الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْبَلَدِ اجْتَمَعَ قُضَاةُ الْمُسْلِمِينَ وَالشُّهُودُ وَالْفُقَهَاءُ، فَدَخَلُوا الْقَلْعَةَ يَشْكُونَ هَذَا الْحَالَ إِلَى مُتَسَلِّمِهَا إِيلَ سَبَانَ، فَأُهِينُوا وَطُرِدُوا، وَقَدَّمَ كَلَامَ رُؤَسَاءِ النَّصَارَى عَلَيْهِمْ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَقَدْ كَانَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ سُلْطَانُ الشَّامِ النَّاصِرُ بْنُ الْعَزِيزِ، قَدْ أَقَامَ فِي وَطْأَةِ بَرْزَةَ، وَمَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْجُيُوشِ وَالْأُمَرَاءِ وَأَبْنَاءِ الْمُلُوكِ لِيُنَاجِزُوا التَّتَارَ إِنْ قَدِمُوا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ مِمَّنْ مَعَهُ الْأَمِيرُ بِيبَرْسُ الْبُنْدُقْدَارِيُّ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْبَحْرِيَّةِ، وَالْكَلِمَةُ بَيْنَ الْجُيُوشِ مُخْتَلِفَةٌ غَيْرُ مُؤْتَلِفَةٍ، لِمَا يُرِيدُهُ اللَّهُ عز وجل.
وَقَدْ عَزَمَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ عَلَى خَلْعِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ وَسَجْنِهِ وَمُبَايَعَةِ أَخِيهِ شَقِيقِهِ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ عَلِيٍّ، فَلَمَّا تَنَسَّمَ النَّاصِرُ ذَلِكَ هَرَبَ إِلَى الْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ وَتَفَرَّقَتِ الْعَسَاكِرُ شَذَرَ مَذَرَ، وَسَاقَ الْأَمِيرُ رُكْنُ الدِّينِ بِيبَرْسُ الْبُنْدُقْدَارِيُّ فِي أَصْحَابِهِ إِلَى نَاحِيَةِ غَزَّةَ، فَاسْتَدْعَاهُ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ قُطُزُ إِلَيْهِ، وَاسْتَقْدَمَهُ عَلَيْهِ، وَأَقْطَعَهُ قَلْيُوبَ، وَأَنْزَلَهُ بِدَارِ الْوِزَارَةِ، وَعَظُمَ شَأْنُهُ لَدَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَ حَتْفُهُ عَلَى يَدَيْهِ.
[وَقْعَةُ عَيْنِ جَالُوتَ]
وَاتَّفَقَ وُقُوعُ هَذَا كُلِّهِ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَمَا مَضَتْ سِوَى ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ حَتَّى جَاءَتِ الْبِشَارَةُ بِنُصْرَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى التَّتَارِ بِعَيْنِ جَالُوتَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلِكَ الْمُظَفَّرَ قُطُزَ صَاحِبَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ التَّتَارَ قَدْ فَعَلُوا بِالشَّامِ مَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ نَهَبُوا الْبِلَادَ كُلَّهَا حَتَّى وَصَلُوا إِلَى
غَزَّةَ، وَقَدْ عَزَمُوا عَلَى الدُّخُولِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَقَدْ عَزَمَ الْمَلِكُ النَّاصِرُ صَاحِبُ دِمَشْقَ عَلَى الرَّحِيلِ إِلَى مِصْرَ، وَلَيْتَهُ فَعَلَ. وَكَانَ فِي صُحْبَتِهِ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ صَاحِبُ حَمَاةَ، وَخَلْقٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَأَبْنَاءِ الْمُلُوكِ، وَقَدْ وَصَلَ إِلَى قَطْيَةَ، وَتَهَيَّأَ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ لِلِقَائِهِ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ وَإِلَى الْمَنْصُورِ مُسْتَحَثِّينَ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَقُولُ: تَقَدِّمْ حَتَّى نَكُونَ كَتِفًا وَاحِدًا عَلَى التَّتَارِ.
فَتَخَيَّلَ مِنْ ذَلِكَ وَخَافَ أَنْ يَنْتَصِرَ عَلَيْهِ، فَكَرَّ رَاجِعًا إِلَى نَاحِيَةِ تِيهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَدَخَلَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ مَعَهُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَأَكْرَمَ الْمُظَفَّرُ الْمَلِكَ صَاحِبَ حَمَاةَ، وَوَعَدَهُ بِبَلَدِهِ، وَوَفَّى لَهُ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَدْخُلِ النَّاصِرُ وَلَيْتَهُ فَعَلَ، فَإِنَّهُ كَانَ أَيْسَرَ عَلَيْهِ مِمَّا صَارَ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ خَافَ مِنْهُمْ لِعَدَاوَةٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، فَعَدَلَ إِلَى نَاحِيَةِ الْكَرَكِ فَتَحَصَّنَ بِهَا، وَلَيْتَهُ اسْتَمَرَّ فِيهَا، وَلَكِنَّهُ قَلِقَ، فَرَكِبَ نَحْوَ الْبَرِّيَّةِ - وَلَيْتَهُ ذَهَبَ فِيهَا - وَاسْتَجَارَ بِبَعْضِ أُمَرَاءِ الْأَعْرَابِ، فَقَصَدَتْهُ التَّتَارُ، وَأَتْلَفُوا تِلْكَ الدِّيَارَ وَنَهَبُوا مَا هُنَالِكَ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَقَتَلُوا الْكِبَارَ وَالصِّغَارَ، وَهَجَمُوا عَلَى الْأَعْرَابِ الَّتِي بِتِلْكَ النَّوَاحِي، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَسَبَوْا مِنْ نِسَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ، وَقَدِ اقْتَصَّ مِنْهُمُ الْعَرَبُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَغَارُوا عَلَى خَيْلِ جِشَارِهِمْ فِي نِصْفِ شَعْبَانَ، فَسَاقُوهَا بِأَسْرِهَا، فَسَاقَتْ وَرَاءَهُمُ التَّتَارُ، فَلَمْ يُدْرِكُوا مِنْهُمُ الْغُبَارَ، وَلَا اسْتَرَدُّوا مِنْهُمْ فَرَسًا وَلَا حِمَارًا، وَمَا زَالَ التَّتَارُ وَرَاءَ النَّاصِرِ حَتَّى أَخَذُوهُ وَأَسَرُوهُ عِنْدَ بِرْكَةِ زَيْزَاءَ، وَأَرْسَلُوهُ مَعَ وَلَدِهِ الْعَزِيزِ وَهُوَ صَغِيٌرٌ، وَأَخِيهِ إِلَى مَلِكِهِمْ هُولَاكُو وَهُوَ نَازِلٌ عَلَى حَلَبَ، فَكَانُوا فِي
أَسْرِهِ حَتَّى قَتَلَهُمْ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمُظَفَّرَ لَمَّا بَلَغَهُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ التَّتَارِ بِالشَّامِ الْمَحْرُوسَةِ وَأَنَّهُمْ عَازِمُونَ عَلَى الدُّخُولِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بَعْدَ تَمْهِيدِ مَمْلَكَتِهِمْ بِالشَّامِ بَادَرَهُمْ هُوَ قَبْلَ أَنْ يُبَادِرُوهُ، وَبَرَزَ إِلَيْهِمْ، أَيَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَقْدَمَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ يُقْدِمُوا عَلَيْهِ، فَخَرَجَ بِالْعَسَاكِرِ الْمِصْرِيَّةِ، وَقَدِ اجْتَمَعَتِ الْكَلِمَةُ عَلَيْهِ، حَتَّى انْتَهَى بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْعَسَاكِرِ الْمَنْصُورَةِ إِلَى الشَّامِ وَاسْتَيْقَظَ لَهُ عَسْكَرُ الْمَغُولِ، وَعَلَيْهِمْ كَتُبْغَا نُوِينَ، وَكَانَ إِذْ ذَاكَ فِي الْبِقَاعِ، فَاسْتَشَارَ الْأَشْرَفُ صَاحِبُ حِمْصَ وَالْقَاضِي مُجِيرُ الدِّينِ بْنُ الزَّكِيِّ فِي لِقَاءِ الْمُظَفَّرِ، فَأَشَارَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ لَا قِبَلَ لَهُ بِالْمُظَفَّرِ حَتَّى يَسْتَمِدَّ هُولَاكُو، فَأَبَى إِلَّا أَنْ يُنَاجِزَهُ سَرِيعًا، فَصَمَدُوا إِلَيْهِ، فَكَانَ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى عَيْنِ جَالُوتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الْخَامِسَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا عَظِيمًا شَدِيدًا، فَكَانَتِ النُّصْرَةُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، فَهَزَمَهُمُ الْمُسْلِمُونَ هَزِيمَةً هَائِلَةً، وَقُتِلَ كَتْبُغَا نُوِينَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ بَنِيهِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الَّذِي قَتَلَ كَتْبُغَا نُوِينَ الْأَمِيرُ جَمَالُ الدِّينِ آقُوشُ الشَّمْسِيُّ، وَاتَّبَعَهُمُ الْجَيْشُ الْإِسْلَامِيُّ يَقْتُلُونَهُمْ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَفِي كُلِّ مَأْزِقٍ، وَقَدْ قَاتَلَ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ صَاحِبُ حَمَاةَ مَعَ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ قِتَالًا عَظِيمًا، وَكَذَلِكَ الْأَمِيرُ فَارِسُ الدِّينِ أَقَطَايَ الْمُسْتَعْرِبُ، وَكَانَ أَتَابِكَ الْعَسْكَرِ، وَقَدْ أُسِرَ مِنْ جَمَاعَةِ كَتْبُغَا نُوِينَ الْمَلِكُ السَّعِيدُ بْنُ الْعَزِيزِ بْنِ الْعَادِلِ، فَأَمَرَ الْمُظَفَّرُ بِضَرْبِ عُنُقِهِ، وَاسْتَأْمَنَ الْأَشْرَفُ صَاحِبُ حِمْصَ وَكَانَ مَعَ التَّتَارِ، وَقَدْ جَعَلَهُ هُولَاكُو نَائِبًا عَلَى الشَّامِ كُلِّهِ، فَأَمَّنَهُ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ، وَرَدَّ إِلَيْهِ حِمْصَ، وَكَذَلِكَ رَدَّ حَمَاةَ إِلَى الْمَنْصُورِ، وَزَادَهُ الْمَعَرَّةَ
وَغَيْرَهَا، وَأَطْلَقَ سَلَمْيَةَ لِلْأَمِيرِ شَرَفِ الدِّينِ عِيسَى بْنِ مُهَنَّا بْنِ مَانِعٍ أَمِيرِ الْعَرَبِ، وَاتَّبَعَ الْأَمِيرُ رُكْنُ الدِّينِ بِيبَرْسُ الْبُنْدُقْدَارِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الشُّجْعَانِ التَّتَارَ يَقْتُلُونَهُمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ، إِلَى أَنْ وَصَلُوا خَلْفَهُمْ إِلَى حَلْبَ، وَهَرَبَ مَنْ بِدِمَشْقَ مِنْهُمْ، وَكَانَ هَرَبُهُمْ مِنْهَا يَوْمَ الْأَحَدِ السَّابِعَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ صَبِيحَةَ النَّصْرِ الَّذِي جَاءَتْ فِيهِ الْبِشَارَةُ بِالنُّصْرَةِ عَلَى عَيْنِ جَالُوتَ، فَتَبِعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ دِمَشْقَ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ وَيَنْهَبُونَ الْأَمْوَالَ فِيهِمْ، وَيَسْتَفِكُّونَ الْأُسَارَى مِنْ أَيْدِيهِمْ قَهْرًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَنُ عَلَى جَبْرِهِ الْإِسْلَامَ، وَمُعَامَلَتِهِ إِيَّاهُمْ بِلُطْفِهِ الْحَسَنِ.
وَجَاءَتْ بِذَلِكَ الْبِشَارَةُ السَّارَّةُ، فَجَاوَبَتْهَا الْبَشَائِرُ مِنَ الْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ وَفَرِحَ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمئِذٍ بِنَصْرِ اللَّهِ فَرَحًا شَدِيدًا، وَأَيْدَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ تَأْيِيدًا، وَكُبِتَ أَعْدَاءُ اللَّهِ النَّصَارَى وَالْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ، وَظَهَرَ دِينُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ، وَنَصَرَ اللَّهُ دِينَهُ وَنَبِيَّهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ.
فَتَبَادَرَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى كَنِيسَةِ النَّصَارَى الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا الصَّلِيبُ، فَانْتَهَبُوا مَا فِيهَا وَأَحْرَقُوهَا وَأَلْقَوُا النَّارَ فِيمَا حَوْلَهَا، فَاحْتَرَقَتْ دُورٌ كَثِيرَةٌ لِلنَّصَارَى، وَمَلَأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا، وَأَحْرَقَ بَعْضَ كَنِيسَةِ الْيَعَاقِبَةِ، وَهَمَّتْ طَائِفَةٌ بِنَهْبِ الْيَهُودِ، فَقِيلَ لَهُمْ: إِنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ فِيمَا ظَهَرَ مِنَ الطُّغْيَانِ كَمَا كَانَ عَلَى عَبَدَةِ الصُّلْبَانِ. وَقَتَلَتِ الْعَامَّةُ فِي وَسَطِ الْجَامِعِ شَيْخًا رَافِضِيًّا كَانَ مُصَانِعًا لِلتَّتَارِ عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ يُقَالُ لَهُ: الْفَخْرُ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْكَنْجِيُّ. كَانَ خَبِيثَ الطَّوِيَّةِ مَشْرِقِيًّا مُمَالِئًا لَهُمْ عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، قَبَّحَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَتَلُوا جَمَاعَةً مِثْلَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الْمُمَالِئَيْنِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 45] .
وَقَدْ كَانَ السُّلْطَانُ هُولَاكُو أَرْسَلَ تَقْلِيدًا بِوِلَايَةِ الْقَضَاءِ عَلَى جَمِيعِ الْمَدَائِنِ;
الشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ وَالْمَوْصِلِ وَمَارِدِينَ وَمَيَّافَارِقِينَ وَالْأَكْرَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لِلْقَاضِي كَمَالِ الدِّينِ عُمَرَ بْنِ بُنْدَارٍ التَّفْلِيسِيِّ. وَقَدْ كَانَ نَائِبَ الْحُكْمِ بِدِمَشْقَ عَنِ الْقَاضِي صَدَرِ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ مِنْ مُدَّةِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَحِينَ وَصَلَ التَّقْلِيدُ فِي سَادِسٍ وَعِشْرِينَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ قُرِئَ بِالْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ، فَاسْتَقَلَّ بِالْحُكْمِ فِي دِمَشْقَ، وَكَانَ مِنَ الْفُضَلَاءِ، فَسَارَ الْقَاضِيَانِ الْمَعْزُولَانِ صَدْرُ الدِّينِ بْنُ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ وَمُحْيِي الدِّينِ بْنُ الزَّكِيِّ إِلَى خِدْمَةِ السُّلْطَانِ هُولَاكُو إِلَى الْبِلَادِ الْحَلَبِيَّةِ، فَخَدَعَ ابْنُ الزَّكِيِّ لِابْنِ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ وَبَذَلَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً، وَتَوَلَّى الْقَضَاءَ بِدِمَشْقَ وَرَجَعَا، فَمَاتَ ابْنُ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ بِبَعْلَبَكَّ، وَقَدِمَ ابْنُ الزَّكِيِّ عَلَى الْقَضَاءِ، وَمَعَهُ تَقْلِيدُهُ وَخِلْعَةٌ مُذَهَّبَةٌ، فَلَبِسَهَا وَجَلَسَ فِي خِدْمَةِ إِيلَ سَبَانَ تَحْتَ قُبَّةِ النَّسْرِ عِنْدَ الْبَابِ الْكَبِيرِ، وَبَيْنَهُمَا الْخَاتُونُ زَوْجَةُ إِيلْ سَبَانَ حَاسِرَةً عَنْ وَجْهِهَا، وَقُرِئَ التَّقْلِيدُ هُنَالِكَ وَالْحَالُ كَذَلِكَ، وَحِينَ ذُكِرَ اسْمُ هُولَاكُو لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، نُثِرَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ فَوْقَ رُؤْسِ النَّاسِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، قَبَّحَ اللَّهُ ذَلِكَ الْقَاضِيَ وَالْأَمِيرَ وَالزَّوْجَةَ وَالسُّلْطَانَ.
وَذَكَرَ أَبُو شَامَةَ أَيْضًا أَنَّهُ اسْتَحْوَذَ عَلَى مَدَارِسَ كَثِيرَةٍ فِي مُدَّتِهِ هَذِهِ الْقَصِيرَةِ، فَإِنَّهُ عُزِلَ قَبْلَ رَأْسِ الْحَوْلِ فَأَخَذَ الْعَذْرَاوِيَّةَ وَالسُّلْطَانِيَّةَ وَالْفَلَكِيَّةَ وَالرُّكْنِيَّةَ وَالْقَيْمُرِيَّةَ وَالْعَزِيزِيَّةَ مَعَ الْمَدْرَسَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَتَا بِيَدِهِ; التَّقَوِيَّةِ وَالْعَزِيزِيَّةِ،
وَأَخَذَ لِوَلَدِهِ عِيسَى تَدْرِيسَ الْأَمِينِيَّةِ وَمَشْيَخَةِ الشُّيُوخِ، وَأَخَذَ أَمَّ الصَّالِحِ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ الْعِمَادُ الْمِصْرِيُّ، وَكَذَا أَخَذَ الشَّامِيَّةَ الْبَرَّانِيَّةَ لِصَاحِبٍ لَهُ، وَاسْتَنَابَ أَخَاهُ لِأُمِّهِ شِهَابَ الدِّينِ إِسْمَاعِيلَ بْنَ أَسْعَدَ بْنِ حُبَيْشٍ فِي الْقَضَاءِ، وَوَلَّاهُ الرَّوَاحِيَّةَ وَالشَّامِيَّةَ الْبَرَّانِيَّةَ. قَالَ أَبُو شَامَةَ: مَعَ أَنَّ شَرْطَ وَاقِفِهَا أَنْ لَا يُجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا.
وَلَمَّا رَجَعَتِ الْمَمْلَكَةُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ سَعَى الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ وَبَذَلَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً لِيَسْتَمِرَّ فِي الْقَضَاءِ وَالْمَدَارِسِ الَّتِي اسْتَوْلَى عَلَيْهَا فِي مُدَّةِ هَذِهِ الشُّهُورِ، فَلَمْ يَسْتَمِرَّ بَلْ عُزِلَ بِالْقَاضِي نَجْمِ الدِّينِ أَبِي بَكْرِ بْنِ صَدْرِ الدِّينِ بْنِ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ، فَقُرِئَ تَوْقِيعُهُ بِالْقَضَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فِي الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ بِالشُّبَّاكِ الْكَمَالِيِّ مِنْ مَشْهَدِ عُثْمَانَ مِنْ جَامِعِ دِمَشْقَ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَلَمَّا كَسَرَ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ قُطُزُ عَسَاكِرَ التَّتَارِ بِعَيْنِ جَالُوتَ سَاقَ وَرَاءَهُمْ، وَدَخَلَ دِمَشْقَ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَفَرِحَ النَّاسُ بِهِ فَرَحًا شَدِيدًا وَدَعَوْا لَهُ دُعَاءً كَثِيرًا، وَأَقَرَّ صَاحِبَ حِمْصَ الْمَلِكَ الْأَشْرَفَ عَلَى بَلَدِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَنْصُورَ صَاحِبَ حَمَاةَ، وَاسْتَرَدَّ حَلَبَ أَيْضًا مِنْ أَيْدِي التَّتَارِ وَعَادَ الْحَقُّ إِلَى نِصَابِهِ، وَمَهَّدَ الْقَوَاعِدَ، وَكَانَ قَدْ أَرْسَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْأَمِيرَ رُكْنَ الدِّينِ بِيبَرْسَ الْبُنْدُقْدَارِيَّ لِيَطْرُدَ التَّتَارَ وَيَتَسَلَّمَ مَدِينَةَ حَلْبَ، وَوَعَدَهُ بِنِيَابَتِهَا، فَلَمَّا طَرَدَهُمْ عَنْهَا، وَأَخْرَجَهُمْ مِنْهَا، وَتَسَلَّمَهَا الْمُسْلِمُونَ اسْتَنَابَ عَلَيْهَا غَيْرَهُ، وَهُوَ عَلَاءُ الدِّينِ ابْنُ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ الْوَحْشَةِ الَّتِي وَقَعَتْ بَيْنَهُمَا، وَاقْتَضَتْ قَتْلَ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ قُطُزَ سَرِيعًا، وَلِلَّهِ الْأَمْرُ.