الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
17 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يَمْنَعُكُمْ مِنْ سُحُورِكُمْ أَذَانُ بِلالٍ»
حدثنا عبيد بن إسماعيل عن أبي أسامة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر والقاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها:
أن بلالًا كان يؤذن بالليل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّن اِبْن أُمّ مَكْتُوم فإنه لا يُؤَذِّن حتى يَطُلُع الْفَجْرُ» .
قال القاسم: ولم يكن بين أذانهما إلا أن يرقى ذا وينزل ذا. [ر 597]
الشرح:
زيادة «قال القاسم» لا يقال أنها مرسلة؛ لأن القاسم تابعي وقد رواها النسائي من طريق عبيد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة قالت: «ولم يكن» وهذا من كلام عائشة رضي الله عنها. فمعنى كلام البخاري قال القاسم أي في رواية عن عائشة وقد جاءت هذه الزيادة عند مسلم من حديث ابن عمر.
وظاهر هذا الحديث ضيق الوقت بين الأذانين، ليس بين الأذانين إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا، وهذا مشكل؛ لأن هذه المدة لا تكفي لكي ينتبه النائم حتى يستيقظ ويتحسر ولهذا قال النووي في تأويلها: قال العلماء: إن بلالًا كان يتربص بعد أذانه أي ينتظر للدعاء فهو يؤذن، وكان بلال يصعد على بيت امرأة من الأنصار فيؤذن ويمكث بعد أذانه وقتًا للدعاء فإذا قارب طلوع الفجر نزل وأخبر ابن أم مكتوب فيتأهب ابن أم مكتوم للطهارة وغيرها ثم يرقى ويشرع في الأذان، ولكن الحافظ ابن حجر وغيره لم يرض هذا
التأويل وقال: هذا مع مخالفته للسياق؛ لأن السياق لم يكن بينها إلا أن يرقى هذا وينزل ذلك، وأيضًا هذا يحتاج إلى دليل خاص.
قلت: أخرج الطيالسي وأحمد وابن خزيمة من طريق شعبة عن خبيب بن عبد الرحمن قال: حدثتني عمتي أنيسة قالت: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنان بلال وابن أم مكتوم فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن بلالًا يؤذن بليل فكلوا وأشربوا حتى يؤذن ابن مكتوم» فقالت: أي أنيسة - فكنا نحبس ابن مكتوم عن الأذان فنقول: كما أنت حتى نتسحر فقالت: لم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويصعد هذا. وقال بعضهم: الحديث على بابه وكان بعضهم ياكلون العلقة من الطعام أي الشيء اليسير تميرات وما تيسر وماء، وكانت هذه أزواد القوم وطعامهم وبكل حال يخرج مخرجًا صحيحًا.
وقوله: «إن بلالًا يؤذن بليل» الباء هنا ظرفية يعني في الليل وهذا في رمضان.
وقوله: «كلوا واشربوا» هل هذا للإباحة أم للاستحباب؟
الجواب: الظاهر أنه للإباحة أما كون السحور مستحب فإنه يؤخذ من أدلة أخرى، وهذا الأذان - أي أذان بلال الأول - ليس لصلاة الفجر؛ لأنه أذن قبل دخول الوقت ولأنه علل في حديث ابن مسعود الذي أخرجه البخاري في كتاب الأذان «إن بلالًا يؤذن بليل ليرجع قائمكم ولينب نائمكم» ففيه جواز الأذان لغرض لغير الصلاة وهو إرجاع القائم أي يقطع صلاته ويوتر حتى لا يدخل عليه الفجر وهو لم يوتر وتنبيه النائم كذلك، أما في رمضان فهذا الحكم واضح؛ لأن فيه العلتين اللتين في الحديث والعلتان هما:
1 -
إيقاظ النائم حتى يتأهب لصلاة الفجر.
2 -
وإرجاع القائم عن الصلاة حتى يتأهب السحور.
مسألة: هل يشرع الأذان الأول في غير رمضان؟
الجواب: نعم؛ لأن فيه إحدى العلتين وهي إيقاظ النائم حتى يستعد للصلاة، وهذه العلة كافية في شرعية الأذان فإنه يكون هناك أذانين، ولهذا أمر عثمان رضي الله عنه، بالأذان الأول يوم الجمعة مع أنه لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فزاده عثمان حتى يتأهب الناس للصلاة فعلم أن الأذان ليتأهب الناس للصلاة جنسه مشروع فعله عثمان؛ فيكون الأذان الأول في غير رمضان سائغ ومشروع، وعليه عمل الحرمين منذ أزمنة متطاولة كما ذكر ذلك البيهقي وغيره، ومنع بعض أهل العلم الأذان الأول مثل ابن القطان وغيره وقال: أن الأذان الأول خاص برمضان وقد رد عليه الحافظ ابن حجر وقال: فيه نظر. وقال ابن عبد البر في الاستذكار: فيه الإخبار يعني في هذا الحديث أن بلالًا كان يؤذن للصبح بالليل ولما جاء رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يمنعكم أذانه من سحوركم» وهذا هو الصحيح أن الأذان الأول مشروع في غير رمضان؛ لأن فيه إحدى العلتين وهي لأجل التأهب للصلاة، فهذه العلة كافية في شرعيته، وأخرج مالك عن هشام بن عروة أن سودة بنت عبد الله بن عمر كانت عند عروة بن الزبير، فخرجت تطوف بين الصفا والمروة في حج أو عمرة ماشية وكانت امرأة ثقيلة فجاءت حين انصراف الناس من العشاء فلم تقص طوافها حتى نودي بالأول من الصبح فقضت طوافها
…
وقوله الأول: أي أذان الصبح الأول وهو في غير رمضان لقوله في حج وقوله من الصبح بيانية.
الفوائد:
1 -
أنه يؤذن على مكان مرتفع، كما أنه يطلب على الصوت في الأذان فإنه يطلب علوًّا له؛ لأن الصوت إذا كان عاليًا مرتفعًا كان له وصولًا لأكبر قدر ممكن من الناس.
مسألة: هل في هذه الفائدة شرعية بناء المنابر؟
الجواب: نقول انقسم العلماء في بناء المنائر المحدثة الجديدة هذه إلى ثلاثة أقسام:
1 -
قال بعضهم أن هذه المنائر مبتدعة فلم يعرفها المسلمون في القرون المفضلة.
2 -
وقال بعضهم بل هي مشروعة وسنة؛ لأنه قد ثبت أصل مشروعية بنائها وهو الأذان على علو فيكون بناؤها مشروعًا.
3 -
وقال بعضهم بل هي مباحة ولكن يتوسط فيها؛ لأن في بنائها سرف في القيمة ولهذا كان شيخنا ابن عثيمين إذا أراد بناء مسجد لبعض أهل الخير أو من عنده فيقول: أشترط أن لا يكون بناء المنارة من مال الوقف؛ لأن بناء المنارة يتطلب مالًا كثيرًا جدًّا؛ وذلك لأن بناء المنارة لابد له من حفرة عميقة تملأ من الأسمنت وغيرها حتى تثبت ولا تسقط، وقد سألت عن قيمتها في المتوسط منها فقالوا: قرابة التسعين ألف ريال وهذا كثير جدًا وعليه نقول أنه لا ينبغي الإسراف في بنائها وإن ارتفعت حديدة بها مكبرات
الصوت أدت الغرض من غير أن يكون هناك إسراف، وهذه المنائر أصلها حادثة ووضع الهلال عليها أيضًا وهذا راغم به المسلمون أهل الكنائس الذين كانوا يبنون الكنائس ومعابد النصارى فيرفعون عليها الصليب؛ فرفع المسلمون عليها الهلال وصار المسلمون يراغمونهم في كثير من الأمور حتى لما جاء الصليب الأحمر وضع المسلمون الهلال الأحمر وهكذا.
أشار الحافظ ابن حجر في فتح الباري إلى ما رواه سعيد بن منصور عن أبي الأحوص عن عاصم عن زر عن حذيفة قال: «تسحرنا مع رسول الله فقال: «هو والله النهار غير أن الشمس لم تطلع» وهذا الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم بل الصحيح وقفه على حذيفة ولفظه عند النسائي وغيره من حديث شعبة عن عدي عن زر قال: «تسرحنا مع حذيفة ثم خرجنا إلى الصلاة فما أتينا المسجد صلينا ركعتين فأقيمت الصلاة وليس بينهما إلا هنيهة» وكذا رواه إبراهيم عن صلة عن حذيفة، وقال النسائي في الكبرى: لا أعلم أحدًا رفعه إلا عاصم. وقال الجوزقاني في كتابه الأباطيل: هذا حديث منكر، وهذا الحديث كما قال الجوزقاني ولكن الجوزقاني إذا استنكر الجمع بين الأدلة أو رأى أن هذا الحديث لا يوائم الأحاديث الأخرى الصحيحة قال عنه باطل، وقد نبه على هذا غير واحد منهم ابن حجر في الإصابة.
وذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري أيضًا قال: وروى ابن المنذر عن علي رضي الله عنه بإسناد صحيح أنه صلى الصبح ثم قال: «الآن حين تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود» وقال: إسناده صحيح ثم ذكر كذلك أثرًا عن أبي بكر، ومعنى المنقول عن علي رضي الله عنه: أي تبيّنًا جليًّا كبيرًا لا يمنع
حصول أصل التبيّن قبلًا وإلا كيف يصلي الفجر بالليل ولا يرتفع الليل إلا بطلوع الفجر؟! ونقول: هذه الآثار قد ذكرها وسردها ابن حزم (1) عن الصحابة في أنهم يتسحرون مع طلوع الفجر أو بعد طلوع الفجر، وبعضها ليس بصريح بل أكثرها ليس بصريح، وسردها ابن جرير الطبري في تفسيره وسردها بعض المتأخرين كذلك، وقال ابن حزم: وقد جاء عن أبي بكر وعمر وعلي وابن عباس وأبي هريرة وابن مسعود وحذيفة وزيد ابن ثابت وسعد بن وقاص. ا. هـ.
قلت: صح عن أبي بكر عن أبي شيبة والدارقطني، وعن أبي هريرة صح موقوفًا واللفظ الوارد عن أبي هريرة هو اللفظ الذي رواه أبو داود وأحمد وغيرهما من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إذا أذن المؤذن والإناء على يد أحدكم فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه» ولكن الصحيح وقفه على أبي هريرة كما قال أبو حاتم وغيره، وأما الأثر عن حذيفة تقدم الكلام عليه والصحيح فيه وقفه عليه، وكذلك روي عن ابن مسعود والصحيح وقفه عليه، وجاء في الباب أحاديث في بعضها ما يوهم أن النبي صلى الله عليه وسلم تسحر بعد طلوع الفجر مثل حديث أبي هريرة وتقدم أنه موقوف، وجاء من حديث جابر وبلال وعمر ولا يصح رفعها وقد صححها بعض المتأخرين ولم يصب، وخلاصة الأمر فيما ورد عن الصحابة في مسألة السحور أو التسحر مع طلوع الفجر هو ما قاله عمرة بن ميمون كما رواه البيهقي بسند صحيح عنه قال: «كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
(1) المحلى (6/ 231).
أعدل الناس إفطارًا وأبطأهم سحورًا»، ونقول لو أنه قد صح عن صحابي أنه تسحر بعد الفجر نقول يكفينا كتال الله وقوله تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} .. وأقوال الصحابة يحتج بها إذا خفيت السنة أما إذا صادمت السنة فضلًا عن القرآن فإنها ترد، فهذا هو الأمر في هذه الآثار، وإنما ذكرتها لحاجة الطلاب إلى الحكم عليها؛ ولأن الحافظ ابن حجر ذكرها في الشرح.