المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وليكن في معسكرك المكبّرون في الليل والنهار قبل المواقعة «1» - صبح الأعشى في صناعة الإنشا - ط العلمية - جـ ١٠

[القلقشندي]

فهرس الكتاب

- ‌[الجزء العاشر]

- ‌[تتمة الباب الثالث]

- ‌[تتمة النوع الثاني]

- ‌الوجه الخامس (فيما يكتب في ألقاب الملوك عن الخلفاء، وهو نمطان)

- ‌النمط الأوّل (ما كان يكتب في قديم الزمن)

- ‌النمط الثاني (ما يكتب به لملوك الزمان)

- ‌الوجه السادس (فيما يكتب في متن العهود، وفيه ثلاثة مذاهب)

- ‌المذهب الأوّل (وعليه عامّة الكتّاب من المتقدّمين وأكثر المتأخّرين)

- ‌الطريقة الأولى (طريقة المتقدّمين)

- ‌المذهب الثاني (أن يفتتح العهد بلفظ «من فلان» باسم الخليفة وكنيته ولقب الخلافة

- ‌المذهب الرابع

- ‌المذهب الخامس (أن يفتتح العهد ب «إنّ أولى ما كان كذا» ونحوه)

- ‌الوجه السابع (فيما يكتب في مستند عهد السلطان عن الخليفة، وما يكتبه الخليفة في بيت العلامة، وما يكتب في نسخة العهد من الشّهادة أو ما يقوم مقامها)

- ‌الوجه الثامن (في قطع الورق الذي تكتب فيه عهود الملوك عن الخلفاء، والقلم الذي يكتب به، وكيفيّة كتابتها، وصورة وضعها في الورق)

- ‌النوع الثالث (من العهود عهود الملوك لولاة العهد بالملك)

- ‌الوجه الأوّل (في بيان صحّة ذلك)

- ‌الوجه الثاني (فيما يكتب في الطرّة)

- ‌الوجه الثالث (في الألقاب التي تكتب في أثناء العهد)

- ‌الوجه الرابع (ما يكتب في المستند)

- ‌الوجه الخامس (ما يكتب في متن العهد)

- ‌الطريقة الأولى

- ‌الطريقة الثانية

- ‌الوجه السادس

- ‌الوجه السابع

- ‌النوع الرابع

- ‌الوجه الأوّل

- ‌الوجه الثاني

- ‌الضرب الأوّل

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الباب الرابع من المقالة الخامسة

- ‌الفصل الأوّل (فيما كان يكتب من ذلك عن الخلفاء، وفيه خمسة أطراف)

- ‌الطرف الأوّل (فيما كان يكتب عن الخلفاء الراشدين من الصحابة رضوان الله عليهم)

- ‌الطرف الثاني (فيما كان يكتب عن خلفاء بني أميّة)

- ‌الطرف الثالث

- ‌النوع الأوّل

- ‌النوع الثاني

- ‌الضرب الأوّل

- ‌الضرب الثاني

- ‌النوع الثالث (مما كان يكتب لأرباب الوظائف من ديوان الخلافة ببغداد ما كان يكتب لأرباب الوظائف ببغداد من أصحاب الأقلام)

- ‌الضرب الأوّل (العهود)

- ‌الضرب الثاني

- ‌النوع الرابع

- ‌الطرف الرابع

- ‌الطرف الخامس

- ‌النوع الأوّل

- ‌المذهب الأوّل (أن يفتتح ما يكتب في الولاية بالتّصدير)

- ‌المرتبة الأولى (أن يقال بعد التصدير المقدّم «أما بعد فالحمد لله» )

- ‌الضرب الأوّل (سجلّات أرباب السيوف

- ‌المرتبة الثانية

- ‌المرتبة الثالثة (من المذهب الأول من سجلات ولايات الفاطميين أن تفتتح بالتّصدير أيضا

- ‌المذهب الثالث من مذاهب كتّاب الدولة الفاطميّة

- ‌المذهب الرابع (مما كان يكتب لأرباب الولايات بالدّولة الفاطمية مرتبة الأصاغر من أرباب السّيوف والأقلام)

- ‌النوع الثاني (مما كان يكتب في الدولة الفاطمية بالديار المصرية ما كان يكتب عن الوزير)

- ‌المصادر والمراجع المستعملة في حواشي الجزء العاشر من كتاب «صبح الأعشى»

- ‌فهرس الجزء العاشر من صبح الأعشى

الفصل: وليكن في معسكرك المكبّرون في الليل والنهار قبل المواقعة «1»

وليكن في معسكرك المكبّرون في الليل والنهار قبل المواقعة «1» ، وقوم موقوفون يخصّونهم على القتال ويحرّضونهم على عدوّهم، ويصفون لهم منازل الشّهداء وثوابهم، ويذكّرونهم الجنة ودرجاتها ونعيم أهلها وسكّانها، ويقولون:

اذكروا الله يذكركم، واستنصروه ينصركم، والتجئوا إليه يمنعكم، وإن استطعت أن تكون أنت المباشر لتعبئة جندك ووضعهم مواضعهم من رأيك «2» ، ومعك رجال من ثقات فرسانك ذو وسنّ وتجربة ونجدة على التعبئة التي أمير المؤمنين واصفها لك في آخر كتابك «3» ، فافعل إن شاء الله تعالى.

أيّدك الله بالنصر، وغلب لك على القوّة، وأعانك على الرّشد، وعصمك من الزّيغ، وأوجب لمن استشهد معك ثواب الشّهداء ومنازل الأصفياء، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

وكتب سنة تسع وعشرين ومائة «4» .

‌الطرف الثالث

(فيما كان يكتب عن خلفاء بني العباس ببغداد إلى حين انقراض الخلافة العبّاسية من بغداد) وهو على أربعة أنواع:

‌النوع الأوّل

(ما كان يكتب لوزراء الخلافة) وكان رسمهم فيه أن يفتتح بلفظ «أما بعد فالحمد لله» ويؤتى فيه بثلاث تحميدات، ورما اقتصر على تحميدة واحدة. وعلى ذلك كانت تقاليد وزرائهم من

ص: 241

أرباب السّيوف والأقلام.

وهذه نسخة تقليد من ذلك كتب بها العلاء بن موصلايا «1» ، عن القائم بأمر الله «2» ، للوزير فخر الدولة بن جهير «3» ، في شهور سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة، وهو:

أما بعد، فالحمد لله ذي الآلاء الصافية الموارد، والنّعماء الصادقة الشّواهد، والطّول الجامع شمل أسباب المنح الشّوارد، ذي القدرة المصرّفة على حكمها مجاري القدر، والمشيئة الحالية بالنّفاذ في حالتي الورد والصّدر، المذلّ بجميل صنعه أعناق المصاعب، المديم «4» بكريم لطفه من امتداد ذوائب النّوائب، الذي جلّ عن إدراك صفاته بعدّ أو حدّ، ودلّ بباهر آياته على كونه الفرد الوليّ بكل شكر وحمد؛ سبحانه وتعالى عما يصفون.

والحمد لله الذي اختصّ محمدا صلى الله عليه وسلم بالرّسالة واجتباه، وحباه الكرامة بما أشرق له مطلع الجلال، واختاره وبعثه لإظهار كلمة الحقّ بعد أن مدّ الضّلال رواقه، فلم يزل بإعزاز الشّرع قائما، ولساعات زمانه في طلب رضا الله قاسما، لا ينحرف عن مقاصد الصواب ولا يميل، ولا يخلي مطايا جدّه في تقوية الدّين مما يتابع فيه الرّسيم والذّميل «5» ، إلى أن أزال عن القلوب صدأ الشّكوك وجلا، وأجلى مسعاه عن كلّ ما أودع نفوس أحلاف الباطل وجلا «6» ، ومضى وقد أضاء للإيمان

ص: 242

هلال أمن سراره، وانتضى لإبادة الشّرك حساما لا ينبو قطّ غراره، فصلّى الله عليه وعلى آله الطاهرين، وأصحابه المنتخبين، صلاة يتّصل الأصيل فيها بالغدوّ وترى قيمتها في الأجر وافية العلوّ والغلوّ.

والحمد لله الذي أصار إلى أمير المؤمنين من إرث النبوّة ما هو أحقّ به وأولى وأنار له من مطالع العزّ ما أسدى به كلّ نعمة وأولى، وأحلّه من شرف الإمامة بحيث عنت لطاعته أعناق الرّقاب الصّعاب، وأذعنت له القلوب بالانطواء على الولاء الفسيح الرحاب والشّعاب، وجعل أيّامه بالنّضارة آهلة المغاني، متقابلة أسماؤها في الحسن بالمعاني، فما يجري فيها إلا ما الصواب في فعله كامن، والحظّ بابتهاج سبله كائن، إبانة عن اقتران الرّشد بعزائمه في حالتي العقد والحلّ، واقتراب مرام كلّ ما يحلّ من الصّلاح في الدهر أفضل المحلّ.

ثم إنه يرى من إقرار الحقوق في نصابها، وإمرار حبال التوفيق في جانبها «1» من الأطماع الممتدّة إلى اغتصابها، ما يعرب عن الاهتداء إلى طرق الرّشد، والاقتداء بمن وجد ضالّة المراد حين نشد، ويقصد من تجديد العوارف، عند كلّ عالم بقدرها في الزمان عارف، ما يحلو جنى ثمره في كل أوان، ويحدو «2» انتشار خبره على إعانة كل فكر في وصفه عنوان، فيتناقل الرّواة ذكر ذلك غورا ونجدا، وتلقى الهمم العليّة ادّخار الجمال به أنفع من كلّ قنية وأجدى، استمرارا على شاكلة تحلّت بالكرم وحلّت من الجلال في القلل والقمم، وحلت آثارها في إيلاء نفيس المنح وجزيل القسم.

ولما غدا منصب الوزارة موقوفا على الّذين طالما جزّوا بهممهم نواصي الخطوب، وحازوا بذممهم المنال في مقاصد استشهدوا بها على إحراز كلّ فضيلة واستدلّوا، وكفّوا بكفايتهم أكفّ الفساد وردّوا، وحازوا الفعال في كلّ ما سعوا له

ص: 243

وجدّوا، وخلا الزمان ممّن ينهض بعبء هذا الأمر الجسيم، وتصبح أنباؤه فيه ذكيّة الأرج والنسيم- لم يبق غيرك ممن يستحقّ التخييم في عراصه، والتحكيم في اجتناء الفخر منه واستخلاصه، وكان القدر سبق بانفصالك عن الخدمة لا لضعف سريرة، ولا لقوّة جريرة، ولا لكدر سيرة؛ وكيف وأنت المتفرّد بالكمال، والمتجرّد في كل مقام سلم حدّ تقرّبك فيه من حادث الكلال، ولك في الدولة الحقوق التي أعتدت لك من وقع الاستزادة مجنّا، والمواقف التي اغتذت من درّة الإحماد بما أيّن «1» الظّئر لها وأنّا، والمقاصد التي أعدمت منك البدل، ولا انحرف لك منها مسعى عن مناهج الإصابة ولا عدل، وتمكّنت فيها من عنان التوفيق بما لا يجارى سيفك فيه قط، ولا يحسن له حال المسرى إليه المحطّ؛ والآثار التي أثارت من كوامن الرضا أفضل ما يذخر ويقتنى، وأنارت من دلائل الزّلفى ما ينتجز به وعد المنى ويقتضى؛ لكن كان ذلك مسطورا في الكتاب، وليتبيّن أنّه لا عوض عنك في الاستحقاق للأمر والاستيجاب، لم يوجد لهذه الرّتبة كفؤا سواك، ولا ينزّهها عن العطل غير رائق حلاك، فرأى أمير المؤمنين تسليم مقاليدها إليك إذ كنت أحقّ بها وأهلها، وممّن يجمع بعد الشّتات شملها، فطوّقك من قلائدها ما هو بأعطافك ألصق، وبتمام أوصافك أليق: لتدّرع من عزّ الوزارة جلبابا لا تخلق الأيام له جدّة، ولا تزال السّعود بما يؤول إلى دوام مدّته ممتدّة، وترتضع من لبان خلالها «2» ما يقضي لك بأن تقف نفسها عليك، وتقف آمال الأمثال دون ما انتهت الغاية فيه إليك، وتعتمد فيما عدقه «3» بك منها وناطه، ووفّاك فيه حقوق النظر واشتراطه، بحكم توحّدت في إحراز أدواتها التي لا يبلغ أحد لك منها مدى، ولم يمدّ طامع إلى مساجلتك فيها يدا- ما يرضي الله تعالى ويرضيه، ويخصّ ذكرك بالطيب

ص: 244

ويحيطه فتفوز فوزا كبيرا، وتعيد الساعي في إدراك شأوك ظالعا «1» حسيرا.

ثم إنه شفع هذه المنحة التي قمّصك مجاسد فخرها بالوجوب، وعوّضك فيها الدهر بحادث البشر عن سابق القطوب- بإيصالك إلى حضرته، وإدنائك من سدّته، ومناجاتك بما يتيح لك امتطاء غارب المجد وصهوته، والاحتواء على خالص السعد وصفوته، وحبائك من صنوف التشريفات التي تروق حلى خلالها، وتتوق الآمال إلى إدراكها ومنالها؛ وصفت الكرامات التي وفت المنى بها بعد مطالها، ونفت القذى عن مقل مغضوضة بسوء فعال الأيّام ومقالها، بما يوطيء عقبك الرجال، ويضيّق على من يحاول مجاراتك المسرح والمجال؛ ولم يقتنع بذلك في حقّ النّعمى التي أعداك فيها على الغير، وأغداك منها في ظلّ من الأمن البادي الأوضاح والغرر، حتّى ألحق بسماتك «تاج الوزراء» تنويها بذكرك في الزّمان، وتنبيها على اختصاصك لديه بوجاهة الرّتبة والمكان، فصار مكروه الأمور في محبوبها سببا، وخبت نار كلّ من سعى في تضليل النظام وجيفا وخببا «2» ، حتّى الآملون أن يجعلوا تخت الخلافة «3» زمنا «4» ، وتصبح رباعه بعد النّضارة دمنا، ليعقبهم ذاك نيل ما وصلت إليه الإمضاء لهذا العزم. وبالجملة فالسّآمة واقعة من تتابع هذه الشّكاوى، وقد كان الأحبّ أن لا يضمّن الكتب النافذة سوى تعهّد الأنباء، لا زال عرفها أرجا من سائر الأرجاء والنّواحي. لكن تأتي مجاري الأقدار، ودواعي الاضطرار، إلى «5» ما يرنّق ماء الإرادة والإيثار، والآن فقد بلغ الماء، وجلب من عدم الصّبر الحنّاء، ولم يبق غير هزّة دينيّة منك تكشف بها هذه المعرّة، وتتحف منها أمير المؤمنين بما يتمّ لديه أكمل المسرّة؛ فقم في ذلك مقام مثلك-

ص: 245

وإن كان لا نظير لك يوجد- تحظ بما يمضي لك فيه استحقاق كلّ الحمد ويوجب؛ إن شاء الله تعالى.

وهذه نسخة تقليد من ذلك، كتب بها عن المسترشد «1» - فيما أظن- لبعض وزرائه، وهي:

أما بعد، فالحمد لله المنفرد بكبريائه، المتفضّل على أوليائه، مجزل النّعماء، وكاشف الغمّاء، ومسبغ العطاء، ومسبل الغطاء، ومسني الحباء، ومسدي الآلاء، الذي لا تؤوده الأعباء، ولا تكيده الأعداء، ولا تبلغه الأوهام، ولا تحيط به الأفهام، ولا تدركه الأبصار، ولا تتخيّله الأفكار، ولا تهرمه الأعوام بتواليها، ولا تعجزه الخطوب إذا ادلهمّت لياليها، عالم هواجس الفكر، وخالق كل شيء بقدر، مصرّف الأقدار على مشيئته ومجريها، ومانح مواهبه من أضحى بيد الشّكر يمتريها، حمدا يصوب حياه «2» ، ويعذب جناه، وتتهلّل أسرّة الإخلاص من مطاويه، ويستدعي المزيد من آلائه ويقتضيه.

والحمد لله الذي استخلص محمدا صلى الله عليه وسلم من زكيّ الأصلاب، وانتخبه من أشرف الأنساب، وبعثه إلى الخليقة رسولا، وجعله إلى منهج النجاة دليلا، [وقد بوّأ الشرك بوار الذّلّ وقضاه]«3» وشهر عضب «4» العزّ وانتضاه؛ والأمم عن طاعة الرحمن عازفة، وعلى عبادة الأوثان عاكفة، فلم يزل بأمر ربّه صادعا، وعن التمسّك بعرا الضّلال الواهية وازعا، وإلى ركوب محجّة الهدى داعيا، وعلى قدم

ص: 246

الاجتهاد في إبادة الغواية ساعيا، حتّى أصبح وجه «1» الحق منيرا مشرقا، وعوده بعد الذّبول أخضر مورقا، ومضى الباطل مولّيا أدباره، ومستصحبا تتبيره وبواره، وقضى صلى الله عليه وسلم بعد أن مهّد من الإيمان قواعده، وأحكم آساسه ووطائده، وأوضح سبل الفوز لمن اقتفاها، ولحب طريقها بعد ما دثرت صواها «2» ، فصلى الله عليه وعلى آله الطاهرين وصحبه الأكرمين، صلاة متّصلا سحّ غمامها، مسفرا صبح دوامها.

والحمد لله على أن حاز لأمير المؤمنين من إرث النّبوّة «3» ما هو أجدر بحيازة مجده «4» ، وأولى بفيض عدّه «5» ، ووطّأ له من الخلافة المعظّمة مهادا أحفزته نحوه حوافز ارتياحه، وجذبته إليه أزمّة راعه والتياحه «6» ، إلى أن أدرك من ذلك مناه، وألقى الاستقرار الذي لا يريم عصاه، وعضّد دولته بالتأييد من سائر أنحائه ومراميه، وأعراضه ومغازيه، حتّى فاقت الدّول المتقادمة إشراقا، وأعطتها الحوادث من التغيّر عهدا وفيّا وميثاقا، وأضحت أيامه- أدامها الله- حالية بالعدل أجيادها، جالية «7» في ميادين النّضارة جيادها، وراح الظّلم دارسة أطلاله، مقلّصا سرباله، قد أنجم سحابه، وزمّت للرّحلة ركابه، فما يستمرّ منها أمر إلا كان صنع الله سبحانه مؤيّده، والتوفيق مصاحبه أنّى يمّم ومسدّده، وهو يستوزعه- جلّت عظمته- شكر هذه النّعمة، ويستزيده بالتحدّث بها من آلائه الجمّة، ويستمدّ منه المعونة في كلّ أرب قصده وأمّه، وشحذ لانتحائه عزمه، وما توفيقه إلّا بالله عليه يتوكّل وإليه ينيب.

ص: 247

ولمّا كانت الوزارة قطب الأمور الذي عليه مدارها، وإليه إيرادها وعنه إصدارها، وخلا منصبها من كاف «1» يكون له أهلا، وينظم من شماله «2» شملا، أجال أمير المؤمنين فيمن يختار [لذ]«3» لك فكره، وأنعم لأهل الاصطفاء لهذه المنزلة [نظره]«4» حتّى صرّح محض رأيه عن زبدة اختيارك، وهداه صائب تدبيره إلى اقتراحك وإيثارك، وألقى إليك بالمقاليد، وعوّل في دولته القاهرة على تدبيرك السّديد، وناط بك من أمر الوزارة ما لم يلف له سواك مستحقّا، ولا لنسيم استيجابه مسترقّا «5» ، علما بما تبديه كفايتك المشهورة، وإيالتك المخبورة، من تقويم ما أعجز مياده، وإصلاح ما استشرى فساده، واستقامة كلّ حال وهي عمادها، وأصلت «6» على كثرة الافتداح زنادها، وتثبّتا لما تبسم عنه الأيام من آثار نظرك المعربة عن احتوائك على دلائل الجزالة، واستيلائك على مخايل الأصالة، اللذين تنال بهما غايات المعالي، وتفرع الذّرى والأعالي.

ثم إنّ أمير المؤمنين بمقتضى هذه الدّعاوى اللازمة، وحرمات جدّك وأبيك السالفة المتقادمة التي استحصدت في الدار العزيزة قوى أمراسها، وأدنت منك الآن ثمرة غراسها، رأى أن يشيّد هذه العارفة التي تأرّج لديك نسيمها، وبدت على أعناق فخرك رسومها، وجادت رباعك شآبيبها، وضفت عليك جلابيبها، بما يزيد أزرك اشتدادا، وباع أملك طولا وامتدادا، فأدناك من شريف حضرته مناجيا، ومنحك من مزايا الأيّام ما يكسبك ذكرا في الأعقاب ساريا، وعلى الأحقاب باقيا، وأفاض عليك من الملابس الفاخرة ما حزت به أوصاف الجمال، وجمع لك أباديد

ص: 248

الآمال، [وقلّدك من الفخر ما يدوم على مرّ الزمان ويبقى]«1» وأمطاك صهوة سابح يساوي «2» الرّياح سبقا، ووسمك بكذا وكذا في ضمن التأهيل للتكنية، إبانة عن جميل معتقده فيك، ورعاية لوسائلك المحكمة المرائر وأواخيك.

وأمرك بتقوى الله التي هي أحصن المعاقل، وأعذب المناهل، وأنفع الذّخائر، يوم تبلى السّرائر؛ وأن تستشعرها فيما تبديه وتخفيه، وتذره وتأتيه: فإنها أفضل الأعمال وأوجبها، وأوضح المسالك إلى الفوز برضا الله وألحبها، وأجلب الأشياء للسعادة الباقية، وأجناها لقطوف الجنان «3» الدانية؛ عالما بما في ذلك من نفع تتكامل أقسامه، وتتفتّح عن نور الصّلاح الجامع أكمامه، قال الله جلّت آلاؤه، وتقدّست أسماؤه: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ

«4» وقال تعالى حاضّا على تقواه، ومخبرا عما خصّ به متّقيه وحباه، وكفى بذلك داعيا إليها، وباعثا عليها: فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ*

«5» .

وأمرك أن تتوخّى المقاصد السليمة وتأتيها، وتتوخّم «6» الموارد الوخيمة وتجتويها، وأن تتبع «7» بالحزم أفعالك، وتجعل كتاب الله تعالى إمامك الذي تهتدي به ومثالك، وأن تكفّ من نفسك عند جماحها وإبائها، وتصدّها عن متابعة أهوائها، وتثني عند احتدام سورة الغضب عنانها، وتشعرها من حميد الخلائق ما يوافق إسرارها فيه إعلانها: فإنها لم تزل إلى منزلة السّوء المردية داعية، وعن سلوك مناهج الخير المنجية ناهية، قال الله تعالى: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما

ص: 249

رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ

«1» .

وأمرك أن تتخيّر «2» للخدمة بين يديك من بلوت أخباره، واستشففت أسراره، فعلمته جامعا أدوات الكفاية، موسوما بالأمانة والدّراية، قد عركته رحا التّجارب عرك الثّفال «3» وحلب الدّهر أشطره على تصاريف الأحوال: ليكون أمر ما يولّاه «4» على منهج الاستقامة جاريا، وعن ملابس الخلل والارتياب عاريا، فلا يضع في مزلقة قدما، ولا يأتي ما يقرع سنّه لأجله ندما، وأن تمنح رعايا أمير المؤمنين من بشرك ما يعقل شوارد الأهواء، ويلوي إليك بأعناق نوافرها اللائي اعتصمن بالجماح والإباء؛ مازجا ذلك بشدّة تستولي حميّا رهبتها على القلوب، وتفلّ مرهفات بأسها صرف الخطوب، من غير إفراط في استدامة ذلك يضيق نظامها به «5» ، ويغريها اتّصاله باستشعار وعر الخطأ واستيطاء مركبه.

وأمرك أن تعذب مورد الإحسان لمن أحمدت بلاءه، وتحقّقت غناءه، واستحسنت أثره، وارتضيت عيانه وخبره، وتسدل أسمال الهوان على من بلوت فعله ذميما، وألفيته بعراص الإساءة مقيما، وإلى رباعها الموحشة مستأنسا مستديما، كيلا لكلّ امريء بصاعه، واتّباعا لما أمر الله باتّباعه، وتجنّبا للإهمال الجاعل المحسن والمسيء سواء، والمعيدهما في موقف الجزاء أكفاء، فإنّ في ذلك تزهيدا لذوي الحسنى في الإحسان، وتتابعا لأهل الإساءة في العدوان، ولولا ما فرضه الله على أمير المؤمنين من إيجاب الحجّة، والفكاك من ربقة الاجتهاد ببلاغ المعذرة، لثنى عنان الإطالة مقتصرا، واكتفى ببعض القول مختصرا، ثقة

ص: 250