الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقد ظهَر قَوم غَلبَ عَليهم الجَهل وَطمهُم (1) وَأعماهم (2) حُب الرئَاسة وأصَمهُم، وَتحرك عرق الحسَد فِيهم وَعِمهُم، قد لكنوا (3) عَن عِلم الشِريعَة مِنَ الكتاب وَالسّنة وَنسوه، وَاكبوا عَلى عِلم الفلاسِفة وَدرسُوهُ، يريد [17/ب] الإنسَان مِنهم أنْ يتقَدمَ، وَيأبى الله إلا أن يزيدهُ تأخِير، ويبتغي أحَدُهم العِزة وَلَا عَلم عندَه، فلا يجد لَهُ ولياً وَلَا نَصِيراً، وَمَع ذَلكَ فلَا ترى هُنالكَ إلا أنوفاً مُسمَّرة، وَقلوباً عَن الخلقِ مُستكبَرة، وَأقوالاً تصدُر عَنهم مُفتراة مزورَة، كَلمَا هَديتهم إلى الحَق كان أصَم وَأعمَى لهم، كأن الله لم يُوكل بِهم حَافظين يَطلبونَ أقوالهم وَأعمالَهم، فالعَالم بينهم مَحزُون يتلاعب به الجَهال وَالصبيَان، وَالعَاقِل عِندَهم مَجنُون دَاخِل في ميدَان النقصَان، وَاللهُ المُستعان وَإليه المشتكى وَعَليه التكلان.
[لا تقبل شهادة مظهر سب السلف:]
ثم أريد أن أزيد التوضيح وَالبيَان، بإيَراد مَا بلغني مِن الروَاياتِ في هَذَا الشأن، ففي متون المذهب مِن الكتب المُهذب:((أنه لا يقبل شهادَة مُظهر سَبّ السلف الصّالح، قال الحدادي (4)(شَاِرح القدُوري (5)): لظهُور فسقِهِ، وَالمراد بالسَّلَف
(1) في (د): (ولحمهم).
(2)
في (د): (وأعمالهم).
(3)
كذا في (م)، وفي (د):(اكبوا).وربما هي (ركنوا).
(4)
أبو الفضل محمد بن الحسين بن محمد بن موسى بن مهران الحدادي المروزي الحنفي، كان فقيهاً فاضلاً ولي قضاء بخارى وغيرها، وفاته سنة 388هـ. سير أعلام النبلاء: 16/ 470؛ الجواهر المضيئة: ص 50.
(5)
أبو الحسين أحمد بن محمد بن أحمد بن جعفر البغدادي القدوري، شيخ الحنفية في وقته، قال الخطيب وكان صدوقاً حسن العبارة، له مختصر مشهور في فقه الحنفية حمل اسمه، وفاته سنة 427هـ. سير أعلام النبلاء: 17/ 575؛ الجواهر المضيئة: ص 93.
الصّحابَة والتابعُونَ)) (1) انتهى.
وَهذا تصريح بِعَدَم تكفِيره (2)، كَمَا لَا يخفَى أفادته في فَصل مَن لَا تقبل شهادَته لِفسقِهِ، وَتكلمُوا فِي الفِسق الذِي يمنَع الشهادَة، وَاتفقوا عَلى أن الإعلان بكبيرة تَمنَع الشهادة، ثُمَّ قَالَ: وَمَن كَانَ يشتم أولاده وَأهله وَجيرانه، ذكر في بَعضِ الروَايُاتِ أنه لا يقبَل (3) شهادَته، وَقيل: مَن اعتادَ بَطلت عَدَالته، وَإن فعِلَ ذلَكَ أحياناً لم تَبطل، قال: أبو الليث (4): إن لم يكن قذفاً لَا تبطل عَدَالَته (5).
ثُمَّ قالَ قاضِي خان (6): لَا تقبَل شهادَة مَن أظهر شتم أصحَاب رَسُول الله
(1) الهداية: 3/ 123؛ البحر الرائق: 7/ 92. وقال الحنابلة أيضاً برد شهادة من سب الصحابة كما في المغني: 10/ 168؛ وهو رأي المالكية أيضاً كما في الفواكه الدواني: 2/ 226؛ واختلف الشافعية في ذلك فمنهم من قبلها ومنهم من لم يقبلها كما في الروضة: 11/ 240.
(2)
هذا على رأي الحنفية كما في حاشية ابن عابدين: 7/ 162؛ واختلف العلماء في تكفير من سب الصحابة على تفصيل كما عند ابن مفلح، المبدع: 10/ 223؛ ابن تيمية، مجموع الفتاوى: 35/ 198؛ الخطيب الشربيني، مغني المحتاج: 4/ 436؛ الدسوقي، حاشية الدسوقي: 2/ 369. وخير من فصل في هذه المسألة الآلوسي الكبير في نهج السلامة (بتحقيقنا): ص 92 وما بعدها.
(3)
في (د): (تقبل).
(4)
أحمد بن عمر بن محمد بن إسماعيل السمرقندي الحنفي، كان مقدماً له شرح على الجامع الصغير، وفاته سنة 552هـ. الجواهر المضيئة: ص 86.
(5)
البحر الرائق: 7/ 87؛ حاشية ابن عابدين: 7/ 114.
(6)
في المصادر التي اطلعت عليها (قاضيخان) فخر الدين حسن بن منصور الفرغاني الحنفي، وفاته سنة 592هـ. كشف الظنون: 2/ 1227؛ هدية العارفين: 1/ 280.
صَلَّى اللَّهُ تَعَالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَن أبي يُوسُف (1): إن كانَ تبرأ مِنهم لَا تبطل عَدَالَته، وإن شتمهُم بطلت
عَدالَته (2)، فَهَذِهِ الروَاية عَن أبي يُوسُف صَريحة في بطلان عَدالَته، دُونَ كفره وَضَلالته (3).
ثم قالَ قاضِي خَان: وَشهادَة أهل الأهَواء جائزة إلا الخَطابية (4)، وَيروى ذلكَ عَن أبي حَنِيفة وأبي يوسف (5)، فَهذِهِ الروَاية عَن الإمَامَين صَريحة [18/أ] في قبول شهادَة الرافضِي، وَهوَ لَا يُنَاقضُ مَا سَبق مِن أن مَن أظهرَ سَبَّ الصحِابَة لَا تقبل شهادَته؛ لأنه مُقِيد بِالإظهار والإعلان، وَهُوَ قيدٌ مُعَتبر في هَذا
(1) يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن حبيش بن سعد الأنصاري الكوفي، قاضي القضاة، قال عنه الذهبي: الإمام المجتهد، العلامة المحدث، وفاته سنة 182هـ. تاريخ بغداد: 14/ 242؛ سير أعلام النبلاء: 8/ 535.
(2)
وردت هذه الرواية عن أبي يوسف في الدر المختار: 5/ 488.
(3)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((وقد صرح الشافعي في كتبه بقبول شهادة أهل البدع والصلاة خلفهم، وكذلك قال مالك وأحمد والشافعي في القدري إن جحد علم الله كفر
…
وسئل أحمد عن القدري فقال: إن جحد العلم كفر)). ينظر مجموع الفتاوى: 23/ 349. وينظر أيضاً للفائدة: روضة الطالبين: 1/ 355؛ المغني: 10/ 168.
(4)
الخطابية من فرق الشيعة وهم أصحاب أبي الخطاب الأسدي، زعموا أن الأئمة أنبياء وأن أبا الخطاب كان نبياً، وأن الأنبياء فرضوا على الناس طاعته. الفصل في الملل والأهواء والنحل: 2/ 33؛ الملل والنحل: 1/ 179، منهاج السنة النبوية: 2/ 502.
(5)
البحر الرائق: 7/ 93؛ حاشية ابن عابدين: 7/ 107.وهذا القول مشهور عن الشافعي (روضة الطالبين: 1/ 355). ونقل ابن قدامة عن أحمد أنه قال: ((ما تعجبي شهادة الجهمية والرافضة والقدرية المعلنة)). المغني: 10/ 168.
الشأن (1)، فإنهم قالوا لا تقبل شهادَة مُدمن الخمر وَلَا بد مِن السَّكر (2).
قَالَ قاضِي خَان: وَإنما شرط الإدمان (3) ليظهر ذلَكَ عَندَ النَّاسِ، فإن مَن اتهم بِشربِ الخمر تبطل العدالة (4)، وَقالَ محمد:((مَا لم يظهر ذلكَ يكُون مستور الحال)) (5).
وَفي (خزانة المفتينَ)(6): وَلا يقبل شهادَة مَن يظهر سَبّ السَلف (7) [بخلاف من يكتمه.
(1) ونجد هنا كلاماً نفيساً لابن قدامة يقول فيه: ((الفسوق نوعان: أحدهما من حيث الأفعال، فلا نعلم خلافا في رد شهادته، والثاني من جهة الاعتقاد، وهو اعتقاد البدعة فيوجب رد الشهادة أيضا، وبه قال مالك وشريك وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وقال شريك: أربعة لا تجوز شهادتهم رافضي يزعم أن له إماما مفترضة طاعته، وخارجي يزعم أن الدنيا دار حرب، وقدري يزعم أن المشيئة إليه)). المغني: 10/ 168.
(2)
هذا هو المشهور من رأي الحنفية كما في البحر الرائق: 7/ 87؛ المسبوط: 16/ 131.
(3)
في (م): (الأديان).
(4)
في (د): (عدالته).
(5)
حاشية ابن عابدين: 7/ 150. قال الشافعية: ((ومن شربها عامدا عالما بحالها حد وردت شهادته سواء شرب قدرا يسكره أم لا)). (روضة الطالبين: 11/ 231) وهو رأي الحنابلة أيضاً كما في كشف القناع: 6/ 420. قال ابن عبد البر المالكي: ((ومن جلس مجلساً واحداً مع أهل الخمر في مجلسهم سقطت شهادته وإن لم يشربها)). الكافي: ص 464.
(6)
كتاب في فروع الحنفية، تصنيف: حسين بن محمد السمنقاني الحنفي وفاته سنة 746هـ، فرغ من تأليفه سنة 740هـ. كشف الظنون: 1/ 703.
(7)
في (د): (السب للسلف).
وفي (الإصلاح والإيضاح)(1): تقبل شهادة أهل الأهواء (2)، وقال الشافعي: لا تقبل لأنه أغلظ وجوه الفسق - ولنا أنه فسق من حيث الاعتقاد - ثم قال: إلا الخطابية وهم قوم من غلاة الروافض، يعتقدون الشهادة لكل من حلف عندهم، ويقولون المسلم لا يحلف كاذباً سواء كان صادقاً أو كاذباً، وقيل يجوزون الشهادة لشيعتهم واجبة، ثم قال: أو يتول أو يأكل فيه أو يظهر سب السلف] (3) - يَعني الصّالحينَ مِنهُم - وَهم: الصَحِابة وَالتابعُون وَالعلماء المجتهدون كَأبي حنِيفَة وَأصَحابه، انتهى (4).
وَلَا يَخفَى أنه جَعلَ سَبَّ الصَحِابة وَالتابعين وَأبي حَنِيفَة وَأصَحابه رضي الله عنهم أجَمعِينَ في حكمٍ وَاحِد، مِن عَدَم قبُول شهادَتهم، وَلو كَانَ سَبَّ الصَحِابة كفراً (5) لمَا أدخل غَيرهم مَعَهُم.
وَفي (حَاشيَة)(6) شيخ الإسلام الهَروي (7) عَلى (شرح
(1) هو كتاب في فروع الحنفية، تصنيف: شمس الدين أحمد بن سليمان الشهير بابن كمال باشا، وفاته سنة 940هـ، وكان قد شرح متن الوقاية فسماه (إصلاح الوقاية)، ثم شرح شرحه فسماه (الإيضاح). كشف الظنون: 1/ 109.
(2)
يعني بهم أصحاب البدع التي لا تكفر صاحبها - على حسب رأي بعض الحنفية - كالجبر والقدر والرفض. ينظر الدر المختار: 6/ 15.
(3)
ما بين المعقوفتين سقطت من (م).
(4)
البحر الرائق: 7/ 92؛ شرح فتح القدير: 7/ 415.
(5)
في (د): (كفر).
(6)
ذكرها لها صاحب هدية العارفين: 1/ 138. وهذه الحاشية هي كانت على شرح الوقاية لصدر الشريعة. كشف الظنون: 2/ 2022.
(7)
وهو المعروف بالحفيد التفتازاني، وقد تقدم التعريف به.
الوقِايَة) (1): أن الرافضة: الجماعَة الطاغية في الصَحِابة مِن الرفض بِمَعْنَى الترك، وَسمّوا بذلَكَ لِتركهم زيد بن عَلي (2)، حِينَ نَهَاهم عَن الطِعن في الصَحِابة (3)، وَالخَوارج عَلى اختِلاف فرقها يَجَمعها القول بتكفِير عثمَان وَعَلي وَطلحة وَالزبَير وَعَائشة وَمُعَاوية، انتهى.
وَلَا يَخفى أنهم مَع هَذا عدوا مِن الطوائف الإسلامِِيَّة، كَمَا هَو في الكتب الكلامية، وَإذَا كَانَ تكِفير هَؤلاء الأكابر مِنْ الصَحِابة لَا يكُون كفراً، كيف يكون سَبّ الشيخين كفراً أيضاً؟ وَلو كَان سَبُّ الصَحِابة كفراً لم يذكر في فَصل مَن لا يقبل شهادته؛ لأنه مَوضُوع في حَقِّ طَوائف المُسِلمين (4).
وَقالَ في (الذخيرة)(5): وَشهادَة أهل الأهواء مَقبُولة عندَنا إذا كَانَ هَوى لَا
(1) أصل الكتاب هو: (وقاية الرواية في مسائل الهداية) تصنيف المحبوبي الموصلي (ستأتي ترجمته) متن مشهور من كتب الفقه للحنفية، طبع أول مرة في المطبعة القازانية سنة 1318هـ. معجم المطبوعات: 2/ 1200.
(2)
هو زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، إمام الزيدية، كانت إقامته بالكوفة، وفيها خرج على بني أمية، فقتل سنة 122هـ. طبقات ابن سعد: 5/ 325؛ وفيات الأعيان: 5/ 122؛ سير أعلام النبلاء: 4/ 401.
(3)
تاريخ الطبري: 4/ 204؛ المنتظم: 7/ 211؛ الكامل في التاريخ: 4/ 452.
(4)
قال أبو الثناء الآلوسي: ((إن تكفير الاثني عشرية فيما ذهبوا إليه من التفصيل هو مذاق الفقهاء المكتفين في المطالب بالظواهر، وعدم تكفيرهم فيه مذاق المتكلمين الملتزمين بالقواطع في ذلك، وأنا أقول ما ذهبوا إليه مما هو مفصل في محله، إن لم يكن كفراً فهو من الكفر أقرب)). نهج السلامة: ص 99.
(5)
هو كتاب (الذخيرة البرهانية) في الفقه الحنفي، تصنيف برهان الدين محمد بن أحمد بن الصدر الشهيد البخاري الحنفي (ت 570هـ). معجم المؤلفين: 12/ 146.
يكفر به صَاحِبه، وَلَا يَكون بإخبَار يكُون عَدلاً في تعَاطِيه، وَهوَ الصّحيح، قال: لأنهم إنما وَقعُوا في الهوى بالتأوِيل وَالتعَمق في الدين، ألا ترى أن مِنهم مَن يعظم الذنب حَتى يجعَلهُ كفراً، وَفسقهم مِن حَيث ُالاعتِقاد لَا يَدَل عَلى كَذبِهم [18/ب] عَمَداً (1)، انتهى.
وَلعله أراد: ((بهوى (2) يكفر صَاحِبه)) نَحو المجُسمة وَالمشبهة وَالحلُولية وَالاتحادية وَالوجودية، وَقول بَعض غلاة الرفضة مَن أن عَلياً هو الإله الأكبر، وَجعفر الصادق هوَ الإله الأصغَر.
ثُمَّ قال: وَمَا ذكرَ في الأصل - من أن شهادتهم جَائزَة عَندَ أبي حَنِيفة - مَحمُول عَلى هَذا.
وَنقلَ في (النهاية)(3) هَذِه الرواية بلَا ذكر خِلاف.
وَفي (شرح المجمع)(4) لابن فرشته (5): وَترد شهادَة مَن يظهر سَبَّ السّلفَ؛
(1) ورد النقل عن الذخيرة بالنص عند علاء الدين، تكملة حاشية رد المحتار: 1/ 580.
(2)
في (د): (هوى).
(3)
هي (النهاية في شرح الهداية) تصنيف بدر الدين العيني الآتية ترجمته. كشف الظنون: 2/ 2035.
(4)
أصل الكتاب هو (مجمع البحرين وملتقى النهرين) في فروع الحنفية، تصنيف: مظفر الدين أحمد بن علي بن ثعلب المعروف بابن الساعاتي البغدادي (ت 664هـ). (كشف الظنون: 2/ 1955). ولم يسمه حاجي خليفة الشرح ولكن أشار إليه فقال: شرح المجمع لابن فرشته وهو شرح معتبر متداول. كشف الظنون: 2/ 1601. وكذلك لم يسمه صاحب هدية العارفين: 1/ 617.
(5)
محمد بن عبد اللطيف بن عبد العزيز ابن ملك الرومي الحنفي، المعروف بابن فرشته، له مؤلفات في الفقه الحنفي، وفاته سنة 801هـ. الضوء اللامع: 4/ 329؛ هدية العارفين 2/ 198.
لأنه يَكُون ظاهر الفِسق، وَتقبل مِن أهِل الأهَواء: الجبر وَالقدر (1) وَالرفض وَالخَوارج وَالتشبيه وَالتعِطيل، ثُمَّ يَصِير كلّ وَاحِد
مِنهِم اثني عَشر فرقة، فَيبلغ إلى اثنين وَسَبعِين فرقة (2).
وَفي (شرح المجمع)(3) للعيني (4): لَا تقبل شهادَة مَن يظهر سَبّ السلَف بالإجماعِ، لأنه إذا أظهَر ذلَكَ فَقدَ ظهَر فسقه (5)، بِخلافِ مَن يكتمه لأنه فاسِق مسَتور الحال (6).
(1) في (د): (الجبرية والقدرية).
(2)
البحر الرائق: 8/ 37. وقال ابن قدامة في حق من أجاز شهادة أهل الأهواء: ((ووجه قول من أجاز شهادتهم أنه اختلاف لم يخرجهم عن الإسلام أشبه الاختلاف في الفروع؛ ولأن فسقهم لا يدل على كذبهم لكونهم ذهبوا إلى ذلك تدينا واعتقادا أنه الحق، ولم يرتكبوه عالمين بتحريمه بخلاف فسق الأفعال)). ثم قال: ((ولنا أنه أحد نوعي الفسق فترد به الشهادة كالنوع الآخر ولأن المبتدع محمود فترد شهادته للآية والمعنى)). المغني: 10/ 168.
(3)
هو (المستجمع في شرح المجمع)، وقد أضاف إلى شرحه أقول الأئمة الثلاثة ولوح إلى الأصح من أقواله. كشف الظنون: 2/ 1600.
(4)
بدر الدين محمود بن محمد العيني القاضي المصري، من فقهاء الحنفية، محدثاً أديباً مؤرخاً، له شرح على صحيح البخاري، وفاته سنة 855هـ. الضوء اللامع: 10/ 131؛ شذرات الذهب: 7/ 286.
(5)
في (د): (بفسقه).
(6)
علاء الدين، تكملة حاشية ابن عابدين: 1/ 851.
وَفي (شرح الكِنز)(1) للزيلعي (2) قَوله: أو يَبُول أو يَأكل عَلى الطريق، وَيظهر سَبَّ السلَف، يَعني الصالحِين مِنهِم وَهُم الصَحابة وَالتابعُون؛ لأن هَذِهِ الأشيَاء تدُل عَلى قصُور عقله (3) وَقلة مُرؤته؛ وَمن لم يمتنع عَن مثلهما لا يمتَنع عَن الكذب عَادة، بِخلاِف مَا [إذا](4) كَانَ يخفي السبّ، ثم قَالَ:[ولا يقبل من يكثر شتم أبله ولا في شتم الفاسق ثم قال:](5) وَأهل الأهوَاء إلا الخطابية.
وَقال الشافِعي: لَا تقبل شهادَة أهل الأهوَاء؛ لأنهم فَسقَة (6)، إذ (7) الفسق [من حيث الاعتقاد
أغلظ في الفسق] (8) مِن حَيثُ التعَاطي وَلَا شهادَة للفاسِق، ولنا أن الفاسِق إنما تردّ شهادَته لتِهمة الكذب وَالفِسق مِن حَيثُ الاعتِقاد، وَلَا يَدُل عَلى ذلَك بَل مَا أوقعَهُ فيه إلا تدينه، ألا ترى أن فيهم من يكفر بالذنب (9)،
(1) أصل الكتاب هو (كنز الدقائق) في فروع الحنفية لأبي البركات عبد الله بن أحمد المعروف بحافظ الدين النسفي، وفاته سنة 710هـ (كشف الظنون: 2/ 1515)، للزيلعي شرح عليه سماه (تبيين الحقائق لما في الكنز من الدقائق). كشف الظنون: 2/ 1515.
(2)
فخر الدين أبو محمد عثمان بن علي الزيلعي (وهو غير عبد الله الزيلعي صاحب نصب الراية)، فقيه حنفي أصله من الصومال سكن القاهرة وفيها وفاته سنة 743هـ. الدرر الكامنة: 2/ 446؛ الجواهر المضيئة: ص 115.
(3)
في (م): (مقلد).
(4)
غير موجودة في النسختين.
(5)
زيادة من (د).
(6)
النووي، روضة الطالبين: 11/ 239.
(7)
في (م): (أو).
(8)
زيادة من (د).
(9)
هذا القول مشهور عن الخوارج.
وَمنهم مَن يَجعَل منَزلَته بين (1) الإيمَان وَالكفر (2)، فَيكون هوَ أقوى اجتنِاباً عَن الكذِب حَذراً عَن الخروج مِن الدين؛ وَلأنه مُسلم عَدل لا يتعَاطى الكذب فوجَبَ قبُول شهادَته، قياساً عَلى غَير صَاحِب الهَوى وَهَواه عَن تأوِيل وَتدَين، فَلَا تبطل عدالته به، كَمَن يبيح [19/أ] المثلث (3) أو مَتروك التسِميَة (4).
واستدَل محمد رحمه الله عَلى قبول شهادته، فقَالَ: أرَأيت أن أصَحاب رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ تَعَالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاعدوا مُعَاوية عَلى مخالفَة عَلي، وَلو شهُدوا بَيْنَ يَدي عَلي أكانَ يردّ شهادَتهم؟ وَمخالفَة عَلي بَعدَ عثمَان بدعَة وهَوى، فكيفَ الخُروج عَليه بالسّيف؟ وَلكن لما كَانَ عَن (5) تأويلٍ وَتدينٍ، لم يمنَعْ قبول شهادَتِهِ أن يكونَ هوى لا يكفر بِهِ صَاحِبه.
وأَّما مَا ذَكره القهُستاني (6) مِن أنه لا يقال: إن أهل الأهواء فاسقون بهَذِهِ الاعِتقادَاتِ، فكَيفَ تقبل شهادَتهم مُطلقاً؟ لأنا نقول لَا نسَلم أنهم فاسَقونَ، فإن الفِسق لَا يُطلق عَلى فِعل القلب - كَمَا في الكرمَاني - فخَطأ فَاحِش مِن قائلِهِ وَناقِله، بَلَا تقدم مِن أن الفِسق مِن حَيثُ الاعتِقاد اغلظَ إلى الفِسق من حَيثُ
(1) هذا القول مشهور عن المعتزلة.
(2)
في (م): (بدين).
(3)
المثلث: هو الشراب المطبوخ من ماء العنب حتى ذهب ثلثاه وبقي معتقاً وصار مسكراً. بدائع الصنائع: 5/ 122.
(4)
متروك التسمية: مصطلح يطلق على الذبيحة التي تعمد من ذبحها ترك التسمية عليها. الرازي، تحفة الملوك: ص 216.
(5)
في (د): (عند).
(6)
شمس الدين محمد بن حسام الدين الخراساني القهستاني الحنفي، كان مفتياً ببخارى، له مؤلفات في الفقه، وفاته في حدود سنة 953هـ. شذرات الذهب: 8/ 300؛ هدية العارفين: 2/ 244.
التعَاطِي، وَلأن بَغض الصَحِابة فسقٌ بالإجماعِ وَمحله القلب؛ وَلأن مَن في قلبه من الأخلاقِ الذمِيمة كالكِبر وَالحَسَد وَحبّ الدنيَا مِن الفسقة، كَمَا في (الإحَياء) وَغَيره مِن كتب الأخلَاقِ (1).
ويدل عليه قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] وَقوله: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} [البقرة: 282] ولأن الفِسق لغَةً وَشرعاً هُوَ الخرُوج عَن الطاعَة، وَعُرفاً مُختَص بالكبَائر دونَ (2) الكُفر وَالصِغائر، وَالله اعَلم بالسَرائر.
وَمِنْ هنا قالَ بَعض الأكابر: مَنْ لم يتغَلغل في علوم الصوفية ماتَ (3) مُصِراً عَلى الكبَائر وَلا يعلم، وَالله الهَادي إلى سَواء السّبيل (4).
(1) في (د): (الإطلاق).
(2)
في (د): (يريدون).
(3)
في (م): (بات).
(4)
هذا الكلام مردود على المؤلف رحمه الله، فكان الأولى به أن يستشهد بما ورد في السنة في هذا الباب من أحاديث وما ورد عن السلف من آثار وأخبار، مثل قول معاذ بن جبل قال: أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر كلمات قال: ((لا تشرك بالله شيئا وإن قتلت وحرقت، ولا تعقن والديك وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك، ولا تتركن صلاة مكتوبة متعمداً، فإن من ترك صلاة مكتوبة متعمداً، فقد برئت منه ذمة الله ولا تشربن خمراً، فإنه رأس كل فاحشة وإياك والمعصية، فإن بالمعصية حل سخط الله عز وجل، وإياك والفرار من الزحف، وإن هلك الناس وإذا أصاب الناس موتان وأنت فيهم فاثبت وأنفق على عيالك من طولك، ولا ترفع عنهم عصاك أدبا وأخفهم في الله)). مسند الإمام أحمد: 5/ 238.
في (شرح البرجندي)(1): وَتقبل الشهادَة (2) مِن أهل الأهَواء، وَهوَ مِن زاغَ عَن طَرِيقة أهل السّنة وَالجماعة، وَكانَ مِن أهل القبلة، كذا في (المغرب)(3).
قال: وَكبَار فرقهم سبعٌ عَلى مَا في (المَواقِف)(4)، وَالمعتزلَة وَهم عَشُرونَ صِنفاً، وَالشيعة وَهم اثنان وَعشرون صنفاً، وَالخوارج وَهم عشرون صِنفاً، وَالمرجئة وَهم خمسَة أصنَاف، وَالنجارية (5) ثلاثة أصنَاف، وَالجَبرية وَالمشبهة وَهم صِنفان، فَفرق أهل [19/ب] الأهَواء اثنان وَسبعُونَ (6)، وَشهادَة الكل تقبَل؛ لأن وقوعه في الاعتِقَاد البَاطِل إنَما هُوَ الديَانَة والكذب حَرام عِندَ الجِمَيع.
قَالَ: وَمِن مشائخنا مَن فرّق بَيْنَ الهوى الذي هو كفر [وَبَيْنَ الهَوى الذي ليس بكفر، فمِن الذي هُو كفر](7) اعِتقاد بعض الروَافض كان الأئمة آلهة، وَأحكامهم أحكام المرتدين (8).
(1) هو عبد العلي بن محمد بن حسين البرجندي (مدينة بتركستان)، من فقهاء الحنفية، له شرح على الوقاية سماه (شرح النقاية مختصر الوقاية)، وفاته في حدود سنة 935هـ. هدية العارفين: 1/ 586؛ معجم المؤلفين: 5/ 266.
(2)
في (د): (شهادة).
(3)
هو كتاب في لغة الفقه، تصنيف: أبو الفتح ناصر بن عبد السيد المطرزي الحنفي، وفاته سنة 610هـ. كشف الظنون: 2/ 1747.
(4)
يعني فرق الخوارج كما في المواقف: ص 692.
(5)
أصحاب محمد بن الحسين النجار، وافقوا المعتزلة في نفي الصفات الوجودية وحدوث الكلام ونفي الرؤية، ولذلك عدها البعض من فرق المعتزلة. الفرق بين الفرق: ص 19؛ المواقف: ص 710.
(6)
هذا على تقسيم الأيجي، وهناك من قسم أصول الفرق غير هذا التقسيم. ينظر كتابنا ابن حزم الأندلسي ومنهجه في دراسة العقائد والفرق الإسلامية: ص 185.
(7)
زيادة من (د).
(8)
علاء الدين، تكملة حاشية رد المحتار: 1/ 580.
ثُمَّ قَالَ وَقد سَألِني (1) مِن أهل الأهَواء مَن يظهر سَبّ السلف، وَإنما لم يذكره هنا لأنهُ سَيذكر فيما بَعد، أو لأن رَد شهادَتهم احتمل أن يكُونَ لأِجل السَبِّ، ولو سَبَّ وَاحِداً مِن النَّاس لَا يجُوز شهادَته، فهَنا أولى (2) إليه، أشار في (الذخيرة)(3).
ثُمَّ قَالَ: وَمَن أنكر إمَامَة أبي بكر [الصديق](4)؟ فَقالَ بَعضهم: إنه مُبتدع وَليسَ بِكافرٍ، وَالصحيح أنه كافرٌ، وَكذَا مَن أنكرَ خِلافة عُمر عَلى أصَح الأقوال، كذا في (الظهيرية)(5).
ثُمَّ قَالَ: وَلَا تقبَل شهادَة مَن يظهر سَبّ السَلف لِظهُور فسقِه، بخلاف مَن يَكتمه، قال: وَذكر في (الخلَاصَة): إذا كَانَ يسبّ الشيخين وَيلعَنهما فَهوَ كافرٌ، انتَهى (6).
وَأنتَ تَرى أن هَذا مخالفٌ لمَا سَبقَ عَن (7) الجمهُور (8)، كَمَا لَا يَخفَى على
(1) في (د): (سبني).
(2)
في (د): (أولا).
(3)
الهداية: 3/ 123؛ البحر الرائق: 7/ 92. وينظر أيضاً المغني: 10/ 168؛ مغني المحتاج: 4/ 436.
(4)
زيادة من (د).
(5)
البحر الرائق: 1/ 370؛ حاشية ابن عابدين: 1/ 561.
(6)
لسان الحكام: ص 414؛ حاشية ابن عابدين: 4/ 237.
(7)
في (د): (على).
(8)
يعني هنا جمهور الحنفية، ولكنه بواقع الحال موافق لما عليه جمهور العلماء من رد شهادة من يظهر سب السلف كما تقدم نقله عن ابن قدامه وغيره. قال السبكي:((في تكفير من سب الشيخين وجهان لأصحابنا، فإن لم نكفره فهو محمود لا تقبل شهادته، ومن سب بقة الصحابة فهو محمود مردود الشهادة، ولا يغلط فيقال شهادته مقبولة)). مغني المحتاج: 4/ 436.