المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القول فيما أوتي عيسى بن مريم عليه السلام - البداية والنهاية - ت شيري - جـ ٦

[ابن كثير]

فهرس الكتاب

- ‌ ج 6

-

- ‌باب آثَارِ النَّبي صلى الله عليه وسلم الَّتِي كَانَ يختص بها في حياته من ثياب وسلاح ومراكب

- ‌ذكر الخاتم الذي كان يلبسه عليه السلام

- ‌ذِكْرُ سيفه عليه السلام

- ‌ذِكْرُ نعله التي كان يمشي فيها

- ‌المكحلة التي كان عليه السلام يَكْتَحِلُ مِنْهَا

- ‌الْبُرْدَةُ

- ‌أَفَرَاسِهِ وَمَرَاكِيبِهِ عليه الصلاة والسلام

- ‌فصل وهذا أوان مَا بَقِيَ عَلَيْنَا مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ السِّيرَةِ الشَّرِيفَةِ

- ‌كِتَابُ الشَّمَائِلِ

- ‌بَابُ مَا وَرَدَ فِي حسنه الباهر

- ‌صِفَةُ لَوْنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌صِفَةُ وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَذِكْرُ مَحَاسِنِهِ:

- ‌ذِكْرُ شَعره عليه السلام

- ‌مَا وَرَدَ فِي مَنْكِبَيْهِ وَسَاعِدَيْهِ وَإِبِطَيْهِ وَقَدَمَيْهِ وَكَعْبَيْهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌قوامه عليه السلام وَطِيبِ رَائِحَتِهِ

- ‌صِفَةُ خَاتَمِ النُّبُوَّةِ الَّذِي بين كتفيه صلى الله عليه وسلم

- ‌باب أحاديث مُتَفَرِّقَةٍ وَرَدَتْ فِي صِفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌بَابُ ذِكْرِ أَخْلَاقِهِ وَشَمَائِلِهِ الطَّاهرة صلى الله عليه وسلم

- ‌كرمه عليه السلام

- ‌مزاحه عليه السلام

- ‌باب زهده عليه السلام وإعراضه عن هذه الدَّار

- ‌فصل عبادته عليه السلام واجتهاده في ذلك

- ‌فَصْلٌ فِي شَجَاعَتِهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌فَصْلٌ فِيمَا يُذْكَرُ مِنْ صِفَاتِهِ عليه السلام فِي الْكُتُبِ الْمَأْثُورَةِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ الْأَقْدَمِينَ

- ‌كتاب دلائل النبوة

- ‌فَمِنَ الْمَعْنَوِيَّةِ

- ‌فصلومن الدَّلائل المعنوية أخلاقه عليه السلام الطَّاهرة، وَخُلُقُهُ الْكَامِلُ

- ‌باب دلائل النبوة الحسية

- ‌ انْشِقَاقُ الْقَمَرِ الْمُنِيرِ فِرْقَتَيْنِ

- ‌فصل

- ‌فَصْلٌ وَأَمَّا الْمُعْجِزَاتُ الْأَرْضِيَّةُ

- ‌بَابُ تكثيره عليه السلام الأطعمة تَكْثِيرُهُ اللَّبن فِي مَوَاطِنٍ أَيْضًا

- ‌ذِكْرُ ضِيَافَةِ أَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌ذِكْرُ مِزْوَدِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَتَمْرِهِ

- ‌بَابُ انْقِيَادِ الشَّجر لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌باب حنين الجذع شوقاً إلى رسول الله وشغفاً مِنْ فِرَاقِهِ

- ‌بَابُ تَسْبِيحِ الْحَصَى فِي كَفِّهِ عليه الصلاة والسلام

- ‌بَابُ مَا يَتَعَلَّقُ بالحيوانات من دلائل النبوة قِصَّةُ الْبَعِيرِ النَّاد وَسُجُودِهِ لَهُ وَشَكْوَاهُ إِلَيْهِ

- ‌بَابٌ فِي كَلَامِ الْأَمْوَاتِ وَعَجَائِبِهِمْ

- ‌فصل

- ‌بَابُ الْمَسَائِلِ الَّتِي سُئِلَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فأجاب عنها بما يطابق الحقّ الموافق لها في الكتب الموروثة عن الأنبياء

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ بشَّرت بِهِ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ

- ‌بَابُ مَا أَخْبَرَ بِهِ صلى الله عليه وسلم من الكائنات المستقبلة في حياته وبعده

- ‌فصل وأمَّا الْأَحَادِيثُ الدَّالة عَلَى إِخْبَارِهِ بِمَا وَقَعَ كَمَا أَخْبَرَ

- ‌فَصْلٌ فِي الْإِخْبَارِ بِغُيُوبِ مَاضِيَةٍ وَمُسْتَقْبَلَةٍ

- ‌فَصْلٌ فِي تَرْتِيبِ الْإِخْبَارِ بِالْغُيُوبِ الْمُسْتَقْبِلَةِ بَعْدَهُ صلى الله عليه وسلم

- ‌ذكر إخباره صلى الله عليه وسلم عن الفتن الواقعة في آخر أيام عثمان وخلافة علي رضي الله عنهما

- ‌إِخْبَارُهُ صلى الله عليه وسلم عن الخوارج وقتالهم

- ‌إِخْبَارُهُ صلى الله عليه وسلم بِمَقْتَلِ عَلِيِّ بْنِ أبي طالب فكان كما أخبر

- ‌إِخْبَارُهُ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ وَسِيَادَةِ وَلَدِهِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ فِي تركه الأمر من بعده وإعطائه لمعاوية

- ‌إِخْبَارُهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ غَزَاةِ البحر إلى قبرص

- ‌ بَابُ مَا قِيلَ فِي قِتَالِ الرُّوم

- ‌الْإِخْبَارُ عَنْ غَزْوَةِ الْهِنْدِ

- ‌فَصْلٌ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ قِتَالِ التُّرك كَمَا سنبينه إن شاء الله

- ‌الإخبار عن بيت مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ بِسَرِفَ

- ‌ما روي في إخباره عَنْ مَقْتَلِ حُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ وَأَصْحَابِهِ

- ‌إخباره صلى الله عليه وسلم لما وقع من الفتن من بني هاشم بعد موته

- ‌الْإِخْبَارُ بِمَقْتَلِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنهما

- ‌ذِكْرُ الْإِخْبَارِ عَنْ وَقْعَةِ الحرَّة

- ‌فصل

- ‌الإشارة النَّبوية إلى دولة عمر بن عبد الْعَزِيزِ

- ‌الْإِشَارَةُ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ وَعِلْمِهِ بِتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَحِفْظِهِ

- ‌ذِكْرُ الْإِخْبَارِ بِانْخِرَامِ قَرْنِهِ صلى الله عليه وسلم بعد مائة سنة من ليلة إخباره

- ‌الْإِخْبَارِ عَنِ الْوَلِيدِ بِمَا فِيهِ لَهُ مِنِ الْوَعِيدِ الشَّديد وَإِنْ صحَّ فَهُوَ الْوَلِيدُ بْنُ يزيد

- ‌ذِكْرُ الْإِخْبَارِ عَنْ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ جُمْلَةً من جملة

- ‌باب البينة عَلَى ذِكْرِ مُعْجِزَاتٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مماثلة لمعجزات جماعة من الأنبياء قبله، وأعلى منها، خارجة عَمَّا اخْتَصَّ بِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لم يكن لِأَحَدٍ قَبْلَهُ مِنْهُمْ عليهم السلام

- ‌الْقَوْلُ فِيمَا أُوتِيَ نُوحٌ عليه السلام

- ‌الْقَوْلُ فِيمَا أُوتِيَ هُودٌ عليه السلام

- ‌الْقَوْلُ فِيمَا أُوتِيَ صَالِحٌ عليه السلام

- ‌الْقَوْلُ فِيمَا أُوتِيَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عليه السلام

- ‌الْقَوْلُ فِيمَا أُوتِيَ مُوسَى عليه السلام

- ‌باب ما أعطي رسول الله صلى الله عليه وآله وَمَا أُعْطِيَ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ

- ‌قصَّة حَبْسِ الشَّمس عَلَى يُوشَعَ بْنِ نُونِ

- ‌ الْقَوْلُ فِيمَا أُعْطِيَ إِدْرِيسُ عليه السلام

- ‌الْقَوْلُ فِيمَا أُوتِيَ دَاوُدُ عليه السلام

- ‌الْقَوْلُ فِيمَا أُوتِيَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عليه السلام

- ‌القول فيما أوتي عيسى بن مَرْيَمَ عليه السلام

- ‌كِتَابُ تَارِيخِ الْإِسْلَامِ

- ‌خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ رضي الله عنه وما فيها من الحوادث

- ‌فصل في تنفيذ جَيْشَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ

- ‌مقتل الأسود العنسي، المتنبِّي الكذَّاب

- ‌صِفَةُ خُرُوجِهِ وَتَمْلِيكِهِ وَمَقْتَلِهِ

- ‌خُرُوجُ الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ

- ‌فَصْلٌ فِي تصدِّي الصِّديق لِقِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَمَانِعِي الزَّكاة

- ‌خُرُوجِهِ إِلَى ذِي القصَّة حِينَ عَقَدَ أَلْوِيَةَ الأمراء الأحد عشر

- ‌فَصْلٌ فِي مَسِيرَةِ الْأُمَرَاءَ مِنْ ذِي القصَّة

- ‌قصَّة الْفُجَاءَةِ

- ‌قصَّة سَجَاحِ وَبَنِي تَمِيمٍ

- ‌فَصْلٌ فِي خَبَرِ مَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ الْيَرْبُوعِيِّ التَّميمي

- ‌مقتل مسيلمة الكذَّاب لعنه الله

- ‌ذَكْرُ ردَّة أَهْلِ الْبَحْرِينِ وَعَوْدِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ

- ‌ذكر ردَّة أهل عمان ومهرة اليمن

- ‌ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَعْنِي سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْمَشَاهِيرِ

- ‌ سَنَةُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبوِّية

- ‌بَعْثُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى الْعِرَاقِ

- ‌[وقعة المذار أو الثني]

- ‌[وقعة أليس]

- ‌فصل

- ‌فتح خالد للأنبار

- ‌وَقْعَةُ عَيْنِ التَّمر

- ‌وَقْعَةُ الفِراض

- ‌فَصْلٌ فِيمَا كَانَ مِنَ الْحَوَادِثِ فِي هَذِهِ السَّنة

- ‌فَصْلٌ فِيمَنْ توفِّي فِي هَذِهِ السَّنَةِ

- ‌وممَّن توفِّي فِي هَذِهِ السَّنة:

الفصل: ‌القول فيما أوتي عيسى بن مريم عليه السلام

فَإِنْ قِيلَ: سُلَيْمَانُ عليه السلام كَانَ يَفْهَمُ كَلَامَ الطَّير والنَّملة كَمَا قَالَ تَعَالَى: * (وَقَالَ يأيها النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطير) * [النمل: 16] الآية وقال: * (فلما أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا

النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قولها) * [النمل: 18] الآية.

قِيلَ: قَدْ أُعْطِيَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ ذَلِكَ وَأَكْثَرَ مِنْهُ، فَقَدْ تقدَّم ذِكْرُنَا لِكَلَامِ الْبَهَائِمِ والسِّباع وَحَنِينِ الْجِذْعِ وَرُغَاءِ الْبَعِيرِ وَكَلَامِ الشَّجر وَتَسْبِيحِ الْحَصَا وَالْحَجْرِ، وَدُعَائِهِ إيَّاه واستجابته لأمره، وإقرار الذِّئب بنبوَّته، وتسبيح الطَّير لِطَاعَتِهِ، وَكَلَامِ الظَّبية وَشَكْوَاهَا إِلَيْهِ، وَكَلَامِ الضَّب وَإِقْرَارِهِ بنبوَّته، وَمَا فِي مَعْنَاهُ، كلُّ ذلك قد تقدَّم فِي الْفُصُولِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ.

انْتَهَى كَلَامُهُ.

قُلْتُ: وَكَذَلِكَ أَخْبَرَهُ ذِرَاعُ الشَّاة بِمَا فِيهِ مِنَ السُّم وَكَانَ ذَلِكَ بِإِقْرَارِ مَنْ وَضَعَهُ فِيهِ مِنَ الْيَهُودِ، وَقَالَ إنَّ هَذِهِ السَّحابة لتبتهل بِنَصْرِكَ يَا عَمْرُو بْنَ سَالِمٍ - يَعْنِي الْخُزَاعِيَّ - حِينَ أَنْشَدَهُ تِلْكَ الْقَصِيدَةَ يَسْتَعْدِيهِ فِيهَا عَلَى بَنِي بَكْرٍ الَّذِينَ نَقَضُوا صُلْحَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ فَتْحِ مَكَّةَ كَمَا تقدَّم وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: إنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا كان يسلم علي بمكة قبل أن أبعث، إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ * فَهَذَا إِنْ كَانَ كَلَامًا مما يليق بحاله ففهم عنه الرَّسول ذَلِكَ، فَهُوَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَأَبْلَغُ، لِأَنَّهُ جَمَادٌ بالنِّسبة إِلَى الطَّير والنَّمل، لِأَنَّهُمَا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ ذَوَاتِ الْأَرْوَاحِ، وَإِنْ كَانَ سَلَامًا نُطْقِيًّا وَهُوَ الْأَظْهَرُ، فَهُوَ أَعْجَبُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا، كَمَا قَالَ عَلِيٌّ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ شِعَابِ مكَّة، فَمَا مرَّ بِحَجَرٍ وَلَا شَجَرٍ وَلَا مَدَرٍ إِلَّا قَالَ: السَّلام عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَهَذَا النُّطق سَمِعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى رضي الله عنه * ثُمَّ قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بن محمد بن الحارث العنبريّ، حدثنا أحمد بن يوسف بن سفيان، حدثنا إبراهيم بن سويد النَّخعيّ، حدَّثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُذَيْنَةَ الطَّائيّ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ معلاة بْنِ جَبَلٍ قَالَ: أَتَى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِخَيْبَرَ - حِمَارٌ أَسْوَدُ فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا عمرو بن فهران، كنَّا سبعة إخوة ولكنا رَكِبَنَا الْأَنْبِيَاءُ وَأَنَا أَصْغَرُهُمْ، وَكُنْتُ لَكَ فَمَلَكَنِي رجل من اليهود، وكنت إذ أذكرك عثرت بِهِ فَيُوجِعُنِي ضَرْبًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَنْتَ يَعْفُورٌ * وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ نكارة شديدة ولا يحتاج إِلَى ذِكْرِهِ مَعَ مَا تقدَّم مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحيحة الَّتِي فِيهَا غُنْيَةٌ عَنْهُ.

وَقَدْ رُوِيَ على غير هذه الصِّفة، وَقَدْ نَصَّ عَلَى نَكَارَتِهِ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن أبيه، والله أعلم.

‌القول فيما أوتي عيسى بن مَرْيَمَ عليه السلام

ويسمَّى الْمَسِيحُ، فَقِيلَ: لِمَسْحِهِ الْأَرْضَ، وَقِيلَ: لِمَسْحِ قَدَمِهِ، وَقِيلَ، لِخُرُوجِهِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ مَمْسُوحًا بالدِّهان، وَقِيلَ: لِمَسْحِ جِبْرِيلَ بِالْبَرَكَةِ، وَقِيلَ: لِمَسْحِ اللَّهِ الذُّنوب عَنْهُ، وَقِيلَ: لأنَّه كان لا يمسح أحداً إلا برأ.

حَكَاهَا كلَّها الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ رحمه الله.

وَمِنْ خَصَائِصِهِ أنَّه عليه السلام مَخْلُوقٌ بِالْكَلِمَةِ مِنْ أُنْثَى بِلَا ذَكَرٍ، كَمَا خُلِقَتْ حَوَّاءُ مِنْ ذَكَرٍ بِلَا أُنْثَى، وَكَمَا خُلِقَ آدَمُ لَا مِنْ ذَكَرٍ وَلَا مِنْ أُنْثَى، وإنَّما خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ.

وَكَذَلِكَ يَكُونُ عِيسَى

ص: 322

بالكلمة وبنفخ جبريل مريم فخلق مِنْهَا عِيسَى * وَمِنْ خَصَائِصِهِ وأمَّه أنَّ إِبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ حِينَ وُلِدَ ذَهَبَ يَطْعَنُ فَطَعَنَ فِي الْحِجَابِ كَمَا جَاءَ فِي الصَّحيح، وَمِنْ خصائصه أنَّه حيٌّ لم يمت، وهو الْآنَ بِجَسَدِهِ فِي السَّماء الدُّنيا، وَسَيَنْزِلُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ عَلَى الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ الشَّرقية بِدِمَشْقَ، فَيَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا، كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا، وَيَحْكُمُ بِهَذِهِ الشَّريعة المحمَّدية ثمَّ يَمُوتُ وَيُدْفَنُ بِالْحُجْرَةِ النَّبويَّة، كَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَدْ بسطنا ذلك في قصَّته * وَقَالَ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ ابْنُ الزَّملكانيّ رحمه الله: وأمَّا مُعْجِزَاتُ عِيسَى عليه السلام، فَمِنْهَا إِحْيَاءُ الْمَوْتَى، وللنَّبيّ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ كَثِيرٌ، وَإِحْيَاءُ الْجَمَادِ أَبْلَغُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَيِّتِ، وَقَدْ كلَّم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الذِّراع الْمَسْمُومَةَ، وَهَذَا الْإِحْيَاءُ أَبْلَغُ مِنْ إِحْيَاءِ الْإِنْسَانِ الْمَيِّتِ مِنْ وُجُوهٍ.

أَحَدُهَا، أنَّه إحياء جزء من الحيوان دون بقيته، وَهَذَا مُعْجِزٌ لَوْ كَانَ مُتَّصِلًا بِالْبَدَنِ، الثَّاني: أنَّه أَحْيَاهُ وَحْدَهُ مُنْفَصِلًا عَنْ بَقِيَّةِ أَجْزَاءِ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ مَعَ مَوْتِ الْبَقِيَّةِ، الثَّالث: أنَّه أَعَادَ عَلَيْهِ الْحَيَاةَ مَعَ الْإِدْرَاكِ وَالْعَقْلِ، وَلَمْ يكن هذا الحيوان يعقل في حياته الَّذِي هُوَ جُزْؤُهُ ممَّا يَتَكَلَّمُ (1)، وَفِي هَذَا مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ حَيَاةِ الطُّيور الَّتِي أحياها الله لإبراهيم عليه السلام * قُلْتُ: وَفِي حُلُولِ الْحَيَاةِ وَالْإِدْرَاكِ وَالْعَقْلِ فِي الْحَجَرِ الَّذِي كَانَ يُخَاطِبُ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بالسَّلام عَلَيْهِ، كَمَا رُوِيَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، مِنَ الْمُعْجِزِ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ إِحْيَاءِ الْحَيَوَانِ فِي الْجُمْلَةِ، لأنَّه كَانَ مَحَلًّا لِلْحَيَاةِ فِي وَقْتٍ: بِخِلَافِ هَذَا حَيْثُ لَا حَيَاةَ لَهُ بالكليَّة قَبْلَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ تَسْلِيمُ الْأَحْجَارِ وَالْمَدَرُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْأَشْجَارُ وَالْأَغْصَانُ وشهادتها بالرِّسالة، وحنين الجذع * وَقَدْ جَمَعَ ابْنُ أَبِي الدُّنيا كِتَابًا فِيمَنْ عَاشَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَذَكَرَ مِنْهَا كَثِيرًا، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى رَجُلٍ

مِنَ الْأَنْصَارِ وَهُوَ مَرِيضٌ يَعْقِلُ فَلَمْ نَبْرَحْ حتَّى قُبِضَ، فَبَسَطْنَا عَلَيْهِ ثَوْبَهُ وسجَّيناه، وَلَهُ أمٌّ عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهَا بَعْضُنَا وَقَالَ: يَا هَذِهِ احْتَسِبِي مُصِيبَتَكِ عِنْدَ اللَّهِ فَقَالَتْ: وَمَا ذَاكَ؟ أَمَاتَ ابْنِي؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَتْ: أحقٌّ ما تقولون؟ قلنا: نعم، فمدَّت يدها إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَتِ: اللَّهم إنَّك تَعْلَمُ أَنِّي أَسْلَمْتُ وَهَاجَرْتُ إِلَى رَسُولِكَ رَجَاءَ أَنْ تعينني عِنْدَ كلِّ شدَّة وَرَخَاءٍ، فَلَا تحمِّلني هَذِهِ الْمُصِيبَةَ الْيَوْمَ.

قَالَ: فَكَشَفَ الرَّجل عَنْ وَجْهِهِ وَقَعَدَ، وَمَا بَرِحْنَا حَتَّى أَكَلْنَا مَعَهُ * وَهَذِهِ القصَّة قَدْ تقدَّم التَّنبيه عَلَيْهَا فِي دَلَائِلِ النبوة.

وقد ذِكْرِ مُعْجِزِ الطُّوفان مَعَ قصَّة الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ * وَهَذَا السِّياق الَّذِي أَوْرَدَهُ شَيْخُنَا ذَكَرَ بَعْضَهُ بِالْمَعْنَى، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنيا، وَالْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ بَشِيرٍ الْمُرِّيِّ - أَحَدِ زهَّاد الْبَصْرَةِ وعبَّادها - وَفِي حَدِيثِهِ لِينٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ فَذَكَرَهُ.

وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ أنَّ أمَّه كَانَتْ عَجُوزًا عَمْيَاءَ ثمَّ سَاقَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ عَنْ أَنَسٍ كما تقدم (2) ، وسياقه أتم، وفيه

(1) كذا بالاصل، وفي هامش طبعة دار السعادة: لعل الصواب " ولم يكن هذا الحيوان الذي هو جزؤه يعقل في حياته ولا مما يتكلم.

".

(2)

انظر الخبر في الدلائل ج 6 / 51 - 52.

(*)

ص: 323

أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِحَضْرَةِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَلَكِنْ فِيهِ انْقِطَاعٌ بَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عون وأنس والله أعلم.

قصة أخرى قال الحسن بن عوفة: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي سَبْرَةَ النَّخَعِيِّ قَالَ: أَقْبَلُ رَجُلٌ مِنَ الْيَمَنِ، فلمَّا كَانَ في بعض الطريق نفق حماره فقام وتوضأ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي جئت من المدينة (1) مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِكَ وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِكَ، وَأَنَا أَشْهَدُ أنَّك تحي الموتي وتبعث مَنْ فِي الْقُبُورِ، لا تجعل لِأَحَدٍ عَلَيَّ الْيَوْمَ مِنَّةً، أَطْلُبُ إِلَيْكَ الْيَوْمَ أَنْ تَبْعَثَ حِمَارِي، فَقَامَ الْحِمَارُ يَنْفُضُ أُذُنَيْهِ.

قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَمِثْلُ هَذَا يَكُونُ

كَرَامَةً لِصَاحِبِ الشَّريعة.

قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَكَذَلِكَ رواه مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهليّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ وكأنَّه عِنْدَ إِسْمَاعِيلَ مِنَ الْوَجْهَيْنِ (2) .

وَاللَّهُ أَعْلَمُ * قُلْتُ: كَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنيا: مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ عَنِ الشَّعْبِيِّ فَذَكَرَهُ قَالَ الشِّعبيّ: فَأَنَا رَأَيْتُ الْحِمَارَ بِيعَ أَوْ يُبَاعُ فِي الْكُنَاسَةِ - يَعْنِي بِالْكُوفَةِ - وَقَدْ أَوْرَدَهَا ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وأنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ قَوْمِهِ فِي ذلك: ومِنَّا الذي أحيَ الإلهُ حِمَارَهُ * وَقَدْ مَاتَ مِنْهُ كُلُّ عُضْوٍ وَمفصَلِ وأمَّا قصَّة زَيْدِ بْنِ خَارِجَةَ وَكَلَامُهُ بعد الموت وشهادته للني صلى الله عليه وسلم وَلِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ بالصِّدق فَمَشْهُورَةٌ مرويَّة مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ صَحِيحَةٍ.

قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّاريخ الْكَبِيرِ: زَيْدُ بْنُ خَارِجَةَ الْخَزْرَجِيُّ الْأَنْصَارِيُّ شَهِدَ بَدْرًا وَتُوُفِّيَ في زَمَنَ عُثْمَانَ، وَهُوَ الَّذِي تَكَلَّمَ بَعْدَ الْمَوْتِ * وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِهِ وصحَّحه كما تقدَّم من طريق العتبيّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ زيد بن خارجة الأنصاريّ ثمَّ من الحارث بن الخزرج، توفي زمن عثمان بن عَفَّانَ فَسُجِّيَ بِثَوْبِهِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ سَمِعُوا جَلْجَلَةً في صدره، ثمَّ تكلَّم فقال: أَحْمَدُ فِي الْكِتَابِ الأوَّل صَدَقَ صَدَقَ، أَبُو بَكْرٍ الضَّعيف فِي نَفْسِهِ، الْقَوِيُّ فِي أَمْرِ الله، وفي الْكِتَابِ الأوَّل صَدَقَ صَدَقَ، عُمَرُ بْنُ الخطَّاب القويُّ فِي الْكِتَابِ الأوَّل، صَدَقَ صَدَقَ، عُثْمَانُ بْنُ عفَّان عَلَى مِنْهَاجِهِمْ مَضَتْ أَرْبَعٌ وَبَقِيَتْ ثِنْتَانِ، أتت الفتن وأكل الشَّديد الضَّعيف، وقامت السَّاعة، وسيأتيكم عن جيشكم خير * قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ المسيب: ثمَّ هلك رجل من بني حطمة فسجِّي بثوبه فسمع جلجلة في صدره، ثمَّ تكلَّم فقال: إنَّ أخا بني حارث بْنِ الْخَزْرَجِ صَدَقَ صَدَقَ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنيا والبيهقيّ أيضاً من وجهه آخَرَ بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا وَأَطْوَلَ، وصحَّحه الْبَيْهَقِيُّ.

قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ فِي التَّكَلُّمِ بَعْدَ الْمَوْتِ عن جماعة

(1) في رواية البيهقيّ: الدثنية، وفي رواية أخرى: الدفينة ذكرها ابن كثير في هذا الجزء ص 154.

(2)

دلائل البيهقي 6 / 48.

(*)

ص: 324

بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ * قُلْتُ: قَدْ ذَكَرْتُ في قصَّة سخلة جَابِرٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَكْلِ الْأَلْفِ مِنْهَا وَمِنْ قَلِيلِ شَعِيرٍ مَا تقدَّم.

وَقَدْ أَوْرَدَ الْحَافِظُ محمد بن المنذر المعروف بيشكر، فِي كِتَابِهِ الْغَرَائِبِ وَالْعَجَائِبِ بِسَنَدِهِ، كَمَا سَبَقَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ عِظَامَهَا ثمَّ دَعَا اللَّهَ تَعَالَى فَعَادَتْ كما كانت فتركها في منزله وَاللَّهُ أَعْلَمُ * قَالَ شَيْخُنَا: وَمِنْ مُعْجِزَاتِ عِيسَى الْإِبْرَاءُ مِنَ الْجُنُونِ.

وَقَدْ أَبْرَأَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي مِنْ ذَلِكَ - هَذَا آخر ما وجدته فيما حَكَيْنَاهُ عَنْهُ.

فأمَّا إِبْرَاءُ عِيسَى مِنَ الْجُنُونِ.

فَمَا أَعْرِفُ فِيهِ نَقْلًا خَاصًّا، وإنَّما كَانَ يُبَرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ والظَّاهر وَمِنْ جَمِيعِ الْعَاهَاتِ وَالْأَمْرَاضِ الْمُزْمِنَةِ * وأمَّا إِبْرَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْجُنُونِ، فَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ بِابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ بِهِ لَمَمٌ مَا رَأَيْتُ لَمَمًا أَشَدَّ مِنْهُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنِي هَذَا كَمَا تَرَى أَصَابَهُ بَلَاءٌ، وَأَصَابَنَا مِنْهُ بلاء، يوجد منه في اليوم ما يؤذي، ثمَّ قالت: مَرَّةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ناولينيه، فجعلته بينه وبين واسطة الرَّحل، ثمَّ فغرفاه وَنَفَثَ فِيهِ ثَلَاثًا وَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، أَنَا عَبْدُ اللَّهِ، اخْسَأْ عَدُوَّ اللَّهِ، ثمَّ نَاوَلَهَا إيَّاه فذكرت أنَّه برئ من ساعته وما رابهم شئ بَعْدَ ذَلِكَ * وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا حماد بن سلامة، عَنْ فَرْقَدٍ السَّبَخِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عبَّاس أنَّ امرأة جاءت بولدها إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ بِهِ لَمَمًا، وإنَّه يأخذه عند طعامنا فيفسد علينا طعامنا، قَالَ فَمَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صدره ودعا له فسغ (1) سغة فخرج منه مثل الجور الأسود فشفي * غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَفَرْقَدٌ فِيهِ كَلَامٌ وَإِنْ كَانَ مِنْ زُهَّادِ الْبَصْرَةِ، لَكِنْ مَا تَقَدَّمَ لَهُ شَاهِدٌ وَإِنْ كَانَتِ القصَّة وَاحِدَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ * وَرَوَى البزَّار مِنْ طَرِيقِ فَرْقَدٍ أيضاً عن سعد بن عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ هَذَا الْخَبِيثَ قَدْ غلبني، فقال لها: تصبَّري على ما أنت عليه وتجيئي يوم القيامة ليس عليك ذنوب ولا حساب؟ فقالت، والذي بعثك بالحق لا صبرن حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ، ثمَّ قَالَتْ، إنِّي أَخَافُ الْخَبِيثَ أَنْ يُجَرِّدَنِي، فَدَعَا لَهَا، وَكَانَتْ إِذَا أحست أن يأتيها تأتي أستار الكعبة فتتعلق بِهَا وَتَقُولُ لَهُ: اخْسَأْ، فَيَذْهَبُ عَنْهَا * وَهَذَا دليل على أنَّ فرقد قَدْ حَفِظَ، فإنَّ هَذَا لَهُ شَاهَدٌ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنَّة؟

قلت: بَلَى، قَالَ، هَذِهِ السَّوداء أَتَتْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إِنِّي أُصْرَعُ وأنكشف فَادْعُ اللَّهَ لِي، قَالَ: إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الجنَّة، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يعافيك، قالت: لا بل أصبر، فادعُ الله أن لا أنكشف، قَالَ: فَدَعَا لَهَا فَكَانَتْ لَا تَنْكَشِفُ * ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حدَّثنا محمَّد، حدَّثنا مَخْلَدٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أنَّه رَأَى أم زفر - امْرَأَةٌ طَوِيلَةٌ سَوْدَاءُ - عَلَى سِتْرِ الْكَعْبَةِ (2) * وَذَكَرَ الحافظ ابن الأثير في كتاب أُسُد الغابة في أسماء

(1) في رواية البيهقيّ: فثع ثعة، والخبر في مسند أحمد 5 / 430.

(2)

أخرجه البخاري في المرض، باب (6) فتح الباري 10 / 114، ومسلم في البر والصلة، باب (14) ح (54) ص (1994) والامام أحمد في مسنده 1 / 347 ورواه البيهقي في الدلائل 6 / 156.

(*)

ص: 325

الصَّحابة، أنَّ أمَّ زُفَرَ هَذِهِ كَانَتْ مَاشِطَةً لِخَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، وأنَّها عمَّرت حَتَّى رَآهَا عطاء بن أبي راح رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى * وأمَّا إِبْرَاءُ عِيسَى الْأَكْمَهَ وَهُوَ الَّذِي يُولَدُ أَعْمَى، وَقِيلَ هُوَ الَّذِي لَا يُبْصِرُ فِي النَّهار وَيُبْصِرُ فِي اللَّيل، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ كَمَا بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي التَّفسير، وَالْأَبْرَصُ الَّذِي بِهِ بَهَقٌ، فَقَدْ ردَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ عَيْنَ قَتَادَةَ بْنِ النُّعمان إِلَى مَوْضِعِهَا بَعْدَ مَا سَالَتْ عَلَى خدِّه، فَأَخَذَهَا فِي كفِّه الكريم وأعادها إلى مقرِّها فاستمرت بحالها وَبَصَرِهَا، وَكَانَتْ أَحْسَنَ عَيْنَيْهِ رضي الله عنه، كما ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارَ فِي السِّيرة وَغَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ بَسَطْنَاهُ ثمَّ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَقَدْ دَخَلَ بَعْضُ وَلَدِهِ وَهُوَ عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العزيز فسأله عَنْهُ فَأَنْشَأَ يَقُولُ: أَنَا ابْنُ الَّذِي سَالَتْ عَلَى الخَدِّ عينُهُ * فردَّتْ بكفِّ المُصْطَفَى أحسنَ الرَّدِ فَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ لأوَّل أَمرِهَا * فيَا حُسْنَ مَا عينٍ وَيَا حُسْنُ مَا خدٍ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: تِلْكَ الْمَكَارِمُ لَا قَعْبَانِ مِنْ لَبنٍ * شَيباً بماءٍ فعادَا بعدُ أبو الا ثمَّ أَجَازَهُ فَأَحْسَنَ جَائِزَتَهُ * وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ أنَّ عَيْنَيْهِ أُصِيبَتَا مَعًا حتَّى سَالَتَا عَلَى خَدَّيْهِ، فردَّهما رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى مَكَانِهِمَا.

وَالْمَشْهُورُ الأوَّل كَمَا ذَكَرَ ابن إسحاق.

قصَّة الْأَعْمَى الَّذِي ردَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ بدعاء الرَّسول قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ وَعُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ قَالَا: حدَّثنا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ المديني سمعت عمارة بن خزيمة بن ثابت يحدِّث عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ: أنَّ رَجُلًا ضَرِيرًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ يُعَافِيَنِي، فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ أخَّرت ذَلِكَ فهو أفضل لآخرتك، وإن شئت دعوت: قال: بَلِ ادْعُ اللَّهَ لِي، قَالَ: فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَوَضَّأَ ويصلي رَكْعَتَيْنِ وَأَنْ يَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحمة، إنِّي أتوَّجه به فِي حَاجَتِي هَذِهِ فَتُقْضَى، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عثمان بن عمر: فشفِّعه فيَّ، قَالَ: فَفَعَلَ الرَّجل فَبَرَأَ * وَرَوَاهُ التّرمذيّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ أَبِي جَعْفَرٍ الْخَطْمِيِّ.

وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ بِسَنَدِهِ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ الْخَطْمِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ عَمِّهِ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ فَذَكَرَ نَحْوَهُ، قَالَ عُثْمَانُ: فَوَاللَّهِ مَا تفرَّقنا وَلَا طَالَ الْحَدِيثُ بِنَا حَتَّى دَخَلَ الرَّجل كَأَنْ لم يكن به ضر قط (1) .

(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ج 4 / 138 وأخرجه التِّرمذي في الدعوات، باب (119) الحديث (3578) ص (5 / 569) عن محمود بن غيلان.

وأخرجه ابن ماجه في الصلاة عن أحمد بن منصور بن سيار وأخرجه البيهقي في الدلائل 6 / 167.

(*)

ص: 326

قِصَّةٌ أُخْرَى قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حدَّثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ، حدَّثني رَجُلٌ مِنْ بَنِي سلامان بن سعد عن أمه عن خاله، أو أن خاله أو خالها حبيب بن قريط (1) حدَّثها أنَّ أَبَاهُ خَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَيْنَاهُ مبيضَّتان لَا يبصر بهما شيئاً، فقال له، ما أصابك؟ قال: كنت (2) حملاً لِي فَوَقَعَتْ رِجْلِي عَلَى بَيْضِ حيَّة فَأُصِيبَ بَصَرِي، فَنَفَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي عَيْنَيْهِ فَأَبْصَرَ، فَرَأَيْتُهُ وإنَّه لَيُدْخِلُ الخيط في الإبرة، وإنَّه لابن ثمانين سنة، وإن عينيه لمبيضَّتان، قال البيهقيّ: وَغَيْرُهُ يَقُولُ حَبِيبُ بْنُ مُدْرِكٍ * وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَفَثَ فِي عَيْنَيْ عَلِيٍّ يَوْمَ خَيْبَرَ

وَهُوَ أَرْمَدُ فَبَرَأَ مِنْ سَاعَتِهِ، ثمَّ لَمْ يرمد بعدها أبداً، ومسح رجل جابر بْنِ عَتِيكٍ وَقَدِ انْكَسَرَتْ رِجْلُهُ لَيْلَةَ قَتَلَ أَبَا رَافِعٍ - تَاجِرَ أَهْلِ الْحِجَازِ الْخَيْبَرِيَّ - فَبَرَأَ مِنْ سَاعَتِهِ أَيْضًا * وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أنَّه صلى الله عليه وسلم مَسَحَ (3) يَدَ مُحَمَّدِ بْنِ حَاطِبٍ وَكَانَتْ قَدِ احْتَرَقَتْ بالنَّار فَبَرَأَ مِنْ سَاعَتِهِ، وَمَسَحَ رِجْلَ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ وَقَدْ أُصِيبَتْ يَوْمَ خَيْبَرَ فَبَرَأَتْ مِنْ سَاعَتِهَا، وَدَعَا لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنْ يُشْفَى مِنْ مَرَضِهِ ذَلِكَ فَشُفِيَ * وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أنَّ عمَّه أَبَا طَالِبٍ مَرِضَ فَسَأَلَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَدْعُوَ لَهُ ربَّه فَدَعَا لَهُ فَشُفِيَ مِنْ مَرَضِهِ ذَلِكَ، وَكَمْ لَهُ مِنْ مِثْلِهَا وَعَلَى مَسْلَكِهَا، مِنْ إِبْرَاءِ آلَامٍ، وَإِزَالَةِ أَسْقَامٍ، مِمَّا يَطُولُ شَرْحُهُ وَبَسْطُهُ * وَقَدْ وَقَعَ فِي كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ إِبْرَاءُ الْأَعْمَى بعد الدُّعاء عليه بالعمى أيضاً، كما وراه الحافظ ابن عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْأَعْرَابِيِّ عَنْ أَبِي دَاوُدَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ، حدَّثنا بَقِيَّةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أبي مسلم: أنَّ امرأة خبَّثت عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ، فَدَعَا عَلَيْهَا فَذَهَبَ بَصَرُهَا فَأَتَتْهُ فَقَالَتْ: يَا أَبَا مُسْلِمٍ، إنِّي كُنْتُ فَعَلْتُ وَفَعَلْتُ، وَإِنِّي لَا أَعُودُ لمثِلِها، فَقَالَ: اللَّهم إِنْ كَانَتْ صَادِقَةً فَارْدُدْ عَلَيْهَا بَصَرَهَا، فَأَبْصَرَتْ * وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي الدُّنيا: حدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ وَاقَدٍ، حدَّثنا ضَمْرَةُ حدَّثنا عَاصِمٌ، حدَّثنا عُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ قَالَ: كَانَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيُّ إِذَا دخل منزله..فَإِذَا بَلَغَ وَسَطَ الدَّار كبَّر وكبَّرت امْرَأَتُهُ فإذا دخل البيت كبَّر وكبَّرت امرأته فيدخل فينزع رداءه وحذاءه وتأتيه بطعام يأكل، فَجَاءَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فكبَّر فَلَمْ تُجِبْهُ، ثمَّ جَاءَ إِلَى بَابِ الْبَيْتِ فكبَّر وسلَّم فَلَمْ تُجِبْهُ، وَإِذَا الْبَيْتُ لَيْسَ فِيهِ سِرَاجٌ، وَإِذَا هي جالسة بيدها عود تنكت في الأرض به، فقال لها: مالك؟ فقالت النَّاس بخير، وأتت لَوْ أَتَيْتَ مُعَاوِيَةَ فَيَأْمُرُ لَنَا بِخَادِمٍ وَيُعْطِيكَ شَيْئًا تَعِيشُ بِهِ، فَقَالَ: اللَّهم مَنْ أَفْسَدَ عليَّ أَهْلِي فَأَعْمِ بَصَرَهُ، قَالَ: وَكَانَتْ أَتَتْهَا امرأة فقالت لامرأة أَبِي مُسْلِمٍ: لَوْ كلَّمت زَوْجَكِ ليكلِّم مُعَاوِيَةَ فيخدمكم ويعطيكم؟ قال:

(1) في رواية البيهقيّ: ابن فويك، وله ترجمة في الاستيعاب.

(2)

بياض بالاصل، وفي رواية الاستيعاب للحديث: كنت أمرن جملا لي.

وفي رواية البيهقيّ: كنت امرئ جملي.

(3)

في البيهقي: تفل على يده.

(*)

ص: 327

فبينما هذه المرأة في منزلها والسِّراج مزهر، إِذْ أَنْكَرَتْ بَصَرَهَا، فَقَالَتْ: سِرَاجُكُمْ طُفِئَ؟ قَالُوا: لا، قالت: إنَّ الله أُذْهِبَ بَصَرِي، فَأَقْبَلَتْ كَمَا هِيَ إِلَى أَبِي مسلم فلم تزل تناشده وتتلطف إِلَيْهِ، فَدَعَا اللَّهَ فردَّ بَصَرَهَا، وَرَجَعَتِ امْرَأَتُهُ على حَالِهَا الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا * وأمَّا قصَّة الْمَائِدَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: * (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عيسى بن مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى بن مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فأني معذبه عَذَاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ) * [المائدة: 112] وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي التَّفسير بَسْطَ ذَلِكَ وَاخْتِلَافَ المفسِّرين فِيهَا هَلْ نَزَلَتْ أَمْ لَا عَلَى قولين، والمشهور عن الجمهور أنها نزلت، واختلفوا فِيمَا كَانَ عَلَيْهَا مِنَ الطَّعام عَلَى أَقْوَالِ، وَذَكَرَ أَهْلُ التَّاريخ أنَّ مُوسَى بْنَ نُصَيْرٍ، الَّذِي فَتَحَ الْبِلَادَ الْمَغْرِبِيَّةَ أيَّام بَنِي أُمَيَّةَ وَجَدَ الْمَائِدَةَ، وَلَكِنْ قِيلَ: إنَّها مَائِدَةُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ مرصَّعة بِالْجَوَاهِرِ وَهِيَ مِنْ ذَهَبٍ فَأَرْسَلَ بِهَا إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَكَانَتْ عِنْدَهُ حتَّى مَاتَ، فتسلَّمها أَخُوهُ سُلَيْمَانُ، وَقِيلَ: إنَّها مَائِدَةُ عِيسَى * لَكِنْ يَبْعُدُ هَذَا أنَّ النَّصارى لَا يَعْرِفُونَ الْمَائِدَةَ كَمَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ * وَالْمَقْصُودُ أنَّ الْمَائِدَةَ سَوَاءٌ كَانَتْ قَدْ نَزَلَتْ أَمْ لم تنزل (1) وقد كَانَتْ مَوَائِدُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تمدُّ مِنَ السَّماء وَكَانُوا يَسْمَعُونَ تَسْبِيحَ الطَّعام وَهُوَ يُؤْكَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَمْ قَدْ أَشْبَعَ مِنْ طَعَامٍ يَسِيرٍ أُلُوفًا وَمِئَاتٍ وَعَشَرَاتٍ صلى الله عليه وسلم ما تعاقبت الأوقات، وما دامت الأرض والسَّموات * وهذا أبو مسلم الخولاني، وقد ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَتِهِ مِنْ تَارِيخِهِ أَمْرًا عَجِيبًا وَشَأْنًا غَرِيبًا، حَيْثُ رُوِيَ من طريق إسحاق بن يحيى الْمَلْطِيِّ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ: أَتَى أَبَا مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيَّ نَفَرٌ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالُوا: يَا أَبَا مُسْلِمٍ أَمَا تَشْتَاقُ إِلَى الحجِّ؟ قَالَ: بَلَى لو أصبت لي أصحاباً، فَقَالُوا: نَحْنُ أَصْحَابُكَ، قَالَ: لَسْتُمْ لِي بِأَصْحَابٍ إنَّما أَصْحَابِي قَوْمٌ لَا يُرِيدُونَ الزَّاد وَلَا المزاد، فقالوا: سبحان الله، وكيف يسافر أقوام بِلَا زَادٍ وَلَا مَزَادٍ؟ قَالَ لَهُمْ: أَلَا تَرَوْنَ إِلَى

الطَّير تَغْدُو وَتَرُوحُ بِلَا زَادٍ وَلَا مَزَادٍ وَاللَّهُ يَرْزُقُهَا؟ وَهِيَ لَا تَبِيعُ وَلَا تَشْتَرِي، وَلَا تَحْرُثُ وَلَا تَزْرَعُ وَاللَّهُ يَرْزُقُهَا؟ قَالَ: فَقَالُوا: فإنَّا نُسَافِرُ مَعَكَ، قَالَ: فهبُّوا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ: فَغَدَوْا مِنْ غُوطَةِ دِمَشْقَ لَيْسَ مَعَهُمْ زَادٌ وَلَا مَزَادٌ، فلمَّا انْتَهَوْا إِلَى الْمَنْزِلِ قَالُوا: يَا أَبَا مُسْلِمٍ طَعَامٌ لَنَا وَعَلَفٌ لِدَوَابِّنَا، قَالَ: فَقَالَ لهم: نعم، فسجا غير بعيد فيمم مسجد أحجار فصلَّى فيه ركعتين، ثمَّ جثى عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: إِلَهِي قَدْ تَعْلَمُ مَا أخرجني من منزلي، وإنَّما خرجت آمراً لَكَ، وَقَدْ رَأَيْتُ الْبَخِيلَ مِنْ وَلَدِ آدَمَ تَنْزِلُ بِهِ الْعِصَابَةُ مِنَ النَّاس فَيُوسِعُهُمْ قِرًى، وإنَّا أَضْيَافُكَ وزوَّارك، فَأَطْعِمْنَا، وَاسْقِنَا، وَاعَلِفْ دوابَّنا، قال: فأتى بسفرة مدَّت بين أيديهم، وجئ بجفنة من ثريد، وجئ بقلَّتين من ماء، وجئ بِالْعَلَفِ لَا يَدْرُونَ مَنْ يَأْتِي بِهِ، فَلَمْ تزل تلك حالهم منذ

(1) كذا بالاصل، والظاهر أن فيه سقطا.

(*)

ص: 328

خَرَجُوا مِنْ عِنْدِ أَهَالِيهِمْ حتَّى رَجَعُوا، لَا يتكَّلفون زَادًا وَلَا مَزَادًا * فَهَذِهِ حَالُ وليٍّ مِنْ هَذِهِ الأمَّة نَزَلَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ مائدة كل يوم مَرَّتَيْنِ مَعَ مَا يُضَافُ إِلَيْهَا مِنَ الْمَاءِ وَالْعَلُوفَةِ لدوابِّ أَصْحَابِهِ.

وَهَذَا اعْتِنَاءٌ عَظِيمٌ، وإنَّما نَالَ ذَلِكَ بِبَرَكَةِ مُتَابَعَتِهِ لِهَذَا النَّبيّ الْكَرِيمِ عليه أفضل الصلاة والتَّسليم * وأمَّا قوله في عيسى بن مَرْيَمَ عليه السلام: أنَّه قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ * (وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) * الآية، [آل عمران: 49] فهذا شئ يَسِيرٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، بَلْ وَعَلَى كَثِيرٍ مِنَ الأولياء، وقد قال يوسف الصِّديق لَذَيْنِكَ الْفَتَيَيْنِ الْمَحْبُوسَيْنِ مَعَهُ: * (لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) * الْآيَةَ.

[يُوسُفَ: 37] وَقَدْ أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْأَخْبَارِ الْمَاضِيَةِ طِبْقَ مَا وَقَعَ وَعَنِ الْأَخْبَارِ الْحَاضِرَةِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ أَكْلِ الْأَرَضَةِ لِتِلْكَ الصَّحيفة الظَّالمة التي كانت بطون قريش قديماً كتبتها على مقاطعة بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ حتَّى يسلِّموا إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَتَبُوا بِذَلِكَ صَحِيفَةً وعلَّقوها فِي سَقْفِ الْكَعْبَةِ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ الْأَرَضَةَ فَأَكَلَتْهَا إِلَّا مَوَاضِعِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَكَلَتِ اسْمَ اللَّهِ مِنْهَا تَنْزِيهًا لَهَا أَنْ تَكُونَ مَعَ الَّذِي فِيهَا مِنَ الظُّلم وَالْعُدْوَانِ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عمَّه أَبَا طَالِبٍ وَهُمْ بالشِّعب، فَخَرَجَ

إليهم أبو طالب وقال لهم عمَّا أخبرهم بِهِ، فَقَالُوا: إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ وَإِلَّا فسلِّموه إِلَيْنَا، فَقَالُوا: نَعَمْ، فَأَنْزَلُوا الصَّحيفة فَوَجَدُوهَا كَمَا أَخْبَرَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَوَاءً بِسَوَاءٍ، فَأَقْلَعَتْ بُطُونُ قُرَيْشٍ عمَّا كانوا عَلَيْهِ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، وَهَدَى اللَّهُ بِذَلِكَ خَلْقًا كَثِيرًا، وَكَمْ لَهُ مِثْلُهَا كَمَا تقدَّم بَسْطُهُ وَبَيَانُهُ فِي مَوَاضِعَ مِنَ السِّيرة وَغَيْرِهَا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ والمنَّة * وَفِي يَوْمِ بَدْرٍ لَمَّا طُلب مِنَ العبَّاس عَمَّهُ فِدَاءً ادَّعَى أنَّه لَا مَالَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: فَأَيْنَ الْمَالُ الَّذِي دَفَنْتَهُ أَنْتَ وأمَّ الْفَضْلِ تَحْتَ أُسْكُفَّةِ الْبَابِ، وَقُلْتَ لَهَا: إِنْ قُتِلْتُ فَهُوَ للصِّبية؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هذا شئ لَمْ يطَّلع عَلَيْهِ غَيْرِي وَغَيْرُ أمَّ الْفَضْلِ إِلَّا اللَّهَ عز وجل * وَأَخْبَرَ بِمَوْتِ النَّجاشي يَوْمَ مَاتَ وَهُوَ بِالْحَبَشَةِ، وصلَّى عَلَيْهِ، وَأَخْبَرَ عَنْ قَتْلِ الْأُمَرَاءِ يَوْمَ مُؤْتَةَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ، وَأَخْبَرَ عَنِ الْكِتَابِ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ حَاطِبُ بْنُ بلتعة مع شاكر مولى بَنِي عَبْدِ المطَّلب، وَأَرْسَلَ فِي طَلَبِهَا عَلِيًّا والزُّبير وَالْمِقْدَادَ، فَوَجَدُوهَا قَدْ جَعَلَتْهُ فِي عِقَاصِهَا، وَفِي رِوَايَةٍ فِي حُجْزَتِهَا، وَقَدْ تقدَّم ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ، وَقَالَ لِأَمِيرَيْ كِسْرَى اللَّذين بَعَثَ بِهِمَا نَائِبُ الْيَمَنِ لِكِسْرَى لِيَسْتَعْلِمَا أَمْرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ رَبِّي قَدْ قَتَلَ اللَّيلة رَبَّكُمَا، فأرَّخا تِلْكَ اللَّيلة، فَإِذَا كِسْرَى قَدْ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ ولده فقتله، فأسلما وأسلم نَائِبُ الْيَمَنِ، وَكَانَ سَبَبَ مُلْكِ الْيَمَنِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم * وأمَّا إِخْبَارُهُ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْغُيُوبِ الْمُسْتَقْبَلَةِ فَكَثِيرَةٌ جِدًّا كَمَا تَقَدَّمَ بَسْطُ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي في أنباء التَّواريخ ليقع ذلك طبق ما كان سواء * وذكر ابن حامد في مقابلة جهاد عيسى عليه الصلاة والسلام جِهَادِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِي مُقَابَلَةِ زُهْدِ عِيسَى عليه الصلاة والسلام، زَهَادَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كُنُوزِ الْأَرْضِ حِينَ عُرِضَتْ عَلَيْهِ فَأَبَاهَا، وَقَالَ، أَجُوعُ يَوْمًا وَأَشْبَعُ يَوْمًا وأنَّه كَانَ لَهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ زَوْجَةً يَمْضِي عليهنَّ الشَّهر والشَّهران لَا تُوقَدُ عندهنَّ نَارٌ وَلَا مِصْبَاحٌ إنَّما هُوَ الْأَسْوَدَانِ التَّمر وَالْمَاءُ، وَرُبَّمَا رَبَطَ على بطنه الحجر الْجُوعِ، وَمَا شَبِعُوا مِنْ خُبْزِ

ص: 329

برٍّ ثَلَاثَ لَيَالٍ تِبَاعًا، وَكَانَ فِرَاشُهُ مِنْ أدم وحشوه ليف، وربَّما اعتقل الشَّاة فيحلبها، وَرَقَّعَ ثَوْبَهُ، وَخَصَفَ نَعْلَهُ بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَمَاتَ صلى الله عليه وسلم وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ عَلَى طَعَامٍ اشْتَرَاهُ لِأَهْلِهِ، هَذَا وَكَمْ آثَرَ بِآلَافٍ مُؤَلَّفَةٍ وَالْإِبِلِ والشَّاء وَالْغَنَائِمِ وَالْهَدَايَا، عَلَى نَفْسِهِ

وَأَهْلِهِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَحَاوِيجِ وَالْأَرَامِلِ وَالْأَيْتَامِ وَالْأَسْرَى وَالْمَسَاكِينِ * وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي مُقَابَلَةِ تَبْشِيرِ الْمَلَائِكَةِ لِمَرْيَمَ الصِّديقة بوضع عِيسَى مَا بُشِّرَتْ بِهِ آمِنَةُ أمُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ حَمَلَتْ بِهِ فِي مَنَامِهَا، وَمَا قِيلَ لَهَا: إِنَّكِ قَدْ حَمَلْتِ بسيِّد هَذِهِ الأمَّة فسمِّيه مُحَمَّدًا، وَقَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي الْمَوْلِدِ كَمَا تقدَّم * وقد أورد الحافظ أبو نعيم هاهنا حَدِيثًا غَرِيبًا مُطَوَّلًا بِالْمَوْلِدِ أَحْبَبْنَا أَنْ نَسُوقَهُ لِيَكُونَ الْخِتَامَ نَظِيرَ الِافْتِتَاحِ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكلان وَلِلَّهِ الْحَمْدُ * فَقَالَ: حدَّثنا سُلَيْمَانُ بْنُ أحمد، حدثنا حفص بن عمرو بْنِ الصَّباح، حدَّثنا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَابِلِيُّ، أنَّا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُمَرَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ.

قَالَ: قَالَ ابْنُ عبَّاس: فَكَانَ مِنْ دَلَالَاتِ حَمْلِ محمَّد صلى الله عليه وسلم أَنَّ كلَّ دابَّة كَانَتْ لِقُرَيْشٍ نَطَقَتْ تِلْكَ اللَّيلة: قد حمل رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، وهو أمان الدُّنيا وسراج أهلها، ولم يبق كاهن فِي قُرَيْشٍ وَلَا قَبِيلَةٌ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ إِلَّا حُجِبَتْ عَنْ صَاحِبَتِهَا، وَانْتُزِعَ عِلْمُ الْكَهَنَةِ مِنْهَا، وَلَمْ يَبْقَ سَرِيرُ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنيا إِلَّا أَصْبَحَ مَنْكُوسًا، وَالْمَلِكُ مُخَرَّسًا لَا ينطق يومه لذلك، وفرَّت وُحُوشُ الْمَشْرِقِ إِلَى وُحُوشِ الْمَغْرِبِ بِالْبِشَارَاتِ، وَكَذَلِكَ أهل البحار بشَّر بعضهم بعضاً، وَفِي كُلِّ شَهْرٍ مِنْ شُهُورِهِ نِدَاءٌ فِي الأرض ونداء في السَّموات: أَبْشِرُوا فَقَدْ آنَ لِأَبِي الْقَاسِمِ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْأَرْضِ مَيْمُونًا مُبَارَكًا قَالَ: وَبَقِيَ فِي بَطْنِ أمِّه تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، وَهَلَكَ أَبُوهُ عَبْدُ اللَّهِ وَهُوَ فِي بَطْنِ أمِّه، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: إِلَهَنَا وَسَيِّدَنَا، بَقِيَ نبيَّك هَذَا يَتِيمًا، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ: أَنَا لَهُ وَلِيٌّ وَحَافِظٌ ونصير، فتبرَّكوا بمولده ميموناً مباركاً.

وَفَتَحَ اللَّهُ لِمَوْلِدِهِ أَبْوَابَ السَّماء وجنَّاته، وَكَانَتْ آمنة تحدِّث عن نفسها وتقول: أتى لي آتٍ حين مرَّ لي مِنْ حَمْلِهِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَوَكَزَنِي بِرِجْلِهِ فِي الْمَنَامِ وَقَالَ: يَا آمِنَةُ إنَّك حَمَلْتِ بِخَيْرِ العالمين طراً، فإذا ولدتيه فسمِّيه محمَّداً أو النَّبيّ، شَأْنَكِ.

قَالَ: وَكَانَتْ تحدِّث عَنْ نَفْسِهَا وَتَقُولُ: لَقَدْ أَخَذَنِي مَا يَأْخُذُ النِّساء وَلَمْ يَعْلَمْ بِي أَحَدٌ مِنَ الْقَوْمِ، ذَكَرٌ وَلَا أُنْثَى، وإنِّي لِوَحِيدَةٌ فِي الْمَنْزِلِ وَعَبْدُ المطَّلب فِي طَوَافِهِ، قَالَتْ: فَسَمِعْتُ وَجْبَةً شَدِيدَةً، وَأَمْرًا عَظِيمًا، فهالني ذلك، وذلك يوم الاثنين، ورأيت كأنَّ جَنَاحَ طَيْرٍ أَبْيَضَ قَدْ مُسِحَ عَلَى فؤادي فذهب كل رعب وكل فزع ووجل كُنْتُ أَجِدُ، ثمَّ الْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِشَرْبَةٍ بيضاء ظننتها لبناً، وكنت عطشانة، فتناولتها فشربتها فأصابني نُورٌ عَالٍ، ثمَّ رَأَيْتُ نِسْوَةً كالنَّخل الطِّوال،

كأنَّهن مِنْ بَنَاتِ عَبْدِ المطَّلب يحدِّقن بِي، فبينا أنا أعجب وأقول: واغوثاه، مِنْ أَيْنَ عَلِمْنَ بِي؟ وَاشْتَدَّ بِيَ الْأَمْرُ وَأَنَا أَسْمَعُ الْوَجْبَةَ فِي كُلِّ سَاعَةٍ أَعْظَمَ وَأَهْوَلَ، وَإِذَا أَنَا بِدِيبَاجٍ أَبْيَضَ قَدْ مُدَّ بين الارض، وَإِذَا قَائِلٌ يَقُولُ: خُذُوهُ عَنْ أَعْيُنِ النَّاس، قالت: رأيت رجالاً وَقَفُوا فِي الْهَوَاءِ بِأَيْدِيهِمْ أَبَارِيقُ فِضَّةٍ وَأَنَا يَرْشَحُ مِنِّي عَرَقٌ كالجُمان، أَطْيَبُ رِيحًا مِنَ الْمِسْكِ الْأَذْفَرِ، وَأَنَا أَقُولُ: يَا لَيْتَ عَبْدَ المطَّلب قد دخل علي، قَالَتْ: وَرَأَيْتُ قِطْعَةً مِنَ الطَّير قَدْ أَقْبَلَتْ مِنْ حَيْثُ لَا أَشْعُرُ حتَّى غطَّت حُجْرَتِي، مَنَاقِيرُهَا مِنَ الزُّمرُّد، وَأَجْنِحَتُهَا مِنَ الْيَوَاقِيتِ، فَكَشَفَ الله لي عن بصيرتي، فأبصرت

ص: 330

من ساعتي مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، ورأيت ثلاث علامات مَضْرُوبَاتٍ، عَلَمٌ بِالْمَشْرِقِ، وَعَلَمٌ بِالْمَغْرِبِ، وَعَلَمٌ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، فَأَخَذَنِي الْمَخَاضُ واشتدَّ بِيَ الطَّلق جداً، فكنت كأنِّي مسندة إلى أركان النِّساء، وكثرن عليَّ حتى كأنِّي مع الْبَيْتِ وَأَنَا لَا أَرَى شَيْئًا، فَوَلَدْتُ محمَّداً، فلمَّا خَرَجَ مِنْ بَطْنِي دُرْتُ فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ فإذا هو سَاجِدٌ وَقَدْ رَفَعَ أُصْبُعَيْهِ كالمتضرِّع الْمُبْتَهِلِ، ثمَّ رَأَيْتُ سَحَابَةً بَيْضَاءَ قَدْ أَقْبَلَتْ مِنَ السَّماء تَنْزِلُ حتَّى غَشِيَتْهُ، فغيِّب عَنْ عَيْنِي، فَسَمِعْتُ مُنَادِيًا يُنَادِي يَقُولُ: طُوفُوا بمحمَّد صلى الله عليه وسلم شَرْقَ الْأَرْضِ وَغَرْبَهَا، وَأَدْخِلُوهُ الْبِحَارَ كلَّها، لِيَعْرِفُوهُ بِاسْمِهِ وَنَعْتِهِ وَصُورَتِهِ، وَيَعْلَمُوا أنَّه سمي الماحيّ، لا يبقي شئ من الشِّرك إلا محي به، قالت، ثمَّ تخلَّوا عنه في أسرع وقت فإذا أنابه مدرج فِي ثَوْبِ صُوفٍ أَبْيَضَ، أشدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبن، وَتَحْتَهُ حَرِيرَةٌ خَضْرَاءُ، وَقَدْ قَبَضَ محمَّد ثَلَاثَةَ مَفَاتِيحَ مِنَ اللُّؤْلُؤِ الرَّطب الْأَبْيَضِ، وَإِذَا قائل يقول، قبض محمَّد مَفَاتِيحِ النَّصر، وَمَفَاتِيحِ الرِّيح، وَمَفَاتِيحِ النُّبُّوة * هَكَذَا أَوْرَدَهُ وَسَكْتَ عَلَيْهِ، وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا * وَقَالَ الشَّيخ جَمَالُ الدِّين أَبُو زَكَرِيَّا، يَحْيَى بْنُ يوسف بن منصور بن عمر الأنصاريّ الصَّرصريّ (1) ، الْمَاهِرُ الْحَافِظُ لِلْأَحَادِيثِ واللُّغة، ذُو المحبَّة الصَّادقة لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلِذَلِكَ يشبَّه فِي عَصْرِهِ بحسَّان بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه، وفي دِيوَانِهِ الْمَكْتُوبِ عَنْهُ فِي مَدِيحِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ كَانَ ضَرِيرَ الْبَصَرِ، بَصِيرَ الْبَصِيرَةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِبَغْدَادَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وستَّمائة، قَتَلَهُ التَّتار فِي كل بنة (2) بَغْدَادَ كَمَا سَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ، فِي كِتَابِنَا هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِهِ الثِّقَةُ، وَعَلَيْهِ التُّكلان، قَالَ فِي

قَصِيدَتِهِ مِنْ حَرْفِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مِنْ دِيوَانِهِ: محمَّدٌ المبعوثُ لِلنَّاس رَحمةً * يُشيدُ مَا أَوْهَى الضَّلالُ ويُصْلِحُ لئنْ سبَّحَتْ صمُّ الجبالِ مجيبةٍ * لداودَ أَو لانَ الحَديدُ المُصَفَّحِ فإنَّ الصُّخورَ الصُّمَّ لَانَتْ بكفِّهِ * وإنَّ الْحَصَا فِي كفِّهِ ليسبِّحُ وإنْ كانَ مُوسى أَنبعَ الماء منَ العَصَا * فَمِن كفِّهِ قدْ أصبحَ الماءَ يَطفَحُ وإنْ كانَتْ الرِّيحُ الرُّخاءَ مُطِيعَةً * سُليمانَ لَا تألُو تَروحُ وتَسرحُ فإنَّ الصَبا كَانَتْ لِنصر نبيِّنَا * بِرُعْبٍ عَلَى شهرٍ بهِ الخَصْمُ يُكْلَحُ وإنْ أُوتِيَ المُلكَ العظيمَ وسُخِّرتْ * لهُ الجنُّ تُشفِي مارضيهُ وَتلدَحُ (3) فإنَّ مفاتيحَ الكُنوزِ بأَسرهَا * أَتَتْهُ فَرَدَّ الزَّاهدُ المترجِّحُ وإنْ كانَ إبراهيمُ أُعطي خِلَّة * وَموسَى بتَكليمٍ عَلَى الطُّورِ يمنحُ فَهَذَا حَبيبٌ بلْ خليلٌ مُكَلَّمٌ * وخُصِّص بالرُّؤيا وبالحقِّ أَشرحُ

(1) الصرصري نسبة إلى صرصر وهي قرية قريبة من بغداد، اشتهر بمدائحه للرسول صلى الله عليه وآله وشعره طبقه عالية، كان فصيحاً بليغاً، كان ضريرا وقد قتله التتار فيما قاله الذهبي.

(2)

كذا بالاصل.

(3)

تلدح: من اللدح وهو الضرب باليد.

(*)

ص: 331