الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَعَزَمَ الْمُظَفَّرُ عَلَى الذَّهَابِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَاسْتَنَابَ عَلَى دِمَشْقَ الْأَمِيرَ عَلَمَ الدِّينِ سَنْجَرَ الْحَلَبِيَّ الْكَبِيرَ وَالْأَمِيرَ مُجِيرَ الدِّينِ بْنَ الْحُسَيْنِ، وَعَزَلَ ابْنَ الزَّكِيِّ عَنْ قَضَاءِ دِمَشْقَ، وَوَلَّى عَلَيْهَا نَجْمَ الدِّينِ ابْنَ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَالْعَسَاكِرُ الْإِسْلَامِيَّةُ فِي خِدْمَتِهِ، وَعُيُونُ الْأَعْيَانِ تَنْظُرُ إِلَيْهِ شَزْرًا مِنْ شِدَّةِ هَيْبَتِهِ.
[ذِكْرُ سَلْطَنَةِ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ وَهُوَ الْأَسَدُ الضَّارِي بِيبَرْسُ الْبُنْدُقْدَارِيُّ]
وَذَلِكَ أَنَّ السُّلْطَانَ الْمَلِكَ الْمُظَفَّرَ قُطُزَ لَمَّا عَادَ بِالْعَسَاكِرِ قَاصِدًا الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ، فَوَصَلَ إِلَى مَا بَيْنَ الْغُرَابِيِّ وَالصَّالِحِيَّةِ، عَدَا عَلَيْهِ الْأُمَرَاءُ، فَقَتَلُوهُ هُنَالِكَ وَقَدْ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا، كَثِيرَ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ، وَلَا يَتَعَاطَى الشَّرَابَ وَلَا شَيْئًا مِمَّا يَتَعَاطَاهُ الْمُلُوكُ، وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِ مِنْ حِينَ عَزَلَ ابْنَ أُسْتَاذِهِ الْمَنْصُورَ عَلِيَّ بْنَ الْمُعِزِّ التُّرْكُمَانِيَّ إِلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَهِيَ أَوَاخِرُ ذِي الْقَعْدَةِ نَحْوًا مِنْ سَنَةٍ، رحمه الله، وَجَزَاهُ عَنِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ خَيْرًا.
وَكَانَ الْأَمِيرُ رُكْنُ الدِّينِ بِيبَرْسُ الْبُنْدُقْدَارِيُّ قَدِ اتَّفَقَ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ عَلَى قَتْلِهِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ ضَرَبَ دِهْلِيزَهُ، وَسَاقَ خَلْفَ أَرْنَبٍ، وَسَاقَ مَعَهُ أُولَئِكَ الْأُمَرَاءُ، فَشَفَعَ عِنْدَهُ رُكْنُ الدِّينِ بِيبَرْسُ فِي شَيْءٍ فَشَفَّعَهُ، فَأَخَذَ يَدَهُ لِيُقَبِّلَهَا فَأَمْسَكَهَا، وَحَمَلَ عَلَيْهِ أُولَئِكَ الْأُمَرَاءُ بِالسُّيُوفِ، وَأَلْقَوْهُ عَنْ فَرَسِهِ، وَرَشَقُوهُ بِالنِّشَابِ حَتَّى أَجْهَزُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ كَرُّوا رَاجِعِينَ إِلَى الْمُخَيَّمِ، وَبِأَيْدِيهِمُ السُّيُوفُ مُصْلَتَةٌ، فَأَخْبَرُوا مَنْ هُنَاكَ بِالْخَبَرِ، فَقَالَ
بَعْضُهُمْ: مَنْ قَتَلَهُ؟ فَقَالَ رُكْنُ الدِّينِ: أَنَا. فَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ الْمَلِكُ. وَقِيلَ: لَمَّا قُتِلَ حَارَ الْأُمَرَاءُ بَيْنَهُمْ فِيمَنْ يُوَلُّونَ الْمُلْكَ، وَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَخْشَى غَائِلَةَ ذَلِكَ، وَأَنْ يُصِيبَهُ مَا أَصَابَ غَيْرَهُ سَرِيعًا، فَاتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَى أَنْ بَايَعُوا الْأَمِيرَ رُكْنَ الدِّينِ بِيبَرْسَ الْبُنْدُقْدَارِيَّ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَكَابِرِ الْمُقَدَّمِينَ فِيهِمْ، وَلَكِنْ أَرَادُوا أَنْ يُجَرِّبُوا فِيهِ، وَلَقَّبُوهُ الْمَلِكَ الظَّاهِرَ، فَجَلَسَ عَلَى سَرِيرِ الْمَمْلَكَةِ وَحَكَمَهُ، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ، وَضُرِبَتِ الطُّبُولُ وَالْبُوقَاتُ، وَصَفَّرَتِ الشَّبَّابَةُ، وَزَعَقَتِ الشَّاوُوشِيَّةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَاسْتَعَانَ بِهِ، ثُمَّ دَخَلَ مِصْرَ وَالْعَسَاكِرُ فِي خِدْمَتِهِ، فَدَخَلَ قَلْعَةَ الْجَبَلِ، وَجَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّهَا، وَحَكَمَ فَعَدَلَ، وَقَطَعَ وَوَصَلَ، وَكَانَ شَهْمًا شُجَاعًا، أَقَامَهُ اللَّهُ لِلنَّاسِ لِشِدَّةِ احْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ الشَّدِيدِ وَالْأَمْرِ الْعَسِيرِ، وَكَانَ أَوَّلًا قَدْ لَقَّبَ نَفْسَهُ بِالْمَلِكِ الْقَاهِرِ، فَقَالَ لَهُ الْوَزِيرُ: إِنَّ هَذَا اللَّقَبَ لَا يُفْلِحُ مَنْ تَلَقَّبَ بِهِ; تَلَقَّبَ بِهِ الْقَاهِرُ بْنُ الْمُعْتَضِدِ فَلَمْ تَطُلْ أَيَّامُهُ حَتَّى خُلِعَ وَسُمِلَ، وَلُقِّبَ بِهِ الْقَاهِرُ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، فَسُمَّ فَمَاتَ.
فَعَدَلَ عَنْ هَذَا اللَّقَبِ إِلَى الْمَلِكِ الظَّاهِرِ ثُمَّ شَرَعَ فِي مَسْكِ مَنْ يَرَى فِي نَفْسِهِ رِئَاسَةً مَنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ حَتَّى مَهَّدَ الْمُلْكُ كَمَا يُرِيدُ، وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.
وَقَدْ كَانَ السُّلْطَانُ هُولَاكُوقَانَ لَمَّا بَلَغَهُ مَا جَرَى عَلَى جَيْشِهِ بِعَيْنِ جَالُوتَ أَرْسَلَ جَمَاعَةً كَثِيرَةً مِنْ جَيْشِهِ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ لِيَسْتَعِيدُوهُ مِنْ أَيْدِي جَيْشِ الْإِسْلَامِ، فَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ، وَرَجَعُوا إِلَيْهِ وَهُمْ خَائِبُونَ خَاسِرُونَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ نَهَضَ إِلَيْهِمُ الْهِزَبْرُ الْكَاسِرُ وَالسَّيْفُ الْبَاتِرُ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الْمُؤَيَّدُ الظَّاهِرُ، فَقَدِمَ إِلَى
دِمَشْقَ وَأَرْسَلَ الْجُيُوشَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، لِحِفْظِ الثُّغُورِ وَالْمَعَاقِلِ بِالْأَسْلِحَةِ التَّامَّةِ وَالْجَحَافِلِ، فَلَمْ يَقْدِرِ التَّتَارُ عَلَى الدُّنُوِّ إِلَيْهِ، وَلَا الْقُدُومِ عَلَيْهِ، وَوَجَدُوا الدَّوْلَةَ قَدْ تَغَيَّرَتْ، وَالسَّوَاعِدَ قَدْ شُمِّرَتْ، وَالسُّيُوفَ الْبَوَاتِرَ قَدْ سُلَّتْ، وَالرِّمَاحَ الْخَطِّيَّةَ قَدِ اعْتُقِلَتْ، وَالْقِسِيَّ قَدْ وُتِّرَتْ، وَالنِّبَالَ قَدْ حُصِّلَتْ، وَالْخُيُولَ قَدْ ضُمِرَتْ، وَالطُّبُولَ قَدْ حُصِّلَتْ، وَعِنَايَةَ اللَّهِ بِأَهْلِ بِالشَّامِ قَدْ تَنَزَّلَتْ، وَرَحْمَتَهُ بِهِمْ قَدْ تَدَارَكَتْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ نَكَصَتْ شَيَاطِينُهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، وَكَرَّتْ رَاجِعَةً الْقَهْقَرَى عَلَى أَذْنَابِهَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ، وَتَكْمُلُ الْمَسَرَّاتُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَبَعْدَ الْمَمَاتِ.
وَقَدْ كَانَ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ قُطُزُ رحمه الله اسْتَنَابَ عَلَى دِمَشْقَ الْأَمِيرَ عَلَمَ الدِّينِ سَنْجَرَ الْحَلَبِيَّ أَحَدَ الْأَتْرَاكِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ مَقْتَلُ الْمُظَفَّرِ دَخَلَ الْقَلْعَةَ، وَدَعَا لِنَفْسِهِ وَتَسَمَّى بِالْمَلِكِ الْمُجَاهِدِ، فَلَمَّا جَاءَتِ الْبَيْعَةُ لِلْمَلِكِ الظَّاهِرِ خُطَبَ لَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ السَّادِسَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَدَعَا الْخَطِيبُ أَوَّلًا لِلْمُجَاهِدِ، ثُمَّ لِلظَّاهِرِ ثَانِيًا، وَضُرِبَتِ السِّكَّةُ بِاسْمِهِمَا مَعًا، ثُمَّ ارْتَفَعَ الْمُجَاهِدُ هَذَا مِنَ الْبَيْنِ، كَمَا سَيَأْتِي.
وَقَدِ اتَّفَقَ فِي هَذَا الْعَامِ أُمُورٌ عَجِيبَةٌ، وَهِيَ أَنَّ أَوَّلَ هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتِ الشَّامُ لِلسُّلْطَانِ النَّاصِرِ بْنِ الْعَزِيزِ، ثُمَّ فِي النِّصْفِ مِنْ صِفْرٍ صَارَتْ لِهُولَاكُوقَانَ مَلِكِ التَّتَارِ، ثُمَّ فِي آخِرِ رَمَضَانَ صَارَتْ لِلْمُظَفَّرِ قُطُزَ، ثُمَّ فِي أَوَاخِرَ ذِي الْقَعْدَةِ انْتَقَلَتْ إِلَى مَمْلَكَةِ السُّلْطَانِ الظَّاهِرُ بِيبَرْسُ، وَقَدْ شَرَكَهُ فِي دِمَشْقَ الْمَلِكُ الْمُجَاهِدُ عَلَمُ الدِّينِ