الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحلق كما قاله هو الفضاء الذي فيه مجرى النفس والغذاء وفيه اللهاة واللوزتان والغلصمة وأما الفم فهو مقدم الحلق وأسفله فلذلك يعد اللسان من أجزاء الفم الأعلى لا من أجزاء الحلق وأعني الحنك وهو سقف الحلق واللهاة عضو مستطيل أعلاه متصل بسقف الحلق وأسفله يحاذي الحنجرة وفي طرفه الأسفل جرم مستدير كالكرة وجوهرة جوهر لحمي عصبي والمنافع المشهورة له ثلاث وقد ذكرها الشيخ.
وأما اللوزتان فهما النغانغ وتسمى أصول الأذنين ويقال لهما في العرف العام نبات الأذنين وهما عضلتان في جانبي الحلق. وقد عرفناهما، وعرفنا منافعهما وذلك عند كلامنا في العضل فليرجع غليه من هناك.
ولقائل أن يقول: كيف يجوز أن يعد هذان العضوان من العضل وليس شيء منهما يحرك البتة عضواً من الأعضاء؟ وجوابه: أنه ليس من شرط العضل أن يكون محركاً لعضو ما، بل أن يكون من شأنه تحريك شيء ما وإن لم يكن ذلك الشيء عضواً وهاتان العضلتان تعينان على تحريك الممضوغ وتبليغه إلى فم المريء وذلك أنهما يتشبثان بالأغذية ويدفعانها إلى ذلك الموضع، ولذلك إذا عرض لهاتين العضلتين آفة تضعف فعلهما يعسر حينئذٍ نفوذ الأغذية إلى المريء وذلك كما إذا أصابها يبوسة شديدة ونحوها.
فإن قيل: إن هذا يتم ولو كان جوهرها من لحم وعصب فقط، ولا يلزم أن يكونا عضلتين فإن العضل لا بد في تحقيقه من عصب ورباط
…
ولحم جاسي لما يثير ذلك من خلل.
قلنا: مسلم أن هذا الفعل يتم وإن لم يكن في جوهر هذين رباط، ولكن ذلك الفعل يكون ضعيفاً فإن العصب إنما يقوى فعله في التحريك إذا كان معه أجزاء رباطية فلذلك هذان العضوان إنما يشتد فعلهما ويقوى إذا كانا عضلتين ومن منافعهما أيضاً أنهما يكملان تكون الصوت ويقويانه، وذلك لأنهما يضيقان، ما يحاذي فم الحنجرة فإذا خرج الهواء من الحنجرة خرج من متسع إلى موضع ضيق ثم بعد ذلك الموضع إلى فضاء الحلق، ولذلك يشتد الصوت ويقوى ولذلك فإنما يعرض لهاتين العضلتين من الآفات يلزمها تغير في الصوت، وتعسر في بلع الأغذية. والله ولي التوفيق.
فصل
تشريح الحنجرة والقصبة والرئة
إن الشيخ رتب الكلام في التشريح مبتدئاً من تشريح الأعضاء التي هي في أعلى البدن. ومنتقلاً إلى ما هو أسفل من تلك الأعضاء حتى ينتهي إلى الرجلين. وكانت الأعضاء المؤلفة التي تحت الرأس من باطن هي هذه الأعضاء وجب أن يأخذ في تشريحها بعد الكلام في تشريح الرأس، وما يتصل به من الأعضاء، وإنما جمع الكلام في تشريح هذه الأعضاء في فصل واحد لأن معرفة هيئة كل منها يستدعي معرفة هيئة الآخر.
ونحن نجعل كلامنا في هذا الفصل يشتمل على ثلاثة مباحث:
البحث الأول
تشريح قصبة الرئة
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه فأما قصبة الرئة فهي عضو
…
إلى قوله: فهذه صورة قصبة الرئة.
الشرح قد علمت أن في الحلق مجريين، وهما مجرى الغذاء ومجرى النسيم ومجرى النسيم أشرف لا محالة من مجرى الغذاء والخطر في الأمور الضارة به أعظم وذلك لأن الانقطاع عن الغذاء لآفة في مجراه، ونحو ذلك قد يبقى الحياة معه مدة ولا بعض ساعة، فلذلك مجرى النسيم أشرف كثيراً من مجرى الغذاء، ومقتضى القياس أن يكون الأشرف محروساً بالأحسن، ويتوقى به ويلزم ذلك أن يكون مجرى الغذاء من قدام ليكون وقاية لمجرى النسيم.
فما السبب في مخالفة هذا الأمر، وجعل مجرى النسيم وهو قصبة الرئة والحنجرة من قدام؟ السبب في ذلك أمور: أحدها: أن مجرى النسيم يحتاج أن يتصل بالرئة في وسط ما بين جانبيها وخلفها وأمامها ليكون نفوذ النسيم إلى أجزاء الرئة على الوجه العدل، وإنما يمكن ذلك بأن يكون هذا المجرى مائلاً إلى قدام بقدر صالح وذلك مما لا يحتاج إليه مجرى الغذاء.
وثانيها: أن كل موضع هو أميل إلى باطن البدن فهو أشد سخونة مما هو أميل إلى ظاهره فإن المائل إلى الظاهر يبرد لا محالة بملاقاة الهواء الخارجي أو ما يقارب ملاقاته ولا كذلك المائل إلى داخل البدن، فلو كان مجرى النسيم خلف مجرى الغذاء لكان مائلاً إلى داخل البدن فكان النسيم الداخل فيه يسخن قبل نفوذه إلى القلب فتبطل فائدته في التطفئة أو يقل ولا كذلك إذا كان هذا المجرى من قدام.
وثالثها: أن أعلى العنق ليس يتسع بأن يكون مجرى الغذاء ومجرى النسيم دائماً مفتوحين واسعين فلا بد من أن يكون في أعلى العنق أحد هذين المجريين يحتاج عند انفتاحه إلى تضيق الآخر، وذلك بأن يكون انفتاحه عند انطباق الآخر فإن هذا المكان غير متسع لانفتاحهما معاً في وقت واحد وإذا كان كذلك وجب أن يكون مجرى النسيم من قدام ولكن حاجة هذا المجرى إلى الانفتاح هو في أو قات متقاربة جداً بخلاف مجرى الغذاء فإنه إنما احتاج إلى الانفتاح عند ازدراد الطعام، وذلك إنما يكون في أو قات متباعدة فلذلك كانت حاجة مجرى النسيم إلى الانفتاح أكثر كثيراً من حاجة مجرى الغذاء، فلذلك يجب أن يكون مجرى النسيم من قدام، لأن المجرى المقدم أسهل انفتاحاً من المؤخر لأن المقدم لا عائق له عن الانفتاح إلا من ورائه فقط إذ لا مزاحم له في باقي الجهات، ولا كذلك المجرى المؤخر فإنه يكون نحيف بالأعضاء وهي لا محالة مزاحمة معاوقة عن الانفتاح فلذلك يكون انقتاح المجرى الداخل أعسر، فلذلك وجب أن يكون مجرى النسيم يحتاج من قدام لأنه أشد حاجة إلى كثرة الانفتاح وإنما يسهل ذلك إذا كان موضوعاً من قدام.
ورابعها: أن مجرى النسيم يحتاج أن يكون صلباً ليمكن حدوث الصوت بانقراعه بالهواء الخارج منه بقوة، ولا كذلك مجرى الغذاء فإن اللين أو فق له ليمكن أن يتشكل تجويفه المزدرد، وإذا كان كذلك وجب أن يكون مجرى النسيم من قدام لأنه لأجل صلابته يقل انفعاله عن المصادمات ونحوها.
وخامسها: أن مجرى النسيم يحتاج أن يكون في أعلى الحنجرة وهي تحتاج أن يكون تجويفها متسعاً لما نقوله بعد. وأعلى العنق ضيق فواجب أن يكون مجرى النسيم من قدام ليتمكن أعلى العنق أن يتمدد إلى قدام، ويبرز عن مسامته باقي أجزاء العنق ولا يمكن ذلك إذا كان هذا المجرى من خلف لأن مجرى الغذاء كان يعاوق عن هذا البروز قوله: دوائر وأجزاء دوائر.
أما أسافل القصبة فإنها دوائر تامة ليكون ما يحتوي عليه من التجويف أو سع وأما أجزاء الدوائر فإنها إنما تكون في أعالي هذه القصبة وذلك لأن هذه القصبة هناك تلاقي المريء ويضيق المكان عن تجويفي هذه القصبة مع تجويف المريء فلذلك يحتاج أن يجعل التجويفان في تجويف واحد، فيكون عند ازدراد اللقمة واحتاج المريء إلى الاتساع لها يستعين المريء بتجويف هذه القصبة فيتمدد جرم المريء من قدام حتى يلاقي داخل محيط هذه القصبة من قدام.
وإذا دخل النسيم المستنشق في تجويف هذه القصبة واحتيج إلى اتساعها له تمدد جرمها من خلف ودخل في بعض تجويف المريء، وإنما يمكن ذلك إذا كان ما بين تجويف المريء وتجويف هذه القصبة جرماً شديداً لقبول التمدد، وإنما يكون ذلك إذا كان غشاء فلذلك لا يمكن أن يكون غضروفياً فإن الغضاريف لا يسهل قبولها لهذا التمدد. فلذلك مؤخر هذه القصبة هناك لا يكون غضروفياً بل غشائياً.
ويلزم ذلك أن لا تكون الدوائر الغضروفية هناك تامة. وينبغي أن يكون هناك أنصاف دوائر لأنها لو كانت أقل أو أكثر من أنصاف دوائر لم يكن ما يستعينه المريء من تجويف هذه القصبة حينئذٍ عظيماً فلم يمكن أن يتسع اتساعاً كثيراً، ثم لو كانت أكثر من أنصاف دوائر لكانت تضيق المكان على المريء كثيراً، وأما أسافل هذه القصبة وعند قرب الرئة فإن تأليفها هناك يكون من دوائر تامة وذلك لأن هذه القصبة في أسافلها تنحرف كثيراً عن المريء إلى قدام، والمريء ينحرف إلى خلف أما انحراف أسافل هذه القصبة إلى قدام فلأنها تتوجه بذلك إلى وسط جهات أعلى الرئة ليتصل بها في ذلك الوسط لتكون قسمة النسيم على جميع أجزاء الرئة قسمة عادلة.
وأما انحراف المحاذي لذلك من المريء إلى خلف فلأنه يتوجه بذلك إلى الاتكاء على عظام الصلب وهي أن أسافل العنق يأخذ في الميل إلى خلف ليتوسع ما بين مؤخر الصدر، ومقدمه فيكون مكان القلب والرئة متسعاً.
قوله: ويجري على جميع ذلك من الباطن غشاء أملس إلى اليبس والصلابة ما هو أكثر الأعضاء التي يجب فيها أن يكون الأمر بعكس ذلك فيكون باطنها أشد صلابة من ظاهرها وسبب ذلك أمور:
أحدها أن هذا الغشاء يحتاج فيه أن يكون قليل الانفعال وإنما يكون كذلك إذا كان قوي الجرم، وإنما يكون كذلك إذا كان صلباً، وإنما يكون كذلك إذا كان يابساً. وإنما احتيج أن يكون قليل القبول للانفعال ليكون صبوراً على ملاقاة ما ينزل في هذه القصبة من المواد الحادة التي تنزل من الدماغ، وسبب حدة هذه النوازل إما شدة عفونة المادة أو كثرة مخالطة المواد لها، فإن فضول الدماغ يجب أن يكثر فيها المرار، لكن المادة الواصلة إليه لتغذيته لا بد من أن تكون كثيرة المرار، وإلا لم يسهل تصعدها إلى الدماغ واغتذاء الدماغ إنما هو بالأجزاء الرطبة الباردة من تلك المادة ولذلك تبقى المواد الحادة المخالطة لما يفضل عن غذائه كثيرة جداً. فلذلك كثيراً ما تكون النوازل من الدماغ حادة جداً، ومن جملة النوازل ما ينزل إلى تجويف هذه القصبة.
وثانيها: أن هذا الغشاء يحتاج أن يكون إلى صلابة ليقل تضرره لما يتصعد فيه من الدخانية التي تخرج مع الهواء المتردد في التنفس وليقل أيضاً قبوله لتمديد النسيم الكثير الداخل فيه فلا يعرض له من انشقاق ونحوه عندما يعرض حين اشتعال القلب في الحميات المحرقة وغيرها من جذب هواء كثير للتنفس.
وثالثها: ليكون الصوت الحادث بقرع الهواء الخارج بقوة قوياً فإن قوة الصوت بقرع الأشياء الصلبة أكثر من قوته بقرع الأشياء اللينة.
قوله: وكذلك أيضاً من ظاهره وعلى رأسه الفوقاني الذي يلي لفم الحنجرة قد بينا السبب في صلابة الغشاء الباطن من غشاءي القصبة. وأما السبب في صلابة الغشاء الظاهر عند آخر هذه القصبة من فوق وذلك حيث يلي الحنجرة من أسفلها فذلك لأن هذا الموضع فيه لسان المزمار، وهو كثير الضيق فاحتيج إلى هذا الضيق لينحصر عنده الهواء النافذ من أسفل هذه القصبة إلى أعلاها بقوة وهو الهواء الذي يتزايد به الصوت ويلزم ذلك أن يكون عند خروجه من هذا الموضع إلى فضاء الحنجرة بقوة ويلزم ذلك شدة قرعه لجرمها، وسبب هذا الانحصار أن باقي هذه القصبة كثير السعة فيكون الهواء الخارج فيه بقدر تجويفها فإذا بلغ هذا الموضع صادف هناك الضيق ولم يتسع لذلك الهواء وانحصر فيه وما يصعد بعده يدفعه للخروج وإذا خرج من ذلك الموضع صادف تجويفاً متسعاً وهو تجويف الحنجرة ومن شأن ما ينفذ من سعة إلى مضيق ومن ذلك المضيق إلى سعة أن يكون نفوذه في ذلك المضيق اشد وأقوى كما تبين في العلوم الأصلية فلذلك يكون قرع هذا الهواء لجرم الحنجرة بقوة قوية، ويلزم من ذلك قوة الصوت وإنما سمي هذا لسان المزمار لأنه يشبه ما يسمى في المزمار لساناً، وهو الموضع المستدق الذي بين أنبوبة رأسه الغليظ.
ولما كان هذا الموضع ضيقاً بالنسبة إلى باقي قصبة الرئة فالهواء الواصل إليه من القصبة لا بد وأن يشتد تمديده لجرمه طلباً لتوسيع المكان له فلو لم يكن الغشاء الخارج في ذلك الموضع الملبس عليه من خارج صلباً قوياً يقوى ذلك الهواء على توسيعه بقوة تمديده له فتبطل لذلك فائدته أو تنقص فلذلك احتيج أن يكون الغشاء الخارج في ذلك الموضع شديد الصلابة بالنسبة إلى باقي الغشاء الخارج الذي لهذه القصبة.