المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الضرب الأول (سجلات أرباب السيوف - صبح الأعشى في صناعة الإنشا - ط العلمية - جـ ١٠

[القلقشندي]

فهرس الكتاب

- ‌[الجزء العاشر]

- ‌[تتمة الباب الثالث]

- ‌[تتمة النوع الثاني]

- ‌الوجه الخامس (فيما يكتب في ألقاب الملوك عن الخلفاء، وهو نمطان)

- ‌النمط الأوّل (ما كان يكتب في قديم الزمن)

- ‌النمط الثاني (ما يكتب به لملوك الزمان)

- ‌الوجه السادس (فيما يكتب في متن العهود، وفيه ثلاثة مذاهب)

- ‌المذهب الأوّل (وعليه عامّة الكتّاب من المتقدّمين وأكثر المتأخّرين)

- ‌الطريقة الأولى (طريقة المتقدّمين)

- ‌المذهب الثاني (أن يفتتح العهد بلفظ «من فلان» باسم الخليفة وكنيته ولقب الخلافة

- ‌المذهب الرابع

- ‌المذهب الخامس (أن يفتتح العهد ب «إنّ أولى ما كان كذا» ونحوه)

- ‌الوجه السابع (فيما يكتب في مستند عهد السلطان عن الخليفة، وما يكتبه الخليفة في بيت العلامة، وما يكتب في نسخة العهد من الشّهادة أو ما يقوم مقامها)

- ‌الوجه الثامن (في قطع الورق الذي تكتب فيه عهود الملوك عن الخلفاء، والقلم الذي يكتب به، وكيفيّة كتابتها، وصورة وضعها في الورق)

- ‌النوع الثالث (من العهود عهود الملوك لولاة العهد بالملك)

- ‌الوجه الأوّل (في بيان صحّة ذلك)

- ‌الوجه الثاني (فيما يكتب في الطرّة)

- ‌الوجه الثالث (في الألقاب التي تكتب في أثناء العهد)

- ‌الوجه الرابع (ما يكتب في المستند)

- ‌الوجه الخامس (ما يكتب في متن العهد)

- ‌الطريقة الأولى

- ‌الطريقة الثانية

- ‌الوجه السادس

- ‌الوجه السابع

- ‌النوع الرابع

- ‌الوجه الأوّل

- ‌الوجه الثاني

- ‌الضرب الأوّل

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الباب الرابع من المقالة الخامسة

- ‌الفصل الأوّل (فيما كان يكتب من ذلك عن الخلفاء، وفيه خمسة أطراف)

- ‌الطرف الأوّل (فيما كان يكتب عن الخلفاء الراشدين من الصحابة رضوان الله عليهم)

- ‌الطرف الثاني (فيما كان يكتب عن خلفاء بني أميّة)

- ‌الطرف الثالث

- ‌النوع الأوّل

- ‌النوع الثاني

- ‌الضرب الأوّل

- ‌الضرب الثاني

- ‌النوع الثالث (مما كان يكتب لأرباب الوظائف من ديوان الخلافة ببغداد ما كان يكتب لأرباب الوظائف ببغداد من أصحاب الأقلام)

- ‌الضرب الأوّل (العهود)

- ‌الضرب الثاني

- ‌النوع الرابع

- ‌الطرف الرابع

- ‌الطرف الخامس

- ‌النوع الأوّل

- ‌المذهب الأوّل (أن يفتتح ما يكتب في الولاية بالتّصدير)

- ‌المرتبة الأولى (أن يقال بعد التصدير المقدّم «أما بعد فالحمد لله» )

- ‌الضرب الأوّل (سجلّات أرباب السيوف

- ‌المرتبة الثانية

- ‌المرتبة الثالثة (من المذهب الأول من سجلات ولايات الفاطميين أن تفتتح بالتّصدير أيضا

- ‌المذهب الثالث من مذاهب كتّاب الدولة الفاطميّة

- ‌المذهب الرابع (مما كان يكتب لأرباب الولايات بالدّولة الفاطمية مرتبة الأصاغر من أرباب السّيوف والأقلام)

- ‌النوع الثاني (مما كان يكتب في الدولة الفاطمية بالديار المصرية ما كان يكتب عن الوزير)

- ‌المصادر والمراجع المستعملة في حواشي الجزء العاشر من كتاب «صبح الأعشى»

- ‌فهرس الجزء العاشر من صبح الأعشى

الفصل: ‌الضرب الأول (سجلات أرباب السيوف

وتكون الثالثة متعلّقة بالنّعم الشاملة لأمير المؤمنين، ثم يقال:«وإنّ أمير المؤمنين لما اختصّه الله به من كذا وكذا» ويذكر ما سنح من أوصاف الخليفة، ويذكر أنه تصفّح الناس وسبرهم فلم يجد من يصلح لتلك الولاية إلّا هو، ويذكر من صفته ما اتّفق ذكره، ثم يذكر تفويض الولاية إليه، ويوصيه بما يناسب، ويختم بالدعاء ثم بالسلام مع التفنّن في العبارة، واختلاف المعاني والألفاظ، والتقديم والتأخير بحسب ما تقتضيه حال المنشيء، وتؤدّي إليه قريحته.

وهي على ضربين:

‌الضرب الأوّل (سجلّات أرباب السيوف

«1» )

وعلى ذلك كتب سجلّات وزرائهم أصحاب السيوف القائمين مقام السلاطين الآن، من لدن وزارة أمير الجيوش بدر الجماليّ وزير المستنصر:

خامس خلفائهم وإلى انقراض دولتهم. وقد تقدّم منها ذكر عهدي المنصور: أسد الدين شير كوه بن شادي، ثم ابن أخيه الناصر صلاح الدين يوسف بن أيّوب بالوزارة عن العاضد في جملة عهود الخلفاء والملوك، حيث أشار في «التعريف» إلى عدّهما من جملة عهود الملوك.

ومن أحسنها وصفا، وأبهجها لفظا، وأدقّها معنى، ما كتب به الموفّق بن الخلّال «2» صاحب ديوان الإنشاء عن العاضد المتقدّم ذكره، بالوزارة لشاور السّعديّ «3» ، بعد أن غلبه ضرغام «4» عليها ثم كانت له الكرّة عليه. وهذه نسخته:

ص: 319

من عبد الله ووليّه عبد الله أبي محمد العاضد لدين الله أمير المؤمنين، إلى السيّد الأجلّ، سلطان الجيوش، ناصر الإسلام، سيف الإمام، شرف الأنام، عمدة الدّين؛ أبي فلان فلان.

سلام عليك: فإنّ أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلّي على جدّه محمد خاتم النّبيين، وإمام المرسلين، صلّى الله عليه وعلى آله الطاهرين الأئمة المهديّين؛ وسلّم تسليما.

أما بعد، فالحمد لله مانح الرغائب، ومنيلها، وكاشف المصاعب، ومزيلها، ومذلّ كل عصبة كلفت بالغدر والشّقاق ومذيلها، ناصر من بغي عليه، وعاكس كيد الكائد إذا فوّق سهمه إليه، ورادّ الحقوق إلى أربابها، ومرتجع المراتب إلى من هو أجدر برقيّها وأولى بها، ومسنّي الخير بتيسير أسبابه، ومسهّل الرّتب «1» بتمهيد طرقه وفتح أبوابه، ومدني نائي الحظّ بعد نفوره واغترابه، ومطلع الشمس بعد المغيب، ومتدارك الخطب إذا أعضل بالفرج القريب، مبدع ما كان ويكون، ومسبّب الحركة والسّكون؛ محسن التدبير، ومسهّل التعسير: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

«2» .

والحمد لله الذي اختصّ أولياء أمير المؤمنين الأبرار بالاستعلاء والظّهور، وذلّل لهم جوامح الخطوب ومصاعب الأمور، وآتاهم من التأييد كلّ بديع

ص: 320

مستغرب، وأنالهم من كل غريب إذا أورد قصصه أطرب، ومكّنهم من نواصي الأعداء، وشملهم بعناياته في الإعادة والإبداء، وضمن لهم أحمد العواقب، وأرشدهم إلى الأفعال التي ثبّتت لهم في صحائف الأيّام أفضل المناقب، وهداهم بأمير المؤمنين إلى ما راق زلاله، وتمّ غاية التّمام كما أنه كان لرضا الله سبحانه وحسن ثوابه مآله، ويمدّهم «1» في المجاهدة عن دولته بالتأييد والتمكين، ويحظيهم من أنوار اليقين، بما يجلو عن أفئدتهم دجى الشّكّ البهيم، ويظهر لأفهامهم خصائص الإمامة في حلل التفخيم والتعظيم، ويريهم أنّ خلوص الطاعة منجاة في المعاد بتقدير العزيز العليم.

والحمد لله الذي استثمر من دوخة النبوّة الأئمة الهادين، وأقامهم أعلاما مرعدة في محجّة الدين، وبيّن بتبصيرهم الحقائق وورّث أمير المؤمنين شرف مقاماتهم، وجعله محرز غاياتهم، وجامع معجزاتهم وآياتهم، وقضى لمن التحف بظلّ فنائه، واشتمل بسابغ نعمه وآلائه، وتمسّك بطاعته واعتصم بولائه، بالخلود في النعيم المقيم، والحلول في مقام رضوان كريم: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ*

«2» .

يحمده أمير المؤمنين على نعمه التي جعلته للبشر إماما، وأمضت له في المشارق والمغارب أوامر وأحكاما، وجرّد من عزمه في حياطة دين الله عضبا مرهفا حساما، واستخلص لإنجاد دولته من أوليائها أكملهم شجاعة وإقداما، وأحسنهم في تدبير أمورها قانونا ونظاما، وأتمّهم لمصالح أجنادها ورعاياها تفقّدا واهتماما، وأولاهم بأن لا يوجّه عليه أحد في حقّ من حقوق الله ملاما، وأجدرهم بأن يحلّ من جميل رأي أمير المؤمنين دار سلام يلقى فيها تحيّة وسلاما؛ ويسأله أن يصلّي على جدّه محمد خاتم النبيين الذي أعلن بالتوحيد وجهر، وغلب بالتأييد وقهر، وأظهر

ص: 321

المعجز البديع واستطال إعجازه وبهر، وأطلع نور الإسلام واشتهر في المشارق والمغارب إشراقه وظهر، وعلى أخيه وأبن عمّه أبينا عليّ بن أبي طالب سيف الله الذي شهره على الكفر وسلّه، وكفّله إعزاز الدّين فأعظمه بجهاده وأجلّه، وقرع بعزه صفاة «1» الإلحاد [فأزاله]«2» بعزه وأذلّه، وقصّد «3» الأصنام وأرغم من استغواه الشيطان باتّباعها وأضلّه، وعلى الأئمة من ذرّيتهما أعلام الدّين، وهداة المتقين، وموضّحي سبيل الحقّ لأهل اليقين، وموصّلي الأنوار الدينية إلى بصائر المؤمنين، صلاة تتكرّر وتتردّد، وتدوم مدى الأيام وتتجدّد.

وإن أمير المؤمنين- لما اختصّه الله به من المنصب الشريف، وسما به إليه من المحلّ الشامخ المنيف، وفوّضه إليه من تدبير خلقه، وأفرده به من اتّباع أمره والقيام بحقّه، وناطه به من المحاماة عن الملّة الحنيفيّة، والاجتهاد في أن يشمل أهلها بالحالة السنيّة والعيشة الهنيّة، وإعانته في إظهار شعارها، وتأييده في إظهار علوّها على الملك واقتدارها- يبذل جهده في الاستعانة بمن تقوم به حجّته عند الله بالاعتماد عليه، ويتوثّق لنفسه في اختيار من يقوم برضا الله في إسناد الأمور إليه، ويحرص على التفويض لمن يكفي في التدبير، وتحيط غاية نظره بالصغير من رجال الدولة والكبير، تقرّبا إلى الله بالعمل فيما ولّاه بما يرضيه، وازدلافا باتّباع أمره في كل ما ينفذه ويمضيه. وقد كان أمير المؤمنين تصفّح أولياء دولته، وعظماء مملكته وأكابر شيعته وأنصار دعوته، فوجدك أيّها السيد الأجلّ أكملهم فضلا، وأقلّهم مثلا، وأتمّهم في التدبير والسياسة إنصافا وعدلا، وأحقّهم بأن تكون لكلّ رياسة وسيادة أهلا، ففوّض إليك في أمور وزارته، وعوّل عليك في تدبير مملكته وجمع لك النظر فيما وراء سرير خلافته، فجرت الأمور بمقاصدك السعيدة على إيثار أمير

ص: 322

المؤمنين وإرادته، واستمرّ أمر المملكة بمباشرتك على أحسن قانونه وعادته، وشملت الميامن والسّعود أتمّ اشتمال على تفصيله وجملته، وانحسمت الأدواء، وذلّت بسطوتك الأعداء، وزالت في أيّامك المظالم والاعتداء، وحسنت بأفعالك الأمور، وظهر بك الصّلاح وكان قبل وزارتك قليل الظّهور، فانبسطت الآمال، واتّسقت الأعمال، وأقمع الضّلال، وأمنت الأهوال، وخلصت من الرأي السّقيم، وحظيت بالملك العقيم، وغدا جندها ورعاياها ببركة رأيك في النّعيم المقيم.

فلمّا رمقتك عين الكمال، وألهب قلوب حسدتك ما أوتيته من تمام الخلال، تكاثر من يحوك المكايد، وتظافر عليك المنافس والمعاند، ورنت إليك إساءة من عاملته بالإحسان، وعدت عليك خيانة من ائتمنته أتمّ ائتمان، وتمّ له «1» المراد بوفائك وغدره، وسلامة صدرك ومكره، واتّفاق ظاهرك وباطنك ومباينة سرّه لجهره؛ فكان ماهوّنه في نفسه سلامة النّفس وأكبر الولد، ومنح في إسداده نعما لا تنحصر بعدد؛ وأفظع ما كان فيه ما أصيب به ولدك الأكبر رضي الله عنه الذي أصيب وهو مظلوم، ولو لم يصب لم يمتنع من الأجل المحتوم؛ فربحت بما نالك ثوابا، واستفتح لك الحظّ من النصر على الباغي بابا، واغتصب الغادر ما لا يستحقّ، ورآه أمير المؤمنين بصورة المبطل ورآك بصورة المحقّ، وهدتك السعادة إلى العمل بسيرة الأنبياء، في الانحياز عن الأعداء، والتباعد عن أهل الغيّ والاعتداء، فانسللت من الغواة انسلال الصارم من غمده، وتواريت من العتاة تواري النار في زنده، وقطعت المفاوز مصاحبا للعفر والعين، حتّى حللت بربوة ذات قرار ومعين؛ وإنّ أمير المؤمنين يمدّك في ذلك بدعائه، ويعدّك لتدبير دولته

ص: 323

وقمع أعدائه، ورآك وإن أبعدتك الضّرورات عن بابه، وأناتك الحادثات عن جنابه، أنّك وزيره المكين، وخالصته القويّ الأمين، الذي لا ينزع عنه شمس وزارته، ولا يؤثر له غير سلطانه ومملكته.

ولما وجّهت إلى أعمال أمير المؤمنين بمن استصحبته راجيا من عدوّك الانتصار، قاصدا إدراك الثار، وحللت بعقوته «1» ، وخيّمت في جهته، فاتّصلت بينكم الحروب، وعزّ على كلّ منكما نيل المطلوب- أنجدك أمير المؤمنين عند علمه ببلوغ الكتاب أجله، واستيفاء الوقت المحدود مهله، بإظهار ميله إليك وميله عن ضدّك، وأنّ قصده مباين لقصد المذكور موافق لقصدك، فسبّب ذا نصرك وخذلانه، وتقويتك وإيهانه؛ ولأمير المؤمنين في حاله عناية تسعدك، ورعاية تؤيّدك.

فحين عدت إلى بابه عود الشّموس إلى مشارقها قبلك أحسن قبول، وتلقّاك بتبليغ السّول، وكشف الغطاء عمّا كان يسرّه إليك ويضمره، ويريده بك ويؤثره، وجدّد لك ما كنت تنظر فيه من الوزارة، ومباشرة ما كان مردودا إليك من السّفارة والظّهارة: لأنّك أوحد ملوك العصر كمالا، وأوسعهم في حسن التدبير مجالا، وأشرفهم شيما بديعة وخلالا، وأصلحهم آثارا وأعمالا، وأتمّهم سعادة وإقبالا، وأكثرهم تقيّة لله تعالى؛ وما زلت للمفاخر جامعا، ولراية المجد رافعا، ولذرى العلاء والسّناء فارعا، تزدان العصور بعصرك، وتتجمّل الدنيا ببقاء نهيك وأمرك، وتتعجّب الأفلاك العليّة من سعة صدرك، وتتضاءل الأقدار السامية لعظيم قدرك؛ وكم لك من منقبة تجلّ أن يكيّفها بديع الأقوال، وتعظم أن يتمنّاها بديع الأقوال «2» ؛ فالدولة العلويّة بتدبيرك مختالة زاهية، وأركان أعدائها وأضدادها بحزمك وعزمك واهية، وسعادات من تضمّه وتشتمل عليه متضاعفة غير منقطعة

ص: 324

ولا متناهية، ولم تزل للإسلام سيفا قاطعا ماضيا، وعلى الإلحاد سيفا مرهفا قاضيا، تذود الشرك عن التوحيد، وتصدّ الكفر عن الإيمان فيحيد مرغما ويبيد؛ وكم لك في خدمة أئمة الهدى من مأثرة تؤثر فتبهج ويورد ذكرها فيغري بالثناء عليك ويلهج، وتبذل في طاعتهم النفس والولد، وتنتهي في مناصحتهم إلى الأمد الذي ليس بعده أمد؛ فلذلك فزت بدعواتهم التي أعقبتك حسن العواقب، وأحلّتك المحلّ الذي لا تسموا إلى رقيّه النجوم الثّواقب؛ فإذا رفعك أمير المؤمنين إلى منزلة سامية، وجد محلّك لديه عنها يجلّ ويسمو، وإذا خصّك بفضيلة ما، صادف استحقاقك عنها يرتفع ويعلو، وإذا استشفّ خصائصك، وجدها بديعة الكمال، يمتنع أن يدرك مثلها بحرص ساع أو ينال؛ وقد توافقت الخواطر على أنك أوحد وزراء الدولة العلويّة ظفرا ونظرا، وأحسنهم في طاعتها ومخالصتها أثرا، وأفضلهم خبرا وأطيبهم خبرا؛ وقد جدّد لك أمير المؤمنين اصطفاءك لوزارته، واجتباءك لتدبير مملكته، وجعلك الفرد المشار لك في دولته.

فتقلّد ما قلّدك أمير المؤمنين من هذه المهمّات الجسام، وتسنّم ما وطّده لك من هذه الرّتب العظام، وتلقّ آلاءه بما يثبتك في جرائد الأبرار، ويمنحك مصاحبة التوفيق في الإيراد والإصدار، وباشر ما ناط إليك من كبير الأمور وصغيرها، وجليل الأحوال وحقيرها، وابسط يدك في تدبير دولته، وأنفذ أوامرك في أرجاء مملكته، واعن بما جعله لك من تدبير جيوشه الميامين وأوليائه المتّقين، وكفالة قضاة المسلمين وهداية دعاة المؤمنين، وربّ أحوال جنوده ورعاياه أجمعين، واعمل في ذلك بتقوى الله الذي ما برحت لك دأبا وطريقة، وشيمة وخليقة، وبها النجاة من النار، والسّلامة في دار القرار، والفوز بمعنى الخلاص، في يوم المناقشة والقصاص؛ فالعارف من مهّد بها مقامه في الآخرة تمهيدا، وأحرز بها من الثواب في الآخرة مزيدا، بقول الله في الكتاب الذي جعله في الإعجاز فريدا:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً

«1» .

ص: 325

وراقب الله فيما ألقاه إليك فقد فوّض إليك مقاليد البسط والقبض، والرفع والخفض، والولاية والعزل، والقطع والوصل، والتولية والتصريف والصّرف، والإمضاء والوقف، والغضّ والتّنبيه، والإخمال والتّنويه، والإعزاز والإذلال، والإساءة والإجمال، والإبداء والإعادة، والنقص والزّيادة، والإنعام والإرغام، وكل ما تحدثه تصاريف الأيام، وتقتضيه مطالب الأنام؛ فهو إليك مردود، وفيما عدق بنظرك معدود.

وأمّا العدل ومدّ رواقه، وإقامة مواسمه وأسواقه، والإنصاف واتباع محجّته، والاعتماد على أحكامه وأقضيته، وكفّ عوادي الجور والمظالم، وحمل الأمر على قصد التصاحب والتّسالم، وإظهار شعار الدّين، في إنصاف المتداعين إلى الشرع المتحاكمين، والدعوة الهادية «1» وفتح أبوابها للمستجيبين، وإعزاز من يتمسّك بها من كافّة المؤمنين، والأموال والنظر فيها، والأعمال أقاصيها وأدانيها، فكلّ ذلك محرّر في تقليد وزارتك الأوّل، وأنت أولى من حافظ على العمل به وأكمل.

وأمّا أمراء الدولة الأكابر، وصدورها الأماثل، وأمراؤها الأعيان، وأولياؤها الذين بسيوفهم تقام دعائم الإيمان، فأنت شفيعهم في كلّ مكان، ومعينهم الذي يبذل جهده بغاية الإمكان، والجاهد لهم في النّفع والصّلاح، والحريص على دفع ما يلمّ بكلّ منهم من الضّرر والاجتياح؛ وما زلت لهم في الأغراض بحضرة أمير المؤمنين مساعدا، وعلى ما يبلّغهم الآراب حريصا جاهدا، وتخصّهم دائما بعنايتك، وتمدّهم برعايتك، وتعمل لهم في الحاجات صائب رأيك؛ فأجرهم على ما ألفوه من الاعتناء والإجمال، وبلّغهم من محافظتك نهايات الآمال، فهم أبناء الملاحم، ومصطلو لهب الجمر الجاحم «2» ؛ ومصافحو الصّفاح، المرهفة

ص: 326

الضّروب، وملاعبوا الرّماح، العاسلة «1» ذات الكعوب، ومعملو العتاق الأعوجيّة «2» ، ومرسلو السّهام المريشة المبريّة.

وأمير المؤمنين يعلم أنك بفضل فطرتك، وثاقب فطنتك، وما ميّزك الله به من قديم حنكتك وتجربتك، تغنى عن الوصايا، وتنزّه عن توسيع الشّرح في القضايا؛ وإنما أورد لك هذا النّزر منها على جهة التيمّن بأوامر الأئمة، والتبرّك بمراسيم هداة الأمة؛ والله يحقّق لأمير المؤمنين فيك الأمل، ويوفّقك في خدمته للقول والعمل، ويعينك على إصلاح دولته، واغتنام فرص طاعته، وبذل الجهد والطاقة في مناصحته، والاجتهاد في رفع منار دعوته، ويؤيّدك على أعداء مملكته، ويرشدك إلى العمل بما يسبغ عليك لباس نعمته؛ فاعلم هذا من أمير المؤمنين ورسمه، وانته إلى موجبه وحكمه، إن شاء الله تعالى. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته، والتحميد.

وعلى ذلك كتب الموفّق بن الخلّال أيضا عن العاضد بولاية ابن شاور السّعديّ نيابة الوزارة عن أبيه، وتفويض الأمور إليه، وهذه نسخته:

من عبد الله ووليه (بألقاب الخلافة) إلى فلان (بالنّعوت اللائقة به) .

سلام عليك (إلى آخر الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم على نحو ما تقدّم في سجلّ الوزارة لأبيه) .

أما بعد، فالحمد لله مؤيّد الحقائق بأفضل الأنصار، ومعزّ الممالك بأكمل ذوي النّفاذ والاستبصار، وجاعل الولد البارّ لوالده ركنا وسندا، والنّجل المختار لناجله نجدة ومددا، مرتّب الممالك على أفضل نظامها، ومرقّي الدّول إلى المؤثر من إجلالها وإعظامها: ليتّضح للمتأملين فضل تأكد الأواصر، ويستبين للناظرين

ص: 327

فصل تباين العناصر، إبراما منه- جل وعزّ- لأسباب الحكمة، وتوسيعا لسبيل الحنان والرحمة، وشمولا لما يتتابع به إحسانه من المنّ الجسيم فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

» .

والحمد لله معلي الدّرجات ورافعها، ومفيد الأمم ونافعها، ومزيل البأساء ودافعها، ومجيب الدّعوات وسامعها، ومضاعف المصالح وجامعها، الذي وقف على الدولة العلويّة أحسن السّير، وخصّها فيمن تؤثر اصطفاءه بمساعدة القدر، ويسّر لها رائق التدبير بعد ملابسة الرّنق والكدر، وادّخر لها من الأصفياء من تشرق الدنيا بأنواره، وتزيّن الدّهور بمحاسن آثاره، وتسمو المفاخر بمفاخره، ويتوالى الثناء على ما ابتكره من المكارم في أوّل نشئه وآخره، ويتتابع الإحماد لمن يختاره ويجتبيه، وتتضاءل أقدار الملوك إذا ذكر فضله وفضل أبيه، وتسكن النفوس إلى تمام ورعه ودينه، وينطق لسان الإجماع بصحّة معتقده ويقينه.

والحمد لله الذي شمل البرايا فضله، وعمّ الخلائق عدله، وأقرّت العقول بأنّ إليه يرجع الأمر كلّه.

يحمده أمير المؤمنين على نعمه الظاهرة التي أحظت دولته الظاهرة، بمؤازرة البيت الجليل الشّاوريّ، وأيدت مملكته القاهرة، بمحاماته عن حوزتها بالعضب المرهف والسّمهريّ، ويشكره على مننه التي استخلصت له منه أنصارا يرهفون في طاعته العزائم، ويحقّرون في إرادته العظائم، فيذبّون عن حوزته ولا يخافون في ذات الله لومة لائم، ويسأله أن يصلّي على جدّه محمد الداعي إلى الهدى، والمبعوث إلى الخلائق وهم إذ ذاك سدى، والمناضل في نصرة الإسلام بالأسرة والآل، والمطّرح عاجل الدنيا الفانية لآجل المآل، وعلى أبيه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب الذي أقام من دين الله منكر الأود، وقام لنبيّ الله مقام النّجل المرتضى والولد، وقطّ من طواغيت الكفر شامخ الهام، وأوضح غامض

ص: 328

التنزيل بما أفرده الله به من مزايا الإلهام، وعلى الأئمّة من ذرّيتهما أبناء الرّسالة والإمامة، والمختصّين بإرث بيته المحبوّ بتظليل الغمامة، والقائمين بنصرة الدّين، والمتفرّدين بإمرة المؤمنين.

وإنّ أمير المؤمنين لما أقامه الله له من تمكين قواعد الدّين، واختاره لإيضاحه من إرشاد فرق المسلمين، وأفضى به إليه من سرّ الإمامة المكنون، وألقاه إليه من خفايا الإلهام الذي تستنبط من أنوارها علّة ما كان ويكون، وأمدّه من التأييد الذي يستأصل طواغيت النّفاق بقوارع المهالك، ويسلك بمردة أهل العناد أوعر السّبل والمسالك، وأنجده في كلّ الحالات بالألطاف الخفيّة التي تتكفّل بإعلاء كلمته، وتتضمّن نصر أعلامه ونشر دعوته، وآتاه جوامع المعارف والحكم، وفرض طاعته على من دان بالتوحيد من جميع الأمم، وألزم مقاصده وأنحاءه التوفيق، وأوجب لها السعادة في كلّ جليل ودقيق، يفوّض أمره إلى الخالق، ويفيض جوده وبرّه في الخلائق؛ فلا يزال لأحوال دولته مراقبا، ولا ينفكّ يفيد كلّ ما يتعلّق بها نظرا ثاقبا؛ فإذا لاحت له لائحة صلاح، أو بدت لنظره مخيلة نجاح، اجتهد في توسيع مجالها، وحرّض على حثّها وقصد إعجالها، والتمس للدّولة اجتلابها، وفتح إلى استدعاء النّفع بابها: لينمى الخير العميم، في دولته، ويتضاعف النفع الجسيم، لرعيّته، وتكون كافّة الخلق فيها بالأمنة والسّكون مغمورين، وبحسن صنيع الله بهم فرحين مسرورين.

ولمّا تصفّح أمير المؤمنين أحوال دولته، وتأمّلها تأمّل من يؤثر أن يفقه الفحص في كل مهم على حقيقته، رأى أن الله جل وعلا قد منح أمير المؤمنين من خالصته وصفيّه، ووزيره وكافيه وولّيه، السيد الأجلّ (بالنعوت والدعاء) الذي قام بنصرته، وكفل أهوال الحروب بنفسه وأولاده وأسرته، وحالف التغرّب والأسفار، واستبدل من لين العيش بملاقاة السّهام واللهاذم والشّفار، واتخذ ظهور الجياد عوضا من الحشايا، ومنازلة الأبطال دأبا في الحنادس والبكر والعشايا، وآثر

ص: 329

على لبس الغضّ المونق الجديد، لباس اليلب «1» ولأمات الحديد، ولازم في ذات الله قرع أبواب الحتوف، والتهجّم على كل مخشيّ مخوف، حتّى ذلّل الأعداء، وقمع الاعتداء، وحسم الأدواء، وألزم الدّهر بعد خطئه الاستهواء، وأفاد دولة أمير المؤمنين باجتهاده عزّا، وادّخر لها عند الله من الأجر والمثوبة كنزا، وسيّر عنها في الآفاق أحسن الأحاديث، وبيّن فضلها على غيرها في القديم من الدّهر والحديث، وأخلص لأمير المؤمنين في الطاعة حتّى استخدم الموالي الموافق، والمباين المنافق، وكمّل فضائله التي لا تحدّ، ومحاسنه التي لا تنحصر ولا تعدّ، بفضيلة تفوت الفضائل، ومنقبة تفوق بفخرها المناقب الجلائل: وهي ما وجهه الله [له]«2» من بنوّة الأجلّ فلان الذي لم يزل للدولة عزّا حاضرا، ووليّا ناصرا، وعونا قاهرا، ومجدا ظاهرا، وجمالا باهرا. وما برح الله- جلّ وعلا- مراقبا، ولرضاه وغفرانه طالبا، قد جمع إلى كمال الدّين وصحّة اليقين، المخالصة في طاعة أمير المؤمنين، لا يفتر منذ مدّة الطّفوليّة [عن]«3» درس القرآن، ولا يباري بغير الأمور الدينية نجباء الأقران؛ إن تصفّحت محاسنه الدنيويّة عدّ ملكا مهذّبا، وإن تأمّلت مناقبه الدينيّة حسب ملكا مقرّبا؛ وكم له من منقبة تستنقص الغيوث، وشجاعة تستجبن اللّيوث، ومهابة تردّ أحاديثها الجيوش على الأعقاب، وتغريها بموالاة الحذر والارتقاب؛ إذا أسهبت الخطوب أوجز تدبيره، وإذا استطالت الحوادث قصّر طولها فأعجب تقريره؛ فالدولة العلويّة من ذبّه في الحرم الآمن، والخلافة العاضديّة من ملاحظاته في تدبير يجمع أشتات الميامن؛ فاجتماع المآثر قد وحّده، بشهادة الإجماع، وتوالي المحامد قد أفرده، بما شاع منه في الممالك وذاع؛ تتحاسد عليه غرّ الأخلاق، وتتنافس فيه المكارم منافسة ذوات الإشراق، فلا توجد خلّة فضل بارع إلا وقد جمّعها، ولا مكنة جبر «4» قارع إلا وهو الذي مهّد

ص: 330

محجّتها ووسّعها؛ ومقاماته في الجهاد والجلاد مقامات أوضحت الحقائق للأفهام، وثبّتت الدقائق تثبيتا يبقى على غابر الأيّام، وأعزّت دعوة الدولة العلوية وأيّدتها، ونصرت أعلامها ونشرتها، وأكتنفت بالتفضيل والإحسان رجالها، وأزالت بالجدّ والتشمير أوجالها، ومحت آثار عداتها بالسّيوف، وألفتهم «1» عن النّكايات المجحفة بوزع المنايا والحتوف.

والحروب فمرباه في مهودها، ومنشاه بين أسودها، ورعاتها وقف على إضرامها وإخماد وقودها؛ فإذا تورّدها تورّدها باسما متهلّلا، وإذا اقتحم مضايقها تصرّف فيها متوقّفا متمهّلا، لا يحفل بأهوالها، ولا يرى لقارعة من عظائم قوارعها وآلها؛ وحسبك فتكاته في طغاة الكفّار، وقصد أولياء الدولة بالإظهار: فإنّ الكفّار حين نهدوا للنّفاق، واجتلبوا أشباههم من بعيد الآفاق، وتهجّموا على الأعمال فجأهم بعزمة من عزماته أقامت راية الدين، وجعلتهم حصيدا خامدين، وأفنت منهم الصّناديد، واصطلمتهم «2» ببلايا تزيد على التعديد، واجتحفتهم بالقتل والأسر والتفريق، ورمتهم بدواه لا يقدر بشريّ على دفاعها ولا يطيق؛ ولمّا التجأ طاغية الكفر إلى الحيرة وركد، ورام الاعتصام بعروتها واجتهد، واغترّ بما معه من الجمع وكثرة العدد، نهد إليه في الأبطال الأنجاد، ونهض نحوه ثابتا للقراع والجلاد، فأزاله عن مجثمه، وذعره ذعرا شرّده عن معلمه، ورماه بالحراك بعد السّكون، والتّعب الذي قدّر باغتراره أنّ مثله لا يكون؛ وكم له فتكة في أهل العمود «3» ذلّلت جماحهم، واستلبت أرواحهم، وأعادت ليلا بالنّقع صباحهم.

وعند تمادي عتاة الكفّار في الإصرار، وجوسهم خلال الدّيار، ونفثهم في وجوه الأذى والإضرار، وطمعهم في اجتياح أهل الأعمال والأقطار، عوّل أمير المؤمنين في استئصالهم على عزمه، واعتضد بذبّه وحسمه، وجعل إليه التدبير

ص: 331

بالقاهرة المحروسة التي هي عمدة الإيمان والإسلام، ودار هجرة الإمام، ومعقل الخلافة منذ غابر الأيّام، وأطلق يده في ربّ جميع الأعمال، وتأمينها من بوائق الأوجال، فبثّ بالحضرة وبالأعمال من مهابته ما شرّد الأوغار «1» ، وسهّل الأمصار، ومحق الضّلّال، وأذاقهم النّكال، فعمّ السّكون والأمنة، واستولت على الأعمال السياسة المستحسنة، فحادت بنضرة الأيام وصلاح الوجود، واغتبطوا من تدبيره بصعود الجدود، ورتعوا من عنايته في عيش يضاهي عيش جنان الخلود؛ فالبلاغات بأسرها لا تقوم بمدح ما أوتي من الفضائل، ولا يوازي مجموعها منقبة من مناقبه التي أربى بها على الملوك الأواخر والأوائل، والخصائص الملوكية بجملتها فيه جبلّة وفطرة، وإذا قيست نادرة من نوادر فضله بما تفرّق في جميع الملوك كانت فضائله بمنزلة البحر ومجموع فضائل الملوك بمنزلة القطرة؛ وقد طرّز فضائله البديعة، وخلاله السامية الرّفيعة، من موالاة أمير المؤمنين ومناصحة دولته بما تكفّل بسعادة الدنيا والآخرة، ونهايات مغانم الثواب الشريفة الفاخرة؛ فليله ونهاره مصروفان إلى المجاهدة عن دولة أمير المؤمنين التي هي دولة التّوحيد، والمخلص فيها معرّض لكلّ مقام سعيد؛ فمحاسنه ترتفع عن قدر التقريظ والمديح، ولا تقابل إلا بموالاة التسبيح.

ولما أحمد أمير المؤمنين أثرهما في خدمته، وشكر قصدهما في دولته، وكان السيد الأجلّ قد بلغ إربه في الخلال، وحلّ المحلّ الذي لا تتعاطاه جوامح الآمال؛ وقدره يشرف عن كلّ تكريم،، وموضعه يتميّز عن كلّ منّ جسيم، ومنزلته تسمو عن كلّ تعظيم- فأوصى أمير المؤمنين السيد الأجل أن يقرّر له جميع خدمه، ويسبغ عليه في المستأنف أضفى نعمه: فإن محلّه يرتفع عن محلّ الخدم الجليلة، ويسمو عن كل تصرّف يسمه في الدولة بسمة جميلة؛ ورأى أمير المؤمنين والسيد الأجل أن يعلن بإسناد النيابة عن والده في أمور المملكة إليه، ويشهر أنّ ذلك معوّل فيه عليه: ليخفّف عن السيد الأجلّ أمير الجيوش أمر أثقالها،

ص: 332

ويتحمّل عنه تكليفه بعض أحوالها، ترفيها للسيد الأجل عن التّعب، وتخفيفا من كثرة النّصب؛ على أنّ علوّ قدره الأجل لم يخله في وقت من الأوقات من مشاركة في التدبير، ولا صدّه عن ممازجة في مهمّ كبير، بل ما برحت يده في جميع أحوال الدولة جائلة، وجلالة منصبه تقضي بأن تكون تصريفاته لجميع الأمور شاملة، وتوقيعاته ماضية في الأموال والرجال، والجهات والأعمال؛ وأمير المؤمنين والسيد الأجل يستسعدان بأداته، ويتتبّعان في كل السياسات ما هو موافق لإراداته: لما خصّه الله [به]«1» من المرامي الصائبة، والمقاصد التي السعادة على ما يرد منها مواظبة، وجبله عليه من المحافظة على حسن المرجع وحميد العاقبة- خرج أمر أمير المؤمنين إلى السيد الأجل بالإيعاز إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السّجلّ لك:

فتقلّد ما قلّدته من النيابة عن والدك فيما إليه من أمور مملكته، وأحوال دولته، معتمدا على تقوى الله التي بها نجاة أهل اليقين، وفوز سعداء المتّقين، لقول الله عز من قائل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ

«2» . واحمل عن السيد الأجل والدك ما يؤثر أن تحمله عنه من الأثقال، وتكفّل ما يكلّفك إيّاه من الأشغال، ونفّذ ما يختار أن تنفّذه، وأنجز ما يؤثر أن تنجزه، وأمض ما يشير إليك «3» بإمضائه من أساليب التوقيعات، وفنون المهمّات، وقم في كل من أمور نيابتك المقام الذي يرضيه، ويوجبه برّك ويقتضيه؛ وقد جعلك الله ميمون النّقيبة «4» ، مسعود الضريبة، مكمّل الأدوات، مؤهّلا لترقّي الغايات، لا تكبر عن مباشرتك كبيرة، ولا تشفّ «5» عن رتبتك رتبة خطيرة؛ واجر على عادة والدك في حسن السياسة والتدبير، والإجمال للأولياء لكما في كل صغير من الأمور وكبير.

والوصايا متّسعة الفنون، كثيرة الشّجون؛ ولك من مزيّة الكمال، وفضيلة

ص: 333

الجلال، ومساعدة الإقبال، والخبرة بالجهات والأعمال، وطوائف الأولياء والرجال، ما يعينك على استنباط دقائقها، والعمل بحقائقها، وسلوك أحسن طرائقها.

هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجته عليك؛ فاعمل بأحكامه، وأجر أمورك على نظامه، وبالغ أيها السيد الأجل أمير الجيوش في شكر نعمة الله التي ألهمت الملوك إشاعة فضلك، ورتّبت السّعود على اكتناف عقدك وحلّك، ومنحتك آية كليم الله فجعلت لك وزيرا من أهلك «1» ؛ فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

وعلى ذلك كتب بعض كتّابهم عن العاضد، لرزّيك «2» بن الصالح طلائع بن رزّيك، بولاية المظالم وتقدمة العسكر في وزارة أبيه، وهذه نسخته:

من عبد الله ووليّه فلان أبي فلان الإمام الفلاني (بلقب الخلافة) أمير المؤمنين، إلى فلان (بلقبه وكنيته) .

سلام عليك، فإنّ أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلّي على جدّه محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وسيد المرسلين، صلّى الله عليه وعلى آله الطاهرين، الأئمة المهديّين، وسلّم تسليما كثيرا.

أما بعد، فالحمد لله الغامر بالطّول والفضل، الآمر بالإحسان والعدل، موسّع سبل الصّلاح لبريّته، ومسبّب أسباب النّجاح لدينه الحنيف وملّته، وجاعل أبرار أوليائه ذخائر معدّة لنفع الخلق، ومصطفي سعداء أحبّائه لإعلاء منار الشرع وإقامة قسطاس الحق، وميسّرهم للنّهوض بالأعباء التي تتكفّل بعضد الدولة

ص: 334

العلوية وتقوم، ومجتبيهم للفضل بمرضاته فيما يقضي بإغاثة الملهوف وإنصاف المظلوم، الذي تنقاد بمشيئته الأمور، وتتصرف بإرادته الدّهور، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور، ويغدو فضله على عباده جسيما، ولا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً

«1» .

والحمد لله الذي أوضح بأنبيائه سبل الهدى للأنام، وأنقذ بإرشادهم من عبادة الأوثان والأصنام، وأقام باجتهادهم أحكام ما شرعه من الملل والأديان، وأذهب بأنوارهم ما غمر الأمم من غياهب الظّلم والعدوان، وقفّى على آثارهم بمن لا نبوّة بعد نبوّته، ولا حجّة أقطع من حجّته، ولا وصلة أفضل من وصلة ذخرها لأمّته، ولا ذرّيّة أقوم بحقّ الله في حفظ نظام الإيمان من عترته وذرّيّته.

يحمده أمير المؤمنين على أن مكّن له في الأرض، وذخر شفاعته لذوي الولاء في يوم النّشور والعرض، وأورثه خصائص من مضى من أئمة الهدى آبائه، وأفرده بمعجز التأييد الذي أضاءت الآفاق بمشرق أنبائه، ويشكره على أن أنجد دولته بكفيل جدّد جلبابها، وظهير أحكم أسبابها، ونصير بلّغ بها في الوليّ والعدوّ مطالبها وآرابها، واستنجب له من نجله خليلا يتلوه في الفضائل البارعة، وناصرا يحاول في الذّبّ عن حوزته عزما أمضى من السّيوف القاطعة، وعضدا يقوم له بإرضاء الخالق والمخلوق، ومسعدا لا يألو جهدا في إيصال المستحقّين إلى ما جعله الله لهم من الحقوق. ويسأله أن يصلّي على جدّه محمد سيد من بلّغ عن الله رسالة وأمرا، وأفضل من دعا إلى توحيد بارئه سرّا وجهرا، وأكمل من جاهد عن دينه حتّى ظهرت بعد الدّروس جدّته، وقهرت إثر الخضوع عزّته، وانتشرت في المشارق والمغارب كلمته ودعوته، صلّى الله عليه وعلى أخيه وابن عمّه أبينا عليّ بن أبي طالب، قسيمه في الشّرف والأبوّة، وصدّيقه الأكبر فيما جاء به من النبوّة، والمكمّل بالنّصّ على إمامته الدّين، وخامس الخمسة «2» الذين سادسهم الرّوح

ص: 335

الأمين، وأبي الأئمة الأبرار، والهازم بمفرده كلّ جيش جرّار، وعلى الأئمة من ذرّيتهما أعلام محجّة الهدى، وأنوار سبل الإيمان التي بأنوارها يستبصر ويقتدى، وأدلّة منهاج النجاة، وكاشفي غمم الشّكّ إذا الظّلم دجاه، وسلّم ومجّد، وتابع وردّد.

وإنّ أمير المؤمنين لما اصطفاه الله له من إرث سرّ الإمامة المصون المكنون، وحقّ بيانه العظيم الذي بالخشوع لجلاله أفلح المؤمنون، واختاره [له]«1» من نشر لواء الحقّ ونصره، وتأكيد أحكام الإنصاف ليحظى بعائدتها كافّة أهل زمنه وعصره، وألبسه إيّاه من تاج خلافته الذي أشرق لبصائر العارفين نوره الساطع، وتجلّى لأفهام الموقنين برهانه الصادع ودليله القاطع، وأودعه من خفايا الحكم التي عذب سلسبيلها، وبلغ إلى النعيم الخالد دليلها وسبيلها، وكمّله لأيّامه من الإقبال الذي جعلها مواسم زاهية بهجة النصر المبين، وأعياد ظفر تروق بتوالي إبادة العادلين عن الطاعة النّاكبين، وأوقاتا سعيدة تفيد الدين وأولياءه عزّا واعتلاء، وتوجب للإيمان وأنصاره اقتدارا واستيلاء، وتسبغ عليهم كيفما تصرّفت بهم الأحوال مننا ضافية وآلاء، ويسّره لعلمه من الإحاطة بكل مغيّب مستور، وأوجبه لأغراضه في كل ما يرومه من مظاهرة المقدور، ومهّده لحلوله من أشمخ منازل التطهير والتقديس، وشرّف به شيمه من كل خلق نبويّ بارع نفيس، وفضّله به من الكرم الذي لا تزال سحبه تجود الأمم سرفا، ولا تنفكّ غيوثه تجدّ لمن مطر به علاء وشرفا، ولا برح وابله يعمّ بالنّعم الغرّ الجسام، ولا تكفّ سيوبه عن إفاضة المنن التي علت وغلت فلا تسامى ولا تسام، وخصّ به إحسانه من المثابرة على إعظام المنائح للمستوجبين، والمحافظة على إجزال المواهب للمزدلفين إليه بالأعمال الصالحة المتقرّبين، يجهد آراءه في ارتياد من تتضاعف للبريّة بالاستعانة بكماله أسباب المصالح، وتتأكّد للأمّة بالتعويل على بارع فضله أحكام النّجح

ص: 336

والمناجح، وتقوم الحجة عند الله بالاعتضاد به فيما يقضي بنفع [العباد]«1» ، ويسهل الاعتماد على ديانته بالنّصح لله في الحاضر من بريّته والباد، وينطق شرف خلائقه بتوفّره على إحراز مغانم البرّ والتقوى، وتعرب طرائقه عن السّعي الذي لا يقف في مرضاة ربّه دون بلوغ الغاية القصوى، وتدلّ أحواله على رعاية حقوق الله سبحانه في كلّ ما يفعل ويقول، وتوضّح أخباره حسن تأتّيه في مصالح الأمم لما يعجز عن استنباطه رواجح العقول، ويقتدح نظره أنوارا يستضاء بها في طرق السّياسات الفاضلة، ويفتتح فكره أبوابا تضحى بها الخليقة إلى الخيرات الكاملة واصلة، ويبعثه حسن جبلّته على أن يحتقر في إعانة البرايا، عظائم المشاقّ، ويدعوه كرم سجيّته إلى أن يحنو على الرعايا، حنوّ من يتوخّاهم بالرحمة والإشفاق، ويقوى بإعانته المستضعف قوّة تحصّنه من عدوى الاهتضام،، ويعزّ بملاحظته المستذلّ عزّة تخرجه عن صورة المقهور المستضام، ويقتفي الآثار الصالحيّة «2» في عدل الطّباع وحسن الشّيم، ويتّبع السّنن الغياثيّة «3» في الإحسان إلى جميع الأمم، ويقصد في اللّطف بالصغير والكبير قصدها، وينتحي نواجم الباطل فيعتمد اجتثاثها وحصدها؛ ويكون تفويض أمير المؤمنين إليه توثّقا عند خالقه وباريه، واحتياطا لنفسه في استناد المهمّات منه إلى من لا يدانيه مدان ولا يباريه، وتتيمّن الدولة العلويّة بمباشرته للأحوال تيمّنا يؤذن لها بإدراك كلّ مطلب بعيد، وتستسعد بحسن سيرته استسعادا يقضي للمناجح بتمكين تبدي فيه وتعيد، وتختال الأيّام بما اجتلته من جواهر مفاخره، وتزدان الأزمان بما توشّحته من مناقبه التي حقّرت الملوك في أوّل الدّهر وآخره.

وقد اكتنفتك أيّها الأجلّ عنايات الله سبحانه واشتملت عليك، وتتابعت موادّ

ص: 337

اصطفائه واجتبائه إليك، وأنالتك من كلّ فضل بارع، غايته، وأظهرت فيك لكلّ كمال رائع، آيته، وجمعت لك من معجزات المحاسن ما لولا مشاهدتك لوجب استحالة جمعه، ولأنكر كلّ متدبّر صدر حديثه عن صدر صدره أو ورود سمعه؛ ويسّر لك تمام السّعد والإقبال، الترقّي إلى ذروة العلى التي يهاب النجم أن تمرّ ملاحظتها منه ببال، وتأنّقت الحظوظ في إعظام ما خوّلتك من الفضائل الباهرة فبالغت وتناهت، وأغرقت فيما أتحفتك به من المحاسن النادرة فشرفت بك وتباهت، حتّى غدا جسيم ما قدّم شرحه من الثناء وذكره، وعظيم ما وجب منه نشره فتضوّع أرجه ونشره، نغبة من بحارها الزاخرة، وشذرة من عقودها الفاخرة، وقليلا من كثيرها الجسيم، وضئيلا من جزيلها الذي استكمل خصائص التعظيم.

واستثمر فأنت الجامع لمفترق الفضائل الملكية، والفارع ذرى الجلال الذي أفردتك به المواهب الملوكيّة، والممنوح أعلى رتب السيادة السارية إليك من أكرم الأصول، والملموح بارتقاء هضاب المجد التي عجز ملوك الآفاق عن [الانتهاء]«1» إليها والوصول، والأوحد الذي بذّ العظماء فعظم خطرا وقدرا، والأروع الذي انقادت له الصّعاب فرحب باعا وصدرا، والعالم بالأمور الذي أصبح أعلم ملوك الأرض بأحسن التّدبير وأدرى، والمذكي بأنوار ذكائه في عاتم النّوب سراجا وهّاجا، والمشمّر في ذات الله فلا يوجد له على غير ما أرضاه معاجا «2» ، والمبتكر من غرائب السّياسات، ما لا تزال محاسنه على مفرق الزمن تاجا، والممجّد اللهج بتمجيده كلّ مقول ولسان، والمعجز كلّ متعاط وإن كان بليغا بديع الإحسان، والممنوح المعرق في السيادة والمملكة، والمبتدع المكارم أبكارا تجلّ عن أن يشابهه أحد فيها أو يشركه؛ فآيات مجدك ظاهرة باهرة، وغرّ خلائقك في اختراع المآثر وافتراعها ماهرة، وإليك إيماء السعادة وإشاراتها، والدّسوت باعتلائك مناكبها تسامي السماء أرجاؤها، ويتحقّق في البحر الأعظم

ص: 338

بتصدّرك فيها رجاؤها، فلا كمال إلّا ما أصبح إليك ينسب، ولا جلال إلا ما يعدّ من خصائصك ويحسب؛ ولم تزل لربّك خاضعا، ولشرفك متواضعا؛ وأنوار الألمعيّة توضّح لك من طرق الأمانة ما يعجز عن إدراكه قويّ التجريب، وتحكم لك من أحكام السياسة ما تقصر عن أقلّه فطن الحكماء الشّيب، وتبدي لك أسرار الأزمنة المتطاولة في إقبال سنّك، وتلين بتلطفات صلابة الخطوب مع نضارة غصنك، وما برح ذكر أخبار صولتك، وحديث ما أعظمه الله من فروسيّتك وشجاعتك، يوفّر حلوم الأبطال في الملاحم إذا أطارها الذّعر فطاشت، ويسكّن نفوس الأنجاد في الملاحم إذا أطارها الذّعر فجاشت، ويحدث للجبناء جرأة وإقداما، ويجعل الكهام «1» في الحروب مذلّقا حساما؛ فخيلاء الأعوجيّة «2» زهو مما ترقبه من شرف امتطائك، وصليل المشرفيّة «3» ترنّم بمطرب قصصك وأنبائك، واهتزاز السّمهريّة «4» جذل بما كفّلتها من إشادة علائك، وضمّنتها من إبادة أعدائك، وليس بغريب أن تفضل الأملاك، وتطأ أخامص السّماك، وتختال في وشي الوصف البديع، وتشرق أسرّة محاسنك فتخجل ضوء الصّبح الصّديع «5» ؛ وقد أكرمك الله مع فضل الخليقة والفطرة، وكمال الخصائص التي غدا كلّ منها في بديع المعجزات ندرة، ببنوّة مغيث الأنام ومصلح الأيّام؛ وكفيل أمير المؤمنين وكافيه، ومبريء ملكه من أسقام الحوادث وشافيه، السيد الأجلّ الملك (وتتمة النعوت والدعاء) الذي انتضاه الله لكشف الغمم، وارتضاه لتدبير الأمم، وفضّله على ملوك العرب

ص: 339

والعجم، وشمخ علاؤه فتطامن «1» له كلّ عليّ ودان، وسمت مواطيء أقدامه فتمنّت منالها مواطيء التّيجان، وحاز بالمساعي الفضل الباهر أجمع، واستولى على بواهر الحكم بالنظر الثاقب والقلب الأصمع «2» ، وأفرد بكمال عزّ أن تدركه الآمال، أو يكون لا شتطاطها فيه مطمع أو مجال؛ وغدا النصر المبين تابعا لعذب ألويته، وحسن إقباله في كلّ موطن كفيل بإدبار العدوّ وتوليته، وأجاب داعي الله إذ استنصر لآل بيت النبوّة واستصرخ، ولبّى دعاءه تلبية تسطّر أخبارها على ممرّ الزمان وتؤرّخ، وأجلى شياطين الضّلال وقد تبعت في زعيمها الجاحد وثنا، وصدّها بالعزم المرهف عما أصرّت عليه من منكر الإلحاد وثنى؛ وبدّلت سطاه جبابرة الطّغاة من الأوطان بعدا وسحقا، وأمتعتهم فتكاته من الأعداء الوافرة إفناء وسحقا، وأذاقتهم حملات جيوشه وبال أمر من عاضد باطلا وعاند حقّا، وجعلتهم شفار سيوفه الباترة في التّنائف «3» حصيدا، ورمت بالإرغام والإضراع معاطسهم وخدودهم بعد أن عمروا شمّا وصيدا، وقصّد بمواضيها أشلاءهم ودماءهم فألجم غروبها وسقى، وكشف بلوامعها عن الدولة الفاطمية من معرّتهم جنحا عاتما وغسقا، وكفل أمورهم فأحسن الإيالة والكفالة، وأعادها إلى أفضل ما تقدّم لها من القوّة والفخامة والجلالة، ونظر أحوالها فقوّم كلّ معوجّ وعدّل كلّ مائل، وحباها ملبس جمال تقبح عند بهجته ملابس الخمائل.

ولمّا أباد عصب العناد، عطف على الاجتهاد في الجهاد، فجابت جحافله متقاذف الأقطار، ونالت من الفتك بالكفرة في أقصى بلادها نهاية الأوطار، وانتزعت منهم الحصون، واستباحت الممنّع المصون، حتّى أصارت جلدهم المشهور فشلا، وفيض إقدامهم المذكور وشلا «4» ، وشمل الأمة بسيرة عرفت

ص: 340

بالعدل والإحسان، وأحظت الخلائق بالأمن المديد الظلال، وأرضتهم بالعيش الرائق الزّلال، وأنالتهم من المطالب ما اتّسعت لإدراكه خطا الآمال، وجاد ففضح الغمائم، ومنّ على ذوي الذّنوب حتّى كاد يتقرّب إليه بالجرائم، وأقال عثرات كبرت فلولا كرم سجيّته لم يرم الإقالة من خطرها رائم؛ وأمدّه الله من معجزات البلاغة والبيان، وغرائب الحكم البديعة الافتنان، ما يستخفّ الأحلام بفرط الطّرب والإفتان؛ ولم يزل منذ كان يحمي سرح الدين، ويضممّ نشر المؤمنين، ويبذل نفسه الشريفة في نصرة الدولة العلويّة بذل أكمل ناصر وأفضل معين؛ وتكبر عظائم الخطوب فيكون عزمه أعظم وأكبر، وتزهى الأيام بغرّ محاسنه وهو لا يزهى ولا يتكبّر، فقد عزّ جانب كماله، عن أن يناهضه جهد المديح، وارتفع محلّ جلاله، فلا ينال تكييفه بإشارة ولا تصريح، وعظم قدر مفاخره فلم يقابل إلا بموالاة التمجيد لخالقه والتسبيح، ووجب على متصفّح خصائصه الموالاة في التعظيم، ولزوم منهج استيداع لا يبرح عنه ولا يريم، ومبالغة قوله تعالى: ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ

«1» .

فبلّغ الله أمير المؤمنين في إطالة مدّته الآمال، وأبقى لمدّته باستمرار نظره الحظّ والجمال، وفتح له المشارق والمغارب بهممه العالية وعزائمه، وجعل نواجم الإلحاد حصائد شفار صوارمه، فافخر أيّها الرجل بأصلك وفرعك كيف شيت، وابجح بما منحت منه وأوتيت، ووال شكر خالقك على ما خوّلت وأوليت؛ فما فخر بمثل فخرك ملك سميدع «2» ، ولا تباهى الدّهر لأحد بمثل ما تباهى في حقّك ولا أبدع.

ولما تكامل لك أيّها الأجل بلوغ هذا الفضل الجسيم، وتمّ ما منحته من المجد الحادث والقديم، جدّد أمير المؤمنين لك شعار التعظيم، وكمّل لديك المفاخر تكميل العقد النظيم، وجعل الخير في إمرته لك عيانا، وأقامك للدولة

ص: 341

الفائزيّة والمملكة الصالحيّة برهانا، وجعلك لكافّة المسلمين في أقطار الأرض سلطانا، وطابق بين ما خصّك به من السّمات السنيّة، وبين ما مكّنه لك من المراتب العلية، فاتّخذك لدولته ناصرا وعضدا، وانتخبك للإسلام مجدا وسندا، وأحيا بمرافدتك أنصار الدين، وشفى بنظرك صدور المؤمنين، واستخلصك لنفسه النفيسة حميما وخليلا، وبلغ بك إلى الغاية القصوى إعلاء وتبجيلا، وشرّفك بخلع بديعة من أخصّ ملابس الخلافة تروق محاسنها كلّ النواظر، وتفوق بدائعها ما دبّجه زهر الروض الناضر، وقلّدك سيفا يؤذن بالتقليد، ويبشّر بالنصر الدائم المزيد، تتنافس في متنه وفرنده «1» الجواهر، ويستولي ناصعها على الباطن منه والظاهر، وعزّزها بالتشريفات التي اكتنفتها البهجة والبهاء، وبلّغتها في العلى إلى الغاية التي ليس بعدها انتهاء، وآثر أن تبسط يدك في التدبير، ويعدق بك ما هو عنده بالمحلّ الكبير، ويجمع لك من أشتات دولته ما لم يعرف لجمع مثله في سالف الزّمن نظير، ويسند إلى كمالك ما يعود النفع بصلاحه على المأمور من الأنام والأمير.

ففاوض أيّها السيد الأجلّ الملك الصالح والدك أدام الله قدرته، وأعلى كلمته، في ذلك مفاوضة أفضت إلى وقوع الإجماع على أنك أكمل ملوك دهرك دينا، وأصحّهم يقينا، وأشرفهم نفسا وأخلاقا، وأكرمهم أصولا وأعراقا، وأمثلهم طريقة وأحسنهم سيرة، وأنقاهم صدرا وأطهرهم سريرة، وأشفّهم جوهرا وأزكاهم ضريبة وأتقاهم لله سرّا وعلنا، وأولاهم بأن لا يصدر عنه من الأفعال إلّا جميلا حسنا؛ وأنك أفضل من عدق أمير المؤمنين بنظره أمر الدنيا والدين، وأسند إلى ملاحظته أحوال أمراء الدولة ورجالها أجمعين، وفوّض مصالح المسلمين منه إلى التّقيّ الأمين؛ وأنّ السيد الأجلّ الملك الصالح أدام الله قدرته لمّا أخلص محلّه عند أمير المؤمنين بتتابع الإشادة، وتفرّد باستمرار المضاعفة بإذن الله تعالى والزّيادة، واستولى على الأمد الأقصى في السموّ لديه والتعالي، وانخفضت عن

ص: 342

ثراه ذرى أشمخ المعالي، كان عند أمير المؤمنين الأوّل في الجلال وأنت ثانيه، والسابق في الفخار وأنت تاليه، ودلّ بفضلك على فضله دلالة الصبح على النهار، والنّماء على الإبدار، والثّمر الطيب على فضيلة الأصل والنّجار، فتبارك مولي المنن لأوليائه وحزبه القائل في محكم كتابه: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ

«1» .

وقرّر لك أمير المؤمنين استشفاف أمور المظالم، وإنصاف المظلوم من الظالم، والنظر في اسفهسلارية «2» العساكر المؤيّدة المنصورة إيثارا من أمير المؤمنين لأن يجعل لك خير الدنيا والآخرة ميسّرا، ويثبت لك في كلّ من أمور العاجلة والآجلة حديثا حسنا وأثرا، ورتّب ذلك لك ترتيبا يصحبه التوفيق ويلزمه.

ويكمّله السعد ويتمّمه، ويحيط به اليمن والنّجاح، ويشتمل عليه الحظّ والفلاح.

فتقلّد ما قلّدك أمير المؤمنين شاكرا لأنعمه متمسّكا بأسباب ولائه وعصمه، جاريا على أحسن عاداتك في مراقبة الله وخيفته، مستمرّا على أفضل حالاتك في خشيته، متّبعا أوامره في العمل بتقواه، وزاجرا للنفس عما تؤثره وتهواه؛ يقول الله في كتابه المبين: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ

«3» .

واعلم أن المظالم «4» كنز من كنوز الرحمة، وباب يتوصّل منه إلى مصلحة الأمّة، ووسيلة يتوسّل بها السّعداء إلى خالقهم في استبقاء ما أسبغ عليهم من النّعمة؛ فاجلس لها جلوسا عامّا ترفع فيه الحجاب، وتيسّر للوصول إليك عنده الأسباب، وتأمر بتقريب المتظلّمين وتوعز بإدنائهم لتسمع كلام الشاكين، وتوفّر على الأخذ بيد المستضعف القريع «5» ، والحرمة التي لا تجد سبيلا للإنصاف ولا تستطيع، وتتقدّم بأن تحضر بين يديك النائب في الحكم العزيز الذي على فتياه

ص: 343

مدار أحكام الدين، ومن تحتاجه من الموقّعين والدّواوين، وتأمر بإحضار القصص وعرضها، وتتأمّل دعاوي المتظلّمين في إبرامها ونقضها، وتوقع على كلّ منها بما يقتضيه الشرع وأحكامه، ويوجبه العدل ونظامه.

وانظر في مشكل القصص نظرا يزيل إشكالها، ويجعل إلى لوازم الشرع والحقّ مآلها، وراع أمر المنازعات حتّى تنتهي إلى الأواخر، ولا يبقى فيها تأمّل لمتأمّل ولا نظر لناظر؛ وتخرج أوامرك بإيصال كلّ ذي حقّ إلى حقّه، وكفّ كلّ متعدّ عن سلوك سبيل العدوان وطرقه، وليكن الضعيف أقوى الأقوياء عندك إلى أن يصل إلى حقّه موفّرا، والقويّ أضعف الضّعفاء حتى يخرج مما عليه طائعا أو مجبرا؛ والشرع والعدل فهما قسطاسا الله في أرضه، ومعينا [ن على]«1» الحق من أراد العمل بواجب الحقّ وفرضه، فخذ بهما وأعط بين العباد، وأثبت أحكامهما فيما قرب وبعد من البلاد، وساو بهما في الحقوق بين الأنام، وصرّف النصفة بحكمهما بين الخواصّ والعوام، حتّى ينتصف المشروف من الشريف، والضعيف من ذي القوّة العنيف، والمغمور من الشهير، والمأمور من الأمير، والصغير من الكبير؛ واستكثر بإغاثة عباد الله ذخائر الرّضوان، واستفتح بقيامك بحقوق الله فيهم أبواب الجنان، واعمم بسعيد نظرك وتامّ تفقّدك وملاحظاتك جميع صدور أولياء الدولة وكبرائها، ومقدّميها المطوّقين «2» وأمرائها، وميّز بها الأعيان، ورجالها الظاهرة نجدتهم للعيان، وتوخّ الوجوه منهم بالإجلال والإكبار، وتبليغ الأغراض والأوطار، والتمييز الذي يحفظ نظام رتبهم، وينيلهم من حراسة المنازل غاية أربهم، والقهم مستبشرا كعادتك الحسنى، واجر معهم في كرم الأخلاق على مذهبك الأسنى، وعرّفهم بإقبالك على مصالح أمورهم، واتّجاهك لصالح شؤونهم، بركة اشتمالهم بفضلك، والتحافهم بظلّك، واقصد من يليهم بما يبسط

ص: 344

آمالهم، ويوسع في التكرمة مجالهم، ويكسبهم عزّة الإدناء والتقريب، ويخصّهم من إحفائك بأوفر سهم ونصيب؛ وكافّة الرجال فاحفظ نظامهم بحسن التدبير، وأثّر فيهم بجميل النظر أحسن التأثير، وتوخّهم بما يشدّ باهتمامك أزرهم، ويصلح بتفقّدك أمرهم، ويقف على الطاعة سرّهم وجهرهم، وييسّر لهم أسباب المصالح ويسهّلها، ويتمّم لمطالبهم أحكام الميامن ويكمّلها؛ وأصف لجميع «1» ذكرهم من سابق في التّقدمة وتال، ومخلص في المشايعة وموال، مناهل إحسان أمير المؤمنين الطامية الحمام «2» ، المتعرّضة مواردها العذبة لأدواء كافّة الأنام، فهم أنصار الدولة وأعوانها، وأبناء الدعوة وخلصاؤها وشجعان المملكة وفرسانها، ونجدة خلاصها «3» عند اعتراض الكروب، وسيوفها المذرّبة القاطعة الغروب، وأسنّتها المتوغّلة من الأعداء في سويداء القلوب، وحزبها الذي أذن الله بأنه الغالب غير المغلوب؛ ولكلّ منهم منزله من التقديم، وموضعه من الاشتمال بظلّ الطّول العميم، ومحلّه من الغناء ومكانه من الكفاية الذي بلغ إليه فسدّه. فرتّب كلّا من المقدّمين في الموضع الجدير به اللائق، وأوضح للموفّقين أنوار مراشدك ليلحق بتهذيبك السّكيت «4» منهم بالسابق.

والوصايا متسعة النّطاق، متشعّبة الاشتقاق؛ ولم يستوعب لك أمير المؤمنين أقسامها، ولا حاول إتمامها: للاستغناء بما لك من المعرفة التي غدت في استنباط حكم السياسات أكبر معين، والفطرة النفيسة التي تمدّك من كل فضيلة بأغزر معين؛ ولا يزال يضيء لبصيرتك من أنوار السيد الأجلّ الملك الصالح- أدام الله قدرته- التي لا تبرح للبصائر لامعة، ولمحاسن الأفعال وغررها جامعة، ما تستعين «5» بأضوائها على الغرض المطلوب من الإصابة وأكثر.

ص: 345