المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بامتناع سدادك ونهاك، أن يراك صواب الفعل حيث نهاك، واستنامة - صبح الأعشى في صناعة الإنشا - ط العلمية - جـ ١٠

[القلقشندي]

فهرس الكتاب

- ‌[الجزء العاشر]

- ‌[تتمة الباب الثالث]

- ‌[تتمة النوع الثاني]

- ‌الوجه الخامس (فيما يكتب في ألقاب الملوك عن الخلفاء، وهو نمطان)

- ‌النمط الأوّل (ما كان يكتب في قديم الزمن)

- ‌النمط الثاني (ما يكتب به لملوك الزمان)

- ‌الوجه السادس (فيما يكتب في متن العهود، وفيه ثلاثة مذاهب)

- ‌المذهب الأوّل (وعليه عامّة الكتّاب من المتقدّمين وأكثر المتأخّرين)

- ‌الطريقة الأولى (طريقة المتقدّمين)

- ‌المذهب الثاني (أن يفتتح العهد بلفظ «من فلان» باسم الخليفة وكنيته ولقب الخلافة

- ‌المذهب الرابع

- ‌المذهب الخامس (أن يفتتح العهد ب «إنّ أولى ما كان كذا» ونحوه)

- ‌الوجه السابع (فيما يكتب في مستند عهد السلطان عن الخليفة، وما يكتبه الخليفة في بيت العلامة، وما يكتب في نسخة العهد من الشّهادة أو ما يقوم مقامها)

- ‌الوجه الثامن (في قطع الورق الذي تكتب فيه عهود الملوك عن الخلفاء، والقلم الذي يكتب به، وكيفيّة كتابتها، وصورة وضعها في الورق)

- ‌النوع الثالث (من العهود عهود الملوك لولاة العهد بالملك)

- ‌الوجه الأوّل (في بيان صحّة ذلك)

- ‌الوجه الثاني (فيما يكتب في الطرّة)

- ‌الوجه الثالث (في الألقاب التي تكتب في أثناء العهد)

- ‌الوجه الرابع (ما يكتب في المستند)

- ‌الوجه الخامس (ما يكتب في متن العهد)

- ‌الطريقة الأولى

- ‌الطريقة الثانية

- ‌الوجه السادس

- ‌الوجه السابع

- ‌النوع الرابع

- ‌الوجه الأوّل

- ‌الوجه الثاني

- ‌الضرب الأوّل

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الباب الرابع من المقالة الخامسة

- ‌الفصل الأوّل (فيما كان يكتب من ذلك عن الخلفاء، وفيه خمسة أطراف)

- ‌الطرف الأوّل (فيما كان يكتب عن الخلفاء الراشدين من الصحابة رضوان الله عليهم)

- ‌الطرف الثاني (فيما كان يكتب عن خلفاء بني أميّة)

- ‌الطرف الثالث

- ‌النوع الأوّل

- ‌النوع الثاني

- ‌الضرب الأوّل

- ‌الضرب الثاني

- ‌النوع الثالث (مما كان يكتب لأرباب الوظائف من ديوان الخلافة ببغداد ما كان يكتب لأرباب الوظائف ببغداد من أصحاب الأقلام)

- ‌الضرب الأوّل (العهود)

- ‌الضرب الثاني

- ‌النوع الرابع

- ‌الطرف الرابع

- ‌الطرف الخامس

- ‌النوع الأوّل

- ‌المذهب الأوّل (أن يفتتح ما يكتب في الولاية بالتّصدير)

- ‌المرتبة الأولى (أن يقال بعد التصدير المقدّم «أما بعد فالحمد لله» )

- ‌الضرب الأوّل (سجلّات أرباب السيوف

- ‌المرتبة الثانية

- ‌المرتبة الثالثة (من المذهب الأول من سجلات ولايات الفاطميين أن تفتتح بالتّصدير أيضا

- ‌المذهب الثالث من مذاهب كتّاب الدولة الفاطميّة

- ‌المذهب الرابع (مما كان يكتب لأرباب الولايات بالدّولة الفاطمية مرتبة الأصاغر من أرباب السّيوف والأقلام)

- ‌النوع الثاني (مما كان يكتب في الدولة الفاطمية بالديار المصرية ما كان يكتب عن الوزير)

- ‌المصادر والمراجع المستعملة في حواشي الجزء العاشر من كتاب «صبح الأعشى»

- ‌فهرس الجزء العاشر من صبح الأعشى

الفصل: بامتناع سدادك ونهاك، أن يراك صواب الفعل حيث نهاك، واستنامة

بامتناع سدادك ونهاك، أن يراك صواب الفعل حيث نهاك، واستنامة إلى ما خوّلك الله من الرأي الثاقب، المطّلع من خصائص البديهة على محتجب العواقب.

فارتبط يا فلان هذه النّعمى التي جادت ديمها مغانيك، وحقّقت الأيّام بمكانتها أمانيك، بشكر ينطق به لسان الاعتراف، فيؤمّن وحشيّ النّعم من النّفار والانحراف، واسلك في جمال السّيرة، والاقتداء بهذه الأوامر المبيّنة «1» المذكورة، جددا يغري بحمدك الألسنة، ويعرب عن كونك من الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، والله يصدّق مخيلة أمير المؤمنين فيك، ويوزعك شكر ما أولاك ويوليك، ويجعل الصّواب غرضا لنبال عزائمه، ويذود عن دولته القاهرة كتائب الخطوب بصوارم السّعد ولهاذمه «2» ؛ ويصل أيامه الزاهرة بالخلود، ويبسط على أقاصي الأرض ظلّه الممدود، ما استهلّ جفن الغيث المدرار، وابتسمت ثغور النّوّار، إن شاء الله تعالى.

‌النوع الثاني

(مما كان يكتب لأرباب الوظائف من ديوان الخلافة ببغداد ما كان يكتب لأرباب الوظائف من أصحاب السّيوف، وهو على ضربين)

‌الضرب الأوّل

(العهود، وهي أعلاها رتبة) وطريقتهم فيها أن تفتتح بلفظ: «هذا ما عهد عبد الله ووليّه فلان أبو فلان الإمام الفلانيّ إلى فلان الفلانيّ حين عرف منه» ويذكر بعض مناقبه، وربّما تعرّض لثناء سلطان دولته عليه. ثم يقال:«فقلّده كذا وكذا» ثم يقال: «وأمره بكذا» ويأتي بما يناسب من الوصايا، ثم يقال:«فتقلّد كذا وكذا» ثم يقال:

«هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجّته عليك» أو نحو ذلك؛ ولا يؤتى فيه بتحميد

ص: 251

في أوّل العهد ولا في أثنائه كما تقدّم في عهود الخلفاء للملوك.

عهود أرباب السيوف (وهي عدّة ولايات) منها- النظر في المظالم.

وهذه نسخة عهد كتب به أبو إسحاق الصابي، عن المطيع لله، إلى الحسين ابن موسى العلويّ «1» بتقليد المظالم بمدينة السلام، وهي:

هذا ما عهد عبد الله الفضل الإمام المطيع لله أمير المؤمنين، إلى الحسين بن موسى العلويّ، حين اجتمع فيه شرف الأعراق، والأخلاق، وتكامل فيه يمن النقائب، والضّرائب، وعرف أمير المؤمنين فيه فضل الكفاية والغناء، ورشاد المقاصد والأنحاء، في سالف ما ولّاه إيّاه من أعماله الثقيلة التي لم يزل فيها محمود المقام، مستمرّا على النّظام، مصيب النّقض والإبرام، سديد الإسداء والإلحام، زائدا على المزايدين «2» ، راجحا على الموازين، فائتا للمحاذين، مبرّا «3» على المبارين، فقلّده النظر في المظالم بمدينة السلام وسوادها وأعمالها، وما يجري معها، ثقة بعلمه ودينه، واعتمادا على بصيرته ويقينه، وسكونا إلى أنّ الأيام قد زادته تحليما وتهذيبا، والسّنّ قد تناهت به تحنيكا وتجريبا، وأن صنيعة أمير المؤمنين مستقرّة منه عند أكرم أكفائها، وأشرف أوليائها، برحمه المتّاء «4» الدانية، وحرمته الشامخة العالية «5» ، ومعرفته الثاقبة الدّاعية إلى التفويض إليه، الباعثة على التعويل عليه؛ وأمير المؤمنين يستمدّ الله في ذلك أحسن ما عوّده من

ص: 252

هداية وتسديد، ومعونة وتأييد، وما توفيقه إلّا بالله عليه يتوكّل وإليه ينيب.

أمره بتقوى الله التي هي الجنّة الحصينة، والعصمة المتينة، والسبب المتّصل يوم انقطاع الأسباب، والزاد المبلّغ إلى دار الثّواب، وأن يستشعرها فيما يسرّ ويعلن، ويعتمدها فيما يظهر ويبطن، ويجعلها إمامه الذي ينحوه، ورائده الذي يقفوه، إذ هي شيمة الأبرار والأخيار، وكان أولى من تعلّق بعلائقها، وتمسّك بوثائقها «1» ، لمفخره الكريم، ومنصبه الصّميم، واستظلاله مع أمير المؤمنين بدوحة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله- التي يكتنّان في فنائها، ويأويان إلى أفيائها، وحقيق على من كان منزعه، وإليها مرجعه، أن يكون طيّبا زكيّا طاهرا نقيّا، عفيفا في قوله وفعله. نظيفا في سرّه وجهره، قال الله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً

«2» .

وأمره بتلاوة القرآن، وتأمّل ما فيه من البرهان، وأن يجعله نصبا لناظره، ومألفا لخاطره، فيأخذ به ويعطي، ويأتمر له «3» وينتهي، فإنه الحجة الواضحة، والمحجّة اللائحة، والمعجزة الباهرة، والبيّنة العادلة، والدليل الذي من اتّبعه سلم ونجا، ومن صدف عنه هلك وهوى؛ قال الله عز من قائل: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ

«4» .

وأمره أن يجلس للخصوم جلوسا عامّا، ويقبل عليهم إقبالا تامّا، ويتصفّح ما يرفع إليه من ظلاماتهم، وينعم النظر في أسباب محادثاتهم، فما كان طريقه طريق المنازعة المتعلّقة بنظر القضاة وشهادات العدول ردّه إلى المتولّي للحكم، وما كان طريقه الغصوب «5» المحتاج فيها إلى الكشف والفحص، والاستشفاف

ص: 253

والبحث، نظر فيه نظر صاحب المظالم، وانتزع الحقّ ممن غصب عليه، واستخلصه ممن امتدّت له يد التعدّي والتغرر إليه، وأعاده إلى مستحقّه، وأقرّه عند مستوجبه، غير مراقب كبيرا لكبره، ولا خاصّا لخصوصه ولا شريفا لشرفه، ولا متسلطنا لسلطانه، بل يقدّم أمر الله جلّ ذكره في كل ما يأتي ويذر، ويتوخّى رضاه فيما يورد ويصدر، ويكون على الضعيف المحق حدبا رؤوفا حتّى ينتصر «1» وينتصف، وعلى القويّ المبطل شديدا غليظا حتّى ينقاد ويذعن، قال الله جل وعز:

يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ

«2» .

وأمره أن يفتح بابه، ويسهّل حجابه، ويبسط وجهه، ويلين كنفه، ويصبر على الخصوم الناقصين في بيانهم حتّى تظهر حجّتهم، وينعم النظر في أقوال أهل اللّسن والبيان منهم حتّى يعلم مصيبهم «3» فربّما استظهر العرّيض «4» المبطل بفضل بيانه، على العاجز المحقّ لعيّ لسانه؛ وهنالك يجب أن يقع التصفّح على القولين، والاستظهار «5» للأمرين: ليؤمن أن يزول الحقّ عن سننه ويزورّ الحكم عن طريقه؛ قال الله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ

«6» .

وأمره بأن لا يردّ للقضاة حكما يمضونه، ولا سجلّا ينفّذونه، ولا يعقّب ذلك بفسخ، ولا يطرّق عليه النقض «7» ، بل يكون لهم موافقا مؤازرا، ولأحكامهم

ص: 254

عاضدا ناصرا، إذ كان الحقّ واحدا وإن اختلفت المذاهب إليه، فإذا وجد القصّة «1» قد سيقت، والحكومة قد وقعت، فليس هناك شكّ يوقف عنده، ولا ريب يحتاج إلى الكشف عنه؛ وإذا وجد الأمر مشتبها، والحقّ ملتبسا، والتغرّر مستعملا، والتغلّب مستجازا، نظر فيه نظر الناصر لحقّ المحقين، الداحض لباطل المبطلين، المقوّي لأيدي المستضعفين، الآخذ على أيدي المعتدين، قال الله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً

«2» .

وأمره أن يستظهر على معرفته بمشاورة القضاة والفقهاء، ومباحثة الرّبّانيّين والعلماء؛ فإن اشتبه عليه أمر استرشدهم، وإن عزب عنه صواب استدلّ عليه بهم، فإنهم أزمّة الأحكام، وإليهم مرجع الحكّام، وإذا اقتدى بهم في المشكلات، وعمل بأقوالهم في المعضلات، أمن من زلّة العاثر، وغلطة المستاثر؛ وكان خليقا بالأصالة في رأيه، والإصابة في أبحاثه، وقد أمر الله- تقدّست أسماؤه- بالمشاورة فعرّف الناس فضلها، وأسلكهم سبلها بقوله لرسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ

«3» .

وأمره أن يكتب لمن توجّب له حقّ من الحقوق إلى صاحب الكوفة بالشّدّ على يده والتمكّن له منه، وقبض الأيدي عن منازعته، وحسم الأطماع في معارضته، إذ هو مندوب لتنفيذ أحكامه، ومأمور بإمضاء قضاياه، ومتى أخذ أحد من الخصوم إلى مكاذبة «4» في حقّ قد حكم عليه به، أخذ على يده وكفّه عن

ص: 255

عدوانه، وردّه إلى حكم الله الذي لا يعدل عنه؛ قال الله عز وجل: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ

«1» .

هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجّته عليك؛ قد أرشدك وذكّرك.

وهداك وبصّرك؛ فكن إليه منتهيا، وبه مقتديا، واستعن بالله يعنك، واستكفه يكفك.

وكتب الناصح أبو الطاهر في تاريخ كذا.

ومنها- نقابة الطالبيّين: وهي المعبّر عنها الآن بنقابة الأشراف «2» .

وهذه نسخة عهد بنقابة الطالبيّين كتب به أبو إسحاق الصابي، عن الطائع لله إلى الشريف أبي الحسن محمّد بن الحسين العلويّ الموسويّ، مضافا إليها النظر في المساجد وعمارتها، واستخلافه لوالده الشريف أبي أحمد الحسين بن موسى على النظر في المظالم والحجّ بالناس، في سنة ثمانين وثلاثمائة، وهي:

هذا ما عهد عبد الله عبد الكريم، الإمام الطائع لله أمير المؤمنين، إلى محمّد بن الحسين بن موسى العلويّ، حين وصلته به الأنساب، وقرنت «3» لديه الأسباب، وظهرت دلائل عقله ولبابته «4» ، ووضحت مخايل فضله ونجابته، ومهّد له بهاء الدولة وضياء الملة أبو نصر بن عضد الدولة ما مهّد عند أمير المؤمنين من

ص: 256

المحلّ المكين، ووصفه به من الحلم الرّزين، وأشار به من رفع المنزلة، وتقديم الرّتبة، والتأهيل لولاية الأعمال، وتحمّل الأعباء والأثقال، وحيث رغّبه فيه، سابقة الحسين أبيه، في الخدمة والنصيحة، والمشايعة الصّحيحة، والمواقف المحمودة، والمقامات المشهودة، التي طابت بها أخباره، وحسنت فيها آثاره، وكان محمد متخلّقا بخلائقه، وذاهبا على طرائقه: علما وديانة، وورعا وصيانة، وعفّة وأمانة، وشهامة وصرامة، وتفرّدا بالحظ الجزيل: من الفضل الجميل والأدب الجزل «1» ، والتوجّه في الأهل، والإيفاء في المناقب على لداته وأترابه، والإبرار على قرنائه وأضرابه- فقلّده ما كان داخلا في أعمال أبيه من نقابة نقباء الطالبيّين بمدينة السلام وسائر الأعمال والأمصار، وشرقا وغربا، وبعدا وقربا، واختصّه بذلك جذبا بضبعه، وإنافة بقدره، وقضاء لحقّ رحمه، وترفيها لأبيه، وإسعافا له بإيثاره فيه، إلى ما أمر أمير المؤمنين باستخلافه عليه من النّظر في المظالم، وتسيير الحجيج في أوان المواسم؛ والله يعرّف أمير المؤمنين الخيرة فيما أمر ودبّر، وحسن العاقبة فيما قضى وأمضى، وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكّل وإليه ينيب.

أمره بتقوى الله التي هي شعار المؤمنين، وسيما الصالحين، وعصمة عباد الله أجمعين؛ وأن يعتقدها سرّا وجهرا، ويعتمدها قولا وفعلا، فيأخذ بها ويعطي، ويريش ويبري «2» ، ويأتي ويذر، ويورد ويصدر؛ فإنها السبب المتين، والمعقل الحصين، والزاد النافع يوم الحساب، والمسلك المفضي إلى دار الثّواب، وقد حضّ الله أولياءه عليها، وهداهم في محكم كتابه إليها؛ فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ

«3» . وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ

«4» .

ص: 257

وأمره بتلاوة كتاب الله سبحانه مواظبا، وتصفّحه مداوما ملازما، والرّجوع إلى أحكامه فيما أحلّ وحرّم، ونقض وأبرم، وأثاب وعاقب [وباعد وقارب]«1» ؛ فقد صحّح الله برهانه [وحجّته]«2» ، وأوضح منهاجه ومحجّته، وجعله فجرا في الظّلمات طالعا، ونورا في المشكلات ساطعا، فمن أخذ به نجا وسلم، ومن عدل عنه هلك وهوى [وندم] «3» . قال الله عز وجل: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ

«4» .

وأمره بتنزيه نفسه عما تدعو إليه الشّهوات، وتتطلّع إليه النّزوات، وأن يضبطها ضبط الحكيم، ويكفّها كفّ الحليم، ويجعل عقله سلطانا عليها، وتمييزه آمرا ناهيا لها؛ فلا يجعل لها عذرا إلى صبوة ولا هفوة، ولا يطلق منها عنانا عند ثورة ولا فورة، فإنّها أمّارة بالسّوء، منصبّة إلى الغيّ؛ فالحازم يتّهمها عند تحرّك وطره وأربه، واهتياج غيظه وغضبه، ولا يدع أن يغضّها بالشكيم «5» ، ويعركها عرك الأديم، ويقودها إلى مصالحها بالخزائم «6» ، ويعتقلها عن مقارفة المحارم والمآثم، كيما يعزّ بتذليلها وتأديبها، ويجلّ برياضتها وتقويمها، والمفرّط في أمره تطمح به إذا طمحت، ويجمح معها أنّى جمحت، ولا يلبث أن تورده حيث لا صدر، وتلجئه إلى أن يعتذر، وتقيمه مقام النادم الواجم، وتتنكّب به سبيل الراشد السالم؛ وأحقّ من تحلّى بالمحاسن، وتصدّى لاكتساب المحامد، من ضرب بمثل سهمه في نسب أمير المؤمنين الشريف، ومنصبه المنيف، واجتمع معه في ذؤابة العترة الطاهرة، واستظلّ بأوراق الدّوحة الفاخرة، فذاك الذي تتضاعف له المآثر إن آثرها، والمثالب إن أسفّ إليها، ولا سيّما من كان مندوبا لسياسة غيره،

ص: 258

ومرشّحا للتقليد على أهله، إذ ليس يفي بإصلاح من ولّي عليه، من لا يفي بإصلاح ما بين جنبيه، وكان من أعظم الهجنة أن يأمر ولا يأتمر، ويزجر ولا يزدجر، قال الله عز وجل: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ

«1» .

وأمره بتصفّح أحوال من ولّي عليهم واستقراء مذاهبهم، والبحث عن بواطنهم «2» ودخائلهم، وأن يعرف لمن تقدّمت قدمه منهم وتظاهر فضله فيهم منزلته، ويوفّيه حقّه ورتبته، وينتهي في إكرام جماعتهم إلى الحدود التي توجبها أنسابهم «3» وأقدارهم، وتقتضيها مواقفهم وأخطارهم: فإنّ ذلك يلزمه لشيئين «4» :

أحدهما يخصّه وهو النّسب الذي بينه وبينهم، والآخر يعمّه والمسلمين جميعا، وهو قول الله جلّ ثناؤه: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى

«5» فالمودّة لهم والإعظام لأكابرهم، والإشبال «6» على أصاغرهم؛ [واجب]«7» متضاعف الوجوب عليه، ومتأكّد اللزوم له؛ ومن كان منهم في دون تلك الطّبقة من أحداث لم يحتنكوا، أو جذعان «8» لم يقرحوا، مجرين إلى ما يزري بأنسابهم ويغضّ من أحسابهم، عذلهم ونبّههم، ونهاهم ووعظهم؛ فإن نزعوا وأقلعوا فذاك المراد بهم، والمقصود إليه فيهم، وإن أصرّوا وتتابعوا، أنالهم من العقوبة بقدر ما يكفّ ويردع؛ فإن نفع وإلا تجاوزه إلى ما يوجع ويلذع، من غير تطرّق لأعراضهم، ولا انتهاك لأحسابهم، فإنّ الغرض منه الصّيانة، لا الإهانة،

ص: 259

والإدالة، لا الإذالة، وإذا وجبت عليهم الحقوق، أو تعلّقت بهم دواعي الخصوم، قادهم إلى الإغفاء بما يصح منها ويجب، والخروج إلى سنن الحق فيما يشتبه ويلتبس؛ ومتى لزمتهم الحدود أقامها عليهم بحسب ما أمر الله به فيها، بعد أن تثبت الجرائم وتصح، وتبين وتتّضح، وتتجرّد عن الشكّ والشّبهة، وتتجلّى من الظنّ والتّهمة، فإن الذي يستحبّ في حدود الله أن تدرأ عن عباده مع نقصان اليقين والصّحّة، وأن تمضى عليهم مع قيام الدليل والبيّنة. قال الله عز وجل: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ

«1» .

وأمره بحياطة هذا النّسب الأطهر، والشّرف الأفخر، عن أن يدّعيه «2» الأدعياء، أو يدخل فيه الدّخلاء؛ ومن انتمى إليه كاذبا، وانتحله باطلا، ولم يوجد له بيت في الشّجرة «3» ، ولا مصداق عند النّسّابين المهرة، أوقع به من العقوبة ما يستحقّه، ووسمه بما يعلم به كذبه وفسقه، وشهره شهرة ينكشف بها غشّه ولبسه، وينزع بها غيره ممن تسوّل له مثل ذلك نفسه؛ وأن يحصن الفروج عن مناكحة من ليس لها كفؤا، ولا مشاركها في شرفها وفخرها، حتّى لا يطمع في المرأة الحسيبة النّسيبة إلا من كان مثلا لها مساويا، ونظيرا موازيا، فقد قال الله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً

«4» .

وأمره بمراعاة متبتّلي أهله ومتهجّديهم، وصلحائهم ومجاوريهم، وأراملهم وأصاغرهم، حتّى يسدّ الخلّة من أحوالهم، ويدرّ الموادّ عليهم، وتتعادل أقساطهم فيما يصل إليه من وجوه أموالهم، وأن يزوّج الأيامى ويربّي اليتامى، ويلزمهم المكاتب «5» ليتلقّنوا القرآن، ويعرفوا فرائض الإسلام والإيمان، ويتأدّبوا بالآداب،

ص: 260

اللائقة بذوي الأحساب: فإنّ شرف الأعراق، محتاج إلى شرف الأخلاق؛ ولا حمد لمن شرف نسبه، وسخف أدبه، إذ كان لم يكسب الفخر الحاصل له بفضل سعي ولا طلب، ولا اجتهاد ولا دأب، بل بصنع من الله عز وجل له، ومزيد في المنّة عليه، وبحسب ذلك لزوم ما يلزمه من شكره سبحانه على هذه العطيّة، والاعتداد بما فيها من المزيّة، وإعمال النّفس في حيازة الفضائل والمناقب، والترفّع عن الرّذائل والمثالب.

وأمره بإجمال النّيابة عن شيخه الحسين بن موسى فيما أمره أمير المؤمنين باستخلافه عليه من النظر في المظالم، والأخذ للمظلوم من الظالم، وأن يجلس للمترافعين إليه جلوسا عامّا، ويتأمّل ظلاماتهم تأمّلا تامّا؛ فما كان منها متعلّقا بالحاكم ردّه إليه، ليحمل الخصوم عليه، وما كان طريقه طريق الغشم والظّلم، والتغلّب والغصب، قبض عنه اليد المبطلة، وثبّت فيه اليد المستحقّة، وتحرّى في قضاياه أن تكون موافقة للعدل، ومجانبة للخذل، فإنّ غايتي الحاكم وصاحب المظالم واحدة: وهي إقامة الحق ونصرته، وإبانته وإنارته، وإنما يختلف سبيلاهما في النظر: إذ الحاكم يعمل على ما ثبت وظهر، وصاحب المظالم يفحص عمّا غمض واستتر، وليس له مع ذلك أن يردّ لحاكم حكومة، ولا يعلّ له قضيّة، ولا يتعقّب ما ينفذه ويمضيه، ولا يتتّبع ما يحكم به ويقضيه، والله يهديه ويسدّده، ويوفّقه ويرشده.

وأمره أن يسيّر حجيج بيت الله إلى مقصدهم، ويحميهم في بدأتهم وعودتهم، ويرتّبهم في مسيرهم ومسلكهم، ويرعاهم في ليلهم ونهارهم، حتّى لا تنالهم شدّة، ولا تصل إليهم مضرّة، وأن يريحهم في المنازل «1» ، ويوردهم المناهل، ويناوب بينهم في النّهل والعلل، ويمكّنهم من الارتواء والاكتفاء، مجتهدا في الصّيانة لهم، ومعذرا في الذّبّ عنهم، ومتلوّما على متأخّرهم

ص: 261

ومتخلّفهم، ومنهضا لضعيفهم ومهيضهم، فإنهم حجّاج بيت الله الحرام، وزوّار قبر الرسول عليه السلام، قد هجروا الأوطان، وفارقوا الأهل والإخوان، وتجشّموا المغارم الثّقال، وتعسّفوا السّهول والجبال، يلبّون دعاء الله عز اسمه، ويطيعون أمره ويؤدّون فرضه ويرجون ثوابه، وحقيق على المسلم المؤمن أن يحرسهم متبرّعا، ويحوطهم متطوّعا؛ فكيف من تولّى ذلك وضمنه، وتقلّده واعتنقه، قال الله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا

«1» .

وأمره أن يراعي أمور المساجد بمدينة السلام وأطرافها، وأقطارها وأكنافها، وأن يجبي أموال وقوفها، ويستقصي جميع حقوقها، وأن يلمّ شعثها، ويسدّ خللها، بما يتحصّل من هذه الوجوه قبله، حتى لا يتعطّل رسم جرى فيها، ولا تنقض عادة كانت لها، وأن يثبت اسم أمير المؤمنين على ما يعمره منها، ويذكر اسمه بعده بأنّ عمرانها جرى على يديه، وصلاحها أدّاه قول أمير المؤمنين إلى فعله، فقد فسّح له أمير المؤمنين بذلك تنويها باسمه، وإشادة بذكره؛ وأن يولّي ذلك من قبله من حسنت أمانته، وظهرت عفّته وصيانته، فقد قال الله تعالى: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ

«2» .

وأمره أن يستخلف على ما يرى الاستخلاف عليه من هذه الأعمال: في الأمصار الدانية، والبلاد القريبة والبعيدة، من يثق به من صلحاء الرجال، وذوي الوفاء والاستقلال، وأن يعهد اليهم مثل الذي عهد إليه، ويعتمد عليهم في مثل ما اعتمد عليه، ويستقري مع ذلك آثارهم، ويتعرّف أخبارهم، فمن وجده محمودا أقرّه ولم يزله، ومن وجده مذموما صرفه ولم يمهله، واعتاض منه من ترجى «3» الأمانة عنده، وتكون الثّقة معهودة منه؛ وأن يختار لكتابته وحجبته والتصرّف فيما قرب منه وبعد

ص: 262

عنه، من يزينه ولا يشينه، وينصح له ولا يغشّه، ويجمّله ولا يهجّنه، من الطبقة المعروفة بالظّلف «1» ، المتصوّنة عن النّطف «2» ؛ ويجعل لهم من الأرزاق الكافية، والأجرة الوافية، ما يصدّهم عن المكاسب الذميمة، والمآكل الوخيمة، فليس تجب عليهم الحجّة إلا مع إعطاء الحاجة، قال الله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى

«3» .

وأمره بأن يكتب لمن يقوم ببيّنته عنده وتنكشف حجته له، إلى أصحاب المعاون «4» بالشّدّ على يديه، وإيصال حقّه إليه، وحسم الطمع الكاذب فيه، وقبض اليد الظالمة عنه، إذ هم مندوبون للتصرّف بين أمره ونهيه، والوقوف عند رسمه وحدّه.

«5» وهذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجّته لك وعليك، وقد أنار فيه سبيلك وأوضح دليلك، وهداك وأرشدك وجعلك على بيّنة من أمرك، فاعمل به ولا تخالفه، وانته إليه ولا تتجاوزه، وإن عرض لك أمر يعجزك الوفاء به، ويشتبه عليك وجه الخروج منه، أنهيته إلى أمير المؤمنين مبادرا، وكنت إلى ما يأمرك «6» به صائرا، إن شاء الله تعالى. وكتب في مستهلّ شعبان «7» سنة ثمانين وثلاثمائة.

ومنها- ولاية الصلاة.

ص: 263

وهذه نسخة عهد كتب بها أبو إسحاق الصابي عن الطائع لله، لأبي الحارث محمد بن موسى العلويّ الموسوي، بتقليده الصلاة في جميع النواحي والأمصار والأطراف، وتوقّف عن إظهاره لرأي رآه في ذلك، وهي:

هذا ما عهد عبد الله إلى محمد بن موسى العلويّ، لمّا استكفاه النظر في نقابة الطالبيين فكفاه، وتحمّل ذلك العبء فأغناه، وفات النظراء في الاستقلال والوفاء، وبذّ الأمثال في الاضطلاع والغناء، جامعا إلى شرف الأحساب والأعراق، شرف الآداب والأخلاق، وإلى كرائم المفاخر والمناقب، مكارم الطّباع والضّرائب «1» ، على الحداثة من سنّه، والغضاضة من عوده، مستوليا من البراعة والنّجابة، والفراهة واللّبابة، على التي لا يبلغها الشّيب المفارق، فضلا عن البالغ المراهق، وغايات تنقطع دونها أنفاس المنافسين، وتتضرّم عليها أحشاء الحاسدين؛ لا سيّما وقد أطّت «2» بأمير المؤمنين إليه شواجن الأرحام، وعطفته على اصطناعه عواطف الآباء والأعمام، واقتضت آثاره المحمودة، وطرائقه الرّشيدة، أن يناوبه على رتبة لم يبلغها أحد من ولد أبيه، ولم يفترع ذوائبها رجل دونه، فقلّده الصلاة بمدينة السلام في خمسة جوامعها: فأوّلها الجامع الداخل في حريم أمير المؤمنين، وجامع الرّصافة، وجامع المنصور، وجامع براثى، وجامع الكفّ الذى تولّى أبوه إشادته وعمارته، وحسنت آثاره في إنشائه وإعلائه؛ وحيث سمت همته إليه، وبذل المجهود في إنفاق الأموال الدّثرة «3» عليه؛ واستنزل بذلك من الله أجزل إثابة المثابين، وأوفر أجر المأجورين، وجميع المنابر في شرق الأرض وغربها، وبعيد الأقطار وقريبها؛ وأمير المؤمنين يسأل الله حسن التسديد في ذلك وسائر مراميه، وجميع مطالبه ومغازيه، وجواري هممه التي يمضيها، وسرايا عزماته التي

ص: 264

ينويها، وأن يجعل النجاح قائدها وسائقها، والصلاح أوّلها وآخرها؛ وما توفيق أمير المؤمنين إلّا بالله عليه يتوكّل وإليه ينيب.

أمره بتقوى الله التي هي أحرز المعاقل، وأحصن الجنن عند النّوازل، وأعظم ملجإ يلجأ إليه، وآمن موئل يعوّل عليه، وأن يعتقدها في خلوته وحفلته، ويعتمدها في سرّه وعلانيته، ويجعلها سببا يتّبعه، ولباسا يدّرعه، فينازع بها من نازعه، ويوادع بها من وادعه: فإنها أوكد الأسباب، وأوصل القرب والأنساب، وأولى الناس بالتمسّك بحبلها، والاشتمال بظلّها، من كان بأجلّ المناسب تعلّقه، وبأشرف الخلائق تخلّقه؛ قال الله سبحانه: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً

«1» .

وأمره بتلاوة القرآن، والمواظبة عليه والإدمان، والائتمار بما فيه من الأوامر، والازدجار عما تضمّن من الزّواجر، وأن يجعله الإمام المتّبع فيقفوه، والطريق المهيع «2» فيقصده وينحوه: فإنه العلم المنجي من الغواية، والدليل القائد إلى الهداية، والنور الساطع للظلام إذا أشكل مشكل، والحاكم القاضي بالحقّ إذا أعضل معضل، قال الله: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ

«3» .

وأمره بتهذيب لبّه، من جوامح الوساوس، وتطهير قلبه، من مطامح الهواجس، وأن يتوقّى اللحظة العارمة «4» ، ويتجنّب اللفظة المؤلمة، عاصيا جواذب الخلاعة، ومطيعا أوامر النّزاهة، حتّى يستوي خافيه وعالنه، ويتّفق ظاهره وباطنه، فعال من جعله إمام المسلمين إماما، وقدّمته الرعية أماما، وكان إلى الله داعيا، وله عن عباده مناجيا، وبينهم وبين خالقهم وسيطا، وعلى ما قلّده من الصلاة بهم أمينا: لتصحّ شروط صلاته، ويقبل مرفوع دعواته؛ قال الله عز وجل:

ص: 265

وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ

«1» .

وأمره بالمحافظة على الصلوات، وانتهاز فرصها من الأوقات، والدخول فيها بالرّقّة والخشوع، والتوفّر بالإخبات «2» والخضوع؛ وحقيق على كل مستشعر شعار الإسلام، ومتجلبب جلباب الإيمان، أن يفعل ذلك مستوفيا شروطه ومستقصيا حدوده ورسومه، فكيف بمن أقامه أمير المؤمنين [مقامه]«3» في امتطاء غوارب «4» المنابر وذراها، ونصبه منصبه في أمّ الرعيّة أدناها وأقصاها. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً

«5» . وقال: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ

«6» .

وأمره بالسّعي في الجمع إلى المساجد الجامعة، وفي الأعياد إلى المصلّيات الضاحية، وأن يخصّ أحدها بصلاته فيه وقصده له، ويأمر خلفاءه على الصلاة بالافتراق في سائر الجوامع وباقي المنابر، بعد الأمر بجمع المؤذّنين والمكبّرين، وإحضار القوّام والمرتّبين، في أتمّ أهبة وأجمل هيئة، بقلوب مستشعرة للخشوع، متصدّية للدّموع، وألسن بالتسبيح والتقديس منطلقة، وآمال في حسن الجزاء وجزيل الثّواب منفسحة، حتّى تعبّر ألسنتهم إذا افترعوا الخطب وافتتحوا الكلم عن مكنون ضمائرهم، ومضمون سرائرهم، فتجيء المواعظ بالغة، والزواجر ناجعة؛ قال الله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ

«7» .

وأمره بمراعاة المساجد، وتعهّد الجوامع؛ وسدّ خللها، ولمّ شعثها، فإنها

ص: 266

مقاوم «1» عزّه وفخره، ومحاضر صيته وذكره، ومراكز أعلام الدّين الخافقة، ومطالع شموس الإسلام الشارقة، ومواقف الحق المشهودة، وقواعد الإيمان الموطودة، مما لا يتضعضع أحدها إلا تضعضع من أركان الإسلام له ركن، ولا التات «2» بعضها إلا التات من أعضاء الدّين عضو؛ قال الله عز وجل: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ

«3» .

وأمره في خطبته بكثرة التحفّظ، وعند افتتاحه واختتامه بطول التيقّظ، فإن العيون به منوطة، والأعناق إليه ممدودة، والمسامع فاغرة تتلقّف ما يقوله، والقلوب فارغة لحفظ ما يبديء وما يعيد؛ فقليل الزّلل، في ذلك الموقف كثير، وصغير الخطل، في ذلك المقام كبير؛ والله تعالى يسدّده إلى المحجّة «4» الوسطى، ويقف به على الطريقة المثلى، بمنّه.

وأمره بالسّكينة في انتصابه للصّلاة الجامعة، وتقدّمه لقضاء الفروض اللازمة، وأن يسكن [في كلّ]«5» حدّ من حدودها في الرّكوع والسّجود، والقيام والقعود، فإنه عليها محاسب، وبما يلحق من يأتمّ به في جميعها مطالب، وأن يفرّع قلبه لما يتلوه من البيان، ويرفع صوته بما يمرّ به من قوارع القرآن، مرتّلا لقراءته، ومسترسلا في تلاوته: ليشترك في سماعها الأقرب والأقصى، وينتفع بمواعظها الأبعد والأدنى، بعد إخلاص سرّه وانتزاعه، وتسويته في الطهور بين باديه وخافيه، وغائبه وحاضره، فليس بالطاهر عند الله تعالى من يصيب بالماء أطرافه، وأدرن بالخبائث شغافه؛ قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ

«6» . وقال:

ص: 267

إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً

«1» .

وأمره أن يقيم الدّعوة على منابر أعماله القاصية والدانية والغائبة والحاضرة لأمير المؤمنين، ثم للناهض عنه بالأعباء، والقائم دونه في البأساء والضّرّاء، الذي غذّي بلبان الطاعة، وانقاد بزمام المتابعة: بهاء الدولة، ولولاة الأعمال من بعده الذين يدعى لهم على المنابر، ما يكون منها على العادة الجارية فيها، فإنها دعوة تلزم إقامتها، وكلمة تجب إشادتها، إذ كانت متعلّقة بطاعة الله عز وجل، وقد أوجبها الله تبارك وتعالى على كافّة المسلمين وجميع المعاهدين، إذ يقول [وهو] أصدق القائلين: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ

«2» ؛ وعائدتها تعمّهم، وفائدتها تشملهم، إذ كان صلاح الرعيّة مقرونا بصلاح راعيها، وفساد الأمّة منوطا بفساد واليها.

وأمره باستخلاف من يرى استخلافه على الصّلاة في الأقطار والأطراف والنواحي والبلدان، وأن يختار من الرجال كلّ حسن البيان، مصقع «3» اللسان؛ بليل الرّيق إذا خطب، بليغ القول إذا وعظ.

هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجّته لك وعليك؛ قد أعذر فيه وأنذر، وهدى من الضّلالة وبصّر، وأعلقك زمام رشدك وغيّك، وقلّدك عنان هلكك وفوزك، وخيّرك في كلا الأمرين، ووقفك إزاء الطريقين؛ فإن سلكت أهدا هما لم تلبث أن تعود غانما، وإن ولجت أضلّهما فغير بعيد أن تؤوب نادما؛ واستعن بالله يعنك، واستزده من الكفاية يزدك، واستلبسه الهداية يلبسك، واستدلله على نجاح المطالب يدللك، إن شاء الله، والحمد لله وحده.

ومنها- نظر الأوقاف.

ص: 268

وهذه نسخة عهد من ذلك، كتب بها أبو إسحاق الصابي عن الطائع لله- للحسين بن موسى العلوي، وهي:

هذا ما عهد عبد الله عبد الكريم الإمام الطائع لله أمير المؤمنين، إلى الحسين بن موسى العلويّ، حين طابت منه العناصر، ووصلته بأمير المؤمنين الأواصر؛ جمع إلى شرف الأعراق الذي ورثه، شرف الخلق الذي اكتسبه؛ ووضحت آثار دينه وأمانته، وبانت أدلّة فضله وكفايته، في جميع ما أسنده أمير المؤمنين إليه من الأعمال، وحمّله إيّاه من الأثقال، فأضاف إلى ما كان ولّاه من [ذلك]«1» النّظر في الوقوف التي كانت يد فلان فيها بالحضرة وسوادها، ثقة بسداده، وسكونا إلى رشاده، وعلما بأنه يعرف حقّ الصّنيعة، ويرعى ما يستحفظه من الوديعة، ويجري في المنهل الذي أحمده أمير المؤمنين منه ووكل إليه. والله يمدّ أمير المؤمنين بصواب الرأي فيما نحاه وتوخّاه، ويؤمّنه في عاقبته النّدم فيما قضاه وأمضاه؛ وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكّل وإليه ينيب.

أمره بتقوى الله التي هي عماد الدين، وشعار المؤمنين، وأن يعتقدها في سرّه ونجواه، ويجعلها الذخيرة لأولاه وأخراه، ويتجنّب الموانع المونية «2» ، ويتوقّى الموارد المردية، ويغضّ طرفه عن المطامع «3» المغوية، ويذهب بنفسه عن المطارح المخزية؛ فإنه أحق من فعل ذاك وآثره، وأولى من اعتمده واستشعره، بنسبه الشريف، ومفخره المنيف، وعادته المشهورة، وشاكلته المأثورة، وتلاوة كتاب الله الذي هو وعترة رسول الله الثّقلان المخلّفان في الأمّة،

ص: 269

وقد جمعته، وآخرهما الأنساب وجمعته والثاني عصمة أولى الألباب «1» ، وتوجّهت حجّة الله [عليه]«2» بما يرجع من هذه الفضائل إليه، وأنّه غصن من دوحة أمير المؤمنين، التي تحدّاها الله بالإنذار قبل الخلائق أجمعين، إذ يقول لرسوله محمد صلّى الله عليه وعلى آله: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ

«3» . وقد حضّ تبارك وتعالى على التّقوى، ووعد عباده عليها الزّلفى، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ

«4» .

وأمره بالاشتمال على ما أسنده إليه أمير المؤمنين من هذه الوقوف مستنفدا طوقه في عمارتها، مستفرغا وسعه في مصلحتها، دائبا في استغلالها وتثميرها، مجتهدا في تدبيرها وتوفيرها، وأن يصرف فاضل كلّ وقف منها بعد الذي يخرج منه للنّفقة على حفظ أصله، واستدرار حلبه، والمؤونة الراتبة للقوّام عليه، والحفظة له، إلى أربابه الذي يعود ذلك عليهم في وجوهها التي سبّل لها، ووقف عليها، واضعا جميع ذلك مواضعه، موقعا له مواقعه، خارجا إلى الله من الحقّ فيه، مؤدّيا الأمانة إليه، وأن يشهد على القابضين بما يقبضونه من وقوفهم، ويكتب البراآت عليهم بما يستوفونه من أموالهم، ويستظهر لنفسه بإعداد الشّواهد والأدلّة على ما ينفقه من أموال هذه الوقوف على مصالحه، ويصرفه منها إلى أهلها، ويخرجه منها في حقوقها وأبواب برّها، وسائر سبلها ووجوهها، سالكا في ذلك مذهبه المعروف في أداء الأمانة، واستعمال الظّلف والنّزاهة، معقّبا على من كان ناظرا فيها من الخونة الذين لم يرعوا عهدا، ولم يتصوّنوا عن سحت «5» المطاعم، وظلم المآثم.

وأمره باستكتاب كاتب معروف بالسّداد، مشهور بالرّشاد، معلوم منه

ص: 270

نصيحة الأصحاب، والضّبط للحساب، وتفويض ديوان الوقوف وتدبيره إليه، وتوصيته بصيانة ما يشتمل عليه من أصول الأعمال وفروعها، وقليل الحجج وكثيرها، وأن يحتاط لأربابها في حفظ رسومها ومعاملاتها، وحراسة طسوقها «1» ومقاسماتها، حتّى لا يستمرّ عليها حيف يبقى أثره، ولا يتغيّر فيها رسم يخاف ضرره، وأن ينصف الأكرة «2» فيها والمزارعين، وسائر المخالطين والمعاملين، ولا يجشّمهم حيفا، ولا يسومهم خسفا، ولا يغضي لهم عن حق، ولا يسمح لهم بواجب، خلا ما عادت السّماحة به بزيادة عماراتهم، وتأليف نيّاتهم، واجتلاب الفائدة منهم والعائدة بهم؛ فإنه مؤتمن في ذلك كلّه أمانة، وعليه أن يؤدّيها ويخرج عن الحقّ فيها.

وأمره باختيار خازن حصيف، قؤوم أمين، يخزن حجج هذه الوقوف وسجلّاتها، وسائر دفاترها وحسباناتها؛ فإنّها ودائع أربابها عنده، وواجب أن يحتاط عليها جهده؛ فمتى شكّ في شرط من الشّروط، أو حدّ من الحدود، أو عارض معارض، أو شاغب مشاغب، في أيّام نظره وأيّام من عسى أن تنقل ولاية هذه الوقوف إليه، ويناط تدبيرها به، دفع ما يحدث من ذلك بهذه الحجج التي هي معارف «3» البرهان، وقواعد البنيان، وإليها المرجع في كلّ بينة تنصر «4» وتقام؛ وشبهة تدحض وتضام.

هذا عهد أمير المؤمنين إليك، ووثيقته الحاصلة في يديك؛ فاتّبع آثار أوامره، وازدجر عن نواهيه وزواجره، واستمسك به تنج وتسلم، واعمل عليه تفز

ص: 271