المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

إمام عادل أفضل من مطر أربعين صباحا أحوج ما تكون - صبح الأعشى في صناعة الإنشا - ط العلمية - جـ ١٠

[القلقشندي]

فهرس الكتاب

- ‌[الجزء العاشر]

- ‌[تتمة الباب الثالث]

- ‌[تتمة النوع الثاني]

- ‌الوجه الخامس (فيما يكتب في ألقاب الملوك عن الخلفاء، وهو نمطان)

- ‌النمط الأوّل (ما كان يكتب في قديم الزمن)

- ‌النمط الثاني (ما يكتب به لملوك الزمان)

- ‌الوجه السادس (فيما يكتب في متن العهود، وفيه ثلاثة مذاهب)

- ‌المذهب الأوّل (وعليه عامّة الكتّاب من المتقدّمين وأكثر المتأخّرين)

- ‌الطريقة الأولى (طريقة المتقدّمين)

- ‌المذهب الثاني (أن يفتتح العهد بلفظ «من فلان» باسم الخليفة وكنيته ولقب الخلافة

- ‌المذهب الرابع

- ‌المذهب الخامس (أن يفتتح العهد ب «إنّ أولى ما كان كذا» ونحوه)

- ‌الوجه السابع (فيما يكتب في مستند عهد السلطان عن الخليفة، وما يكتبه الخليفة في بيت العلامة، وما يكتب في نسخة العهد من الشّهادة أو ما يقوم مقامها)

- ‌الوجه الثامن (في قطع الورق الذي تكتب فيه عهود الملوك عن الخلفاء، والقلم الذي يكتب به، وكيفيّة كتابتها، وصورة وضعها في الورق)

- ‌النوع الثالث (من العهود عهود الملوك لولاة العهد بالملك)

- ‌الوجه الأوّل (في بيان صحّة ذلك)

- ‌الوجه الثاني (فيما يكتب في الطرّة)

- ‌الوجه الثالث (في الألقاب التي تكتب في أثناء العهد)

- ‌الوجه الرابع (ما يكتب في المستند)

- ‌الوجه الخامس (ما يكتب في متن العهد)

- ‌الطريقة الأولى

- ‌الطريقة الثانية

- ‌الوجه السادس

- ‌الوجه السابع

- ‌النوع الرابع

- ‌الوجه الأوّل

- ‌الوجه الثاني

- ‌الضرب الأوّل

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الباب الرابع من المقالة الخامسة

- ‌الفصل الأوّل (فيما كان يكتب من ذلك عن الخلفاء، وفيه خمسة أطراف)

- ‌الطرف الأوّل (فيما كان يكتب عن الخلفاء الراشدين من الصحابة رضوان الله عليهم)

- ‌الطرف الثاني (فيما كان يكتب عن خلفاء بني أميّة)

- ‌الطرف الثالث

- ‌النوع الأوّل

- ‌النوع الثاني

- ‌الضرب الأوّل

- ‌الضرب الثاني

- ‌النوع الثالث (مما كان يكتب لأرباب الوظائف من ديوان الخلافة ببغداد ما كان يكتب لأرباب الوظائف ببغداد من أصحاب الأقلام)

- ‌الضرب الأوّل (العهود)

- ‌الضرب الثاني

- ‌النوع الرابع

- ‌الطرف الرابع

- ‌الطرف الخامس

- ‌النوع الأوّل

- ‌المذهب الأوّل (أن يفتتح ما يكتب في الولاية بالتّصدير)

- ‌المرتبة الأولى (أن يقال بعد التصدير المقدّم «أما بعد فالحمد لله» )

- ‌الضرب الأوّل (سجلّات أرباب السيوف

- ‌المرتبة الثانية

- ‌المرتبة الثالثة (من المذهب الأول من سجلات ولايات الفاطميين أن تفتتح بالتّصدير أيضا

- ‌المذهب الثالث من مذاهب كتّاب الدولة الفاطميّة

- ‌المذهب الرابع (مما كان يكتب لأرباب الولايات بالدّولة الفاطمية مرتبة الأصاغر من أرباب السّيوف والأقلام)

- ‌النوع الثاني (مما كان يكتب في الدولة الفاطمية بالديار المصرية ما كان يكتب عن الوزير)

- ‌المصادر والمراجع المستعملة في حواشي الجزء العاشر من كتاب «صبح الأعشى»

- ‌فهرس الجزء العاشر من صبح الأعشى

الفصل: إمام عادل أفضل من مطر أربعين صباحا أحوج ما تكون

إمام عادل أفضل من مطر أربعين صباحا أحوج ما تكون الأرض إليه» . وقال ابن عمّنا عليّ رضي الله عنه «الملك والدّين أخوان لا غنى لأحدهما عن الآخر، ونشرهما في الرعيّة ضائع «1» ، فالدّين أسّ والملك حارس، فما لم يكن له أسّ فمهدوم، وما لم يكن له حارس فضائع» فليأمر بالمعروف وينه عن المنكر عالما أنه ليس يسأل غدا بين يدي الله عز وجل عن ذلك سوانا وسواه، وينه نفسه عن الهوى فلا يحسن لعود قدّه أن يميل مع هواه- وليترك الثّغور بعدله باسمة، وقواعد الملك بفضله قائمة- وليجاهد في الله حقّ جهاده، ويلطف بالرعايا ويعلم أن الله لطيف بعباده- وليشرح لهم بالإحسان صدرا، ويجرهم إذا وقف على أحوالهم أحسن مجرى؛ وهو بحمد الله غير محتاج إلى التأكيد: لأنه لم يخل له من القيام في مصالح المسلمين فكر، ولكنه تجديد ذكر على ذكر، والله تعالى يمتّع بطول بقائه البلاد والعباد، ولا برحت سيوفه الهندية تكلّم أعداء هذا الدين بألسنة حداد، وثبّت ملكه بالعدل وشيّد أقواله وأفعاله، وختم بالصالحات أعماله، والاعتماد على الخط الإماميّ المستعينيّ أعلاه، إن شاء الله تعالى.

قلت: ولم يعهد أنه كتب عن الخلفاء العباسيين القائمين بالديار المصرية عهد لملك من غير ملوك الديار المصرية سوى هذا العهد.

‌المذهب الرابع

( [أن يفتتح العهد بقوله أما بعد] «2» «فالحمد لله» أو «أما بعد فإنّ أمير المؤمنين» أو «أما بعد فإن كذا» ونحو ذلك) ويأتي بما يناسب من براعة الاستهلال وحال المتولّي والمولّي وما يجري مجرى ذلك مما يسنح للكاتب ذكره مما يناسب الحال، ويأتي من الوصايا بما يناسب المقام: إما بلفظ الغيبة أو بلفظ الخطاب كما في غيره من المذاهب

ص: 140

السابقة، وهي طريقة اقترحها الوزير ضياء الدين بن الأثير في «المثل السائر» أنشأ عليها عهدا في معارضة «1» المكتوب للسّلطان صلاح الدين «يوسف بن أيوب» من ديوان الخلافة ببغداد الاتي ذكره في المذهب الخامس، وهذه نسخته:

أما بعد، فإنّ أمير المؤمنين يبدأ بحمد الله الذي يكون لكلّ خطبة قيادا، ولكلّ أمر مهادا، ويستزيده من نعمه التي جعلت التّقوى له زادا، وحمّلته عبء الخلافة فلم يضعف عنه طوقا ولم يأل فيه اجتهادا، وصغّرت لديه أمر الدنيا فما تسوّرت له محرابا ولا عرضت عليه جيادا، وحقّقت فيه قوله تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً

«2» ؛ ثم يصلّي على من أنزلت الملائكة لنصره إمدادا، وأسري به إلى السماء حتّى ارتقى سبعا شدادا، وتجلّى له ربّه فلم يزغ منه بصرا ولا أكذب فؤادا؛ ثم من بعده على أسرته الطاهرة التي زكت أوراقا وأعوادا، وورثت النّور المبين تلادا، ووصفت بأنّها أحد الثّقلين هداية وإرشادا، وخصوصا عمّه العباس المدعوّ له بأن يحفظ نفسا وأولادا، وأن تبقى كلمة الخلافة فيهم خالدة لا تخاف دركا ولا تخشى نفادا.

وإذ استوفى القلم مداده من هذه الحمدلة، وأسند القول فيها عن فصاحته المرسلة، فإنه يأخذ في إنشاء هذا التقليد الذي جعله حليفا لقرطاسه، واستدام سجوده على صفحته حتّى لم يكد يرفع من راسه، وليس ذلك إلا لإفاضته في وصف المناقب التي كثرت فحسن لها مقام الإكثار، واشتبه التطويل فيها بالاختصار؛ وهي التي لا يفتقر واصفها إلى القول المعاد، ولا يستوعر سلوك أطوادها ومن العجب وجود السّهل في سلوك الأطواد؛ وتلك مناقبك أيّها الملك الناصر الأجلّ، السيد، الكبير، العالم، العادل، المجاهد، المرابط، صلاح الدين، أبو المظفّر، يوسف بن أيوب، والديوان العزيز يتلوها عليك تحدّثا

ص: 141

بشكرك، ويباهي بك أولياءه تنويها بذكرك، ويقول: أنت الذي تستكفى فتكون للدولة سهمها الصائب، وشهابها الثاقب، وكنزها الذي تذهب الكنوز وليس بذاهب، وما ضرّها وقد حضرت في نصرتها إذا كان غيرك هو الغائب، فاشكر إذا مساعيك التي أهّلتك لما أهّلتك، وفضّلتك على الأولياء بما فضّلتك، ولئن شوركت في الولاء بعقيدة الإضمار، فلم تشارك في عزمك الذي انتصر للدولة فكان له بسطة الانتصار، وفرق بين من أمدّ بقلبه ومن أمدّ بيده في درحات الإمداد، وما جعل الله القاعدين كالذين قالوا «لو أمرتنا لضربنا أكبادها إلى برك «1» الغماد» .

وقد كفاك من المساعي أنك كفيت الخلافة أمر منازعيها، فطمست على الدّعوة الكاذبة التي كانت تدّعيها «2» ؛ ولقد مضى عليها زمن ومحراب حقّها محفوف من الباطل بمحرابين، ورأت ما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم من السّوارين اللّذين أوّلهما كذّابين فبمصر منهما واحد تاه بمجرى أنهارها من تحته، ودعا الناس إلى عبادة طاغوته وجبته «3» ، ولعب بالدين حتّى لم يدر يوم جمعته من [يوم أحده ولا]«4» يوم سبته، وأعانه على ذلك قوم رمى الله بصائرهم بالعمى والصّمم، واتخذوه صنما [بينهم]«5» ولم تكن الضلالة هناك إلا بعجل أو صنم؛ فقمت أنت في وجه باطله حتّى قعد، وجعلت في جيده حبلا من مسد، وقلت ليده: تبّت فأصبح [وهو]«6» لا يسعى [بقدم]«7» ولا يبطش بيد، وكذلك فعلت بالآخر الذي نجمت باليمن ناجمته، وسامت فيه سائمته، فوضع بيته موضع الكعبة اليمانية، وقال: هذا ذو الخلصة «8» الثانية؛ فأيّ مقاميك يعترف الإسلام بسبقه، أم أيّهما يقوم بأداء حقّه، وهاهنا فليصبح القلم للسيف من الحسّاد، ولتقصر مكانته عن مكانته وقد كان له

ص: 142

من الأنداد، ولم يحظ بهذه المزيّة إلا أنّه أصبح لك صاحبا، وفخر بك حتّى طال فخرا كما عزّ جانبا، وقضى بولايتك فكان بها قاضيا لمّا كان حدّه قاضبا.

وقد قلّدك أمير المؤمنين البلاد المصريّة واليمنيّة غورا ونجدا، وما اشتملت عليه رعيّة وجندا، وما انتهت إليه أطرافها برّا وبحرا، وما يستنقذ من مجاوريها مسالمة وقهرا؛ وأضاف إليها بلاد الشام وما تحتوي عليه من المدن الممدّنة، والمراكز المحصّنة؛ مستثنيا منها ما [هو] «1» بيد نور الدّين إسماعيل بن نور الدين محمود رحمه الله: وهو حلب وأعمالها، فقد مضى أبوه على آثار في الإسلام ترفع ذكره في الذاكرين، وتخلفه في عقبه في الغابرين، وولده هذا قد هذّبته الفطرة في القول والعمل، وليست هذه الرّبوة إلا من ذلك الجبل، فليكن له منك جار يدنو منه ودادا كما دنا أرضا ويصبح وهو [له]«2» كالبنيان يشدّ بعضه بعضا؛ والذي قدّمناه من الثناء عليك ربّما تجاوز بك درجة الاقتصاد، وألفتك عن فضيلة الازدياد، فإياك أن تنظر إلى سعيك نظر الإعجاب، وتقول: هذه بلاد افتتحتها بعد أن أضرب عنها كثير من الأضراب، ولكن اعلم أنّ الأرض لله ولرسوله ثم لخليفته من بعده ولا منّة للعبد بإسلامه بل المنّة لله بهداية عبده؛ وكم سلف قبلك ممّن لو رام مارمته لدنا شاسعه، وأجاب مانعه؛ لكن ذخره الله لك لتحظى في الآخرة بمفازه، وفي الدنيا برقم طرازه؛ فألق بيدك عند هذا القول إلقاء التسليم، وقل: لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ

«3» .

وقد قرن تقليدك هذا بخلعة تكون لك في الاسم شعارا، وفي الرّسم فخارا، وتناسب محلّ قلبك وبصرك وخير ملابس الأولياء ما ناسب قلوبا وأبصارا؛ ومن جملتها طوق يوضع في عنقك موضع العهد والميثاق، ويشير إليك بأنّ الإنعام قد أطاف بك إطافة الأطواق بالأعناق؛ ثم إنك خوطبت بالملك وذلك خطاب

ص: 143

يقضي لصدرك بالانشراح، ولأملك بالانفساح، وتؤمر معه بمدّ يدك إلى العلياء، لا بضمّها إلى الجناح؛ وهذه الثلاثة المشار إليها هي التي تكمل بها أقسام السّيادة، وهي التي لا مزيد عليها في الإحسان فيقال: إنّها الحسنى وزيادة، فإذا صارت إليك فانصب لها يوما يكون في الأيّام كريم الأنساب؛ واجعله لها عيدا وقل: هذا عيد التقليد والخلعة والخطاب، هذا ولك عند أمير المؤمنين مكانة تجعلك لديه حاضرا وأنت ناء عن الحضور، وتضنّ أن تكون مشتركة بينك وبين غيرك والضنّة من شيم الغيور؛ وهذه المكانة قد عرّفتك نفسها وما كنت تعرفها، وما نقول إلا أنّها لك صاحبة وأنت يوسفها؛ فاحرسها عليك حراسة تقضي بتقديمها، واعمل لها فإنّ الأعمال بخواتيمها، واعلم أنك قد تقلّدت أمرا يفتن به تقيّ الحلوم، ولا ينفكّ صاحبة عن عهدة الملوم، وكثيرا ما ترى حسناته يوم القيامة وهي مقتسمة بأيدي الخصوم؛ ولا ينجو من ذلك إلا من أخذ أهبة الحذار، وأشفق من شهادة الأسماع والأبصار، وعلم أنّ الولاية ميزان إحدى كفّتيه في الجنة والأخرى في النار. قال النبي صلى الله عليه وسلم:«يا أبا ذرّ إنّي أحبّ لك ما أحبّ لنفسي لا تأمّرنّ على اثنين ولا تولّينّ مال يتيم» . فانظر إلى هذا القول النبويّ نظر من لم يخدع بحديث الحرص والآمال، ومثّل الدنيا وقد سيقت [إليك]«1» بحذافيرها أليس مصيرها إلى زوال؟. والسعيد من إذا جاءته قضى بها أرب الأرواح لا أرب الجسوم، واتّخذ منها وهي السّمّ دواء وقد تتّخذ الأدوية من السّموم؛ وما الاغتباط بما يختلف على تلاشيه المساء والصّباح؟ وهو كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ

«2» والله تعالى يعصم أمير المؤمنين وولاة أمره من تبعاتها التي لا بستهم ولا بسوها، وأحصاها الله عليهم ونسوها؛ ولك أنت من هذا الدعاء حظّ على قدر محلّك من العناية التي جذبت بضبعك [ومخلّك من الولاية التي بسطت من درعك]«3» . فخذ هذا الأمر الذي تقلّدته أخذ من لم يتعقّبه بالنسيان؛ وكن في رعايته ممن إذا نامت عيناه كان قلبه يقظان.

ص: 144

وملاك ذلك كلّه في إسباغ العدل الذي جعله الله ثالث الحديث والكتاب، وأغنى بثوابه وحده عن أعمال الثواب، وقدّر يوما منه بعبادة ستّين عاما في الحساب، ولم يأمر به آمر إلا زيد قوّة في أمره وتحصّن به من عدوّه ومن دهره؛ ثم يجاء به يوم القيامة وفي يديه كتابا أمان، ويجلس على منبر من نور عن يمين الرحمن؛ ومع هذا فإن مركبه صعب لا يستوي على ظهره إلا من أمسك عنان نفسه قبل إمساك عنانه، وغلبت لمّة «1» ملكه على لمّة شيطانه، ومن أوكد فروضه أن يمحي السّنن السيئة التي طالت مدد أيّامها، ويئس الرّعايا من رفع ظلاماتها فلم يجعلوا أمدا لانحسار ظلامها؛ وتلك هي المكوس التي أنشأتها الهمم الحقيرة، ولا غنى للأيدي الغنيّة إذا كانت ذا [ت]«2» نفوس فقيرة؛ وكلّما زيدت الأموال الحاصلة منها قدرا زادها الله محقا وقد استمرّت عليها العوائد حتّى ألحقها الظالمون بالحقوق الواجبة فسمّوها حقّا؛ ولولا أنّ صاحبها أعظم الناس جرما لما أغلظ في عقابه، ومثّلت توبة المرأة الغامديّة بمتابه؛ وهل أشقى ممن يكون السواد الأعظم له خصما، ويصبح وهو مطالب منهم بما يعلم وبما لم يحط به علما. وأنت مأمور بأن تأتي هذه الظّلمات فتنحي على إبطالها، وتلحق أسماءها في المحو بأفعالها، حتّى لا يبقى لها في العيان صور منظورة، ولا في الألسنة أحاديث مذكورة؛ فإذا فعلت ذلك كنت قد أزلت عن الماضي سنّة سوء سنّتها يداه، وعن الآتي متابعة ظلم وجده طريقا مسلوكا فجرى على مداه؛ فبادر إلى ما أمرت به مبادرة من لم يضق به ذراعا، ونظر إلى الحياة الدّنيا بعينه فرآها في الآخرة متاعا، واحمد الله على أن قيّض لك إمام هدى يقف بك على هداك، ويأخذ بحجزتك عن خطوات الشيطان الذي هو أعدى عداك؛ وهذه البلاد المنوطة بنظرك تشتمل على أطراف متباعدة، وتفتقر في سياستها إلى أيد مساعدة، وبهذا تكثر فيها قضاة الأحكام، وأولوا تدبيرات السّيوف والأقلام؛ وكلّ من هؤلاء ينبغي أن يفتن على نار الاختبار، ويسلّط عليه شاهدا عدل من أمانة الدّرهم

ص: 145

والدّينار، فما أضلّ الناس شيء كحبّ المال الذي فورقت من أجله الأديان، وهجرت بسببه الأولاد والإخوان، وكثيرا ما يرى الرجل الصائم القائم وهو عابد له عبادة الأوثان؛ فإذا استعنت بأحد منهم على شيء من أمرك فاضرب عليه بالأرصاد، ولا ترض بما عرفته من مبدإ حاله فإنّ الأحوال تتنقّل تنقّل الأجساد، وإيّاك أن تخدع بصلاح الظاهر كما خدع عمر بن الخطّاب رضي الله عنه بالرّبيع ابن زياد «1» ؛ وكذلك فأمر هؤلاء على اختلاف طبقاتهم أن يأمروا بالمعروف مواظبين، وينهوا عن المنكر محاسبين، ويعلموا أنّ ذلك من دأب حزب الله الذين جعلهم الغالبين، وليبدأوا أوّلا بأنفسهم فيعدلوا بها عن هواها، ويأمروها بما يأمرون به من سواها، ولا يكونوا ممن هدى إلى طريق البرّ وهو عنه حائد، وانتصب لطبّ المرضى وهو محتاج إلى طبيب وعائد، فما تنزل بركات السماء إلّا على من خاف مقام ربّه، وألزم التقوى أعمال يده ولسانه وقلبه؛ فإذا صلحت الولاة صلحت الرعية بصلاحهم، وهم لهم بمنزلة المصابيح ولا يستضيء كلّ قوم إلا بمصباحهم.

ومما يؤمرون به أن يكونوا لمن تحت أيديهم إخوانا في الاصطحاب، وأعوانا في توزّع الحمل الذي يثقل على الرّقاب؛ فالمسلم أخو المسلم وإن كان عليه أميرا، وأولى الناس باستعمال الرّفق من كان فضل الله عليه كبيرا، وليست الولاية لمن يستجدّ بها كثرة اللفيف، ويتولّاها بالوطء العنيف، ولكنّها لمن يمال على جوانبه، ويؤكل من أطابيه، ولمن إذا غضب لم ير للغضب عنده أثر، وإذا ألحف في سؤاله لم يلحق الإلحاف بخلق الضّجر، وإذا حضر الخصوم بين يديه عدل بينهم في قسمة القول والنظر؛ فذلك الذي يكون لصاحبه في أصحاب اليمين، والذي يدعى بالحفيظ العليم وبالقويّ الأمين؛ ومن سعادة المرء أن يكون

ص: 146

ولاته متأدّبين بآدابه، وجارين على نهج صوابه، وإذا تطايرت الكتب يوم القيامة كانت حسناته مثبتة في كتابه.

وبعد هذه الوصية فإنّ هاهنا حسنة هي للحسنات كالأمّ الولود، ولطالما أغنت عن صاحبها إغناء الجنود، وتيقّظت لنصره والعيون رقود، وهي التي تسبغ لها الآلاء، ولا يتخطّاها البلاء، ولأمير المؤمنين بها عناية تبعثها الرحمة الموضوعة في قلبه، والرغبة في المغفرة لما تقدّم وتأخّر من ذنبه، وتلك هي الصدقة التي فضّل الله بعض عباده بمزيّة إفضالها، وجعلها سببا إلى التعويض عنها بعشر أمثالها.

وهو يأمرك أن تتفقّد أحوال الفقراء الذين قدرت عليهم مادّة الأرزاق، وألبسهم التعفّف ثوب الغنى وهم في ضيق من الإملاق، فأولئك أولياء الله الذين مسّتهم الضرّاء فصبروا، وكثرت الدنيا في يد غيرهم فما نظروا إليها إذ نظروا، وينبغي أن يهيّىء لهم من أمرهم مرفقا، ويضرب بينهم وبين الفقر موبقا.

وما أطلنا لك القول في هذه الوصية إلا إعلاما بأنها من المهمّ الذي يستقبل ولا يستدبر، ويستكثر منه ولا يستكثر، وهذا يعدّ من جهاد النفس في بذل المال، ويتلوه جهاد العدوّ الكافر في مواقف القتال؛ وأمير المؤمنين يعرّفك من ثوابه ما تجعل السيف في ملازمته أخا، وتسخو له بنفسك إن كان أحد بنفسه سخا؛ ومن صفاته أنه العمل المحبوّ بفضل الكرامة، الذي ينمي أجره بعد صاحبه إلى يوم القيامة، وبه تمتحن طاعة الخالق على المخلوق، وكلّ الأعمال عاطلة لا خلوق لها وهو مختصّ دونها بزينة الخلوق «1» ، ولولا فضله لما كان محسوبا بشطر الإيمان، ولما جعل الله الجنة له ثمنا وليست لغيره من الأثمان؛ وقد علمت أن العدوّ هو جارك الأدنى، والذي يبلغك وتبلغه عينا وأذنا، ولا يكون للإسلام نعم الجار حتّى تكون له بئس الجار، ولا عذر لك في ترك جهاده بنفسك ومالك إذا قامت لغيرك الأعذار؛ وأمير المؤمنين لا يرضى منك بأن تلقاه مكافحا، أو تطرق

ص: 147

أرضه مماسيا أو مصابحا، بل يريد أن تقصد البلاد التي في يده قصد المستنقذ لا قصد المغير، وأن تحكم فيها بحكم الله الذي قضاه على لسان سعد «1» في بني قريظة والنّضير؛ وعلى الخصوص البيت المقدّس فإنه تلاد الإسلام القديم، وأخو البيت الحرام في شرف التعظيم، والذي توجّهت إليه الوجوه من قبل بالسّجود والتسليم؛ وقد أصبح وهو يشكو طول المدّة في أسر رقبته، وأصبحت كلمة التوحيد وهي تشكو طول الوحشة في غربتها عنه وغربته؛ فانهض إليه نهضة توغل في قرحه، وتبدّل صعب قياده بسمحه، وإن كان له عام حديبية فأتبعه بعام فتحه؛ وهذه الاستزادة إنما تكون بعد سداد ما في اليد من ثغر كان مهملا فحميت موارده، أو مستهدما فرفعت قواعده؛ ومن أهمّها ما كان حاضر البحر فإنه عورة مكشوفة، وخطّة مخوفة؛ والعدوّ قريب منه على بعده، وكثيرا ما يأتيه فجأة حتّى يسبق برقه برعده؛ فينبغي أن ترتّب بهذه الثغور رابطة تكثر شجعانها، وتقلّ أقرانها، ويكون قتالها لأن تكون كلمة الله هي العليا لا لأن يرى مكانها؛ وحينئذ يصبح كلّ منها وله من الرجال أسوار، ويعلم أهله أن بناء السيف أمنع من بناء الأحجار، ومع هذا لا بدّ من أصطول يكثر عدده، ويقوى مدده، فإنه العدّة التي تستعين بها في كشف الغمّاء، والاستكثار من سبايا العبيد والإماء، وجيشه أخو الجيش السّليمانيّ: فذاك يسير على متن الريح وهذا على متن الماء، ومن صفات خيله أنها جمعت بين العوم والمطار، وتساوت أقدار خلقها على اختلاف مدّة الأعمار؛ وإذا أشرعت قيل جبال متلفّعة بقطع من الغيوم، وإذا نظر إلى أشكالها قيل: إنها أهلّة غير أنها تهتدي في مسيرها بالنّجوم؛ ومثل هذه الخيل ينبغي أن يغالى في جيادها، ويستكثر من قيادها، وليؤمّر عليها أمير يلقى البحر بمثله من سعة صدره، ويسلك طرقه سلوك من لم تقتله بجهلها ولكن قتلها بخبره؛ وكذلك فليكن ممن أفنت الأيام تجاربه،

ص: 148

وزحمتها مناكبه، وممّن يذلّ الصّعب إذا هو ساسه وإن سيس لان جانبه؛ وهذا الرجل الذي يرأس على القوم فلا يجد هزّة بالرياسة، وإن كان في الساقة «1» ففي السّاقة أو في الحراسة ففي الحراسة، ولقد أفلحت عصابة اعتصبت من ورائه، [وأيقنت بالنصر من رايته كما أيقنت بالنصر من رائه]«2» .

واعلم أنه قد أخلّ من الجهاد بركن يقدح في عمله، وهو تمامه الذي يأتي في آخره كما أنّ صدق النيّة يأتى في أوّله؛ وذلك هو قسم الغنائم فإنّ الأيدي قد تداولته بالإجحاف، وخلطت جهادها فيه بغلولها فلم ترجع بالكفاف؛ والله قد جعل الظّلم في تعدّي حدوده المحدودة، وجعل الاستئثار بالمغنم من أشراط الساعة الموعودة، [ونحن نعوذ به]«3» أن يكون زماننا هذا شرّ زمان وناسه شرّ ناس، ولم يستخلفنا على حفظ أركان دينه ثم نهمله إهمال مضيّع ولا [إهمال]«4» ناس؛ والذي نأمرك به أن تجري [هذا]«5» الأمر على المنصوص من حكمه، وتبرّيء ذمّتك مما يكون غيرك الفائز بفوائده وأنت المطالب بإثمه، وفي أرزاق المجاهدين بالديار المصرية والشاميّة ما يغنيهم عن هذه الأكلة التي تكون غدا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصّة وعذابا أليما؛ فتصفّح ما سطّرناه لك في هذه الأساطير التي هي عزائم مبرمات، بل آيات محكمات، وتحبّب إلى الله وإلى أمير المؤمنين باقتفاء كتابها، وابن لك منها مجدا يبقى في عقبك إذا أصيبت البيوت في أعقابها؛ وهذا التقليد ينطق عليك بأنه لم يأل في الوصايا التي أوصاها، وأنه لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها؛ ثم إنه قد ختم بدعوات دعا بها أمير المؤمنين عند ختامه، وسأل فيها خيرة الله التي تتنزّل من كلّ أمير بمنزلة نظامه، ثم قال:

اللهمّ إني أشهدك على من قلّدته شهادة تكون عليه رقيبه، وله حسيبه؛ فإنّي لم آمره إلا بأوامر الحقّ التي فيها موعظة وذكرى، وهي لمن اتّبعها هدى ورحمة وبشرى؛

ص: 149