الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَنْ أَدْنُوَ مِنْهُ، قَالَ: دَعُوا وَابِصَةَ، ادْنُ يَا وَابِصَةُ، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، قَالَ: فَدَنَوْتُ مِنْهُ حتَّى قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: يَا وَابِصَةُ أُخْبِرُكَ أَمْ تَسْأَلُنِي؟ فَقُلْتُ: لَا، بَلْ أَخْبِرْنِي: فَقَالَ: جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ البرِّ وَالْإِثْمِ، فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَجَمَعَ أَنَامِلَهُ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِنَّ فِي صَدْرِي وَيَقُولُ يَا وَابِصَةُ اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَاسْتَفْتِ نَفْسَكَ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) الْبَرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفس، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفس وتردد في الصَّدر، وإن أفتاك النَّاس أفتوك (1) .
بَابُ مَا أَخْبَرَ بِهِ صلى الله عليه وسلم من الكائنات المستقبلة في حياته وبعده
وَهَذَا بَابٌ عَظِيمٌ لَا يُمْكِنُ اسْتِقْصَاءُ جَمِيعِ مَا فِيهِ لِكَثْرَتِهَا، وَلَكِنْ نَحْنُ نُشِيرُ إِلَى طرف منها وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.
وَذَلِكَ مُنْتَزَعٌ مِنَ الْقُرْآنِ وَمِنَ الْأَحَادِيثِ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ المزَّمل - وَهِيَ مَنْ أَوَائِلِ مما نَزَلْ بِمَكَّةَ - * (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) * [المزمل: 20] وَمَعْلُومٌ أنَّ الْجِهَادَ لَمْ يُشْرَعْ إِلَّا بِالْمَدِينَةِ بعد الهجرة.
وقال تعالى في سورة اقترب - وَهِيَ مَكِّيَّةٌ - * (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدبر) * [الْقَمَرِ: 44] وَوَقَعَ هَذَا يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَدْ تَلَاهَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الْعَرِيشِ وَرَمَاهُمْ بِقَبْضَةٍ مِنَ الْحَصْبَاءِ فَكَانَ النَّصر والظَّفر، وَهَذَا مِصْدَاقُ ذَاكَ * وَقَالَ تَعَالَى: * (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) * [الْمَسَدِ: 1 - 5] فَأَخْبَرَ أنَّ عمَّه عَبْدَ الْعُزَّى بْنَ عَبْدِ المطَّلب الْمُلَقَّبَ بِأَبِي لَهَبٍ سَيَدْخُلُ النَّار هُوَ وَامْرَأَتُهُ، فقدَّر اللَّهُ عز وجل أَنَّهُمَا مَاتَا عَلَى شِرْكِهِمَا لَمْ يُسْلِمَا، حَتَّى وَلَا ظَاهِرًا، وَهَذَا مِنْ دَلَائِلَ النبُّوة الْبَاهِرَةِ، وَقَالَ تَعَالَى: * (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) * [الإسراء: 88] وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: * (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) * الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 23] ، فَأَخْبَرَ أنَّ جَمِيعَ الْخَلِيقَةِ لَوِ اجْتَمَعُوا وَتَعَاضَدُوا وَتَنَاصَرُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ فِي فَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ، وَحَلَاوَتِهِ وَإِحْكَامِ أَحْكَامِهِ، وَبَيَانِ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِهِ، لَمَا اسْتَطَاعُوا ذَلِكَ، وَلَمَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، وَلَا عَلَى عَشْرِ سُوَرٍ مِنْهُ، بَلْ وَلَا سُورَةٍ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَنْ يَفْعَلُوا ذلك أبدا، ولن لِنَفْيِ التَّأْبِيدِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَمِثْلُ هَذَا التَّحدي، وَهَذَا الْقَطْعِ، وَهَذَا الْإِخْبَارِ الْجَازِمِ، لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ وَاثِقٍ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ، عَالِمٍ بما يقوله، قاطع أن أَحَدًا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُعَارِضَهُ، وَلَا يَأْتِيَ بمثل ما جاء به عن
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ج 4 / 228 ونقله البيهقي في الدلائل 6 / 292 - 293.
(*)
رَبِّهِ عز وجل، وَقَالَ تَعَالَى: * (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) * الْآيَةَ [النُّورِ: 55] ، وَهَكَذَا وَقَعَ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، مكَّن اللَّهُ هَذَا الدِّين وَأَظْهَرَهُ، وَأَعْلَاهُ وَنَشَرَهُ فِي سَائِرِ الْآفَاقِ، وَأَنْفَذَهُ وَأَمْضَاهُ، وَقَدْ فسَّر كَثِيرٌ مِنَ السَّلف هَذِهِ الْآيَةَ بِخِلَافَةِ الصِّديق، وَلَا شكَّ فِي دُخُولِهِ فِيهَا، وَلَكِنْ لَا تَخْتَصُّ بِهِ، بَلْ تعمَّه كَمَا تَعُمُّ غَيْرَهُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحيح (1)" إِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بيده لننفقنَّ كُنُوزَهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ "، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ الْخُلَفَاءِ الثَّلاثة أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رضي الله عنهم وَأَرْضَاهُمْ، وَقَالَ تَعَالَى: * (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) * [التوبة: 33] وَهَكَذَا وَقَعَ وعمَّ هَذَا الدِّين، وَغَلَبَ وَعَلَا عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ، فِي مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَعَلَتْ كَلِمَتُهُ فِي زَمَنِ الصَّحابة وَمَنْ بَعَدَهُمْ، وذلَّت لَهُمْ سَائِرُ الْبِلَادِ، وَدَانَ لَهُمْ جَمِيعُ أَهْلِهَا، عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهِمْ، وَصَارَ النَّاس إما مؤمن داخل في الدِّين، وإما مهادن باذل الطَّاعة والمال، وإما محارب خائف وجل مِنْ سَطْوَةِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الحديث: إن الله زوى لي مشارق الارض ومفاربها، وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زَوَى لِي مِنْهَا (2) .
وَقَالَ تَعَالَى: * (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) * الآية [الفتح: 16] ، وسواء كان هؤلاء هَوَازِنَ أَوْ أَصْحَابَ مُسَيْلِمَةَ، أَوِ الرُّومَ، فَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ، وَقَالَ تَعَالَى * (وَعَدَكُمُ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ تأخذونها فجعل لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً * وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شئ قديرا) * [الْفَتْحِ: 20] وَسَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الْأُخْرَى خَيْبَرَ أَوْ مَكَّةَ فَقَدْ فُتِحَتْ وَأُخِذَتْ كَمَا وَقَعَ بِهِ الْوَعْدُ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَقَالَ تَعَالَى: * (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ محلقين رؤوسكم وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيبًا) * [الفتح: 27] فَكَانَ هَذَا الْوَعْدُ فِي سَنَةِ الْحُدَيْبِيَةِ عَامَ ست، ووقد إِنْجَازُهُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ عَامَ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ كَمَا تقدَّم، وَذَكَرْنَا هُنَاكَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَفِيهِ أنَّ عُمَرَ قَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ أَلَمْ تَكُنْ تُخْبِرُنَا أنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى، أَفَأَخْبَرْتُكَ أنَّك تَأْتِيهِ عَامَكَ هَذَا؟ قَالَ: لَا، قال فإنَّك تأتيه وتطوف بِهِ.
وَقَالَ تَعَالَى: * (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) * [الأنفال: 7] وَهَذَا الْوَعْدُ كَانَ فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَدِينَةِ لِيَأْخُذَ عير قريش، فبلغ قريش خروجه إلى عيرهم، فنفروا في
(1) صحيح مسلم - كتاب الفتن الحديث 77 ص (4 / 2227) من طريق سعيد بن المسيب عن أبي هريرة.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الفتن ح 2889 ص 4 / 2215.
عن ثوبان.
- زوى: جمع.
(*)
قَرِيبٍ مِنْ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، فلمَّا تَحَقَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ قُدُومَهُمْ وَعْدَهُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنْ سَيُظْفِرُهُ بِهَا، إمَّا الْعِيرُ وإمَّا النَّفِيرُ، فودَّ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحابة - مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ - أَنْ يَكُونَ الْوَعْدُ لِلْعِيرِ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْأَمْوَالِ وقلَّة الرِّجال، وَكَرِهُوا لِقَاءَ النَّفير لِمَا فِيهِ مِنَ الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ، فَخَارَ اللَّهُ لَهُمْ وَأَنْجَزَ لَهُمْ وَعْدَهُ فِي النَّفِيرِ فَأَوْقَعَ بِهِمْ بَأْسَهُ الَّذِي لَا يُرَدُّ، فَقُتِلَ مِنْ سَرَاتِهِمْ سَبْعُونَ وَأُسِرَ سَبْعُونَ وَفَادَوْا أَنْفُسَهُمْ بِأَمْوَالٍ جَزِيلَةٍ، فَجَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ خَيْرَيِ الدُّنيا وَالْآخِرَةِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: * (وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ) * [الأنفال: 7] وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَقَالَ تَعَالَى: * (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الاسارى (1) إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) * [الأنفال: 70] وَهَكَذَا وَقَعَ فإنَّ اللَّهَ عوَّض مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَمِنَ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ أنَّ العبَّاس جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِنِي، فإنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي، وَفَادَيْتُ عَقِيلًا، فَقَالَ لَهُ: خُذْ، فَأَخَذَ فِي ثَوْبٍ مِقْدَارًا لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يقله، وثم وَضَعَ مِنْهُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ حَتَّى أَمْكَنَهُ أن يحمله عَلَى كَاهِلِهِ، وَانْطَلَقَ بِهِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ مَبْسُوطًا * وَهَذَا مِنْ تَصْدِيقِ هَذِهِ الْأَيَّةِ الْكَرِيمَةِ، وَقَالَ تَعَالَى: * (وَإِنَّ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ) * الْآيَةَ [التَّوْبَةِ: 28] ، وَهَكَذَا وَقَعَ عوَّضهم اللَّهُ عمَّا كان يغدو إِلَيْهِمْ مَعَ حُجَّاجِ الْمُشْرِكِينَ، بِمَا شَرَعَهُ لَهُمْ مِنْ قِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ،
وَضَرْبِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ، وَسَلْبِ أَمْوَالِ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ عَلَى كُفْرِهِ، كَمَا وَقَعَ بكفَّار أَهْلِ الشَّام مِنَ الرُّوم وَمَجُوسِ الْفُرْسِ، بِالْعِرَاقِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبُلْدَانِ الَّتِي انْتَشَرَ الْإِسْلَامُ عَلَى أَرْجَائِهَا، وَحَكَمَ عَلَى مَدَائِنِهَا وَفَيْفَائِهَا، قَالَ تَعَالَى: * (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) * [التوبة: 33] وَقَالَ تَعَالَى: * (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إنهم رجس) * الْآيَةَ [التَّوْبَةِ: 95] ، وَهَكَذَا وَقَعَ، لَمَّا رَجَعَ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ كَانَ قَدْ تخلَّف عَنْهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَجَعَلُوا يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَقَدْ كَانُوا مَعْذُورِينَ فِي تخلُّفهم، وَهُمْ فِي ذَلِكَ كَاذِبُونَ، فَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أن يجري أحوالهم على ظاهرها، لا يَفْضَحَهُمْ عِنْدَ النَّاس، وَقَدْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى أَعْيَانِ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا كَمَا قدَّمناه لَكَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَكَانَ حُذَيْفَةُ بن اليمان ممن يعرفهم بتعريفه إيَّاه صلى الله عليه وسلم.
وَقَالَ تَعَالَى: * (وَإِنَّ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قليلا) * [الْإِسْرَاءِ: 76] وَهَكَذَا وَقَعَ، لَمَّا اشْتَوَرُوا عَلَيْهِ ليثبِّتوه: أَوْ يَقْتُلُوهُ أَوْ يُخْرِجُوهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، ثمَّ وَقَعَ الرَّأْيُ عَلَى الْقَتْلِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أمر الله رسوله بِالْخُرُوجِ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، فَخَرَجَ هُوَ وَصَدِيقُهُ أبو بكر، فَكَمَنَا فِي غَارِ ثَوْرٍ ثَلَاثًا، ثمَّ ارْتَحَلَا بَعْدَهَا كَمَا قدَّمنا، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ * (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إذا أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حكيم) *
(1) كذا في النسخ ولعلها قراءة سبعية.
وما في التنزيل العزيز: الاسرى.
(*)