يعد إِمَامًا ذكرا بل