الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَسَدُ الدِّينِ سُرِّيَ عَنِ النَّاسِ وَأَمِنُوا، فَلَمَّا أَصْبَحَ تَوَجَّهَ إِلَى السُّلْطَانِ بِمَرْجِ الصُّفَّرِ، وَأَمَّا الْفِرِنْجُ فَإِنَّهُمْ وَرَدُوا إِلَى بَيْسَانَ، فَنَهَبُوا مَا كَانَ بِهَا مِنَ الْغَلَّاتِ وَالدَّوَابِّ، وَقَتَلُوا وَأَسَرُوا شَيْئًا كَثِيرًا، ثُمَّ عَاثُوا فِي الْأَرْضِ فَسَادًا يَقْتُلُونَ وَيَنْهَبُونَ وَيَسُبُّونَ مَا بَيْنَ بَيْسَانَ إِلَى بَانِيَاسَ، وَخَرَجُوا إِلَى أَرَاضِي الْجَوْلَانِ إِلَى نَوَى وَخِسْفِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَرَاضِي، وَسَارَ الْمَلِكُ الْمُعَظَّمُ، فَنَزَلَ عَلَى عَقَبَةِ اللَّبَنِ بَيْنَ الْقُدْسِ وَنَابُلُسَ خَوْفًا عَلَى الْقُدْسِ الشَّرِيفِ، ثُمَّ حَاصَرَ الْفِرِنْجُ حِصْنَ الطُّورِ حِصَارًا هَائِلًا، وَمَانَعَ عَنْهُ الَّذِينَ بِهِ مِنَ الْأَبْطَالِ مُمَانَعَةً هَائِلَةً، ثُمَّ كَرَّ الْفِرِنْجُ رَاجِعِينَ إِلَى عَكَّا، وَجَاءَ الْمَلِكُ الْمُعَظَّمُ إِلَى الطُّورِ، فَخَلَعَ عَلَى الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ بِهِ، وَطَيَّبَ نُفُوسَهُمْ، ثُمَّ اتَّفَقَ هُوَ وَأَبُوهُ عَلَى هَدْمِهِ، كَمَا سَيَأْتِي.
[مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ]
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ الْعِمَادُ، أَخُو الْحَافِظِ عَبْدِ الْغَنِيِّ، أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ سُرُورٍ، الشَّيْخُ عِمَادُ الدِّينِ الْمَقْدِسِيُّ، كَانَ أَصْغَرَ مِنْ أَخِيهِ الْحَافِظِ عَبْدِ الْغَنِيِّ بِسَنَتَيْنِ، وَقَدِمَ مَعَهُمْ إِلَى دِمَشْقَ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَرَحَلَ إِلَى بَغْدَادَ مَرَّتَيْنِ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ عَابِدًا زَاهِدًا وَرِعًا،
كَثِيرَ الصَّلَاةِ، كَثِيرَ الصِّيَامِ ; يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَكَانَ فَقِيهًا مُفْتِيًا، لَهُ كِتَابُ الْفُرُوقِ، وَصَنَّفَ أَحْكَامًا وَلَمْ يُتِمَّهُ، وَكَانَ يَؤُمُّ بِمِحْرَابِ الْحَنَابِلَةِ مَعَ الشَّيْخِ الْمُوَفَّقِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يُصَلُّونَ بِغَيْرِ مِحْرَابٍ، ثُمَّ وُضِعَ الْمِحْرَابُ فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَكَانَ يَؤُمُّ بِالنَّاسِ لِقَضَاءِ الْفَوَائِتِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ. صَلَّى الْمَغْرِبَ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَكَانَ صَائِمًا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ بِدِمَشْقَ، فَأَفْطَرَ ثُمَّ مَاتَ فَجْأَةً، فَصَلَّى عَلَيْهِ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ الشَّيْخُ الْمُوَفَّقُ عِنْدَ مُصَلَّاهُمْ، ثُمَّ صَعِدُوا بِهِ إِلَى السَّفْحِ، وَكَانَ يَوْمُ مَوْتِهِ يَوْمًا مَشْهُودًا مِنْ كَثْرَةِ الْخَلْقِ. قَالَ سِبْطُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ: كَانَ الْخَلْقُ مِنَ الْكَهْفِ إِلَى مَغَارَةِ الدَّمِ إِلَى الْمَيْطُورِ، لَوْ بُدِرَ السِّمْسِمُ مَا وَقَعَ إِلَّا عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ، فَلَمَّا رَجَعْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَكَّرْتُ فِيهِ، وَقُلْتُ: كَانَ هَذَا رَجُلًا صَالِحًا، رُبَّمَا أَنَّهُ نَظَرَ إِلَى رَبِّهِ حِينَ وُضِعَ فِي لَحْدِهِ. وَمَرَّ بِذِهْنِي أَبْيَاتُ الثَّوْرِيِّ الَّتِي أَنْشَدَهَا بَعْدَ مَوْتِهِ فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ:
نَظَرْتُ إِلَى رَبِّي كِفَاحًا فَقَالَ لِي
…
هَنِيئًا رِضَائِي عَنْكَ يَا
ابْنَ سَعِيدِ
فَقَدْ كُنْتَ قَوَّامًا إِذَا أَقْبَلَ الدُّجَى
بِعَبْرَةِ مُشْتِاقٍ وَقَلْبِ عَمِيدِ
…
فَدُونَكَ فَاخْتَرْ أَيَّ قَصْرٍ أَرَدْتَهُ
وَزُرْنِي فَإِنِّي مِنْكَ غَيْرُ بَعِيدِ
ثُمَّ قُلْتُ: أَرْجُو أَنْ يَكُونَ الْعِمَادُ رَأَى رَبَّهُ كَمَا رَآهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ. فَنِمْتُ
فَرَأَيْتُ الشَّيْخَ الْعِمَادَ فِي الْمَنَامِ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ خَضْرَاءُ، وَعِمَامَةٌ خَضْرَاءُ، وَهُوَ فِي مَكَانٍ مُتَّسِعٍ كَأَنَّهُ رَوْضَةٌ، وَهُوَ يَرْقَى فِي دَرَجٍ مُتَّسِعَةٍ، فَقُلْتُ: يَا عِمَادَ الدِّينِ، كَيْفَ بِتَّ فَإِنِّي وَاللَّهِ مُفَكِّرٌ فِيكَ؟ فَنَظَرَ إِلَيَّ وَتَبَسَّمَ عَلَى عَادَتِهِ، ثُمَّ قَالَ:
رَأَيْتُ إِلَهِي حِينَ أُنْزِلْتُ حُفْرَتِي
…
وَفَارَقْتُ أَصْحَابِي وَأَهْلِي وَجِيرَتِي
وَقَالَ جُزِيتَ الْخَيْرَ عَنِّي فَإِنَّنِي
…
رَضِيتُ فَهَا عَفْوِي لَدَيْكَ وَرَحْمَتِي
دَأَبْتَ زَمَانًا تَأْمَلُ الْفَوْزَ وَالرِّضَا
…
فَوُقِّيتَ نِيرَانِي وَلُقِّيتَ جَنَّتِي
قَالَ: فَانْتَبَهْتُ وَأَنَا مَذْعُورٌ، وَكَتَبْتُ الْأَبْيَاتَ.
الْقَاضِي جَمَالُ الدِّينِ بْنُ الْحَرَسْتَانِيِّ:
عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْفَضْلِ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيُّ بْنُ الْحَرَسْتَانِيِّ، قَاضِي الْقُضَاةِ بِدِمَشْقَ، وُلِدَ سَنَةَ عِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ أَهْلِ حَرَسْتَا، فَنَزَلَ دَاخِلَ بَابِ تُومَا، وَأَمَّ بِمَسْجِدِ الزَّيْنَبِيِّ، وَنَشَأَ وَلَدُهُ هَذَا نَشْأَةً حَسَنَةً، سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَشَارَكَ الْحَافِظَ ابْنَ عَسَاكِرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ شُيُوخِهِ، وَكَانَ يَجْلِسُ لِإِسْمَاعِ الْحَدِيثِ بِمَقْصُورَةِ الْخَضِرِ، وَعِنْدَهَا كَانَ يُصَلِّي دَائِمًا، لَا تَفُوتُهُ الْجَمَاعَةُ بِالْجَامِعِ، وَكَانَ
مَنْزِلُهُ بِالْحُوَيْرَةِ، وَدَرَسَ بِالْمُجَاهِدِيَّةِ، وَعُمِّرَ دَهْرًا طَوِيلًا عَلَى هَذَا الْقَدَمِ الصَّالِحِ، وَنَابَ فِي الْحُكْمِ عَنِ ابْنِ أَبِي عَصْرُونَ ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ وَلَزِمَ بَيْتَهُ وَصَلَاتَهُ بِالْجَامِعِ، ثُمَّ عَزَلَ الْعَادِلُ الْقَاضِيَ ابْنَ الزَّكِيِّ الطَّاهِرَ بْنَ مُحْيِي الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْقُرَشِيَّ، وَأَلْزَمَ الْقَاضِي جَمَالَ الدِّينِ بْنَ الْحَرَسْتَانِيِّ هَذَا بِوِلَايَةِ الْقَضَاءِ، وَلَهُ ثِنْتَانِ وَتِسْعُونَ سَنَةً، وَأَعْطَاهُ تَدْرِيسَ الْعَزِيزِيَّةِ. وَأَخَذَ التَّقْوِيَةَ أَيْضًا مِنِ ابْنِ الزَّكِيِّ، وَوَلَّاهَا فَخْرَ الدِّينِ بْنَ عَسَاكِرَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَفْقَهَ مِنِ ابْنِ الْحَرَسْتَانِيِّ، كَانَ يَحْفَظُ الْوَسِيطَ لِلْغَزَّالِيِّ. وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَعْدَلِ الْقُضَاةِ وَأَقْوَمِهِمْ بِالْحَقِّ، لَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ. وَكَانَ ابْنُهُ عِمَادُ الدِّينِ يَخْطُبُ بِجَامِعِ دِمَشْقَ وَوَلِيَ مَشْيَخَةَ الْأَشْرَفِيَّةِ يَنُوبُ عَنْهُ، وَكَانَ الْقَاضِي جَمَالُ الدِّينِ يَجْلِسُ لِلْحُكْمِ بِمَدْرَسَتِهِ الْمُجَاهِدِيَّةِ، وَكَانَ السُّلْطَانُ قَدْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ طَرَّاحَةً وَمَسْنَدًا لِأَجْلِ أَنَّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ، وَكَانَ ابْنُهُ يَجْلِسُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِذَا قَامَ أَبُوهُ جَلَسَ هُوَ مَكَانَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ عَزَلَ ابْنَهُ عَنْ نِيَابَتِهِ لِشَيْءٍ بَلَغَهُ عَنْهُ، وَاسْتَنَابَ شَمْسَ الدِّينِ بْنَ الشِّيرَازِيِّ، وَكَانَ يَجْلِسُ تُجَاهَهُ فِي شَرْقِيِّ الْإِيوَانِ، وَاسْتَنَابَ مَعَهُ شَمْسَ الدِّينِ ابْنَ سُنِّيِّ الدَّوْلَةِ، وَبُنِيَتْ لَهُ دَكَّةٌ فِي الزَّاوِيَةِ الْقِبْلِيَّةِ بِغَرْبِ الْمَدْرَسَةِ، وَاسْتَنَابَ شَرَفَ الدِّينِ بْنَ الْمَوْصِلِيِّ الْحَنَفِيَّ، فَكَانَ يَجْلِسُ فِي مِحْرَابِ
الْمَدْرَسَةِ، وَاسْتَمَرَّ حَاكِمًا سَنَتَيْنِ وَسَبْعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ السَّبْتِ رَابِعَ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَلَهُ خَمْسٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِجَامِعِ دِمَشْقَ، ثُمَّ دُفِنَ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ.
الْأَمِيرُ بَدْرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْهَكَّارِيُّ، بَانِي الْمَدْرَسَةِ الَّتِي بِالْقُدْسِ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْأُمَرَاءِ، يَتَمَنَّى الشَّهَادَةَ دَائِمًا، فَقَتَلَهُ الْفِرِنْجُ بِحِصْنِ الطُّورِ هَذِهِ السَّنَةَ، فَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ بِمَامِلَا، وَتُرْبَتُهُ تُزَارُ إِلَى الْآنَ، رحمه الله.
الشُّجَاعُ مَحْمُودٌ الْمَعْرُوفُ بِالدِّمَاغِ
كَانَ مِنْ أَصْدِقَاءِ الْعَادِلِ يُضْحِكُهُ، فَحَصَّلَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، كَانَتْ دَارُهُ دَاخِلَ بَابِ الْفَرَجِ، فَجَعَلَتْهَا زَوْجَتُهُ عَائِشَةُ مَدْرَسَةً لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، وَوَقَفَتْ عَلَيْهَا أَوْقَافًا دَارَّةً. رَحِمَهَا اللَّهُ.
الشَّيْخَةُ الصَّالِحَةُ الْعَابِدَةُ الزَّاهِدَةُ
شَيْخَةُ الْعَالِمَاتِ بِدِمَشْقَ، وَتُلَقَّبُ بِدُهْنِ اللَّوْزِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَتْ بِنْتُ بُورِيحَانَ، وَهِيَ آخِرُ بَنَاتِهِ وَفَاةً، وَجَعَلَتْ أَمْوَالَهَا وَقْفًا عَلَى تُرْبَةِ أُخْتِهَا بِنْتِ صَفِيَّةَ الْمَشْهُورَةِ.