الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ]
[الْأَحْدَاثُ الْوَاقِعَةُ فِيهَا]
فِي مُسْتَهَلِّ صَفَرٍ مِنْهَا رَكِبَ السُّلْطَانُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْعَسْكَرِ إِلَى عَسْقَلَانَ، فَهَدَمَ مَا بَقِيَ مِنْ سُورِهَا مِمَّا كَانَ أُهْمِلَ فِي الدَّوْلَةِ الصَّلَاحِيَّةِ، وَوَجَدَ فِيمَا هَدَمَ كُوزَيْنِ، فِيهِمَا أَلْفَا دِينَارٍ فَفَرَّقَهُمَا عَلَى الْأُمَرَاءِ، وَجَاءَتْهُ الْبِشَارَةُ وَهُوَ هُنَالِكَ بِأَنَّ مَنْكُوتَمُرَ كَسَرَ جَيْشَ أَبْغَا، فَفَرِحَ بِذَلِكَ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْقَاهِرَةِ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بَلَغَ السُّلْطَانَ أَنَّ أَهْلَ عَكَّا ضَرَبُوا رِقَابَ مَنْ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ صَبْرًا بِظَاهِرِ عَكَّا فَأَمَرَ بِمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ أَسْرَى أَهْلِ عَكَّا فَضُرِبَتْ رِقَابُهُمْ فِي صَبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَانُوا قَرِيبًا مِنْ مِائَةِ أَسِيرٍ.
وَفِيهَا كَمَلَ جَامِعُ الْمَنْشِيَّةِ، وَأُقِيمَتْ فِيهِ الْجُمُعَةُ فِي الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ.
وَفِيهَا جَرَتْ حُرُوبٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا بَيْنَ أَهْلِ تُونِسَ وَالْفِرِنْجِ، ثُمَّ تَصَالَحُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْهُدْنَةِ وَوَضْعِ الْحَرْبِ، بَعْدَمَا قُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلَائِقُ لَا يُحْصَوْنَ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ ثَامِنِ رَجَبٍ دَخَلَ الظَّاهِرُ إِلَى دِمَشْقَ وَفِي صُحْبَتِهِ وَلَدُهُ
الْمَلِكُ السَّعِيدُ وَابْنُ الْحِنَّا الْوَزِيرُ وَجُمْهُورُ الْجَيْشِ، ثُمَّ خَرَجُوا مُتَفَرِّقِينَ وَتَوَاعَدُوا أَنْ يَلْتَقُوا بِالسَّاحِلِ; لِيَشُنُّوا الْغَارَةَ عَلَى جَبَلَةَ وَاللَّاذِقِيَّةِ وَمَرْقَبَ وَعِرْقَةَ وَمَا هُنَالِكَ مِنَ الْبِلَادِ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا فَتَحُوا صَافِيتَا وَالْمِجْدَلَ، ثُمَّ سَارُوا فَنَزَلُوا عَلَى حِصْنِ الْأَكْرَادِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ تَاسِعَ عَشَرَ رَجَبٍ، وَلَهُ ثَلَاثُ أَسْوَارٍ، فَنَصَبُوا عَلَيْهَا الْمَنْجَنِيقَاتِ، فَفَتَحَهَا قَهْرًا يَوْمَ نِصْفِ شَعْبَانَ، فَدَخَلَ الْجَيْشُ، وَكَانَ الَّذِي يُحَاصِرُهُ وَلَدُ السُّلْطَانِ الْمَلِكُ السَّعِيدُ، فَأَطْلَقَ السُّلْطَانُ أَهْلَهُ، وَمَنَّ عَلَيْهِمْ وَأَجْلَاهُمْ إِلَى طَرَابُلُسَ، وَتَسَلَّمَ الْقَلْعَةَ بَعْدَ عَشْرَةِ أَيَّامٍ مِنَ الْفَتْحِ فَأَجْلَى أَهْلَهَا أَيْضًا، وَجَعَلَ كَنِيسَةَ الْبَلَدِ جَامِعًا، وَأَقَامَ فِيهِ الْجُمُعَةَ، وَوَلَّى فِيهَا نَائِبًا وَقَاضِيًا، وَأَمَرَ بِعِمَارَةِ الْبَلَدِ، وَبَعَثَ صَاحِبُ أَنْطَرْطُوسَ بِمَفَاتِيحِ بَلَدِهِ يَطْلُبُ مِنْهُ الصُّلْحَ عَلَى أَنْ يَكُونَ نِصْفُ مُغَلِّ بِلَادِهِ لِلسُّلْطَانِ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ بِهَا نَائِبًا، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ صَاحِبُ الْمَرْقَبِ، فَصَالَحَهُ أَيْضًا عَلَى الْمُنَاصَفَةِ وَوَضْعِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ، وَبَلَغَ السُّلْطَانَ وَهُوَ مُخَيِّمٌ عَلَى حِصْنِ الْأَكْرَادِ أَنَّ صَاحِبَ جَزِيرَةِ قُبْرُسَ قَدْ رَكِبَ بِجَيْشِهِ إِلَى عَكَّا لِيَنْصُرَ أَهْلَهَا خَوْفًا مِنَ السُّلْطَانِ، فَأَرَادَ
السُّلْطَانُ أَنْ يَغْتَنِمَ هَذِهِ الْفُرْصَةَ، فَبَعَثَ جَيْشًا كَثِيفًا فِي سَبْعَةَ عَشَرَ شِينِيًّا لِيَأْخُذُوا جَزِيرَةَ قُبْرُسَ فِي غَيْبَةِ صَاحِبِهَا عَنْهَا، فَسَارَتِ الْمَرَاكِبُ مُسْرِعَةً، فَلَمَّا قَارَبَتِ الْمَدِينَةَ جَاءَتْهَا رِيحٌ قَاصِفٌ، فَصَدَمَ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَانْكَسَرَ مِنْهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَرْكَبًا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَغَرِقَ خَلْقٌ، وَأَسَرَ الْفِرِنْجُ مِنَ الصُّنَّاعِ وَالرِّجَالِ قَرِيبًا مِنْ أَلْفٍ وَثَمَانِمِائَةِ إِنْسَانٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. ثُمَّ سَارَ السُّلْطَانُ، فَنَصَبَ الْمَجَانِيقَ عَلَى حِصْنِ عَكَّا، فَسَأَلَهُ أَهْلُهَا الْأَمَانَ عَلَى أَنْ يُجْلِيَهُمْ فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَدَخَلَ الْبَلَدَ يَوْمَ عِيدِ الْفِطْرِ فَتَسَلَّمَهُ، وَكَانَ الْحِصْنُ شَدِيدَ الضَّرَرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ وَادٍ بَيْنَ جَبَلَيْنِ، ثُمَّ سَارَ السُّلْطَانُ نَحْوَ طَرَابُلُسَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ صَاحِبُهَا يَقُولُ: مَا مُرَادُ السُّلْطَانِ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ؟ فَقَالَ: جِئْتُ لِأَرْعَى زُرُوعَكُمْ، وَأُخَرِّبَ بِلَادَكُمْ، ثُمَّ أَعُودَ إِلَى حِصَارِكُمْ فِي الْعَامِ الْآتِي. فَأَرْسَلَ يَسْتَعْطِفُهُ وَيَطْلُبُ مِنْهُ الْمُصَالَحَةَ وَوَضْعَ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ يَسْتَعْطِفُونَهُ عَلَى وَالِدِهِمْ وَكَانَ مَسْجُونًا بِالْقَاهِرَةِ، فَقَالَ: سَلِّمُوا إِلَيَّ الْعُلَّيْقَةَ، وَانْزِلُوا فَخُذُوا إِقْطَاعَاتٍ بِالْقَاهِرَةِ، وَتَسَلَّمُوا أَبَاكُمْ. فَلَمَّا نَزَلُوا أَمَرَ بِحَبْسِهِمْ بِالْقَاهِرَةِ، وَاسْتَنَابَ بِحِصْنِ الْعُلَّيْقَةِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ شَوَّالٍ جَاءَ سَيْلٌ عَظِيمٌ إِلَى دِمَشْقَ، فَأَتْلَفَ شَيْئًا كَثِيرًا، وَغَرِقَ بِسَبَبِهِ نَاسٌ كَثِيرٌ، لَا سِيَّمَا الْحُجَّاجُ مِنَ الرُّومِ الَّذِينَ كَانُوا نُزُولًا بَيْنَ النَّهْرَيْنِ، أَخَذَهُمُ السَّيْلُ وَجِمَالَهُمْ وَأَحْمَالَهُمْ، فَهَلَكُوا وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ الْبَلَدِ، وَدَخَلَ الْمَاءُ إِلَى الْبَلَدِ مِنْ مَرَامِي السُّورِ، وَمِنْ بَابِ الْفَرَادِيسِ، فَغَرَّقَ خَانَ ابْنِ
الْمُقَدَّمِ وَأَتْلَفَ شَيْئًا كَثِيرًا، وَكَانَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ الصَّيْفِ أَيَّامَ الْمِشْمِشِ.
وَدَخَلَ السُّلْطَانُ إِلَى دِمَشْقَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ خَامِسَ عَشَرَ شَوَّالٍ، فَعَزَلَ الْقَاضِي ابْنَ خَلِّكَانَ، وَكَانَ لَهُ فِي الْقَضَاءِ عَشْرُ سِنِينَ، وَوَلَّى الْقَاضِي عِزَّ الدِّينِ بْنَ الصَّائِغِ وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَكَانَ تَقْلِيدُهُ قَدْ كُتِبَ بِظَاهِرِ طَرَابُلُسَ بِسِفَارَةِ الْوَزِيرِ ابْنِ الْحِنَّا، فَسَارَ ابْنُ خَلِّكَانَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ إِلَى مِصْرَ. وَفِي حَادِي عَشَرَ شَوَّالٍ دَخَلَ خَضِرٌ الْكُرْدِيُّ شَيْخُ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ وَأَصْحَابُهُ إِلَى كَنِيسَةِ الْيَهُودِ، فَصَلَّوْا فِيهَا، وَأَزَالُوا مَا فِيهَا مِنْ شَعَائِرِ الْيَهُودِ، وَمَدُّوا فِيهَا سِمَاطًا، وَعَمِلُوا سَمَاعًا وَبَقَوْا عَلَى ذَلِكَ أَيَّامًا، ثُمَّ أُعِيدَتْ إِلَى الْيَهُودِ.
ثُمَّ خَرَجَ السُّلْطَانُ إِلَى السَّوَاحِلِ، فَافْتَتَحَ بَعْضَهَا، وَأَشْرَفَ عَلَى عَكَّا وَتَأَمَّلَهَا، ثُمَّ سَارَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَكَانَ مِقْدَارُ مَا غَرِمَهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ وَفِي الْغَزَوَاتِ قَرِيبًا مِنْ ثَمَانِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَخْلَفَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ، فَكَانَ وُصُولُهُ إِلَى الْقَاهِرَةِ يَوْمَ الْخَمِيسِ ثَالِثَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ. وَفِي الْيَوْمِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ وُصُولِهِ أَمْسَكَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ مِنْهُمُ، الْحَلَبِيُّ وَغَيْرُهُ، بَلَغَهُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا مَسْكَهُ عَلَى الشَّقِيفِ.
وَفِي الْيَوْمِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ أَمَرَ بِإِرَاقَةِ الْخُمُورِ مِنْ سَائِرِ بِلَادِهِ، وَتَهَدَّدَ مَنْ يَعْصِرُهَا أَوْ يَعْتَصِرُهَا بِالْقَتْلِ، وَأَسْقَطَ ضَمَانَ ذَلِكَ، وَكَانَ ذَلِكَ بِالْقَاهِرَةِ وَحْدَهَا، كُلُّ يَوْمٍ ضَمَانُهُ أَلْفُ دِينَارٍ، ثُمَّ سَارَتِ الْبُرُدُ بِذَلِكَ إِلَى الْآفَاقِ.