الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[خِلَافَةُ الظَّاهِرِ بْنِ النَّاصِرِ]
لَمَّا تُوُفِّيَ الْخَلِيفَةُ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ كَانَ قَدْ عَهِدَ إِلَى ابْنِهِ أَبِي نَصْرٍ مُحَمَّدٍ هَذَا، وَلَقَّبَهُ بِالظَّاهِرِ، وَخَطَبَ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ، ثُمَّ عَزَلَهُ عَنْ ذَلِكَ بِأَخِيهِ عَلَيٍّ، فَتُوُفِّيَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ سَنَةَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ، فَاحْتَاجَ إِلَى إِعَادَةِ هَذَا لِوِلَايَةِ الْعَهْدِ، فَخَطَبَ لَهُ ثَانِيًا، فَحِينَ تُوُفِّيَ بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ، وَعُمْرُهُ يَوْمَئِذٍ ثِنْتَانِ وَخَمْسُونَ سَنَةً، فَلَمْ يَلِ الْخِلَافَةَ مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ أَسَنُّ مِنْهُ، وَكَانَ عَاقِلًا وَقُورًا دَيِّنًا عَادِلًا مُحْسِنًا، رَدَّ مَظَالِمَ كَثِيرَةً، وَأَسْقَطَ مُكُوسًا كَانَ قَدْ أَحْدَثَهَا أَبُوهُ، وَسَارَ فِي النَّاسِ سِيرَةً حَسَنَةً، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَعْدَلَ مِنْهُ لَوْ طَالَتْ مُدَّتُهُ. لَكِنَّهُ لَمْ يَحُلْ عَلَيْهِ الْحَوْلُ، بَلْ كَانَتْ مُدَّتُهُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، أَسْقَطَ الْخَرَاجَ الْمَاضِي عَنِ الْأَرَاضِي الَّتِي قَدْ تَعَطَّلَتْ، وَوَضَعَ عَنْ أَهْلِ بَلْدَةٍ وَاحِدَةٍ - وَهِيَ بَعْقُوبَا - سَبْعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ كَانَ أَبُوهُ قَدْ زَادَهَا عَلَيْهِمْ فِي الْخَرَاجِ. وَكَانَتْ صَنْجَةُ الْمَخْزَنِ تَزِيدُ عَلَى صَنْجَةِ الْبَلَدِ نِصْفَ دِينَارٍ فِي كُلِّ مِائَةٍ إِذَا قَبَضُوا، وَإِذَا أَقْبَضُوا دَفَعُوا بِصَنْجَةِ الْبَلَدِ، فَكَتَبَ إِلَى الدِّيوَانِ:{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 1]
[الْمُطَفِّفِينَ: 1 - 6] فَكَتَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْكُتَّابِ يَقُولُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! إِنَّ تَفَاوُتَ هَذَا عَنِ الْعَامِ الْمَاضِي خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفًا. فَأَرْسَلَ يُنْكِرُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: هَذَا يُتْرَكُ وَإِنْ كَانَ تَفَاوُتُهُ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفٍ
وَخَمْسِينَ أَلْفًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَرَ الْقَاضِيَ أَنَّ كُلَّ مَنْ ثَبَتَ لَهُ حَقٌّ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ يُوَصَّلُ إِلَيْهِ بِلَا مُرَاجَعَةٍ، وَأَقَامَ فِي النَّظَرِ عَلَى الْأَمْوَالِ الْحَشْرِيَةِ رَجُلًا صَالِحًا، وَاسْتَخْلَصَ عَلَى الْقَضَاءِ الشَّيْخَ الْعَلَّامَةَ عِمَادَ الدِّينِ أَبَا صَالِحٍ نَصْرَ بْنَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بْنِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلِيِّ، الْحَنْبَلِيَّ، فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ ثَامِنِ ذِي الْحِجَّةِ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ وَمِنْ خِيَارِ الْقُضَاةِ الْعَادِلِينَ رحمهم الله أَجْمَعِينَ - وَلَمَّا عُرِضَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ لَمْ يَقْبَلْهُ إِلَّا بِشَرْطِ أَنْ يُوَرِّثَ ذَوِي الْأَرْحَامِ، فَقَالَ: أَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَاتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَتَّقِ سِوَاهُ. وَكَانَ مِنْ عَادَةِ أَبِيهِ أَنْ يَرْفَعَ إِلَيْهِ حُرَّاسُ الدُّرُوبِ فِي كُلِّ صَبَاحٍ بِمَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي الْمَحَالِّ مِنَ الِاجْتِمَاعَاتِ الصَّالِحَةِ وَالطَّالِحَةِ، فَلَمَّا وَلِيَ الظَّاهِرُ أَمَرَ بِتَبْطِيلِ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَقَالَ: أَيُّ فَائِدَةٍ فِي كَشْفِ أَحْوَالِ النَّاسِ وَهَتْكِ أَسْتَارِهِمْ؟! فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ تَرْكَ ذَلِكَ يُفْسِدُ الرَّعِيَّةَ. فَقَالَ: نَحْنُ نَدْعُو اللَّهَ لَهُمْ أَنْ يُصْلِحَهُمْ.
وَأَطْلَقَ مَنْ كَانَ فِي السُّجُونِ مُعْتَقَلًا عَلَى الْأَمْوَالِ الدِّيوَانِيَّةِ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ مَا كَانَ اسْتُخْرِجَ مِنْهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ مِنَ الْمَظَالِمِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْقَاضِي بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ يُوَفِّي بِهَا دُيُونَ مَنْ فِي سُجُونِهِ مِنَ الْمَدِينِينَ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ وَفَاءً. وَفَرَّقَ فِي الْعُلَمَاءِ بَقِيَّةَ الْمِائَةِ أَلْفٍ. وَقَدْ لَامَهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ، فَقَالَ: إِنَّمَا فَتَحْتُ الدُّكَّانَ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَذَرُونِي أَعْمَلُ صَالِحًا وَأَفْعَلُ الْخَيْرَ، فَكَمْ مِقْدَارُ مَا بَقِيتُ أَعِيشُ؟ وَلَمْ تَزَلْ هَذِهِ سِيرَتُهُ حَتَّى تُوُفِّيَ فِي الْعَامِ الْآتِي كَمَا سَيَأْتِي.
وَرَخُصَتِ الْأَسْعَارُ فِي أَيَّامِهِ وَقَدْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ فِي غَايَةِ الشِّدَّةِ وَالْغَلَاءِ، حَتَّى إِنَّهُ فِيمَا حَكَى