المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الطريقة الأولى (طريقة المتقدمين) - صبح الأعشى في صناعة الإنشا - ط العلمية - جـ ١٠

[القلقشندي]

فهرس الكتاب

- ‌[الجزء العاشر]

- ‌[تتمة الباب الثالث]

- ‌[تتمة النوع الثاني]

- ‌الوجه الخامس (فيما يكتب في ألقاب الملوك عن الخلفاء، وهو نمطان)

- ‌النمط الأوّل (ما كان يكتب في قديم الزمن)

- ‌النمط الثاني (ما يكتب به لملوك الزمان)

- ‌الوجه السادس (فيما يكتب في متن العهود، وفيه ثلاثة مذاهب)

- ‌المذهب الأوّل (وعليه عامّة الكتّاب من المتقدّمين وأكثر المتأخّرين)

- ‌الطريقة الأولى (طريقة المتقدّمين)

- ‌المذهب الثاني (أن يفتتح العهد بلفظ «من فلان» باسم الخليفة وكنيته ولقب الخلافة

- ‌المذهب الرابع

- ‌المذهب الخامس (أن يفتتح العهد ب «إنّ أولى ما كان كذا» ونحوه)

- ‌الوجه السابع (فيما يكتب في مستند عهد السلطان عن الخليفة، وما يكتبه الخليفة في بيت العلامة، وما يكتب في نسخة العهد من الشّهادة أو ما يقوم مقامها)

- ‌الوجه الثامن (في قطع الورق الذي تكتب فيه عهود الملوك عن الخلفاء، والقلم الذي يكتب به، وكيفيّة كتابتها، وصورة وضعها في الورق)

- ‌النوع الثالث (من العهود عهود الملوك لولاة العهد بالملك)

- ‌الوجه الأوّل (في بيان صحّة ذلك)

- ‌الوجه الثاني (فيما يكتب في الطرّة)

- ‌الوجه الثالث (في الألقاب التي تكتب في أثناء العهد)

- ‌الوجه الرابع (ما يكتب في المستند)

- ‌الوجه الخامس (ما يكتب في متن العهد)

- ‌الطريقة الأولى

- ‌الطريقة الثانية

- ‌الوجه السادس

- ‌الوجه السابع

- ‌النوع الرابع

- ‌الوجه الأوّل

- ‌الوجه الثاني

- ‌الضرب الأوّل

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الباب الرابع من المقالة الخامسة

- ‌الفصل الأوّل (فيما كان يكتب من ذلك عن الخلفاء، وفيه خمسة أطراف)

- ‌الطرف الأوّل (فيما كان يكتب عن الخلفاء الراشدين من الصحابة رضوان الله عليهم)

- ‌الطرف الثاني (فيما كان يكتب عن خلفاء بني أميّة)

- ‌الطرف الثالث

- ‌النوع الأوّل

- ‌النوع الثاني

- ‌الضرب الأوّل

- ‌الضرب الثاني

- ‌النوع الثالث (مما كان يكتب لأرباب الوظائف من ديوان الخلافة ببغداد ما كان يكتب لأرباب الوظائف ببغداد من أصحاب الأقلام)

- ‌الضرب الأوّل (العهود)

- ‌الضرب الثاني

- ‌النوع الرابع

- ‌الطرف الرابع

- ‌الطرف الخامس

- ‌النوع الأوّل

- ‌المذهب الأوّل (أن يفتتح ما يكتب في الولاية بالتّصدير)

- ‌المرتبة الأولى (أن يقال بعد التصدير المقدّم «أما بعد فالحمد لله» )

- ‌الضرب الأوّل (سجلّات أرباب السيوف

- ‌المرتبة الثانية

- ‌المرتبة الثالثة (من المذهب الأول من سجلات ولايات الفاطميين أن تفتتح بالتّصدير أيضا

- ‌المذهب الثالث من مذاهب كتّاب الدولة الفاطميّة

- ‌المذهب الرابع (مما كان يكتب لأرباب الولايات بالدّولة الفاطمية مرتبة الأصاغر من أرباب السّيوف والأقلام)

- ‌النوع الثاني (مما كان يكتب في الدولة الفاطمية بالديار المصرية ما كان يكتب عن الوزير)

- ‌المصادر والمراجع المستعملة في حواشي الجزء العاشر من كتاب «صبح الأعشى»

- ‌فهرس الجزء العاشر من صبح الأعشى

الفصل: ‌الطريقة الأولى (طريقة المتقدمين)

وللكتّاب فيه طريقتان:

‌الطريقة الأولى (طريقة المتقدّمين)

وهي أن لا يأتي بتحميد في أثناء العهد في خطبة ولا غيرها، ولا يتعرّض إلى ذكر أوصاف المعهود إليه والثناء عليه أصلا، أو يتعرّض إلى ذلك باختصار ثم يقول:«فقلّده كذا وكذا» ويذكر ما فوّض إليه، ثم يقول:«وأمره بكذا» حتّى يأتي على آخر الوصايا، ثم يقول في آخره:«هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحّجته لك وعليك» ويأتي بما يناسب ذلك، ويختمه بقوله:«والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته» أو «والسلام عليك» أو بغير ذلك من الألفاظ المناسبة على اختلاف طرقهم في ذلك، وتباين مقاصدهم. وعلى هذا النّهج وما قاربه كانت عهود السلف فمن بعدهم، تأسّيا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم فيما كتب به لعمرو بن حزم «1» حين وجّهه إلى اليمن «2» ، كما تقدّمت الأشارة إليه في الاستشهاد لأصل عهود الملوك عن الخلفاء.

وهذه نسخته بعد البسملة فيما ذكره ابن هشام وغيره:

هذا بيان من الله ورسوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ

«3» عهد «4» من [محمد]«5» النبيّ رسول الله لعمرو بن حزم [حين بعثه إلى اليمن]«6» أمره بتقوى الله في أمره كلّه، فإنّ الله مع الّذين اتّقوا والّذين هم محسنون. وأمره أن يأخذ بالحقّ كما أمره «7» الله، وأن يبشّر الناس بالخير ويأمرهم

ص: 7

به، ويعلّم النّاس القرءان ويفقّههم فيه «1» ، وينهى النّاس فلا يمسّ القرءان «2» إنسان إلّا وهو طاهر، ويخبر الناس بالّذي لهم والّذي عليهم، ويلين للنّاس في الحقّ ويشتدّ عليهم في الظّلم، فإنّ الله كره الظّلم ونهى عنه فقال: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ

«3» ويبشّر الناس بالجنّة وبعملها، وينذر الناس النار وعملها «4» ، ويستألف «5» الناس حتّى يفقهوا «6» في الدّين، ويعلّم الناس معالم الحجّ وسنّته وفريضته وما أمر الله به، والحجّ الأكبر الحجّ الأكبر، والحجّ الأصغر هو العمرة «7» ؛ وينهى الناس أن يصلّي أحد في ثوب واحد صغير إلا أن يكون ثوبا «8» يثني طرفيه على عاتقيه، وينهى [الناس]«9» ان يحتبى أحد في ثوب واحد يفضي بفرجه إلى السّماء، وينهى أن لا يعقص أحد شعر رأسه في قفاه، «10» وينهى إذا كان بين الناس هيج عن الدّعاء إلى القبائل والعشائر، وليكن دعواهم إلى الله [عز وجل] «11» وحده لا شريك له [فمن لم يدع إلى الله ودعا إلى القبائل والعشائر فليقطعوا بالسيف حتّى تكون دعواهم إلى الله وحده لا شريك له] «12» ويأمر الناس بإسباغ الوضوء: وجوههم، وأيديهم إلى المرافق، وأرجلهم إلى الكعبين، ويمسحون برؤوسهم «13» كما أمرهم الله، وأمر «14» بالصلاة لوقتها، وإتمام الرّكوع

ص: 8

[والسّجود]«1» والخشوع؛ ويغلّس بالصّبح «2» ، ويهجّر بالظّهر «3» حين تميل الشمس، وصلاة العصر والشّمس في الأرض مدبرة، والمغرب حين يقبل الليل، لا تؤخّر حتّى تبدو النّجوم في السماء، والعشاء أوّل اللّيل. وأمر «4» بالسّعي إلى الجمعة إذا نودي لها، والغسل عند الرّواح إليها. وأمره أن يأخذ من المغانم خمس الله، وما كتب على المؤمنين في الصّدقة من العقار «5» عشر ما سقت العين وسقت السّماء، وعلى ما سقى الغرب «6» نصف العشر. وفي كلّ عشر من الإبل شاتان، وفي كلّ عشرين أربع شياه. وفي كلّ أربعين من البقر بقرة، وفي كلّ ثلاثين من البقر تبيع جذع «7» أو جذعة، وفي كلّ أربعين من الغنم سائمة وحدها شاة؛ فإنّها فريضة الله تعالى التي افترض على المؤمنين في الصّدقة، فمن زاد خيرا فهو خير له. وأنّه من أسلم من يهوديّ أو نصرانيّ إسلاما خالصا من نفسه ودان بدين الإسلام، فإنّه من المؤمنين: له مثل مالهم وعليه مثل ما عليهم، ومن كان على نصرانيّته أو يهوديّته، فإنّه لا يردّ «8» عنها وعلى كلّ حالم: ذكر أو أنثى، حرّ أو عبد دينار واف، أو عوضه ثيابا؛ فمن أدّى ذلك فإنّ له ذمّة الله وذمّة رسوله، ومن منع ذلك فإنّه عدوّ لله ولرسوله وللمؤمنين جميعا.

صلوات الله على محمّد والسّلام عليه ورحمة الله وبركاته.

وعلى نحو ذلك كتب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه عهد

ص: 9

مالك بن الأشتر النخعيّ «1» حين ولّاه مصر، وهو من العهود البليغة جمع فيه بين معالم التّقوى وسياسة الملك.

وهذه نسخته فيما ذكره ابن حمدون «2» في تذكرته:

هذا «3» ما أمر [به عبد الله]«4» عليّ أمير المؤمنين مالك بن الحرث الأشتر؛ في عهده إليه، حين ولّاه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوّها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها. أمره بتقوى الله وإيثار طاعته، واتّباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسننه «5» التي لا يسعد أحد إلا باتّباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها؛ وأن ينصر الله تعالى بيده وقلبه ولسانه، فإنّه جلّ اسمه قد تكفّل بنصر من نصره، وإعزاز من أعزّه. وأمره أن يكسر من نفسه عند الشّهوات، ويزعها عند الجمحات؛ فإنّ النفس لأمّارة بالسّوء إلّا ما رحم الله.

ثم اعلم يا مالك أنّي قد وجّهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك: من عدل وجور، وأنّ الناس ينظرون «6» من أمورك [في مثل]«7» ما كنت تنظر فيه من أمر الولاة قبلك، ويقولون فيك كما كنت تقول فيهم. وإنما يستدلّ على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده، فليكن أحبّ الذّخائر إليك ذخيرة العمل الصالح. فاملك هواك، وشحّ بنفسك عمّا لا يحلّ لك؛ فإنّ الشّحّ بالنفس الانتصاف منها فيما أحبّت وكرهت. وأشعر قلبك بالرحمة للرّعيّة، والمحبّة لهم،

ص: 10

واللّطف بهم؛ ولا تكوننّ عليهم سبعا ضاريا، تغتنم أكلهم؛ فإنهم صنفان: إمّا أخ لك في الدّين، وإمّا نظير لك في الخلق: يفرط منهم الزّلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطإ: فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحبّ أن يعطيك الله من عفوه وصفحه: فإنّك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك؛ والله فوق من ولّاك. وقد استكفاك أمرهم، وابتلاك بهم؛ ولا تنصبنّ نفسك لحرب الله، فإنه لا يدي «1» لك بنقمته؛ ولا غنى بك عن عفوه ورحمته؛ ولا تندمنّ على عفو، ولا تبجّحن بعقوبة، ولا تسرعنّ إلى بادرة «2» وجدت عنها مندوحة؛ ولا تقولنّ إنيّ امرؤ «3» آمر فأطاع: فإن ذلك إدغال في القلب، ومهلكة في الدّين، وتقرّب من الغير «4» . وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبّهة أو مخيلة، فانظر إلى عظم ملك الله تعالى فوقك، وقدرته منك على مالا تقدر عليه من نفسك؛ فإنّ ذلك يطامن إليك من طماحك ويكفّ عنك من غربك «5» ، ويفيء إليك بما عزب عنك من عقلك. وإيّاك ومساماة الله تعالى في عظمته، والتشبّه به في جبروته، فإن الله يذلّ كلّ جبّار، ويهين كلّ مختال.

أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصّة أهلك وممّن لك فيه هوى من رعيّتك: فإنّك إلّا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله، أدحض حجّته وكان لله حربا حتّى ينزع ويتوب. وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم [فإنّ الله سميع يسمع دعوة المظلومين وهو للظالمين بالمرصاد]«6» .

ص: 11

وليكن أحبّ الأمور إليك أوسطها في الحقّ، وأعمّها «1» في العدل، وأجمعها لرضا الرّعيّة؛ فإنّ سخط العامّة يجحف برضا الخاصّة، وإنّ سخط الخاصّة يغتفر مع رضا العامّة؛ وليس أحد من الرعيّة أثقل على الوالي مؤونة في الرّخاء، وأقلّ معونة له في البلاء، وأكره للإنصاف «2» ، وأسأل بالإلحاف، وأقلّ شكرا عند الإعطاء، وأبطأ عذرا عند المنع، وأضعف صبرا عند ملمّات الدّهر، من أهل الخاصّة؛ وإنما عمود الدّين، وجماع المسلمين، والعدّة للأعداء العامّة من الأمّة. فليكن صغوك لهم، وميلك معهم؛ وليكن أبعد رعيّتك منك، وأشنؤهم عندك، أطلبهم لمعايب الناس: فإنّ في الناس عيوبا الوالي أحقّ بسترها؛ فلا تكشفنّ عمّا غاب عنك منها، فإنّما عليك تطهير ما ظهر [لك]«3» والله يحكم على ما غاب عنك منها «4» . فاستر العورة ما استطعت يستر الله ما تحبّ ستره من عيبك «5» .

أطلق عن الناس عقدة كلّ حقد، واقطع عنهم سبب كلّ وتر، وتغاب عن كلّ ما لا يضح لك؛ ولا تعجلنّ إلى تصديق ساع: فإنّ الساعي غاشّ وإن تشبّه بالناصحين؛ ولا تدخلنّ في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر، ولا جبانا يضعفك عن الأمور، ولا حريصا يزيّن لك الشّره بالجور: فإنّ البخل والجبن والحرص غرائز شتّى يجمعها سوء الظنّ بالله.

إنّ شرّ وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا ومن شاركهم في الآثام، فلا يكوننّ لك بطانة، فإنهم أعوان الأثمة، وإخوان الظّلمة؛ وأنت واجد منهم خير الخلف ممّن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل اصارهم وأوزارهم «6» : ممّن لم يعاون ظالما على ظلمه، ولا آثما على إثمه؛ أولئك أخفّ عليك مؤونة، وأحسن

ص: 12

لك معونة؛ وأحنى عليك عطفا، وأقلّ لغيرك إلفا، فاتّخذ أولئك خاصّة لخلواتك [وحفلاتك]«1» ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم [لك]«2» بمرّ الحقّ، وأقلّهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه، واقعا ذلك من هواك حيث وقع. والصق بأهل الورع والصّدق، ثم رضهم على أن لا يطروك «3» ولا يبجّحوك بباطل لم تفعله:

فإنّ كثرة الإطراء «4» تحدث الزّهوّ وتدني من الغرّة. ولا يكوننّ المحسن والمسيء عندك بمنزلة واحدة، فإنّ في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان [في الإحسان] «5» وتدريبا لأهل الإساءة [على الإساءة] «6» :

وإنّك لا تدري إذا جاء سائل

أأنت بما تعطيه أم هو أسعد!

عسى سائل ذو حاجة إن منعته

من اليوم سؤلا أن يكون له غد!

وفي كثرة الأيدي عن الجهل زاجر،

وللحلم أبقى للرّجال وأعود!

وعلى ذلك كتب أبو إسحاق الصابي عن «7» الخليفة «الطائع لله» إلى فخر الدولة بن ركن الدولة بن بويه، في جمادى الأولى سنة ستّ وستين وثلاثمائة.

وهذه نسخته:

هذا ما عهد عبد الله عبد الكريم [الإمام]«8» الطائع لله أمير المؤمنين [إلى فخر الدّولة أبي الحسن بن ركن الدّولة أبي عليّ مولى أمير المؤمنين]«9» حين عرف غناءه وبلاءه، واستصح دينه ويقينه، ورعى قديمه وحديثه، واستنجب عوده ونجاره. وأثنى عزّ الدولة أبو منصور بن معزّ الدولة أبي الحسين مولى أمير المؤمنين

ص: 13

[أيده الله]«1» عليه، وأشار بالمزيد في الصّنيعة إليه؛ وأعلم أمير المؤمنين اقتداءه به في كلّ مذهب ذهب فيه من الخدمة، وغرض رمى إليه من النّصيحة؛ دخولا في زمرة الأولياء [المنصورة، وخروجا عن جماعة الأعداء المدحورة]«2» وتصرّفا على موجبات البيعة التي هي بعزّ الدولة أبي منصور منوطة، وعلى سائر من يتلوه ويتبعه مأخوذة «3» مشروطة؛ فقلّده الصلاة وأعمال الحرب، والمعاون «4» ، والأحداث، والخراج، الأعشار، والضيّاع، والجهبذة «5» ، والصّدقات، والجوالي «6» ، وسائر وجوه الجبايات [والعرض]«7» والعطاء، والنّفقة في الأولياء [والمظالم وأسواق الرقيق]«8» والعيار في دور الضرب والطّرز «9» والحسبة بكور همذان، وأستراباذ، والدّينور، وقرميسين، والإيغارين، و [أعمال]«10» أذربيجان، وأرّان، والسّحانين، وموقان. واثقا منه باستبقاء النعمة واستدامتها، والاستزادة بالشّكر منها، والتجنّب لغمطها وجحودها، والتنكّب لإيحاشها وتنفيرها، والتعمّد لما مكّن له الحظوة والزّلفى، وحرس عليه الأثرة والقربى؛ بما يظهره ويضمره من الوفاء الصحيح، والولاء الصّريح، والغيب الأمين، والصّدر السليم، والمقاطعة لكل من قاطع العصبة، وفارق الجملة، والمواصلة لكلّ من حمى البيضة وأخلص النّيّة- والكون تحت ظلّ أمير المؤمنين وذمّته، ومع عزّ الدولة «11» أبي منصور وفي حوزته، والله جلّ اسمه يعرّف أمير المؤمنين حسن العقبى فيما أبرم ونقض، وسداد الرأي فيما

ص: 14

رفع وخفض؛ ويجعل عزائمه مقرونة بالسلامة، محجوبة عن موارد النّدامة؛ وحسب أمير المؤمنين الله ونعم الوكيل.

أمره بتقوى الله التي هي العصمة المتينة، والجنّة الحصينة، والطّود الأرفع، والمعاذ الأمنع، والجانب الأعزّ، والملجأ الأحرز؛ وأن يستشعرها سرّا وجهرا، ويستعملها قولا وفعلا، ويتخذها ردءا دافعا «1» لنوائب القدر، وكهفا حاميا من حوادث الغير؛ فإنها أوجب الوسائل، وأقرب الذّرائع، وأعودها على العبد بمصالحه، وأدعاها إلى سبل «2» مناجحه، وأولاها بالاستمرار على هدايته، والنّجاة من غوايته؛ والسلامة في دنياه حين توبق موبقاتها، وتردي مردياتها؛ وفي آخرته حين تروّع رائعاتها وتخيف مخيفاتها. وأن يتأدّب بآداب الله في التواضع والإخبات «3» ، والسّكينة والوقار، وصدق اللهجة إذا نطق، وغضّ الطّرف إذا رمق؛ وكظم الغيظ إذا أحفظ «4» وضبط اللسان إذا أغضب «5» ؛ وكفّ اليد عن المآثم، وصون النفس عن المحارم. وأن يذكر الموت الذي هو نازل به، والموقف الذي هو صائر إليه، ويعلم أنه مسؤول عمّا اكتسب، مجزيّ بما ترّمك «6» واحتقب؛ ويتزوّد من هذا الممرّ، لذاك المقرّ، ويستكثر من أعمال الخير لتنفعه، ومن مساعي البرّ لتنقذه؛ ويأتمر بالصالحات قبل أن يأمر بها، ويزدجر عن السيّئات قبل أن يزجر عنها؛ ويبتديء بإصلاح نفسه قبل إصلاح رعيّته: فلا يبعثهم على ما يأتي ضدّه؛ ولا ينهاهم عمّا يقترف مثله، ويجعل ربّه رقيبا عليه في خلواته، ومروءته مانعة له من شهواته؛ فإنّ أحقّ من غلب سلطان الشّهوة، وأولى من صرع أعداء «7»

ص: 15

الحميّة؛ من ملك أزمّة الأمور، واقتدر على سياسة الجمهور؛ وكان مطاعا فيما يرى، متّبعا فيما يشاء، يلي على الناس ولا يلون عليه، ويقتصّ منهم ولا يقتصّون منه؛ فإذا اطّلع الله منه على نقاء جيبه، وطهارة ذيله، وصحّة سريرته، واستقامة سيرته، أعانه على حفظ ما استحفظه، وأنهضه بثقل ما حمّله؛ وجعل له مخلصا من الشّبهة ومخرجا من الحيرة، فقد قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ

«1» . وقال عز من قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ

«2» . وقال: اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ

«3» إلى آي كثيرة حضّنا بها على أكرم الخلق، وأسلم الطّرق، فالسعيد من نصبها إزاء ناظره، والشقيّ من نبذها وراء ظهره؛ وأشقى منه من بعث عليها وهو صادف عنها، وأهاب إليها وهو بعيد منها، وله ولأمثاله يقول الله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ

«4» .

وأمره أن يتخذ كتاب الله إماما متّبعا، وطريقا موقّعا «5» ؛ ويكثر من تلاوته إذا خلا بفكره، ويملأ بتأمّله أرجاء صدره؛ فيذهب معه فيما أباح وحظر، ويقتدي به إذا نهى وأمر، ويستبين ببيانه إذا استغلقت دونه المعضلات، ويستضيء بمصابيحه إذا غمّ عليه في المشكلات؛ فإنه عروة الإسلام الوثقى، ومحجّته الوسطى، ودليله المقنع، وبرهانه المرشد «6» ، والكاشف لظلم الخطوب، والشافي من مرض القلوب، والهادي لمن ضلّ، والمتلافي لمن زلّ؛ فمن لهج «7» به فقد فاز وسلم، ومن لهي عنه فقد خاب وندم، قال الله تعالى: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ

ص: 16

مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ

«1» .

وأمره أن يحافظ على الصلوات، ويدخل فيها في حقائق الأوقات؛ قائما على حدودها، متّبعا لرسومها؛ جامعا فيما بين نيّته ولفظه، متوقّيا لمطامح سهوه ولحظه؛ منقطعها إليها عن كلّ قاطع لها، مشغولا بها عن كلّ شاغل عنها؛ متثّبتا في ركوعها وسجودها؛ مستوفيا عدد مفروضها ومسنونها؛ موفّرا عليها ذهنه، صارفا إليها همّه؛ عالما بأنه واقف بين يدي خالقه ورازقه، ومحييه ومميته، ومثيبه ومعاقبه؛ لا تستتر «2» دونه خائنة الأعين وما تخفي الصّدور «3» . فإذا قضاها على هذه السبيل منذ تكبيرة الإحرام إلى خاتمة التسليم، أتبعها بدعاء يرتفع بارتفاعها، [ويستمع باستماعها]«4» ، ولا يتعدّى فيه مسائل الأبرار، ورغائب الأخيار: من استصفاح واستغفار، واستقالة واسترحام، واستدعاء لمصالح «5» الدّين والدنيا، وعوائد الآخرة والأولى؛ فقد قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً

«6» ، وقال تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ

«7» .

وأمره بالسّعي في أيّام الجمع إلى المساجد الجامعة، وفي الأعياد إلى المصلّيات الضّاحية، بعد التقدّم في فرشها وكسوتها؛ وجمع القوّام والمؤذّنين والمكبّرين فيها، واستسعاء الناس إليها، وحضّهم عليها؛ آخذين الأهبة،

ص: 17

متنظّفين في البزّة؛ مؤدّين لفرائض الطّهارة، بالغين في ذلك أقصى الاستطاعة «1» ؛ معتقدين خشية الله وخيفته، مدّرعين تقواه ومراقبته؛ مكثرين من دعائه- عز وجل وسؤاله، مصلّين على محمد رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله؛ بقلوب على اليقين موقوفة، وهمم إلى الدّين مصروفة، وألسن بالتسبيح والتقديس فصيحة، وآمال في المغفرة والرحمة فسيحة، فإنّ هذه المصلّيات والمتعبّدات بيوت الله التي فضّلها، ومناسكه التي شرّفها؛ وفيها يتلى القرآن [ومنها ترتفع الأعمال؛ وبها يلوذ اللائذون]«2» ويعوذ العائذون؛ ويتعبّد المتعبّدون، ويتهجّد المتهجّدون، وحقيق على المسلمين أجمعين: من وال ومولّى عليه أن يصونوها ويعمروها، ويواصلوها ولا يهجروها. وأن يقيم الدعوة على منابرها لأمير المؤمنين ثم لنفسه على الرّسم الجاري فيها، قال الله تعالى في هذه الصلاة:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ

«3» . وقال في عمارة المساجد: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ

«4» .

وأمره بأن يراعي «5» أحوال من يليه، من طبقات جند أمير المؤمنين ومواليه؛ ويطلق لهم الأرزاق، في وقت الوجوب والاستحقاق؛ وأن يحسن في معاملتهم؛ ويجمل في استخدامهم، ويتصرّف في سياستهم: بين رفق من غير ضعف، وخشونة من غير عنف؛ مثيبا لمحسنهم ما زاد بالإبانة في حسن الأثر، وسلم معها من دواعي الأشر؛ ومتغمّدا «6» لمسيئهم ما كان التغمّد له نافعا، وفيه ناجعا، فإن

ص: 18

تكررت زلّاته، وتتابعت عثراته؛ تناوله من عقوبته بما يكون له مصلحا، ولغيره واعظا. وأن يختص أكابرهم وأماثلهم وأهل الرأي والخطر منهم بالمشاورة في الملمّ «1» ، والإطلاع على بعض المهمّ؛ مستخلصا نخائل «2» قلوبهم بالبسط والإدناء، ومستشحذا بصائرهم بالإكرام والأحتفاء: فإنّ في مشاورة هذه الطبقة استدلالا على مواقع الصواب، وتحرّزا من غلط الاستبداد، وأخذا بمجامع الحزامة، وأمنا من مفارقة الاستقامة؛ وقد حضّ الله تعالى على الشّورى حيث قال لرسوله عليه الصلاة والسلام: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ

«3» .

وأمره بأن يعمد «4» لما يتصل بنواحيه من ثغور المسلمين، ورباطات المرابطين، ويقسم لها قسما وافرا من عنايته، ويصرف إليها طرفا بل شطرا من رعايته؛ ويختار لها أهل الجلد والشّدّة، وذوي البأس والنّجدة: ممن عجمته الخطوب، وعركته الحروب؛ واكتسب دربة بخدع المتناوبين «5» ، وتجربة بمكايد المتقارعين؛ وأن يستظهر بتكثيف عددهم، واختيار عددهم؛ وانتخاب خيلهم، وإستجادة أسلحتهم؛ غير مجمّر «6» بعثا إذا بعثه، ولا مستكرهه إذا وجّهه؛ بل يناوب بين رجاله مناوبة تريحهم ولا تملّهم؛ وترفّههم ولا تؤودهم: فإنّ في ذلك من فائدة الإجمام؛ والعدل في الاستخدام؛ وتنافس رجال النّوب فيما عاد عليهم بعز الظّفر والنّصر، وبعد الصيّت والذّكر، وإحراز النفع والأجر؛ ما يحقّ على الولاة أن يكونوا به عاملين «7» ، وللناس عليه حاملين. وأن يكرّر على أسماعهم، ويثبّت

ص: 19

في قلوبهم؛ مواعيد الله لمن صابر ورابط، وسمح بالنفس وجاهد، من حيث لا يقدمون على تورّط غرّة، ولا يحجمون عن انتهاز فرصة؛ ولا ينكصون عن تورّد معركة، ولا يلقون بأيديهم إلى التّهلكة؛ فقد أخذ الله تعالى ذلك على خلقه، والمرامين عن دينه، وأن يزيح العلّة فيما يحتاج إليه من راتب نفقات هذه الثّغور وحادثها، وبناء حصونها ومعاقلها؛ واستطراق طرقها ومسالكها، وإفاضة الأقوات والعلوفات للمترتّبين فيها والمتردّدين إليها والحامين لها. وأن يبذل أمانه لمن طلبه، ويعرضه على من لم يطلبه. ويفي بالعهد إذا عاهد، وبالعقد إذا عاقد، غير مخفر ذمّة، ولا جارح أمانة، فقد أمر الله تعالى بالوفاء فقال جلّ من قائل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ

«1» ونهى عن النّكث فقال عزّ من قائل: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ

«2» .

وأمره أن يعرض من في حبوس عمله على جرائرهم «3» [وإنعام النظر في جناياتهم وجرائمهم]«4» فمن كان إقراره واجبا أقرّه ومن كان إطلاقه سائغا أطلقه.

وأن ينظر في الشّرطة والأحداث نظر عدل وإنصاف؛ ويختار [لها من الولاة]«5» من يخاف الله تعالى ويتّقيه، ولا يحابي ولا يراقب «6» فيه، ويتقدّم إليهم بقمع الجهّال، وردع الضّلّال؛ وتتبّع الأشرار، وطلب الدّعّار؛ مستدلّين على أماكنهم؛ متوغّلين إلى مكامنهم؛ متولّجين عليهم في مظانّهم؛ متوثّقين ممن يجدونه منهم، منفذين أحكام الله تعالى فيهم بحسب الذي يتبيّن من أمرهم، ويتّضح من فعلهم؛ في كبيرة ارتكبوها، وعظيمة احتقبوها؛ ومهجة أفاظوها «7» واستهلكوها، وحرمة أباحوها وانتهكوها: فمن استحقّ حدّا من حدود الله المعلومة أقاموه عليه غير مخفّفين منه،

ص: 20

وأحلّوه به غير مقصّرين عنه، بعد أن لا يكون عليهم في الذي يأتون به حجّة، ولا يعترضهم في وجوبه شبهة: فإنّ الواجب «1» في الحدود أن تقام بالبيّنات، وأن تدرأ بالشّبهات؛ فأولى ما توخّاه رعاة الرّعايا فيها أن لا يقدموا عليها مع نقصان، ولا يتوقّفوا عنها مع قيام دليل وبرهان. ومن وجب عليه القتل احتاط عليه بما يحتاط به على مثله: من الحبس الحصين، والتوثّق الشديد؛ وكتب إلى أمير المؤمنين بخبره، وشرح جنايته، وثبوتها بإقرار يكون منه، أو بشهادة تقع عليه، ولينتظر من جوابه ما يكون عمله بحسبه، فإنّ أمير المؤمنين لا يطلق سفك دم مسلم أو معاهد إلا ما أحاط به علما، وأتقنه فهما، وكان ما يمضيه فيه عن بصيرة لا يخالطها شكّ، ولا يشوبها ريب. ومن ألمّ بصغيرة من الصغائر، ويسيرة من الجرائر، من حيث لم يعرف له مثلها، ولم تتقدّم منه أختها، وعظه وزجره، ونهاه وحذّره؛ واستتابه وأقاله، ما لم يكن عليه خصم في ذلك يطالب بقصاص منه، وجزاء له؛ فإن عاد تناوله [من] التقويم والتهذيب، والتّعزير «2» والتأديب؛ بما يرى أن قد كفى فيما اجترم، ووفى بما قدّم؛ فقد قال تعالى: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ

«3» وأمره أن يعطّل ما في أعماله من الحانات والمواخير، ويطهّرها من القبائح والمناكير؛ ويمنع من تجمّع أهل الخنا فيها وتألّف شملهم بها: فإنه شمل يصلحه التّشتيت، وجمع يحفظه التفريق؛ وما زالت هذه المواطن الذّميمة والمطارح الدّنيئة، داعية لمن يأوي إليها، ويعكف عليها؛ إلى ترك الصلوات؛ [وإهمال المفترضات]«4» وركوب المنكرات، واقتراف المحظورات؛ وهي بيوت الشيطان التي في عمارتها لله تعالى مغضبة، وفي إخرابها للخير مجلبة؛ والله تعالى يقول لنا

ص: 21

معشر المؤمنين: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ

«1» ويقول عزّ من قائل لغيرنا من المذمومين: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا

«2» .

وأمره أن يولّي الحماية في هذه الأعمال، أهل الكفاية والغناء من الرجال؛ وأن يضمّ إليهم كلّ من خفّ ركابه، وأسرع عند الصّريخ جوابه، مرتّبا لهم في المسالح «3» ، وسادّا بهم ثغر المسالك؛ وأن يوصيهم بالتيقّظ؛ ويأخذهم بالتحفّظ، ويزيح عللهم في علوفة خيلهم؛ والمقرّر من أزوادهم وميرهم؛ حتى لا تثقل لهم على البلاد وطأة، ولا تدعوهم إلى تحيّفهم وثلمهم حاجة؛ وأن يحوطوا السابلة بادئة وعائدة، ويتداركوا «4» القوافل صادرة وواردة؛ ويحرسوا الطّرق ليلا ونهارا، وينفضوها «5» رواحا وإبكارا؛ وينصبوا لأهل العيث الأرصاد، ويتكمّنوا لهم بكلّ واد؛ ويتفرّقوا عليهم حيث يكون التفرّق مضيّقا لفضائهم؛ ومؤدّيا إلى انفضاضهم؛ ويجتمعوا حيث يكون الاجتماع مطفئا لجمرتهم، وصادعا لمروتهم؛ وأن لا يخلوا هذه السّبل من حماة لها وسيّارة فيها: يتردّدون في جواديها «6» ، ويتعسّفون في عواديها «7» ، حتى تكون الدماء محقونة، والأموال مصونة، والفتن محسومة والغارات مأمونة؛ ومن حصل في أيديهم من لصّ خاتل، وصعلوك خارب؛ ومخيف لسبيل، ومنتهك لحريم؛ امتثل فيه أمر أمير المؤمنين الموافق لقول الله عز وجل: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي

ص: 22

الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ

«1» .

وأمره بوضع الرّصد على ما يجتاز في أعماله من أبّاق العبيد، والاحتياط عليهم وعلى ما «2» يكون معهم، والبحث عن الأماكن التي فارقوها، والطّرق التي استطرقوها؛ ومواليهم الذين أبقوا منهم، ونشزوا عنهم؛ وأن يردّوهم عليهم قهرا، ويعيدوهم إليهم صغرا؛ وأن ينشدوا الضالّة بما أمكن أن تنشد، ويحفظوها على ربّها بما جاز أن تحفظ، ويتجنّبوا الامتطاء لظهورها والانتفاع بأوبارها وألبانها مما يجزّ ويحلب؛ وأن يعرّفوا اللّقطة ويتّبعوا أثرها، ويشيعوا خبرها. فإذا حضر صاحبها وعلم أنه مستوجبها سلّمت إليه، ولم يعترض فيها عليه؛ فإنّ الله عز وجل يقول: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها

«3» . ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«ضالّة المؤمن حرق النّار» .

وأمره أن يوصي عمّاله بالشدّ على أيدي الحكّام، وتنفيذ ما يصدر عنهم من الأحكام؛ وأن يحضروا مجالسهم حضور الموقّرين لها، الذابّين عنها، المقيمين لرسوم الهيبة وحدود الطاعة فيها؛ ومن خرج عن ذلك من ذي عقل سخيف، وحلم ضعيف، نالوه بما يردعه، وأحلّوا به ما يزعه؛ ومتى تقاعس متقاعس عن حضور مع خصم يستدعيه، وأمر يوجّه الحاكم إليه فيه؛ أو التوى ملتو بحقّ يحصل عليه، ودين يستقرّ في ذمّته، قادوه إلى ذلك بأزمّة الصّغار، وخزائم الاضطرار؛ وأن يحبسوا ويطلقوا بأقوالهم، ويثبتوا الأيدي في الأملاك والفروج وينزعوها بقضاياهم؛ فإنّهم أمناء الله في فصل ما يفصلون وبتّ ما يبتّون، وعن كتابه وسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم يوردون [ويصدرون] «4» وقد قال تعالى: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي

ص: 23

الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ

«1» . وأن يتوخّى بمثل هذه المعاملة «2» عمّال الخراج في استيفاء حقوق ما استعملوا عليه، واستنطاف «3» بقاياهم «4» فيه، والرّياضة لمن تسوء طاعته من معامليهم، وإحضارهم طائعين أو كارهين بين أيديهم؛ فمن آداب الله تعالى للعبد التي يحقّ عليه أن يتخذها [أدبا]«5» ويجعلها إلى الرضا عنه سببا، قوله تعالى: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ

«6» .

وأمره أن يجلس للرعيّة جلوسا عامّا، وينظر في مطالبها «7» نظرا تامّا؛ ويساوي في الحق بين خاصّها وعامّها، ويوازي في المجالس بين عزيزها وذليلها؛ وينصف المظلوم من ظالمه، والمغصوب من غاصبه، بعد الفحص والتأمّل والبحث والتّبين، حتّى لا يحكم إلّا بعدل، ولا ينطق إلّا بفصل؛ ولا يثبّت يدا إلّا فيما وجب [تثبيتها فيه، ولا يقبضها إلا عمّا وجب]«8» قبضها عنه؛ وأن يسهّل الإذن لجماعتهم، ويرفع الحجاب بينه وبينهم؛ ويوليهم من حصانة الكنف، ولين المنعطف، والاشتمال والعناية، والصّون والرّعاية، ما تتعادل فيه أقسامهم، وتتوازن «9» منه أقساطهم؛ ولا يصل المكين «10» منهم إلى استضامة من تأخّر عنه، ولا ذو السلطان إلى هضيمة من حلّ دونه. وأن يدعوهم إلى أحسن العادات [والخلائق]«11» ويحضّهم على أجمل «12» المذاهب والطرائق؛ ويحمل عنهم

ص: 24

كلّه، ويمدّ عليهم ظلّه؛ ولا يسومهم خسفا «1» ، ولا يلحق بهم حيفا؛ ولا يكلّفهم شططا، ولا يجشّمهم مضلعا؛ ولا يثلم لهم معيشة، ولا يداخلهم في جريمة «2» ؛ ولا يأخذ بريئا منهم بسقيم، ولا حاضرا بعديم؛ فإنّ الله جل وعز نهى أن تزر وازرة وزر أخرى، وجعل كلّ نفس رهينة بمكسبها بريئة من مكاسب غيرها. ويرفع عن هذه الرعيّة ما عسى أن يكون سنّ عليها من سنّة ظالمة، وسلك بها من محجّة جائرة، ويستقري آثار الولاة قبله عليها، فيما ازجوه من خير أو شرّ إليها: فيقرّ من ذلك ما طاب وحسن، ويزيل ما خبث وقبح: فإنّ من يغرس الخير يحظى بمعسول ثمره، ومن يزرع الشّرّ يصلى بممرور ريعه؛ والله تعالى يقول: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ

«3» .

وأمره أن يصون أموال الخراج وأثمان الغلّات، ووجوه الجبايات، موفّرا ويزيد ذلك مثمّرا، بما يستعمله من الإنصاف لأهلها، وإجرائهم على صحيح الرّسوم فيها: فإنه مال الله الذي به قوّة عباده، وحماية بلاده، ودرور حلبه، واتصال مدده؛ وبه يحاط الحريم، ويدفع العظيم؛ ويحمى الذّمار، وتذاد الأشرار. وأن يجعل افتتاحه إيّاه بحسب [إدراك]«4» أصنافه، وعند حضور مواقيته وأحيانه؛ غير مستسلف شيئا قبلها، ولا مؤخّر لها عنها؛ وأن يخصّ أهل الطاعة والسلامة بالتّرفيه لهم، وأهل الاستصعاب والامتناع بالتشدّد «5» عليهم: لئلا يقع إرهاق لمذعن، أو إهمال لطامع. وعلى المتولّي لذلك أن يضع كلّا من الأمرين موضعه، ويوقعه موقعه؛ متجنّبا إحلال الغلظة بمن لا يستحقّها، وإعطاء الفسحة لمن ليس من

ص: 25

أهلها؛ والله تعالى يقول: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى

«1» .

وأمره بأن يتخيّر عمّاله على الأعشار، والخراج، والضيّاع، والجهبذة، والصّدقات، والجوالي، من أهل الظّلف «2» والنّزاهة، والضّبط والصيّانة، والجزالة والشّهامة؛ وأن يستظهر مع ذلك عليهم بوصيّة يوعيها أسماعهم «3» ، وعهود يقلّدها أعناقهم «4» ؛ بأن لا يضيّعوا «5» حقّا، ولا يأكلوا «6» سحتا؛ ولا يستعملوا «7» ظلما، ولا يقارفوا غشما. وأن يقيموا العمارات، ويحتاطوا [على الغلّات]«8» ويتحرّزوا من ترك حقّ لازم أو تعطيل رسم عادل؛ مؤدّين في جميع ذلك الأمانة، مجتنبين للخيانة. وأن يأخذوا جهابذتهم باستيفاء وزن المال على تمامه، واستجادة نقده على عياره؛ واستعمال الصّحّة في قبض ما يقبضون، وإطلاق ما يطلقون. وأن يوعزوا إلى سعاة الصّدقات بأخذ الفرائض من سائمة مواشي المسلمين دون عاملتها، وكذلك الواجب فيها؛ وأن لا يجمعوا فيها متفرّقا ولا يفرّقوا مجتمعا، ولا يدخلوا فيها خارجا عنها، ولا يضيفوا إليها ما ليس منها: من فحل إبل أو أكولة «9» راع، أو عقيلة مال؛ فإذا اجتبوها على حقّها، واستوفوها على رسمها، أخرجوها في سبيلها، وقسّموها على أهلها الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه، إلّا المؤلّفة قلوبهم الذين «10» سقط سهمهم، فإنّ الله تعالى يقول: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ

ص: 26

اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

«1» . وإلى جباة [جماجم]«2» أهل الذّمّة أن يأخذوا منهم الجزية في المحرّم من كل سنة [بحسب]«3» منازلهم في الأحوال، وذات أيديهم في الأموال؛ وعلى الطّبقات المطبقة فيها والحدود [المحدودة]«4» المعهودة لها؛ وأن لا يأخذوها من النساء، ولا ممن لم يبلغ الحلم من الرجال؛ ولا من ذي سنّ عالية، ولا ذي علّة بادية؛ ولا فقير معدم، ولا مترهّب متبتّل؛ وأن يراعي جماعة هؤلاء العمّال مراعاة يسرّها ويظهرها، ويلاحظهم ملاحظة يخفيها ويبديها: لئلّا يزولوا عن الحقّ الواجب، أو يعدلوا عن السّنن اللّاحب «5» ؛ فقد قال تعالى: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا

«6» .

وأمره أن يندب لعرض الرجال وإعطائهم، وحفظ جراياتهم وأوقات إطعامهم، من يعرفه بالثّقة في متصرّفه، والأمانة فيما يجري على يده، والبعد عن الإسفاف إلى الدّنيّة، والاتّباع للدناءة؛ وأن يبعثه على ضبط [حلى]«7» الرجال وشيات الخيل، وتجديد العرض بعد الاستحقاق، وإيقاع الاحتياط في الإنفاق؛ فمن صحّ عرضه ولم يبق في نفسه شيء منه: من شكّ يعرض له، أو ريبة يتوهّمها، أطلق أموالهم موفورة، وجعلها في أيديهم غير مثلومة؛ وأن يردّ على بيت المال أرزاق من سقط بالوفاة والإخلال، ناسبا ذلك إلى جهته، وموردا له على حقيقته. وأن يطالب الرجال بإحضار الخيل المختارة، والآلات «8» المستكملة المستعملة على ما توجبه مبالغ أرزاقهم «9» ، وحسب منازلهم ومراتبهم؛ فإن أخّر «10» أحدهم شيئا من ذلك قاصّه به من رزقه، وأغرمه مثل قيمته، فإنّ المقصّر فيه خائن

ص: 27

لأمير المؤمنين، ومخالف لرب العالمين؛ إذ يقول الله سبحانه: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ

«1» .

وأمره أن يعتمد في أسواق الرقيق ودور الضرّب والحسبة والطّرز، على من تجتمع فيه آلات هذه الولايات: من ثقة ودراية «2» ، وعلم وكفاية، ومعرفة ودراية؛ وتجربة وحنكة، وحصافة ومسكة؛ فإنها أحوال تضارع الحكم وتناسبه، وتدانيه وتقاربه. وأن يتقدّم إلى ولاة أسواق الرقيق بالتحفّظ فيمن يطلقون بيعه، ويمضون أمره؛ والتحرّز من وقوع تجوّز «3» فيه، وإهمال له؛ إذ كان ذلك عائدا بتحصين الفروج، وتطهير الأنساب. وأن يبعدوا «4» عنه أهل الرّيبة، ويقرّبوا «5» أهل العفّة؛ ولا يمضوا بيعا على شبهة، ولا عقدا على تهمة. وإلى ولاة العيار، بتخليص عين الدّرهم والدينار: ليكونا مضروبين على البراءة من الغشّ، والنّزاهة من المشّ «6» ؛ وبحسب الإمام «7» ، المقرّر بمدينة السّلام؛ وحراسة السّكك من أن تتداولها الأيدي المدغلة، وتتناقلها الجهات الظّنينة «8» ؛ وإثبات اسم أمير المؤمنين على ما يضرب منها ذهبا وفضّة، وإجراء ذلك على الرّسم والسنّة. وإلى ولاة الطّرز بأن يجروا الاستعمال في جميع المناسج على أتم النّيقة «9» ، وأسلم الطّريقة؛ وأحكم الصّنعة، وأفضل الصّحّة؛ وأن يثبتوا اسم أمير المؤمنين على طرز الكسا، والفرش والأعلام والبنود. وإلى ولاة الحسبة بتصفّح أحوال العوامّ في حرفهم ومتاجرهم،

ص: 28

ومجتمع أسواقهم ومعاملاتهم؛ وأن يعايروا الموازين والمكاييل، ويفرزوها على التعديل والتكميل؛ ومن اطّلعوا منه على حيلة أو تلبيس، أو غيلة أو تدليس؛ أو بخس فيما يوفيه، أو استفضال فيما يستوفيه، نالوه بغليظ العقوبة وعظيمها، وخصّوه بوجيعها وأليمها؛ واقفين به في ذلك عند الحدّ الذي يرونه لذنبه مجازيا، وفي تأديبه كافيا فقد قال الله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ

«1» .

هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجّته عليك؛ وقد وقفك به على سواء السبيل، وأرشدك فيه إلى واضح الدّليل؛ وأوسعك تعليما وتحكيما، وأقنعك تعريفا [وتفهيما]«2» ولم يألك جهدا فيما عصمك وعصم على يدك، ولم يدّخرك ممكنا فيما أصلح بك وأصلحك؛ ولا ترك لك عذرا في غلط تغلطه، ولا طريقا إلى متورّط تتورّطه؛ بالغا بك في الأوامر والزّواجر إلى حيث يلزم الأئمة أن يندبوا الناس إليه، ويحثّوهم عليه؛ مقيما لك على منجيات المسالك، صارفا بك عن مرديات المهالك؛ مريدا فيك ما يسلّمك في دينك ودنياك، ويعود بالحظّ عليك في آخرتك وأولاك؛ فإن اعتدلت وعدلت فقد فزت وغنمت، وإن تجانفت واعوججت فقد خسرت وندمت؛ والأولى بك عند أمير المؤمنين مع مغرسك الزّاكي، ومنبتك النامي، وعودك الأنجب، وعنصرك الأطيب، أن تكون لظنّه بك «3» محقّقا، ولمخيلته فيك مصدّقا؛ وأن تستزيد بالأثر الجميل قربا [من رب العالمين]«4» وثوابا يوم الدين؛ وزلفى عند أمير المؤمنين، وثناء حسنا من المسلمين؛ فخذ ما نبذ إليك أمير المؤمنين من معاذيره، وأمسك بيدك على ما أعطى من مواثيقه؛ واجعل عهده [هذا]«5» مثالا تحتذيه، وإماما تقتفيه؛ واستعن بالله يعنك،

ص: 29

واستهده يهدك، وأخلص إليه في طاعته، يخلص لك الحظّ من معونته؛ ومهما أشكل عليك من خطب، أو أعضل عليك من صعب؛ أو بهرك من باهر، أو بهظك من باهظ، فاكتب إلى أمير المؤمنين به منهيا، وكن إلى ما يرد [من جوابه]«1» عليك منتهيا؛ إن شاء الله تعالى. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

[وكتب نصير الدولة الناصح أبو طاهر يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى سنة ست وستين وثلاثمائة]«2» .

وعلى هذا الأسلوب كتب أمين الدين أبو سعيد، العلاء بن وهب بن موصلايا «3» عن القائم بأمر الله «4» عهد أمير المسلمين يوسف بن تاشفين «5» ، بسلطنة الأندلس وبلاد المغرب، بعد العشرين والأربعمائة، فيما رأيته في ترسّل ابن موصلايا المذكور.

وهذه نسخته بعد البسملة الشريفة:

هذا ما عهد عبد الله ووليّه، عبد الله القائم بأمر الله أمير المؤمنين، إلى فلان حين انتهى إليه ما هو عليه من ادّراع جلابيب الرّشاد، في الإصدار والإيراد؛ واتّباع سنن من أبدى وأعاد، فيما يجمع خير العاجلة والمعاد؛ والتخصيص من حميد الأنحاء والمذاهب، بما يستمدّ منه أصناف الآلاء والمواهب؛ والتحلّي من

ص: 30

السّداد الكامل، بما فاز فيه بامتطاء الغارب «1» من الجمال والكاهل «2» ؛ واتّضح ما هو متشبّث به من صحّة الدّين واليقين، والمواظبة من اكتساب رضا الله تعالى على ما هو أقوى الظّهير والمعين؛ في ضمن ما طوى عليه ضلوعه، وأدام لهجه به وولوعه: من موالاة لأمير المؤمنين يدين الله تعالى بها، ويرجو النجاة من كل مخوف باستحكام سعيها؛ ومشايعة لدولته ساوى فيها بين ما أظهر وأسرّ، وأمّل في اجتناء ثمرها كلّ ما أبهج وسرّ؛ فولّاه الصّلاة بأعمال المغرب، والمعاون، والأحداث»

، والخراج، والضيّاع، والأعشار، والجهبذة، والصّدقات، والجوالي، وسائر وجوه الجبايات، والعرض، والعطاء، والنّفقة في الأولياء، والمظالم، وأسواق الرقيق، والعيار في دور الضّرب، والطّرز، والحسبة، ببلاد كذا وكذا: سكونا إلى استقلاله بأعباء ما استكفاه إيّاه، واستقباله النعمة عليه في ذلك بكلّ ما ينشر ذكره ويطيب ريّاه؛ وثقة بكونه للصّنيعة أهلا، وبأفياء الطاعة الإماميّة مستظلّا؛ وتوفرة على ما يزيده بحضرة أمير المؤمنين حظوة تردّ باع الخطوب عنه قصيرا، وتمدّ مقاصده من التوفيق بما يضحى له في كلّ حالة نصيرا؛ وعلما بما في اصطناعه من مصلحة تستنير أهلّتها، وتستثير من شبه الغيّ شواهدها وأدلّتها؛ والله تعالى يصل مرامي أمير المؤمنين بالإصابة، ويعينه على ما يقرّ كلّ أمريء في حقّه ويحلّه نصابه؛ ويحسن له الخطرة في كلّ ما يغدو له ممضيا، ولمطايا الاجتهاد في فعله منضيا؛ وما توفيق أمير المؤمنين إلّا بالله، عليه يتوكل وإليه ينيب.

وأمره باعتماد تقوى الله تعالى في الإعلان والإسرار، واعتقاد الواجب من الإذعان بفضلها والإقرار؛ وأن يأوي منها إلى أمنع المعاقل وأحصنها، ويلوي عنان

ص: 31

الهدى فيها إلى أجمل المقاصد وأحسنها؛ ويجعلها عمدته يوم تعدم الأنصار، وتشخص الأبصار: ليجتني من ثمرها ما يقيه مصارع الخجل، ويجتلي من مطالعها ما يؤمّنه من طوارق الوجل؛ ويرد بها من رضا الله تعالى أصفى المشارب، ويجد فيها من ضوالّ المنى أنفس المواهب: فإنها أبقى الزّاد، وأدعى في كلّ أمر إلى وري الزّناد؛ وقد خصّ الله بها المؤمنين من عباده، وحضّ منها على ما هو أفضل عدّة المرء وعتاده؛ فقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ

«1» .

وأمره أن يأتمّ بكتاب الله تعالى مستضيئا بمصباحه، مستضيما لسلطان الغيّ بالوقوف عند محظوره ومباحه؛ ويقصد الاستبصار بمواعظه وحكمه، والاستدرار لصوب التوفيق في الرّجوع إلى متقنه ومحكمه؛ ويجعله أميرا على هواه مطاعا، وسميرا لا يرى أن يكشف عنه قناعا؛ ودليلا إلى النّجاة من كلّ ما يخاف أثامه، وسبيلا إلى الفوز في اليوم الذي يسفر عن فصل الحساب لثامه؛ ويتحقّق موقع الحظّ في إدامة درسه، وصلة يومه في التأمّل بأمسه؛ فإنه يبدي طريق الرّشد لكل مبدي في العمل به معيد: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ

«2» .

وأمره أن يحافظ على الصّلوات قائما بشروطها وحدودها، وشائما «3» بروق التوفيق في أداء فروضها وحقوقها؛ ومسارعا إليها في أوقاتها بنيّة عائفة مناهل الكدر والرّنق «4» ، عارفة بما في إخلاصها من نصرة الهدى وطاعة الحقّ؛ وموفّرا عليها من ذهنه، ما الحظّ كامن في طيّه وضمنه؛ وموفّيا لها من الرّكوع والسّجود، ما الرّشاد فيه صادق الدلائل والشّهود؛ متجنّبا أن يلهيه عنها من هواجس الأفكار،

ص: 32

ووساوس القلب العون منها والأبكار؛ ما يقف فيه موقف المقصّر الغالط، وينزل فيه منزلة الجاحد للنّعم الغامط؛ وقد أمر الله تعالى بها وفرضها على المؤمنين وأوجبها وحثّ من إقامتها، على ما يفضي إلى صلاح المقاصد واستقامتها؛ فقال عزّ من قائل: فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً

«1» .

وأمره بالسّعي في أيام الجمع إلى المساجد الجامعة، وفي الأعياد إلى المصلّيات الضاحية؛ بعد أن يتقدّم في عمارتها، وإعداد الكسوة لها؛ بما يؤدّي إلى كمال حلاها، ويحظي من حسن الذكر بأعذب الموارد وأحلاها؛ ويوعز بالاستكثار من المكبّرين فيها والقوّام، وترتيب المصابيح العائدة على شمل جمالها بالاتّساق والانتظام: فإنها بيوت الله تعالى التي تتلى بها آياته، وتعلى فيها أعلام الشّرع وراياته. وأن يقيم الدعوة على منابرها لأمير المؤمنين، ولوليّ عهده العدّة للدّين؛ أبي القاسم عبد الله بن محمد ابن أمير المؤمنين «2» ، أدام الله تعالى به الإمتاع، وأحسن عن ساحته الدّفاع؛ ثم لنفسه جاريا في ذلك على ما ألف من مثله، وسالكا منه أقوم مسالك الاهتداء وسبله؛ وقد بيّن الله تعالى ما في عمارتها من دلائل الإيمان، والفوز بما يعطي من سخط الله تعالى أوثق الأمان، في قوله سبحانه: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ

«3» . وقال في الحثّ على السعي إلى الجوامع التي يذكر فيها اسمه، ويظهر عليها منار الإسلام ورسمه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ

«4» .

ص: 33

وأمره أن يعتمد في إخراج الزكاة ما أمر الله تعالى به، وهدى منه إلى أرشد فعل وأصوبه؛ ويقوم بذلك القيام الذي يحظيه بجميل الذّكر، وجزيل الأجر، ويشهد له بزكاء المغرس وطيب النّجر «1» ؛ ويقصد في أداء الواجب منه ما يصل أمسه في التوفيق بيومه، ويطلق الألسنة بحمده ويكفّها عن لومه، متجنّبا من إخلال بما نصّ عليه في هذا الباب، أو إهمال فيه لما يليق بذوي الدّيانة وأولي الألباب؛ ومتوخّيا في المسارعة إليه ما يتطهّر به من الأدناس، ويتوفّر به حسن الأحدوثة عنه بين الناس؛ فقد جعل الله تعالى الزكاة من الفروض التي لا سبيل إلى المحيد عنها، ولا دليل في الفوز أوفى منها؛ وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأخذها من أمّته، وأبان عن كونها مما يجتنى كلّ مرغوب فيه من ثمرته؛ ووصل الأمر له في ذلك بما يوجب فضل المسابقة إلى قبوله: لما فيه من الحظّ الكامل في استنارة غرره وحجوله، في قوله سبحانه: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

«2» .

وأمره أن يهذّب من الدّنس خلاله، ويصل بأقواله في الخير أفعاله؛ ويمتنع من تلبية داعي الهوى المضلّ، ويتّبع سنن المتفيّء بالهدى المستظلّ؛ ويقبض يده عن كل محرّم توثق أشراكه وتوبق غوائله، وتؤذن بسوء المنقلب شواهده ودلائله، ويجعل له من نهاره رقيبا على نفسه يصونها عن مراتع الغيّ ومطارحه، وأمينا يصدّ عن مسارب الإثم ومسارحه؛ فإنّها لا تزال أمّارة بالسّوء إن لم تقد إلى جدد الرّشد، وتقم لها سوق من الوعظ يبلغ فيها أقصى الغاية والأمد؛ فالسعيد من أضحى لها عند سورة الغضب وازعا، وأنحى عليها بلوم يغدو معه عن كلّ ما يسخط الله تعالى نازعا، وأن يتنزّه عن النّهي عمّا هو له مرتكب، والأمر بما هو له مجتنب: إذ كان ذلك بالهجنة حاليا، وبين المرء وبين مقاصد هديه حائلا، قال الله تعالى: أَتَأْمُرُونَ

ص: 34

النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ

«1» .

وأمره أن يضفي على من قبله من أولياء أمير المؤمنين وجنوده، أصناف جلابيب الإحسان، وبروده؛ ويخصّهم من جزيل حبائه بما يصلون منه إلى أبعد المدى، ويملكون به نواصي الآمال ويدركون قواصي المنى؛ ويميّز من أدّى واجبه في الطاعة وفرضه وأبدى صفحته في الغناء بين يديه بمزيد من الاشتمال يرهف بصيرة كلّ منهم في التوفّر على ما وافقه، ووصل بأنفه في التقرّب إليه سابقه، ويدعو المقصّر إلى الاستبصار في اعتماد ما يلحق فيه رتبة من فازت في الحظوة قداحه، وفاتت الوصف غرره في الزّلفة وأوضاحه: ليمرح به في الاغتذاء بلبان النّعمة، كما انتهج جدده في إحسان الخدمة، وأن يرجع إلى آراء ذوي الحنكة منهم مستضيئا بها مسترشدا، وطالبا ضوالّ الرأي الثاقب ومنشدا؛ وقد بيّن الله فضل المشورة التي جعلها للألباب لقاحا، وفي حنادس «2» الشّكوك مصباحا؛ حيث أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بها، وبعثه منها على أسدّ الأفعال وأصوبها؛ فقال تعالى:

وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ

«3» .

وأمره أن يعدل في الرّعايا قبله، ويحلّهم من الأمن هضابه وقلله، ويمنحهم من الاشتمال، ما يحمي به أمورهم من الاختلال، ويحوي به من طيب الذّكر بحسب ما اكتسب من رضيّ الأنحاء والخلال؛ ويضفي على المسلم منهم والمعاهد من ظلّ رعايته ما يساوي فيه بين القويّ والضّعيف، ويلحق التليد منهم بالطّريف: ليكون الكلّ وادعين في كنف الصّون، راجعين إلى الله تعالى في إمدادهم بالتوفيق وحسن الطاعة والعون. وأن ينظر في مظالمهم نظرا ينصر الحقّ فيه، وينشر علم العدل في مطاويه، وينصف معه بعضهم من بعض، وينصب «4» به

ص: 35

لهم من اهتمامه أسنى قسم وحظّ؛ ملينا لهم في ذلك جانبه، ومبينا ما يظلّ به كاسب الأجر وجالبه؛ ويزيل عنهم ما شرعه ظلمة الغلمان بتلك الأعمال، ويديل من تلك الحال باستئناف ما يوطؤهم كواهل الآمال؛ جامعا لهم بين العدل والإحسان، وجاعلا أمر الله تعالى في ذلك متلقّى بالطاعة الواضحة الدليل والبرهان؛ قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ

«1» .

وأمره بأن يكون بالمعروف آمرا، وعن المنكر زاجرا، ولله تعالى في إحياء الحقّ وإماتة الباطل متاجرا، وأن يشدّ من الساعين في ذلك والدّاعين إليه، ويعدّ القيام بهذه الحال من أفضل ما يتقرّب به إلى الله تعالى يوم العرض عليه. ويتقدّم بتعطيل ما في أعماله من المواخير ودحضها، وإزالة آثارها ومحوها، فإنها مواطن بالمخازي آهلة، ومن مشارب المعاصي ناهلة؛ قد أسّست على غير التّقوى مبانيها، وأخليت من كل ما يرضي الله تعالى مغانيها؛ وقد أبان الله تعالى عن فضل الطائفة التي ظلّت بالمعروف آمرة وعن المنكر ناهية، وضنّت بما ترى فيه عن مقاصد الخير ذاهلة لاهية، فقال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ

«2» .

وأمره أن يرتّب لحماية الطّرقات من يجمع إلى الصّرامة والشّهامة، سلوك محاجّ الرّشاد والاستقامة، ويجعل التعفّف عن ذميم المراتع شاهدا بتوفيق الله إيّاه، وعائدا عليه بما تحمد مغبّته وعقباه، ويأمر بحفظ السابلة، واختصاصهم بالحراسة السابغة الشاملة، وحماية القوافل واردة وصادرة، واعتمادها بما تغدو به إلى السلامة مفضية صائرة: لتحرس الدماء مما يبيحها ويريقها، والأموال مما يقصد فيه سبيل الإضاعة وطريقها؛ وأن يخوّفهم نتائج التقصير، ويعرّفهم مناهج التّبصير؛ وأنّ عليهم رقباء يلاحظون أمورهم ويوضّحونها، ليكون ذلك داعيا إلى

ص: 36

التحوّط والتحرّز، واعتماد الميل إلى جانب الصّحّة والتحيّز؛ ويوجب لهم من بعد ما يكفي أمثالهم مثله، ويكفّ أيديهم عن الامتداد إلى ما تذمّ سبله؛ فإن أخلّ أحدهم بما حدّ له، أو مزج بالسّوء عمله، جزاه بحسب ذلك وموجبه، قال الله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ

«1» .

وأمره أن يتقدّم إلى نوّابه في الأعمال بوضع الرّصد على من يجتاز بها من العبيد الأبّاق، والاستظهار عليهم بحسب العدل والاستحقاق؛ واستعلام أماكنهم التي فصلوا عنها، ومواطنهم التي بعدوا منها؛ فإذا وضحت أحوالهم وبانت، وانحسمت الشّكوك في بابهم وزالت، أعادوهم إلى مواليهم أبوا أم شاءوا، وأصفوا نيّاتهم في الرجوع إليهم أم شابوا. وأن يقصدوا إنشاد الضّوالّ، ويجتهدوا من إظهار أمرها بما يغدو جمال الذّكر به في الظّلال، ويتجنّبوا أن يمتطوا ظهورها بحال، أو يمدّوا أيديهم إلى منافعها في إسرار وإعلان؛ حتّى إذا حضر أربابها سلّمت إليهم بالنّعوت والأوصاف، وأجري الأمر في ذلك على ما يضحى به علم العدل عالي المنار حالي الأعطاف؛ فقد أمر الله تعالى بأداء الأمانات إلى أهلها، وهدى من ذلك إلى أوضح محاجّ الصّحّة وسبلها، فقال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ

«2» .

وأمره أن يختار للنظر في المعاون والأجلاب من يرجع إلى دين يحميه من مهاوي الزّلل وصلف «3» عن مدّ اليد إلى أسباب المطامع، وكلف بما يعود على ما كلّف إيّاه بصلاح مشرق المطالع، ومعرفة بما وكل إليه كافية وافية، ولما يوجب الاستزادة «4» له ماحية نافية، ويوعز إليهم بالتشمير في طلب الدّعّار، من جميع الأماكن والأقطار، وحسم موادّ العار في بابهم والمضار. وأن يمضوا فيهم حكم

ص: 37

الله بحسب مقاصدهم في الضّلال، وتجرى أمورهم على قانون الشرع المنير في حنادس الظلام، ممتنعين أن يراقبوا من لم يراقب الله تعالى في فعله، ويجانبوا الصواب بقبول الشّفاعة فيمن شهدت آثاره بذميم سبله، وإذا وقع الظّفر بجان قد كشف في الغيّ قناعه، وأظهرت مساعيه إباه من إجابة داعي الرّشد وامتناعه؛ أقيم حدّ الله تعالى فيه من غير تعدّ للواجب، ولا تعرّ من ملابس السالكين للجدد اللّاحب، وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ

«1» .

وأمره أن يوعز إلى أصحاب المعاون، بأن يشدّوا من القضاة والحكّام، ويجدّوا في إجراء أمورهم على أوفى شروط الضبّط والإقدام، ويأمرهم بحضور مجالسهم لتنفيذ أحكامهم وإمضائها، والمسارعة إلى حثّ مطايا التشمير في ذلك وإنضائها، والتصرّف على أمثلتهم في إحضار الخصوم إذا ما امتنعوا، وسوقهم إلى الواجب إذا زاغوا عنه وانحرفوا، وأن يتقدّم بإمداد عمّال الخراج بما يؤدّي إلى قوّة أيديهم في استيفاء مال الفيء واجتبائه، واعتماد ما ينصر الحقوق في مطاويه وأثنائه، إذ كان في ذلك من الصّلاح الجامع، وكفّ المضارّ وحسم المطامع، ما المعونة عليه واجبة، وللتوفيق مقارنة مصاحبة، قال الله تعالى:

وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ

«2» .

وأمره بعرض من تضمّه الحبوس من أهل الجرائم والجرائر، وتأمّل أحوالهم في الموارد والمصادر؛ والرّجوع إلى متولّي الشّرطة في ذكر صورة كلّ منهم والسبب في حبسه، والتعيين من ذلك على ما يعرف به صحّة الأمر من لبسه؛ فمن ألفي منهم للذّنوب آلفا، وعن سنن الصّواب منحرفا، ترك بحاله، وكفّ بإطالة اعتقاله عن مجاله في ميادين ضلاله؛ وإن وجد منهم من وجب عليه الحدّ، أقيم فيه بحسب ما يقتضيه الحقّ، ومن اعترضت في بابه شبهة تجوّز إسقاط الحدّ عنه

ص: 38

ودرأه، اعتمد إلحاقه في ذلك بمن اتّصل إليه صوب الإحسان ودرّه، ومن لم يكن له جرم وتظهر صحّة شاهده ودليله، قدّم الأمر في إطلاقه وتخلية سبيله، وإن غدا لأحدهم سعي في الفساد واضح وبان، وغوى به في محاربة الحقّ وخان، قوبل بما أمر الله تعالى به في كتابه حيث يقول: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ

«1» . وأمره باختيار المرتّب للعرض والعطاء، والنّفقة في الأولياء؛ من ذوي المعرفة والبصيرة، والمشهورين في العفّة بتساوي العلانية والسّريرة؛ وممن تحلّى بالأمانة جيده، واعتضد بطرفيه في الرّشاد تليده؛ وكان بما يسند إليه قيّما، وفي مقرّ الكفاية ثاويا مخيّما. وأن يتقدّم إليه بضبط حلى الرّجال وشيات الخيول، وأن يقصد في كل وقت من تجديد العرض ما يشهد بالاحتياط السابغ الأهداب والذّيول، فإذا وضح وجه الإطلاق، وسلم مال الاستحقاق؛ كانت التفرقة على قدر المنازل في التقديم والتأخير وبحسب الجرائد «2» التي تدلّ على الصغير من ذلك والكبير، ومتى طرق أحدهم ما هو محتوم على خلقه، أعاد على بيت المال من رزقه بقدر قسطه وحقّه. وأن يلزمهم إحضار جياد الخيول وخيار الشّكك «3» ، ويأخذهم من ذلك بأوضح ما نهج المرء الطريق فيه وسلك؛ فإن أخلّ أحدهم بما يلزمه البروز فيه يوم العرض، أو قصّر في القيام بالواجب عليه الفرض، حاسبه بذلك من الثابت باسمه والمطلق برسمه؛ تنبيها له على تلافي الفارط، وتبصيرا لغيره في البعد، عن مقام المخطيء الغالط؛ إذ كان في قوّتهم وكمال عدّتهم إرهاب للأعداء والأضداد، وإرهاف للبصائر فيما يؤدّي إلى المصالح الوافية

ص: 39

الأعداد والأمداد، قال الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ

«1» .

وأمره باختيار عمّال الخراج، والضيّاع، والأعشار، والجهبذة، والصّدقات، والجوالي، وأن يكونوا محتضنين من الأمانة والكفاية بما يقع الاشتراك في علمه، ومتقمّصين من ملابس العفّة والدّراية ما تحمد العواقب في ضمنه، ومتميّزين بما يغنيهم عن الأفكار بنتائج الاتّعاظ والاعتبار ويغريهم بالاستمرار على السّنن المنجي لهم من مواقف التنصّل والاعتذار، وأن يأمر عمّال الخراج بجباية الأموال، على أجمل الوجوه والأحوال؛ سالكين في ذلك جددا وسطا، يحمي من مقام من ضعف في الاستخراج أوسطا. و [أن يتقدّم] إلى الناظرين في الضّياع بتوفية العمارة حقّها والزراعة حدّها، والتوفير من حفظ الغلّات الحاصلة على ما يقتفى فيه أرشد المذاهب وأسدّها، متحرّزين من أمر ينسبون فيه إلى العجز والخيانة، فكلّ من الحالين مجز في وضوح أدلّة الفساد ومخز. وإلى الجهابذة بقصد الصحّة في القبض والتقبيض، وحفظ النّقد من التدليس والتلبيس؛ أداء للأمانة في ذلك، واهتداء فيه إلى أقوم المسالك. وإلى سعاة الصدقات بأخذ الفرائض من مواشي المسلمين السائمة دون العاملة، والجري في ذلك على السّنّة الكاسبة للمحمدة الوافية الكاملة؛ متجنّبين من أخذ فحل الإبل وأكولة الراعي، وعقائل الأموال المحظورة على سائر الأسباب والدّواعي؛ فإذا استوفيت على المحدود من حقّها، أخرجت في المنصوص عليه من وجوهها وسبلها. وإلى جباة جماجم أهل الذّمّة بأخذ الجزية منهم في كلّ سنة، على قدر ذات أيديهم في الضّيق والسّعة، وبحسب العادة المألوفة المتّبعة، ممتنعين من مطالبة النّسوان، ومن لم يبلغ الحلم من الرجال ومن علت سنّه عن الاكتساب وتبتّل من الرّهبان ومن غدا فقره واضح الدليل والبرهان، وفاء بالعهد المسؤول، وتلقّيا لأمر الله تعالى بالقبول حيث

ص: 40

يقول: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا

«1» .

وأمره أن يردّ أمر المظالم وأسواق الرقيق ودور الضّرب والطّرز والحسبة إلى من عضّد بالظّلف «2» الورع، وانتظم له شمل الهدى واجتمع، فكان ذا معرفة بما يحرم ويحلّ، وبصيرة يتفيّأ «3» بها من عوارض الشّبه ويستظلّ؛ وأن يكون النظر في ذلك مضاهيا للحكم ملائما، ولن يقوم به إلّا من لا يرى عاذلا له في فعله لائما، وأن يتقدّم إلى من يلي المظالم بتسهيل الإذن للخصوم في الدّخول عليه، وتمكين كلّ منهم من استيفاء الحجّة بين يديه، والتوصّل إلى فصل ما بينهم بحسب ما يقود الحقّ إليه، وأن يقصد فيما وقع الخلف معهم فيه، الكشف الذي يقوم به ويستوفيه؛ فإن وضح له الحقّ أنفذه وقطع به، وإلا ردّهم إلى مجالس القضاء لإمضاء ذلك على مقتضى الشّرع وموجبه، وإلى المرتّبين في أسواق الرقيق بالتحفّظ فيما يبتاع ويباع، وأن يستعمل في ذلك الاقتفاء للسّنن الجميل والاتّباع:

ليؤمن اختلاط الحرّ بالعبد، وتحرس الأنساب من القدح والفروج من الغصب؛ في ضمن حفظ الأموال، والمنع من مزج الحرام بالحلال. وإلى ولاة العيار بتصفية عين الدّرهم والدّينار من الغشّ والإدغال «4» ؛ وصون السّكك من تداول الأيدي الغربية لها بحال من الأحوال، متحذّرين من الاغترار بما ربّما وضح الفساد فيه عند الاعتبار، ومانعين التّجّار المخصوصين بالإيراد، من كل قول مخالف للإيثار في الصحّة والمراد، ومعتمدين إجراء الأمر فيما يطبع على القانون بمدينة السلام، من غير خلاف لمستقرّ القاعدة في ذلك ومتّسق النظام؛ وأن يثبت ذكر أمير المؤمنين، ووليّ عهده في المسلمين؛ على ما يضرب من الصّنفين «5» معا، والمسارعة في ذلك إلى أفضل ما بادر إليه المرء وسعى. وإلى المستخدمين في الطّرز بملاحظة

ص: 41

أحوال المناسج والإشراف عليها، وأخذ الصّنّاع بالتجويد على العادة التي يجب الانتهاء إليها؛ وإثبات اسم أمير المؤمنين على ما ينسج من الكسا والفروش والأعلام والبنود، جريا في ذلك على السّنن المرضيّ والمنهاج المحمود. وإلى من يراعي الحسبة الشريفة بالكشف عن أحوال العوامّ في الأسواق، والانتهاء في ذلك إلى ما ينتهي به شمل الصّلاح إلى الانتظام والاتّساق، وأن يتقدّم [إليهم] بما يجب من تعبير ما يختصّ بهم من المكاييل والموازين، وحملها على قانون الصّحّة الواضحة الدلائل والبراهين؛ وأن يقصد تبصيرهم مواضع الحظّ في الاستقامة، ويحذّرهم مواقع الانتقام الذي لا تفيد فيه أسباب الاستفصاح والاستقالة، فإن عرف من أحد منهم إقداما على إدغال فيما يزن أو يكيل، قوبل من التأديب بما هو الطريق إلى ارتداعه والسّبيل قال الله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ

» .

وأمره أن يعرف قدر النعمة التي ضفت «2» عليه برودها، وحلّت جيده عقودها، وزفّت منه إلى أوفى أكفائها، وحفّت بجزيل القسم من جميع أكنافها وأرجائها؛ وأن يقابلها بإخلاص في الطاعة يساوي فيه بين ما يبدي ويسرّ وسعي في الخدمة يوفي على كل مجاز ومبرّ، ويبدأ أمام ما يتوخّاه بأخذ البيعة لأمير المؤمنين ووليّ عهده على نفسه وولده، وكافّة الاجناد والرّعايا في بلده، عن نيّة صفت من الكدر والقذى، ووفت للتوفيق بما ضمنت من خذلان البغي ونصرة الهدى، ويتبع ذلك بالحقوق في كل خدمة ترضي، والوقوف عند الأوامر الإماميّة في كلّ ما يؤدّي إلى الوفاق ويفضي؛ وأن يحمل إلى حضرة أمير المؤمنين من الفيء والغنائم ما أوجبه الله تعالى وفرضه، من غير تأخير لما يجب تقديمه من ذلك ولا تقصير منه فيما يقتضي التّلافي والاستدراك ليأمر أمير المؤمنين بصرفه في سبيله المشار إليها، ووجوهه المنصوص عليها، قال الله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ

ص: 42

خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ

«1» .

ثم إنّ أمير المؤمنين آثر أن يضاعف له من الإحسان، ما يقتضيه مقامه لديه من وجيه الرتبة والمكان، وشرّفه بما يرفل من حلاه في حلل الجمال، وتكفّل له علاه ببلوغ منتهى الآمال؛ وبوّأه بما أولاه محلّا تقصر عن الوصول إليه الأقدام، وتعجز عن حلّ عراه الأيّام، ولقّبه بكذا، وأذن له في تكنيته عن حضرته، وتأهيله من ذلك لما يتجاوز قدر أمنيّته إنافة به على من هو في مساجلته من الأقران طالع، وإضافة للنّعمة في ذاك إلى ما اقترن بها فيما هو لشمل الفخر عنده جامع، وأنفذ لواء يلوي به إلى الطاعة أبيّ الأعناق، ويحوي به من العزّ ما أنواره وافية الإشراق.

فتلقّ يا فلان هذه الصّنيعة الغرّاء، والمنحة التي أكسبت زنادك الإيراء «2» ؛ بالاستبشار التّام، والاعتراف فيها بسابغ الطّول والإنعام؛ وأشع ذكر ذلك عند كلّ أحد، وانته في الإبانة عنه إلى أبعد أمد؛ واعتمد مكاتبة حضرة أمير المؤمنين متسمّيا، ومن عداه متلقّبا متكنّيا وتوفّر على شكر تستدرّ به صوب المزيد، وتستحقّ به إلحاق الطّريف من الإحسان بالتّليد، والله تعالى يقول: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ

«3» .

هذا عهد أمير المؤمنين إليك، والحّجة لك وعليك؛ قد أوضح لك [فيه] الصّواب، وأذلّ به الجوامح الصّعاب؛ وحباك منه بموهبة كفيلة بخيري البدء والمعاد، وفيّة فيها المنى بسابق الضّمان والميعاد؛ وضمّنه من مواعظه ما هدى به إلى كلّ ما الجنيّ ثمره، وغدا محظيّا بما تروق أوضاحه في المجد وغرره؛ ولم يألك فيه تجمّلا يكسبك الفخر النامي، ويجعل ذكرك زينة المحفل والنادي؛ وتقديما ينبيء عمّا خصصت به

ص: 43

من المنح المشرقة الّلآلي، وإكراما يبقى صيته على تقضّي الأيّام والليالي؛ وتبصيرا يقي من فلتات القول والعمل، ويرتقي المستضيء بأنواره إلى ذرى الأمن من دواعي العثار والزّلل؛ فأصغ إلى ما حواه، إصغاء الفائز بأوفى الحظ، وتدبّر فحواه، الناطق بفضل الحثّ على الهدى والحضّ؛ وكن لأوامر أمير المؤمنين فيه محتذيا، ومن تجاوز محدوده في مطاويه محتميا؛ وبمواعظه الصادقة معتبرا، وفي العمل بما قارن الحق مستبصرا، تفز بالغنم الأكبر، وبالسلامة في المورد والمصدر؛ وإيّاك واعتماد ما تذمّ فيه مكاسبك، فإنّ لك بين يدي الله تعالى موقفا يناقشك فيه ويحاسبك. واعلم أنّ أمير المؤمنين قد قلّدك جسيما، وخوّلك جزيلا عظيما؛ فلا تنس نصيبك من الله تعالى غدا، ولا تجعل لسلطان الهوى المضلّ عليك يدا؛ وإن خفي عليك الصواب في بعض ما أنت بصدده، أو اعتراض فيه من الشّبه ما يحول بينك وبين طريق الرشاد وجدده «1» ؛ فطالع حضرة أمير المؤمنين به، واستنجد الله في ذلك بأسدّ رأي وأصوبه؛ يبدّلك من الشكّ يقينا، ويبدلك ما يغدو لكلّ خير ضمينا؛ إن شاء الله تعالى.

الطريقة الثانية (طريقة محقّقي المتأخّرين ممّن جرى على هذا المذهب: كالشيخ شهاب الدين محمود الحلبي «2» ، والمقرّ الشهابيّ بن فضل الله «3» ، ومن والاهم)

وهي أن يأتي في أثناء العهد بخطبة أو تحميد على عادة المكاتبات، وأن يذكر بعد صدر العهد حميد أوصاف المعهود إليه، ويطنب فيها ويثني عليه بما يليق بمقامه. قال في «التعريف» : على نحو ما تقدّم في عهود الخلفاء عن الخلفاء.

ص: 44

قال في «التثقيف» «1» : وصورته أن يكتب:

«هذا ما عهد به عبد الله ووليّه أمير المؤمنين المتوكل على الله (مثلا) أبو فلان فلان بن فلان، إلى السيّد الأجلّ الملك العالم العادل المؤيّد المظفّر المنصور المجاهد» ويذكر اللّقب هنا، مثل الناصر أو الكامل أو غيره «فلان الدنيا والدين، فلان، ابن السلطان السعيد الشهيد الملك الفلاني خلّد الله تعالى ملكه.

أما بعد، فإنّ أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويصلّي على ابن عمّه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم» ويكمل الخطبة بما أمكنه. ثم يقال:«عهد إليه وقلّده جميع ما هو مقلّده من مصالح الأمّة وصلاح الخلق، بعد أن استخار الله تعالى في ذلك، ومكث مدّة يتدبّر هذا الأمر ويروّي فكره فيه وخاطره، ويستشير أهل الرأي والنظر، فلم ير أوفق منه لأمور الأمّة ومصالح الدنيا والدّين» . ومن هذا وشبهه. ثم يقال: «وإن المعهود له قبل ذلك منه» ويأتي فيه بما يليق من محاسن العبارة وأجناس الكلام.

قلت: وقد يؤتى بعد «أما بعد» بخطبة، مثل أن يقال:«أما بعد فالحمد لله» ونحو ذلك، ويكمّل الخطبة بما يليق بالمقام. ثم قد يقتصر على تحميدة واحدة، وقد يكرره إلى ثلاث، وإن شاء بلغ به سبعا. فقد قال في «التعريف» في الكلام على عهود الملوك للملوك: إنه كلّما كثر التحميد، كان أدلّ على عظم النعمة. وقد يقال في آخره:«والاعتماد على الخطّ الفلاني (بلقب الخلافة) أعلاه حجّة بمقتضاه أو «والخطّ الفلاني أعلاه حجّة فيه» ونحو ذلك.

وعلى هذه الطريقة كتب الشيخ شهاب الدين محمود الحلبيّ عهد الملك

ص: 45

العادل «كتبغا» «1» عن الخليفة الإمام الحاكم بأمر الله أبي العبّاس أحمد «2» ، ابن الإمام الذي استحضره الملك الظاهر بيبرس من بغداد وبايعه، وهذه نسخته «3» :

هذا عهد شريف في كتاب مرقوم يشهده المقرّبون، ويفوّضه آل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأئمة الأقربون. من عبد الله ووليّه الإمام الحاكم بأمر الله أبي العبّاس أحمد أمير المؤمنين، وسليل الخلفاء الراشدين والأئمة المهديّين، رضوان الله عليهم أجمعين، إلى السلطان الملك العادل زين الدنيا والدين «كتبغا المنصوريّ» أعزّ الله سلطانه.

أما بعد، فإنّ أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي جعل له منك سلطانا نصيرا، وأقام له بملكك على ما ولّاه من أمور خلقه عضدا وظهيرا؛ وآتاك بما نهضت به من طاعته نعما «4» وملكا كبيرا، وخوّلك بإقامة ما وراء سريره من مصالح الإسلام بكلّ أرض منبرا وسريرا، وجاء بك لإعانته على ما استخلفه الله فيه من أمور عباده على قدر وكان ربّك قديرا؛ وجمع بك الأمة بعد أن كاد يزيغ قلوب فريق منهم، وعضّدك لإقامة إمامته بأولياء دولتك الذين رضي الله عنهم؛ وخصّك بأنصار دينه الذين نهضوا بما أمروا به من طاعتك وهم نازهون «5» وأظهرك على الذين ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ

ص: 46

كارِهُونَ

«1» واصطفاك لإقامة الدّين وقد اختلفت الأهواء في تلك المدّة، ولمّ بك شعث الأمّة بعد الاضطراب فكان موقفك ثمّ موقف الصّدّيق يوم الرّدّة.

ويشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة حاكم بأمره، مستنزل لك بالإخلاص ملائكة تأييده وأعوان نصره؛ مسترهف بها سيف عزمك على من جاهر «2» بشركه وحاربه بكفره، معتصم بتوفيقه في تفويضه إليك أمر سرّه الذي استودعه في الأمّة وجهره؛ ويصلّي على سيدنا محمد رسول الله الذي استخرجه الله من عنصره وذويه، وشرّف به قدر جدّه بقوله فيه:«عمّ الرّجل صنو أبيه» وأسرّ إليه بأنّ هذا الأمر فتح به ويختم ببنيه؛ وعلى آله وصحبه والخلفاء الراشدين من بعده، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وجاهدوا أئمة الكفر الذين لا أيمان لهم والذين هم بربّهم يعدلون؛ وسلّم تسليما كثيرا.

وإنّ أمير المؤمنين لما آتاه الله من سرّ النبوة، واستودعه من أحكام الإمامة الموروثة عن شرف الأبوّة؛ واختصّه من الطاعة المفروضة على الأمم، وفرض عليه من النظر في الأخصّ من مصالح المسلمين والأعمّ؛ وعصم آراءه ببركة آبائه من الخلل، وجعل سهم اجتهاده هو المصيب أبدا في القول والعمل؛ وكان السلطان فلان هو الذي جمع الله به كلمة الإسلام وقد كادت، وثبت به الأرض وقد اضطربت بالأهواء ومادت؛ ورفع به منار الدين بعد أن شمخ الكفر بأنفه، وألّف به شمل المسلمين وقد طمح العدوّ إلى افتراقه وطمع في خلفه، وحفظ به في الجهاد حكم الكتاب الّذي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ

«3» ؛ وحمى به الممالك الإسلاميّة فما شام الكفر منها برق ثغر إلّا رمي من وباله بوابل، ولا أطلق عنان طرفه إلى الأطراف إلا وقع من سطوات جنوده في كفّة حابل؛ ولا اطمأنّوا في بلادهم إلا أتتهم سراياه من حيث لم يرتقبوا، ولا ظنّوا أنهم ما نعتهم حصونهم من

ص: 47

الله إلا وأتاهم بجنوده «1» من حيث لم يحتسبوا؛ وألّف جيوش الإسلام فأصبحت على الأعداء بيمنه يدا واحدة، وقام بأمور الأمّة فأمست عيون الرّعايا باستيقاظ سيوفه في مهاد الأمن راقدة؛ وأقام منار الشريعة المطهّرة فهي حاكمة له وعليه، نافذ أمرها على أمره فيما وضع الله مقاليده في يديه؛ ونصره الله في مواطن كثيرة، وأعانه على من أضمر له الشّقاق والصّلاة وإنّها لكبيرة «2» ؛ وأظهره «3» بمن بغى عليه في يومه بعد حلمه عنه في أمسه، وأيّده على الذين خانوا عهده ويَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ

«4» ؛ وتعيّن لملك الاسلام فلم يك يصلح إلّا له، واختاره الله لذلك فبلغ به الدّين آماله؛ وضعضع بملكه عمود الشّرك وأماله، وأعاد بسلطانه على الممالك بهجتها وعلى الملك رونقه وجلاله؛ وأخدمه النّصر فما أضمر له أحد سوءا إلا وزلزل أقدامه وعجّل وباله، وردّه إليه وقد جعل من الرّعب قيوده ومن الذّعر أغلاله، وأوطأ جواده هام أعدائه وإن أنف أن تكون نعاله.

عهد إليه حينئذ مولانا الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين في كلّ ما وراء خلافته المقدّسة، وجميع ما اقتضته أحكام إمامته التي هي على التّقوى مؤسّسة:

من إقامة شعار الملك الذي جمع الله الاسلام عليه، وظهور «5» أبّهة السلطنة التي ألقى الله وأمير المؤمنين مقاليدها إليه؛ ومن الحكم الخاصّ والعامّ، في سائر ممالك الإسلام، وفي كل ما تقتضيه أحكام شريعة سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام؛ وفي خزائن الأموال وإنفاقها، وملك الرّقاب وإعتاقها، واعتقال الجناة وإطلاقها؛ وفي كل ما هو في يد الملّة الاسلامية التي سيرجعها الله بجهاده إليها؛ وفي

ص: 48

تقليد الملوك والوزراء، وتقدمة الجيوش وتأمير الأمراء؛ وفي الأمصار يقرّ بها من شاء من الجنود، ويبعث إليها ومنها ما شاء من البعوث والحشود؛ ويحكم في أمرها بما أمر «1» الله من الذّبّ عن حريمها، ويتحكّم بالعدل الذي رسم «2» الله به لظاعنها ومقيمها؛ وفي تقديم حديثها واستحداث قديمها، وتشييد ثغورها، وإمضاء ما عرّفه الله به وجهله سواه من أمورها؛ وإقرار من شاء من حكّامها، وإمضاء ما شاء من إتقان القواعد بالعدل وإحكامها؛ وفي إقطاع خواصّها، واقتلاع ما اقتضته المصلحة من عمائرها وعمارة ما شاء من قلاعها؛ وفي إقامة الجهاد بنفسه الشريفة وكتائبه، ولقاء الأعداء كيف شاء من [تسيير] سراياه وبعث مواكبه؛ وفي مضايقة «3» العدوّ وحصاره، ومصابرته وإنظاره «4» ، وغزوه كيف أراه الله في أطراف بلاده وفي عقر داره؛ وفي المنّ والفداء والإرقاق، وضرب الهدن التي تسألها العدا وهي خاضعة الأعناق؛ وأخذ مجاوري العدوّ المخذول بما أراه الله من النّكاية إذا أمكن من نواصيهم، وحكم عفوه في طائعهم وبأسه في عاصيهم، وإنزال الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ

«5» . وفي الجيوش التي ألف الأعداء فتكات ألوفها، وعرفوا أنّ أرواحهم ودائع سيوفها؛ وصبّحتهم سرايا رعبها المبثوثة إليهم، وتركهم خوفها كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ

«6» وهم الذين ضاقت بمواكبهم إلى العدا سعة الفجاج، وقاسمت رماحهم الأعداء شرّ قسمة ففي أيديهم كعوبها وفي صدور أولئك الزّجاج «7» ، وأذهبت عن الثّغور الإسلامية رجس الكفر وطهّرت من ذلك ما جاور العذب الفرات والملح الأجاج؛

ص: 49

وعرفوا في الحروب بتسرّع الإقدام، وثبات الأقدام، وأدّخر الله لأيّامه الشريفة أن تردّنها بهم «1» دار السلام إلى ملك الإسلام: فيدرّ عليهم ما شاء من إنعامه الذي يؤكّد طاعتهم، ويجدّد استطاعتهم؛ ويضاعف أعدادهم، ويجعل بصفاء النيّات ملائكة الله أمدادهم؛ ويحملهم على الثّبات إذا لقوا الذين كفروا زحفا، ويجعلهم في التعاضد على اللّقاء كالبنيان المرصوص فإنّ الله يحبّ الّذين يقاتلون في سبيله صفّا. وفي أمر الشرع وتولية قضاته وحكّامه، وإمضاء ما فرض الله عليه وعلى الأمة من الوقوف عند حدوده وا «2» مع أحكامه؛ فإنّه لواء الله الممدود في أرضه، وحبله المتين الذي لا نقض لإبرامه ولا إبرام لنقضه، وسنن نبيّه الذي لا حظّ عند الله في الإسلام لغير متمسّك بسنّته وفرضه؛ وهو- أعزّ الله سلطانه- سيف الله المشهور على الذين غدوا وهم من أحكام الله مارقون، ويده المبسوطة في إمضاء الحكم بما أنزل الله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ

«3» .

وفي مصالح الحرمين الشريفين وثالثهما الذي تشدّ أيضا إليه الرّحال. وإقامة سبيل الحجيج الذين يفدون على الله بما منحهم «4» من برّه وعنايته في الإقامة والارتحال.

وفي عمارة البيوت التي أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ

«5» وفي إقامة الخطب على المنابر، واقتران اسمه الشريف مع اسمه بين كلّ باد وحاضر، والاقتصار على هذه التثنية في أقطار الأرض فإنّ القائل بالتثليث كافر؛ وفي سائر ما تشمله الممالك الإسلامية ومن تشتمل عليه شرقا وغربا، وبعدا وقربا؛ وبرّا وبحرا، وشاما ومصرا؛ وحجازا ويمنا، ومن يستقرّ بذلك إقامة وظعنا. وفوّض إليه ذلك جميعه وكلّ ما هو من لوازم خلافته لله في أرضه، ما ذكر وما لم يذكر تفويضا لازما، وإمضاء جازما، وعهدا محكما، وعقدا

ص: 50

في مصالح ملك الاسلام محكّما؛ وتقليدا مؤبّدا، وتقريرا على كرّ الجديدين مجدّدا؛ وأثبت ذلك وهو الحاكم حقيقة بما علمه من استحقاقه والحاكم بعلمه، وأشهد الله وملائكته على نفوذ حكمه بذلك: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ

«1» .

وذلك لما صحّ عنده من نهوض ملكه بأعباء ما حمّله الله من الخلافة، وأدائه الأمانة عنه فيما كتب الله عليه من الرحمة اللّازمة والرافة؛ واستقلاله بأمور الجهاد الذي أقام الله به الدين، واختصاصه وجنوده بعموم ما أمر الله به الأمة في قوله تعالى:

قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ

«2» . وأنّه في الجهاد سهمه المصيب وله به أجر الرامي المسدّد، وسيفه الذي جرّده على أعداء الدين وله من فتكاته حظّ المرهف المجرّد؛ وظلّ الله في الأرض الذي مدّه بيمن يمينه، وآية نصره الذي اختاره الله لمصالح دنياه وصلاح دينه؛ الناهض بفرض الجهاد وهو في مستقرّ خلافته وادع، والراكض عنه بخيله وخياله إلى العدوّ الذي ليس لفتكات سيوفه رادع «3» ؛ والمؤدّي عنه فرض النّفير في سبيل الله كلّما تعيّن، والمنتقم له من أهل الشّقاق الذين يجادلون في الحقّ بعد ما تبيّن، والقائم بأمر الفتوح التي تردّ بيع الكفر مساجد يذكر فيها اسم الله واسمه، ويرفع على منابرها شعاره الشريف ورسمه؛ وتمثّل له بإقامة دعوته صورة الفتح كأنه ينظر إليها؛ والناظر عنه في عموم مصالح الإسلام وخصوصها تعظيما لقدره، وترفيها لسرّه؛ وتفخيما لشرفه، وتكريما لجلالة بيته النبويّ وسلفه؛ وقياما له بما عهد إليه، ووفاء من أمور الدّين والدنيا بما وضع مقاليده في يديه.

وليدلّ على عظم سيرته بكرم سيره، وينبّه على كمال سعادته إذ قد كفي به في أمور خلق الله تعالى والسعيد من كفي بغيره، لم يجعل أمير المؤمنين على يده يدا في ذلك، ولا فسّح لأحد غيره في أقطار الأرض أن يدعى بملك ولا مالك، بل بسط

ص: 51

حكمه وتحكمه في شرق الأرض «1» وغربها وما بين ذلك؛ وقد فرض طاعته على سائر الأمم، وحكم بوجوبها على الخاصّ والعامّ ومن ينقض حكم الحاكم إذا حكم؛ وهو يعلم أنّ الله تعالى قد أودع مولانا السلطان سرّا يستضاء بأنواره، ويهتدى في مصالح الملك والممالك بمناره، فجعل له أن يفعل في ذلك كلّ ما هدى الله قلبه إليه، وبعثه بالتأييد الإلهيّ عليه؛ واكتفى عن الوصايا بأنّ الله تعالى تكفّل له بالتأييد، وخصّه من كلّ خير بالمزيد؛ وجعل خلقه التقوى وكلّ خير فرع عليها، ونوّر بصيرته بالهدى فما يدلّ على حسنة من أمور الدنيا والآخرة إلّا وهو السابق إليها؛ والله تعالى يجعل أيّامه مؤرّخة بالفتوح، ويؤيّده بالملائكة والرّوح، على من يدّعي الأب والابن والرّوح؛ ويجعل أسباب النصر معقودة بسببه، والملك كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ

«2» .

ويشهد بهذا العهد الشريف مع من شهده من الملائكة المقرّبين «3» ، كلّ من حضر تلاوته من سائر الناس أجمعين: لتكون حجّة الله على خلقه أسبق، وعهد أمير المؤمنين بثبوته أوثق؛ وطاعة سلطان الأرض قد زادها الله على خلقه بذلك توكيدا، وشهد [الله] وملائكته على الخلق بذلك وكفى بالله شهيدا. والاعتماد على الخط الحاكميّ أعلاه حجّة به، إن شاء الله تعالى.

وعلى نحو ذلك كتب الشيخ شهاب الدين محمود الحلبيّ عهد الملك المنصور «حسام الدّين لاچين» «4» عن الخليفة الحاكم بأمر الله بن أبي الربيع

ص: 52

سليمان المتقدّم ذكره «1» . وهذه نسخته «2» :

هذا عهد شريف تشهد به الأملاك لأشرف الملوك، وتسلك فيه من قواعد العهود المقدّسة أحسن السّلوك؛ من عبد الله ووليّه الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين، للسلطان الملك المنصور حسام الدنيا والدين؛ أبي الفتح لاچين المنصوريّ، أعزّ الله سلطانه.

أما بعد، فالحمد لله مؤتي الملك من يشاء من عباده، ومعطي النصر من يجاهد فيه حقّ جهاده؛ ومرهف حسام انتقامه على من جاهر بعناده، ومفوّض أمر هذا الخلق إلى من أودعه سرّ رأفته في محبّته ومراد نقمته في مراده؛ وجامع كلمة الإيمان بمن اجتباه لإقامة دينه وارتضاه لرفع «3» عماده، ومقرّ الحق في يد من منع سيفه المجرّد في سبيل الله أن يقرّ في أغماده، وناصر من لم تزل كلمة الفتوح مستكنّة في صدور سيوفه جارية على ألسنة صعاده، وجاعل ملك الإسلام من حقوق من إذا عدّ أهل الأرض على اجتماعهم كان هو المتعيّن على انفراده، الذي شرّف أسرّة ملك الإسلام باستيلاء حسام دينه عليها، وزلزل ممالك أعدائه بما بعث من سرايا رعبه إليها؛ وثبّت به أركان الأرض التي ستحتوي ملكه في طرفيها، وضعضع بسلطانه قواعد ملوك الكفر فودّعت ما كان مودعا لأيّامه من ممالك الإسلام في يديها؛ وأقامه وليّه بأمره فلم يختلف عليه اثنان من خلقه، وقلّده أمر بريّته لما أقدره عليه من النّهوض بحقّهم وحقّه؛ وأظهره على من نصب له الغوائل وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ

«4» ونصره في مواطن كثيرة لما قدّره في القدم من رفعة

ص: 53

شأنه واعتلاء قدره؛ وجعل عدوّه وإن أعرض عن طلبه بجيوش الرّعب محصورا، وكفاه بنصره على الأعداء التوغّل في سفك الدّماء فلم يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً «1»

؛ ونقل إليه الملك بسيفه والدّماء مصونة، وحكّمه فيما كان بيد غيره من الأرض والبلاد آمنة والفتن مأمونة؛ فكان أمر من ذهب سحابة صيف، أو جلسة ضيف «2» ؛ لم تحلّ له روعة في القلوب، ولم يذعرها- وقد ألبسه الله ما نزع عن سواه- سالب ولا مسلوب، إجراء لهذه الأمة على عوائد فضله العميم، واختصاصا بما آتاه من ملكه وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ «3» .

يحمده أمير المؤمنين على ما منح في أيّامه الدّين من اعتضاده بحسامه، والاعتماد في ملك المسلمين على من يجعل جباه ملوك الشّرك تحت أقدامه، والاعتداد بمساعي من حصونه في الجهاد ظهور جياده وقصوره أطراف حسامه.

ويشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة حاكم بما أراه، حامد له في ملك الإسلام على تيسّر ما وطّده ورفع ما عراه «4» ، معتصم به في كلّ ما أثبته بالحق من قواعد الدّين «5» في جهاد أعداء الدّين عن سيره في ذلك وسراه؛ وأن محمدا عبده ورسوله الذي جعله «6» من عصبته الشريفة وعصبته، وشرّفه بوراثة خلافته في أمّته [ورفع] قدر رتبته، وقصره على إقامة من يرهب العدا بنشر دعوته في الآفاق مع مواقع رغبته؛ ويسأله أن يصلّي عليه صلاة تفتح له في الدنيا إلى العصمة طريقا، وتجعله في الأخرى معه ومع الّذين أنعم الله عليهم من آبائه الشّهداء

ص: 54

والصالحين وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً

«1» ؛ وسلّم تسليما كثيرا.

وإنّ أمير المؤمنين لما اختصّه الله به من البرّ «2» المودع في قلبه، والنّور الذي أصبح فيه على بيّنة من ربّه؛ والتأييد المنتقل إليه عمّن شرف بقربه، والنصّ الذي أسرّه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جدّه العبّاس من بقاء هذا الأمر في ورثته دون أقاربه وصحبه؛ لم يزل يرغب إلى الله سبحانه «3» ويستخيره في إقامة من ينهض في ملك الإسلام حقّ النّهوض، ويفوّض إليه الأمانة إلى من يرى «4» أداء الأمانة فيهم من آكد الفروض؛ ومن إذا قال النفير يا خيل الله اركبي سابقت خيله خياله، وجازت عزائمه نصاله؛ وأخذ عدوّ الدّين من مأمنه، وغالب سيفه «5» الأجل على انتزاع روحه من بدنه؛ وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وجاهد لإقامة منار الإسلام لا للتعرّض إلى عرض الدنيا؛ وقدّمت له ملوك الدنيا حصونها، وبذلت له مع الطاعة مصونها؛ وأقيم له بكلّ قطر منبر وسرير، وجمع ملوك العدا في رقّ طاعته وهو «6» على جمعهم إذا يشاء قدير؛ ومن يقيم العدل على ما شرع، والشرع على ما أخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع؛ ويميت البدع بإحياء السّنن، ويعلم أنّ الله جعل لخلقه على لسان نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم سننا ولا يعدل بهم عن ذلك السّنن.

ولما كان السّلطان الملك المنصور حسام الدنيا والدّين أبو الفتح «لاچين المنصوري» - خلّد الله سلطانه- هو الذي جعل [الله] صلاح الأمة على يديه، واختاره لإقامة دينه فساق ملك الإسلام عنوة إليه؛ وأنهضه بذلك وقد أمدّه بجنود نصره، وأنزل سكينته عليه وجمع قلوب أهل الإسلام على حبّه؛ وفرّق أعداء الدّين

ص: 55

خوف حربه، وجعل النصر حيث توجه من أشياخه «1» وحزبه؛ وعضّده لنصرة الإسلام بملائكة سمائه، وأقام به عمود الدين الذي بالسّيف قام ولا غرو فإن الحسام من أسمائه؛ وأقبلت إليه طوائف جيوش الإسلام مذعنين، وأدّى في كرامتهم حقوق طاعة الله الذي أيده بنصره وبالمؤمنين، وتلقّاهم بشير كرامته ونعمه وقال:

ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين؛ فطارت مخلّقات البشائر بملكه في الآفاق، وأغصّ العدا سلطانه «2» فما توهّموا في أمر الإسلام الاختلاف حتّى تحقّقوا بحمد الله ويمن أيّامه الوفاق؛ واختالت المنابر الإسلاميّة بذكر أمير المؤمنين وذكره، وأعلنت الأمة المحمديّة بحمد الله الذي أقرّبه الحقّ في مركزه وردّ به شارد الملك إلى وكره؛ وتحقّق أمير المؤمنين أنه المكنون في طويّته والمستكنّ في صدره «3» ؛ والقائم في عمارة بيته النبويّ وسلامته مقام سلمانه وعمّاره «4» ، فعهد إليه حينئذ في كلّ ما تقتضيه أحكام إمامته في أمّة نبيّه، وجعله في التصرّف المطلق عنه قائما مقام وصيّه في الملّة ووليّه؛ وقلّده أمر ملك الإسلام تقليدا عامّا، وفوّض إليه حكم السلطنة الشريفة تفويضا تامّا؛ وألبسه من ذلك ما خلعه عن سواه، ونشر عليه لواء الملك الذي زوى ظلّه عن غيره وطواه؛ وحكّمه في كل ما تقتضيه خلافته المقدّسة، وتمضيه إمامته التي هي على التقوى مؤسّسة: من إقامة منار الإسلام، والحكم العام في أمّة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام؛ وفي تقليد الملوك والوزراء، وتقدمة الجيوش وتأمير الأمراء؛ وفي تجهيز العساكر والسّرايا، وإرسال الطّلائع والرءايا «5» ، وتجريد الجنود الذين ما ندبهم إلى الأعداء «6» إلا آبوا»

بالنّهاب وبالسّبايا؛ وفي غزو العدوّ كيف أراه الله إن بنفسه أو جنده، وفي

ص: 56

استرسال «1» النصر بالثبات والصبر فإنّ الله يجزي الصابرين وما النّصر إلا من عنده؛ وفي محاصرة العدوّ ومصابرته، وإنظاره ومناظرته، وإنزالهم على ما شرع الله فيهم من الأحكام، والتوخّي في ذلك ما حكم به سعد بن معاذ «2» في زمن الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام؛ وفي ضرب الهدن وإمضائها، والوفاء بالعقود المشروعة إلى انتهاء مددها وانقضائها، وفي إرضاء السيوف ممن نكث ولم يتمّ عهده إلى مدّته فإنّ إسخاط الكفر في إرضائها؛ وفي الأمصار يقرّ بها من شاء من الجنود، ويبعث إليها من شاء من البعوث والحشود؛ وفي سداد الثغور بالرجال الذين تفترّ بهم عن شنب النصر، وتأمن بهم أعدادها من غوائل الحصر، وتوفير سهامها من سهام القوّة التي ترمي «3» بشرر كالقصر؛ وإمداد بحرها بالشّواني «4» المجرّبة المجدّدة «5» ، والسّفن التي كأنها القصور الممهّدة على الصّروح الممرّدة؛ فلا تزال تدبّ إليهم من ذوات الأرجل عقاربها، وتخطف غربانهم الطائرة بأجنحة القلوع مخالبها؛ وفي تقدمة «6» وتنفيذ السّرايا التي لا تزال أسنّتها إلى نحور الأعداء مقوّمة، وإنفاق ما يراه في مصالح الإسلام من القناطير المقنطرة من الذهب والفضّة والخيل المسوّمة؛ وفي إعلاء منار الشرع الشريف والانقياد إليه، والمسارعة إلى نفوذ حكمه فيما له وعليه، وتقوية يد حكّامه على كلّ أمير ومأمور أقرّ الشرع في يده شيئا أو انتزعه من يديه، وتفويض الحكم إلى كلّ من يتعيّن لذلك من أئمة الأمّة، وإقامة الشرع الشريف على قواعده الأربعة «7» فإن اتفاق

ص: 57

العلماء حجّة واختلافهم رحمة؛ وفي مصالح الحرمين الشريفين وثالثهما الذي تشدّ الرحال أيضا إليه، وفي إقامة سبل الحجيج الذين «1» دعاهم الله فلبّوه واستدعاهم فقدموا عليه؛ وفوّض إليه كلّ ما هو من لوازم خلافته لله في أرضه: ما ذكر وما لم يذكر، تفويضا لازما، وتقليدا جازما، وعقدا محكما، وعهدا في مصالح الإسلام والمسلمين محكّما، واكتفى عن الوصايا بما جبل عليه خلقه الشريف من التقوى، وهدى نفسه النفيسة إليه من التمسك بالسند «2» الأقوم والسبب الأقوى؛ فما ينبّه على حسنة إلّا وهو أسبق إليها، ولا يدلّ على خلّة «3» إلا وفكره الشريف أسرع من فكر الدالّ عليها؛ وقد وثق ببراءة الذّمّة من حقّ قوم أضحوا لفضل مثله راجين، وتحقّق حلول النعمة على أمّة أمسوا إلى «لاچين» لاجين «4» ؛ وقد استخار أمير المؤمنين الله في ذلك كثيرا، ولجأ إلى الله في توفيقه وتوقيفه على الصواب مما يجده في الحكم بذلك هاديا ونصيرا؛ وسارع إلى التسليم بأمر الله تعالى فيما فوّض إليه من أمور عباده إنّه كان بعباده خبيرا بصيرا.

وأشهد الله وملائكته ومن حضره من المؤمنين على نفسه بما تضمّنه هذا العهد الكريم، وحكم على الأمّة بمقتضاه فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

«5» . والخطّ الشريف الإماميّ الحاكميّ أعلاه، حجة بمقتضاه؛ إن شاء الله تعالى.

وعلى قريب منه كتب القاضي شمس الدين إبراهيم بن القيسرانيّ عهد

ص: 58

الملك الناصر «محمد بن قلاوون» عن الحاكم بأمر الله أحمد بن أبي الربيع سليمان «1» .

وهذه نسخته «2» :

هذا عهد يعمر بك للإسلام المعاهد، وينصر منك الاعتزام فتغنى عن الموالي والمعاضد «3» ؛ ويلقي إليك مقاليد الأمور: لتجتهد في مراضي الله وتجاهد، ويبعثك على العمل بالكتاب والسنّة: ليكونا شاهدين لك عند الله في أعظم المشاهد؛ فخذ كتاب أمير المؤمنين بقوّة تبرّكا بأخذ يحيى عليه السلام للكتاب، وحاسب نفسك محاسبة تجد نفعها يوم يقوم الحساب، واعمل صالحا فالّذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب.

من عبد الله ووليّه الإمام الحاكم بأمر الله أبي العبّاس أحمد أمير المؤمنين:

إلى السلطان الأجلّ، العالم، العادل، المجاهد، المرابط، المظفّر، الملك، الناصر؛ ناصر الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، سيّد الملوك والسلاطين؛ فاتح الأمصار، مبيد الأرمن والفرنج والتّتار؛ وارث الملك، سلطان العرب والعجم والترك؛ خادم الحرمين، صاحب القبلتين؛ أبي الفتح محمد قسيم أمير المؤمنين أعز الله سلطانه، ولد السلطان الشهيد الملك المنصور سيف الدين قلاوون، قدّس الله روحه.

أما بعد، فالحمد لله الذي أقام ناصر الإسلام وأهله بخير ناصر، وأحلّ في السلطنة المعظّمة من استحقّها بذاته الشريفة وشرف العناصر؛ ووضع الإصر «4»

ص: 59

بمن كثرت منه ومن سلفه الكريم على الرّعايا الأواصر «1» ، وعقد لواء الملك لمن هو واحد في الجود ألف في الوغى ففي حاليه تعقد عليه الخناصر؛ وجمع كلمة الأمّة بمتفرّد في المعالي متوحّد في المفاخر، متّصف بمناقب أربى بها على أربابها من الملوك الأوائل والأواخر؛ وأقرّ النواظر والخواطر بمن أشرق عليهما نوره الباهر، وظهرت آثار وجوده وجوده على البواطن والظّواهر؛ وأعاد شبيبة الأيّام في اقتبال سرّ السرائر، وسارت بشائر مقدمه في الآفاق سير المثل وما ظنّك بالمثل السائر؛ وفعلت مهابته في التمهيد والتشييد فعل القنا المتشاجر، وشفت الصّدور بوجود الاتّفاق وعدم الشقاق بعد أن بلغت القلوب الحناجر؛ وأورث البلاد والعباد صفوة ذرّية ورثوا السيادة كابرا عن كابر، وسرى سرّه إذا ولد المولود منهم تهلّلت له الأرض واهتزّت إليه المنابر.

والحمد لله الذي اجتبى سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم من أشرف بيت وقبيلة، ومنح الأمّة برسالته من خيري الدنيا والآخرة الوسيلة، وأوجب الشفاعة لمن سأل الله له أعلى درجة لا ينالها إلا رجل واحد وهي الوسيلة؛ وجعل شملهم بمبايعته ومتابعته في الهداية نظيما، وحضّ على ذلك بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً

«2» . وبلّغهم به من السعادة غاية مطلوبهم، وأيده بنصره وبالمؤمنين وألّف بين قلوبهم؛ وزان شريعته المطهّرة بمحاسن أبهى منظرا ومخبرا من العقود، وفرض على المؤمنين أن يوفوا بالعهود وبالعقود؛ وأقدرهم على حمل الأمانة التي أشفقت السموات والأرض والجبال من حملها، وأنزل في كتابه العزيز: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها

«3» .

ص: 60

والحمد لله الذي اختار أمير المؤمنين من سلالة عمّ نبيّه العباس، واصطفى بيته المبارك من خير أمّة أخرجت للناس؛ وقوّى به جأش المسلمين وجيوش الموحّدين على الملحدين، وآتاه بسيادة جدّه وسعادة جدّه ما لم يؤت أحدا من العالمين؛ وحفظ به للمؤمنين ذماما، وجعله للمتّقين إماما؛ وخصّه بمزيد الشرفين: نسبه ومنصبه، وجعل مزيّة الرتبتين كلمة باقية في عقبه، وصان به حوزة الدّين صيانة العرين بالأسود، وصيّر الأيدي البيض مشكورة لحاملي راياته السّود.

يحمده أمير المؤمنين حمد من اختاره من السّماء فاستخلفه في الأرض، وجعل إمرته على المؤمنين فرضا لتقام به السّنّة والفرض؛ ويشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى «1»

«2» ؛ ويشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي كشف بمبعثه عن القلوب حجب الغيّ، وأشرقت أنوار نبوّته فأضاء لها يوم دخوله المدينة كلّ شيّ؛ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين منهم من أقامه في الإمامة مقامه وأشار إلى الاقتداء به من بعده، ومنهم من أعزّ الله به الإسلام في كلّ قطر مع قربه وبعده؛ ومنهم من كانت اليد الشريفة النبويّة في بيعة الرّضوان خيرا له من يده، ومنهم من أمر الله تعالى بالمباهلة «3» بالأبناء والنّفوس فباهل «4» خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم به وبزوجه وولده؛ وعلى بقيّة العشرة، الذين غدت بهم دعوة الحقّ مشتهرة منتشرة؛ وعلى عمّيه «5» أسد الله وأسد رسوله عليه السلام، وجدّ الأئمة المهديّين أمراء المؤمنين وخلفاء الإسلام، وسلم تسليما كثيرا.

وإنّ الله تعالى جعل سجيّة الأيّام الشريفة الإماميّة الحاكميّة أدام الله إشراقها، وقسم بها بين الأولياء والأعداء آجالها وأرزاقها؛ ردّ الحقوق إلى نصابها، وإعادتها

ص: 61

إلى مستحقّيها ولو تمادت الأيّام على اغتصابها، وإقرارها عند من هو دون الورى أولى بها: ليحقّق أنّ نسبه الشريف أظهر على أوامره دلائل الإعجاز، وحلّى كلماتها بالإيجاز وهباتها بالإنجاز؛ وإنّ الله جعل الاسم الشريف الحاكميّ في الحكم بأمره على خير مسمّى، وقوّى منه في تأييد كلمة الحقّ جنانا وعزما، ولم يخرج من أحكامه عن اتّباع أمر الله قضيّة ولا حكما؛ وكنت أيّها السيد، العالم العادل، السلطان، الملك، الناصر؛ ناصر الدنيا والدين، أبو الفتح محمد ابن السلطان الشهيد الملك المنصور، سيف الدين قلاوون- قدّس الله روحه- أولى الأولياء بالملك الشريف: لما لسلفك من الحقوق، وما أسلفوه من فضل لا يحسن له التناسي ولا العقوق؛ ولما أوجب لك على العساكر الإسلامية سابق الأيمان، وصادق الإيمان: ولأنك جمعت في المجد بين طارف وتالد، وفقت بزكيّ نفس وأخ ووالد؛ وجلالة، ما ورثتها عن كلالة؛ وخلال، مالها بالسّيادة إخلال؛ ومفاخر، تكاثر البحر الزاخر؛ ومآثر، أعجز وصفها الناظم والناثر؛ وكان ركابك العالي قد سار إلى الكرك المحروس، وقعدت عنك الأجسام وسافرت معك النّفوس؛ ووثقت الخواطر بأنّك إلى السلطنة تعود؛ وأنّ الله تعالى يجدّد لك صعودا إلى مراتب السّعود؛ وأقمت بها وذكرك في الآفاق سائر، والآمال مبشّرة بأنك إلى كرسيّ مملكتك صائر. فلمّا احتاج الملك الشريف في هذه المدّة إلى ملك يسرّ سريره، وسلطان تغدو باستقراره عيون الأنام والأيّام قريرة: لما للمسلمين في ذلك من تيسير أوطار وتعمير أوطان، ولأنهم لا ينفذون في المصالح الإسلاميّة إلا بسلطان؛ لم يدر في الأذهان، ولا خطر لقاص ولا دان؛ إلّا أنك أحقّ الناس بالسلطنة الشريفة، وأولاهم برتبتها المنيفة، ولا ذكر أحد إلّا حقوق بيتك وفضلها، ولا قال عنكم إلّا بقول الله: وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها

«1» : لأنّ البلاد فتوحات سيوفكم، ورعاياها فيما هم فيه من الأمن والخير بمنزلة ضيوفكم؛ ولأنّ العساكر الإسلاميّة استرقّهم ولاؤك، ووالوك لأنهم أرقّاؤك؛ فلم يقل أحد:

أنّى له الملك علينا؟ بل أقرّ كلّ منهم لك باليد وقرّ بولايتك عينا؛ وأخلصوا في

ص: 62

موالاتك العقائد، واستبشروا منك بمبارك الوجه ماجد جائد؛ ولم يغب غائب خليفته جيش أبيه وجدّه الصاعد؛ ورفعت الممالك يد الضّراعة سائلة وراغبة، وخطبتك لعقائلها ومعاقلها والخطباء على المنابر لك خاطبة وبدعائك مخاطبة؛ وقصدت لذلك أبوابك التي لا تزال تقصد، ودعيت للعود المبارك وعود محمّد للأمّة المحمديّة أحمد؛ وفعلت الجيوش المنصورة من طاعتك كلّ ما سرّ، وأربت في صدق النيّات وبرّها على كل من برّ:

ولو انّ مشتاقا تكلّف فوق ما

في وسعه لسعى إليك المنبر!

فما ضرّ بحمد الله بعد الدار والآمال بساكنها مطيفة، بل كان لك الذّكر «1» في قلب الخليفة نعم الخليفة؛ وكنت لديه- وإن غبت- حاضرا بجميل الذّكر، ونأيت دارا فقرّ بك إليه حسن التصوير في الفكر. وكان أمير المؤمنين قد شاهدك يافعا، وشهد خاطره أن ستصير للمسلمين نافعا؛ وتأمّل منك أمائر أضحى لها لترقّيك آملا، وهلالا دلّته كرامته- ولا تنكر الكرامة- على أن سيكون بدرا كاملا؛ وبلغه عنك من العدل والإحسان، ما أعجز وصفه بلاغتي القلم واللّسان؛ فناداك نداءه «2» على بعد المزار، ولم يجد لك نظير أفأطال وأطاب لمقدمك السعيد الانتظار؛ إلى أن أقدمت إقدام اللّيث، وقدمت إلى البلاد المتعطّشة إلى نظرك الشريف قدوم الغيث؛ فلاح بك على الوجود دليل الفلاح، وحمد الرعايا سراك عند الصبّاح والاستصباح وشاهدوا منك أسدا فاق بوثباته وثباته الأول، وشخصا لا يصلح إلّا لإدالة دول ولا تصلح إلا لمثله الدّول؛ وقامت باختبارك على اختيارك الدّلائل، وعرفك سرير الملك وعرف فيك من أبيك شمائل؛ ورأى أمير المؤمنين من نجابتك فوق ما أخبرت به مساءلة الرّكبان، ومن مهابتك ما دلّ على خفض الشانيء ورفع الشان؛ ومن محامدك كلّ ما صغّر الخبر عنها الخبر، وأعلنت ألسنة الأقدار

ص: 63

بأنه لم يبق عن تقليدك الممالك الإسلاميّة بحمد الله تعالى عذر؛ فاختارك على علم العالمين، واجتباك للذّبّ عن الإسلام والمسلمين؛ واستخار الله تعالى في ذلك فخار؛ وأفاض عليك من بيعته المباركة مع فخرك المشتهر حلل الفخار؛ وعهد إليك في كلّ ما اشتملت عليه دعوة إمامته المعظّمة، وأحكام خلافته التي لم تزل بها عقود الممالك في الطاعة منظّمة؛ وفوّض إليك سلطنة الممالك الإسلاميّة برّا وبحرا، شاما ومصرا؛ قربا وبعدا، غورا ونجدا؛ وما سيفتحه الله عليك من البلاد، وتستنقذه من أيدي ذوي الإلحاد؛ وتقليد الملوك والوزراء، وقضاة الحكم العزيز وتأمير الأمراء؛ وتجهيز العساكر والبعوث للجهاد في سبيل الله ومحاربة من ترى محاربته من الأعداء، ومهادنة من ترى مهادنته منهم؛ وجعل إليك في ذلك كله العقد والحلّ، والإبرام والنقض والولاية والعزل؛ وقلّدك ذلك كلّه تقليدا يقوم في تسليم الممالك إليك مقام الإقليد «1» ، ويقضي لقريبها وبعيدها بمشيئة الله تعالى بمزيد التمهيد والتّشييد: لتعلم أنّ الله قد جعل الأيام الشريفة الحاكمية- أدامها الله تعالى- فلكا أبدى سالفا من البيت الشريف المنصوري أقمارا، وأطلع منهم آنفا بدرا ملأ الخافقين أنوارا؛ فكلّما ظهرت لسلفه مآثر بدت مآثر خلفه أظهر، ومن شاهدهم وشاهد شمس سعادته المنزّهة عن الأفول قال هذا أكبر؛ وكلّما ذكر لأحدهم فضل علم أنه في أيامه متزيّد، وأنه إن مضى منهم سيّد في سبيله، فقد قام بأطراف الأسنّة منهم سيّد؛ وصيّر الدولة الشريفة الخليفيّة غابا إن غاب منهم أسود، خلفهم شبل بشّرت مخايله أنّه عليها يسود.

فليتقلّد السلطان الملك الناصر ما قلّده أمير المؤمنين، وليكن لدعوته الهادية من الملبّين وعليها من المؤمّنين؛ وليترقّ إلى هذه الرّتبة التي استحقّها بحسبه، واسترقّها بنسبه؛ وليباشرها مستبشرا، ويظهر من شكر الله تعالى عليها ما يغدو به مستظهرا؛ فقد أراد أمير المؤمنين القيام في نصرة الدين الحنيف فأقامك

ص: 64

أنت مقامه، وصرّف بك بين أهل الطاعة والعصيان إكرامه وانتقامه؛ رعيا لعهد سلفك الكريم، ولما استوجبته نفسك النفيسة من وفور التعظيم والتكريم؛ وعناية بالعساكر المؤيّدة الذين وجّهوا وجوه آمالهم إليك، وأبت كلمتهم التي صانها الله عن التفرّق أن تجتمع في الطاعة والخدمة إلّا عليك ولديك؛ ومنّة عليهم بسلطان ما برحوا من الله تعالى يطلبونه، وملك نشأوا بأبوابه العالية فلهذا يحبّهم ويحبّونه.

فاحمد الله تعالى الذي جعل لك في إعادة الملك أسوة بسليمان عليه السلام، وردّه إليك ردّا لا انفصال لعروته ولا انفصام؛ فأضحيت لأمور عباده سدادا، ولثغور بلاده سدادا، وللخليفة عضدا في الخليقة، وفي الدهر سامي الحقيقة حامي الحقيقة، وللملك وارثا، ورقّاك رقيّا أصبحت به في السلطنة واحدا وللخلافة المعظمة ثانيا وللقمرين ثالثا.

وبشراك! أنّ الله أبرم سبب تأييدك إبراما لا تصل الأيدي إلى نقضه، وأنك سئلت عن أمر طالما أتعب غيرك سؤاله في بعضه؛ وأن الله يحسن لك العون وبك الصّون، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يا عبد الرّحمن بن سمرة! «1» لا تسأل الإمارة فإنّك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها» .

وبشراك! أن أمير المؤمنين خصّك بمزيد الاعتناء، وأقامك مقامه في حسن الغناء، وحقّق أنّ السعادة في أيامه موصولة منكم بالآباء والأبناء؛ وبلّغك بهذا التقليد الشريف الأماني، وتوّجه بيمين قريبة عهد باستلام الرّكن اليماني؛ واصطفاك بقلب أظهر له الكشوف إشراق تلك السّتور، وغدا مغمورا بالهداية ببركة البيت المعمور، ونظر زادته مشاهدة الحرم الشريف النبويّ نورا على نور؛ فقابل «2» ذلك بالقيام في مهمات الإسلام، وتدقيق النظر في مصالح الخاصّ والعام؛

ص: 65

واجتهد في صيانة الممالك اجتهادا يحرس منها الأوساط والأطراف، وتنتظم به أحوالها أجلّ انتظام وتأتلف أجمل ائتلاف.

والوصايا كثيرة وأولاها تقوى الله: فليجعلها حلية لأوقاته، ويحافظ عليها محافظة من يتّقيه حقّ تقاته؛ ويتّخذها نجيّ فكره وأنيس قلبه، ويعظّم حرمات الله:

وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ

«1» .

والشرع الشريف فهو لعقد الإسلام نظام، وللدّين القيّم قوام؛ فتجتهد في اقتفاء سننه، والعمل بمفروضه»

وسننه؛ وتكريم أهله وقضاته، والتوسل بذلك إلى الله في ابتغاء مرضاته.

وأمراء دولتك فهم أنصار سلفك الصالح، وذو والنصائح فيما آثروه من المصالح؛ وخلصاء طاعتهم في السّرّ والنّجوى، وأعوانهم على البرّ والتقوى؛ وهم الذين أحلّهم والدك من العناية المحلّ الأسنى، والذين سبقت لهم بحسن الطاعة من الله الحسنى؛ ولو لم يكن لهم إلّا حسن الوفاء، لكفاهم عندك في مزيد الاعتماد والاستكفاء؛ فإنهم جادلوا في إقامة دولتك وجالدوا، وأوفوا بالعهد فهم الموفون بعهدهم إذا عاهدوا؛ وهم للوصايا بخدمتك واعون، وفيما ائتمنتهم عليه لأماناتهم وعهدهم راعون؛ قد أصفوا لك النّيّات بظهر الغيب، وأخلصوا الطويّات إخلاصا لا شكّ معه ولا ريب؛ ونابوا عنك أحسن مناب، وكفّوا كفّ العدوّ فما طال له لا فتراس ولا اختلاس ظفر ولا ناب؛ واتخذوا لهم بذلك عند الله وعندك يدا، وأثّلوا لهم به مجدا يبقى حديثه الحسن الصحيح عنهم مسندا.

فاستوص بهم وبسائر عساكرك المنصورة خيرا، وأجمل لهم سريرة وفيهم سيرا؛ وأحمدهم عقبى هذه الخدمة، وأوردهم منهل إحسان يضاعف لهم النّعمة

ص: 66

والنّعمة: لتؤكّد طاعتك على كل إنسان، ويثقوا بحسن المكافأة: وهَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ

«1» . ولتزداد أوامرك ونواهيك امتثالا، ولا يجدوا عن محبّة أيّامك الشريفة انتقالا، وليقال في حسن خدمهم وإحسانك: هكذا هكذا وإلّا فلا لا.

وأما الغزو والجهاد في سبيل الله تعالى، وما أوجبه فيهما قوله: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا

«2» ، فأقلّ ما يجزيء فرض الكفاية منه مرّة في كل عام، وأما فرض العين فوجوبه على ذوي الاستطاعة من المسلمين عامّ؛ وقد عرفت سنن السلطانين الشهيدين: والدك وأخيك «3» - قدّس الله روحهما «4» - في الاعتناء بجهاد الكفار، وغزوهم في عقر الدار؛ وموقف أحدهما في موطن زلّت فيه الأقدام عن الإقدام، واجتمع فيه الكفر على الإسلام؛ وشاب من هوله الوليد، ومصابرته تجاه سيف من سيوف الله تعالى الإمام خالد بن الوليد؛ واستنقاذا لآخر البلاد الساحليّة التي أنقذها الله من أيدي المشركين على يد الصّلاحين «5» ، وفتح لهما أبواب الجنة ببركة الافتتاحين؛ وأنّ والدك وأخاك سدّا على المشركين الفجاج، وطهّرا من أرجاسهم العذب الفرات والملح الأجاج؛ فالكتائب المنصوريّة «6» ، أبادت «7» التّتار بالسّيوف المشرفيّة؛ والممالك الإسلامية، زهت نظاما بالفتوحات الأشرفيّة «8» ؛ فاجتهد في إعلاء كلمة الدين أتمّ اجتهاد، وعزّزهما بثالث في الغزو والجهاد.

ص: 67

وأما الرّعايا «1» بعيدهم وقريبهم، ومستوطنهم وغريبهم، فيوفّيهم من الرّعاية حظّهم، ويجزل صيانتهم وحفظهم؛ وكما يرى الحقّ له فلير الحقّ عليه، ويحسن إلى رعاياه كما أحسن الله إليه.

وأما العدل فإنّه للبلاد عمارة، وللسّعادة أمارة، وللآخرة منجاة من النّفس الأمّارة؛ فليكن له شعارا ودثارا «2» ، وليؤكّد مراسمه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمحافظة من ذلك على ما يذكر به عند الله ويشكر.

والحدود الشرعيّة فليحلّ بإقامتها لسانه وطرسه، ولا يتعدّها بنقص ولا زيادة وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ

«3» . والله يخلّد له رتبة الملك التي أعلى بها مقامه، ويديمه ناصرا للدين الحنيف فأنصاره لا يزالون ظاهرين إلى يوم القيامة؛ ويجعل سبب هذا العهد الشريف مدى الأيّام متينا، ويجدّد له في كلّ وقت نصرا قريبا وفتحا مبينا. والخطّ «4» الحاكميّ أعلاه، حجة بمقتضاه؛ إن شاء الله تعالى.

الحمد لله وحده؛ وصلواته على سيدنا محمد وآله وسلامه، حسبنا الله ونعم الوكيل.

وعلى نحو من ذلك كتب القاضي علاء الدين بن عبد الظاهر «5» عن المستكفي بالله، أبي الرّبيع سليمان «6» ، عهد الملك المظفّر ركن الدين «بيبرس

ص: 68

المنصوري» الجاشنكير «1» . وهذه نسخته:

هذا عهد شريف انتظمت به عقود مصالح الملك والممالك، وابتسمت ثغور الثّغور ببيعته التي شهدت بصحّتها الكرام الملائك؛ وتمسّكت النّفوس بمحكم عقده النّضيد ومبرم عقده النّظيم، ووثقت بميثاقه فتركت الألسن مستفتحة بقول الله الكريم: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

«2» .

الحمد لله الذي جعل الملّة الإسلامية تأوي من سلطانها إلى ركن شديد، وتحوي من متابعة مظفّرها كلّ ما كانت ترومه من تأبيد التأييد، وتروي أحاديث النصر عن ملك لا يملّ من نصرة الدّين الحنيفّي وإن ملّ الحديد من الحديد؛ مؤتي ملكه من يشاء من عباده، وملقي مقاليده للوليّ المليّ بقمع أهل عناده؛ ومانحه من لم يزل بعزائمه ومكارمه مرهوبا مرغوبا، وموليه ومولّيه من غدا محبوّا من الأنام بواجب الطاعة محبوبا، ومفوّض أمره ونهيه إلى من طالما صرف خطّيّه عن حمى الدين أخطارا وخطوبا.

والحمد لله مجري الأقدار، ومظهر سرّ الملك فيمن أضحى عند الإمامة العباسيّة بحسن الاختبار من المصطفين الأخيار؛ جامع أشتات الفخار، ورافع لواء الاستظهار؛ ودافع لأواء «3» الأضرار، بجميل الالتجاء إلى ركن أمسى بقوّة الله تعالى عالي المنار، وافي المبارّ، بادي الآثار الجميلة والإيثار.

والحمد لله على أن قلّد أمور السلطنة الشريفة لكافلها وكافيها، وأسند عقدها وحلّها لمن يدرك بكريم فطنته وسليم فطرته عواقب الأمور من مباديها، وأيّد

ص: 69

الكتائب الإيمانيّة بمن لم تزل عواليه تبلّغها من ذرى الأمانيّ معاليها.

يحمده أمير المؤمنين على إعلاء كلمة الإيمان بأعيان أعوانها، وإعزاز نصرها بأركان تشييدها وتشييد أركانها؛ ويشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لا تبرح الألسنة ترويها والقلوب تنويها، والمواهب تجزل لقائلها تنويلا وتنويها؛ ويشهد أنّ محمدا عبده ورسوله أكمل نبيّ وأفضل مبعوث، وأشرف مورّث لأجلّ موروث؛ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تنمي بركاتها وتنمّ «1» ، وتخصّ حسناتها وتعمّ؛ ورضي الله عن عمّه العباس جدّ أمير المؤمنين، وعن آبائه الأئمة المهديّين؛ الذين ورثوا الخلافة كابرا عن كابر، وسمت ووسمت بأسمائهم ونعوتهم ذرى المنابر.

أما بعد، فإن الله عز وجل لما عدق «2» بمولانا أمير المؤمنين مصالح الجمهور، وعقد له البيعة في أعناق أهل الإيمان فزادهم نورا على نور، وأورثه عن أسلافه الطاهرين إمامة خير أمّة، وكشف بمصابرته من بأس العدا ظلام كلّ غمّة؛ وأنزل عليه السكينة في مواطن النصر والفتح المبين، وثبّته عند تزلزل الأقدام وثبّت به قلوب المؤمنين؛ وأفاض عليه من مهابة الخلافة ومواهبها ما هو من أهله، وأتمّ نعمته عليه كما أتمها على أبويه من قبله- بايع الله تعالى على أن يختار للتّمليك على البرايا، والتحكيم في الممالك والرّعايا؛ من أسّس بنيانه على التقوى، وتمسّك من خشية الله تعالى بالسبب الأقوى؛ ووقف عند أوامر الشرع الشريف في قضائه وحكمه، ونهض لأداء فرض الجهاد بمعالي عزمه وحزمه؛ وكان المقام الأشرف العالي، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، المظفّريّ، الرّكنيّ، سلطان الإسلام والمسلمين، سيد الملوك والسلاطين؛ ناصر الملّة المحمدية، محيي

ص: 70

الدولة العبّاسية؛ أبو الفتح «بيبرس» قسيم أمير المؤمنين: أعزّ الله تعالى ببقائه حمى الخلافة وقد فعل، وبلّغ في بقاء دولته الأمل- هو الملك الذي انعقد الإجماع على تفضيله، وشهدت مناقبه الطاهرة باستحقاقه لتحويل الملك إليه وتخويله؛ وحكم التوفيق والاتّفاق بترقّيه إلى كرسيّ السلطنة وصعوده، وقضت الأقدار بأن يلقي إليه أمير المؤمنين أزمّة عهوده، والذي كم خفقت قلوب الأعادي عند رؤية آيات نصره، ونطقت ألسنة الأقدار بأن سيكون مليك عصره وعزيز مصره، واهتزّت أعطاف المنابر شوقا للافتخار باسمه، واعتزّت الممالك بمن زاده الله بسطة في علمه وجسمه؛ وهو الذي ما برح مذ نشأ يجاهد في الله حقّ جهاده، ويساعد في كل معركة بمرهفات سيوفه ومتلفات صعاده؛ ويبدي في الهيجاء صفحته للصّفاح فيقيه الله ويبقيه: ليجعله ظلّه على عباده وبلاده، فيردي الأعداء في مواقف تأييده فكم عفّر من خدّ لملوك الكفر تحت سنابك جياده؛ ويشفي بصدور سيوفه صدور قوم مؤمنين، ويسقي ظماء أسنّته فيرويها من مورد وريد المشركين؛ ويطلع في سماء الملك من غرر آرائه نيّرات لا تأفل ولا تغور، ويظهر من مواهبه ومهابته ما تحسّن به الممالك وتحصّن الثّغور؛ فما من حصن استغلقه الكفر إلا وسيفه مفتاحه، ولا ليل خطب دجا إلا وغرّته الميمونة صباحه؛ ولا عزّ أمل لأهل الإسلام إلا وكان في رأيه المسدّد نجاحه، ولا حصل خلل في طرف من الممالك إلّا وكان بمشيئة الله تعالى وبسداد تدبيره صلاحه؛ ولا اتّفق مشهد عدوّ إلا والملائكة الكرام بمظافرته فيه أعدل شهوده، ولا تجدّد فتوح للإسلام إلا جاد فيه بنفسه وأجاد؛ (والجود بالنّفس أقصى غاية الجود) .

كم أسلف في غزو أعداء الدّين من يوم أغرّ محجّل، وأنفق ما له ابتغاء مرضاة الله سبحانه فحاز الفخر المعجّل والأجر المؤجّل؛ وأحيا من معالم العلوم ودوارس المدارس كلّ داثر، وحثّه إيمانه على عمارة بيوت الله تعالى الجامعة لكلّ تال وذاكر: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ

«1» . وهو الذي ما

ص: 71

زالت الأولياء تتخيّل مخايل السّلطنة في أعطافه معنى وصورة، والأعداء يرومون إطفاء ما أفاضه الله عليه من أشعّة أنواره: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ

«1» . طالما تطاولت إليه أعناق الممالك فأعرض عنها جانبا، وتطفّلت على قربه فكان لها- رعاية لذمّة الوفاء- مجانبا؛ حتّى أذن الله سبحانه لكلمة سلطانه أن ترفع، وحكم له بالصّعود في درج الملك إلى المحلّ الأعلى والمكان الأرفع، وأدّى له من المواهب ما هو على اسمه في ذخائر الغيوب مستودع.

فعند ذلك استخار الله تعالى سيدنا ومولانا الإمام المستكفي بالله أمير المؤمنين أبو الربيع سليمان، ابن الإمام الحاكم (وذكر نسبه على العادة) جعل الله الخلافة كلمة باقية في عقبه، وأمتع الإسلام والمسلمين بشرفي حسبه ونسبه؛ وعهد إلى المقام العالي السلطانيّ بكلّ ماوراء سرير خلافته، وقلّده جميع ما هو مقلّده من أحكام إمامته؛ وبسط يده في السلطنة المعظّمة، وجعل أوامره هي النافذة وأحكامه هي المحكّمة، وذلك بالديار المصرية، والممالك الشاميّة، والفراتيّة، والجبليّة، والساحليّة، والقلاع والثّغور المحروسة، والبلاد الحجازيّة، واليمانية، وكلّ ما هو إلى خلافة أمير المؤمنين منسوب، وفي أقطار إمامته محسوب، وألقى إلى أوامره أزمّة البسط والقبض، والإبرام والنّقض، والرّفع والخفض؛ وما جعله الله في يده من حكم الأرض، ومن إقامة سنّة وفرض؛ وفي كلّ هبة وتمليك، وتصرّف في ولاية أمور الإسلام من غير شريك؛ وفي تولية القضاة والحكّام، وفصل القضايا والأحكام؛ وفي سائر التحكّم في الوجود، وعقد الألوية والبنود، وتجنيد الكتائب والجنود، وتجهيز الجيوش الإسلامية من التأييد «2» إلى كلّ مقام محمود؛ وفي قهر الأعداء الذين نرجو بقوّة الله تعالى أن يمكّنه من نواصيهم، ويحكّم قواضبه «3» في استنزالهم من صياصيهم «4» ، واستئصال شأفة عاصيهم؛ حتّى يمحو

ص: 72

إن شاء الله تعالى بمصابيح سيوفه سواد خطوب الشّرك المدلهمّة، وتغدو سراياه في اقتلاع قلاع الكفر مستهمة؛ وترهبهم خيل بعوثه وخيالها في اليقظة والمنام، ويدخل في أيامه أهل الإسلام «مدينة السلام» بسلام- تفويضا تامّا عامّا، منضّدا منظّما محكّما محكما؛ أقامه مولانا أمير المؤمنين في ذلك مقام نفسه الشريفة، واستشهد الكرام الكاتبين في ثبوت هذه البيعة المنيفة.

فليتقلّد المقام الشريف العالي السلطاني- أعز الله نصره- عقد هذا العهد الذي لا تطمح لمثله الآمال، وليستمسك منه بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها ولا انفصال؛ فقد عوّل أمير المؤمنين على يمن آرائك التي ما برحت الأمّة بها في المعضلات تستشفي، واستكفى بكفايتك وكفالتك في حياطة الملك فأضحى وهو بذلك المستكفي؛ وهو يقصّ عليك من أنباء الوصايا أحسن القصص، وينصّ لديك ما أنت آخذ منه بالعزائم إذا أخذ غيرك فيه بالرّخص؛ فإن نبّهت على التقوى فطالما تمسّكت منها بأوثق عروة؛ وإن هديت إلى سبيل الرشاد فما زلت ترقى منه أشرف ذروة؛ وإن استرهفنا عزمك الماضي الغرار، واستدعينا حزمك الذي أضاء به دهرك واستنار، في إقامة منار الشرع الشريف، والوقوف عند نهيه وأمره في كل حكم وتصريف، فما زلت- خلّد الله سلطانك- قائما بسنّته وفرضه، دائبا في رضا الله تعالى بإصلاح عقائد عباده في أرضه؛ وما برح سيفك المظفّر للأحكام الشرعيّة خادما، ولموادّ الباطل حاسما، ولأنوف ذوي البدع راغما؛ فكلّ ما نوصيك به من خير قد جبلت عليه طباعك، ولم يزل مشتدّا فيه ساعدك ممتدّا إليه باعك؛ غير أنّا نورد لمعة اقتضاها أمر الله تعالى في الاقتداء بالتّذكرة في كتابه المبين، وأوجبها نصّ قوله تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ

«1» . ويندرج تحت أصولها فروع يستغني بدقيق ذهنه الشريف عن نصّها، وبفكره الثاقب عن قصّها؛ فأعظمها للملّة نفعا، وأكثرها للباطل دفعا، الشرع الشريف: فليكن- أعز الله نصره- عاملا على تشييد قواعد إحكامه، وتنفيذ أوامر أحكامه؛ فالسعيد من قرن أمره بأمره،

ص: 73

ورضي فيه بحلو الحق ومرّه. والعدل فلينشر لواءه حتّى يأوي إليه الخائف، وينكفّ بردعه حيف كلّ حائف، ويتساوى في ظلّه الغنيّ والفقير، والمأمور والأمير؛ ويمسي الظّلم في أيّامك وقد خمدت ناره، وعفت آثاره.

وأهمّ ما احتفلت به العزائم، واشتملت عليه همم الملوك العظائم، وأشرعت له الأسنّة وأرهفت من أجله الصوارم؛ أمر الجهاد الذي جعله الله تعالى حصنا للإسلام وجنّة، واشترى فيه أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة؛ فجنّد له الجنود واجمع له الكتائب، واقض في مواقفه على الأعداء من بأسك بالقواضي «1» القواضب؛ واغزهم في عقر الدار، وأرهف سيفك البتّار: لتأخذ منهم للمسلمين بالثّار. والثّغور والحصون، فهي سرّ الملك المصون، وهي معاقل النفوس إذا دارت رحى الحرب الزّبون «2» ؛ فليقلّد أمرها لكفاتها، ويخصّ حمايتها بحماتها، ويضاعف لمن بها أسباب قوّتها ومادّة أقواتها. وأمراء الإسلام وجنود الإيمان فهم أولياء نصرك، وحفظة شامك ومصرك؛ وحزبك الغالب، وفريقك الذين تفرق منهم قلوب العدا في المشارق والمغارب؛ فليكن المقام العالي السلطانيّ- أعزه الله تعالى- لأحوالهم متفقّدا، وببسط وجهه لهم متودّدا، حتّى تتأكد لمقامه العالي طاعتهم، وتتجدّد لسلطانه العزيز ضراعتهم. وأما غير ذلك من المصالح، فما برح تدبيره الجميل لها ينفّذ ورأيه الأصيل بها يشير، فلا يحتاج مع علمه بغوامضها إلى إيضاحها وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ

«3» . والله تعالى يخصّ دولته من العدل والإحسان بأوفر نصيب، ويمنح سلطانه ما يرجوه من النصر المعجّل والفتح القريب؛ إن شاء الله تعالى.

ص: 74