المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المذهب الثالث من مذاهب كتاب الدولة الفاطمية - صبح الأعشى في صناعة الإنشا - ط العلمية - جـ ١٠

[القلقشندي]

فهرس الكتاب

- ‌[الجزء العاشر]

- ‌[تتمة الباب الثالث]

- ‌[تتمة النوع الثاني]

- ‌الوجه الخامس (فيما يكتب في ألقاب الملوك عن الخلفاء، وهو نمطان)

- ‌النمط الأوّل (ما كان يكتب في قديم الزمن)

- ‌النمط الثاني (ما يكتب به لملوك الزمان)

- ‌الوجه السادس (فيما يكتب في متن العهود، وفيه ثلاثة مذاهب)

- ‌المذهب الأوّل (وعليه عامّة الكتّاب من المتقدّمين وأكثر المتأخّرين)

- ‌الطريقة الأولى (طريقة المتقدّمين)

- ‌المذهب الثاني (أن يفتتح العهد بلفظ «من فلان» باسم الخليفة وكنيته ولقب الخلافة

- ‌المذهب الرابع

- ‌المذهب الخامس (أن يفتتح العهد ب «إنّ أولى ما كان كذا» ونحوه)

- ‌الوجه السابع (فيما يكتب في مستند عهد السلطان عن الخليفة، وما يكتبه الخليفة في بيت العلامة، وما يكتب في نسخة العهد من الشّهادة أو ما يقوم مقامها)

- ‌الوجه الثامن (في قطع الورق الذي تكتب فيه عهود الملوك عن الخلفاء، والقلم الذي يكتب به، وكيفيّة كتابتها، وصورة وضعها في الورق)

- ‌النوع الثالث (من العهود عهود الملوك لولاة العهد بالملك)

- ‌الوجه الأوّل (في بيان صحّة ذلك)

- ‌الوجه الثاني (فيما يكتب في الطرّة)

- ‌الوجه الثالث (في الألقاب التي تكتب في أثناء العهد)

- ‌الوجه الرابع (ما يكتب في المستند)

- ‌الوجه الخامس (ما يكتب في متن العهد)

- ‌الطريقة الأولى

- ‌الطريقة الثانية

- ‌الوجه السادس

- ‌الوجه السابع

- ‌النوع الرابع

- ‌الوجه الأوّل

- ‌الوجه الثاني

- ‌الضرب الأوّل

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الباب الرابع من المقالة الخامسة

- ‌الفصل الأوّل (فيما كان يكتب من ذلك عن الخلفاء، وفيه خمسة أطراف)

- ‌الطرف الأوّل (فيما كان يكتب عن الخلفاء الراشدين من الصحابة رضوان الله عليهم)

- ‌الطرف الثاني (فيما كان يكتب عن خلفاء بني أميّة)

- ‌الطرف الثالث

- ‌النوع الأوّل

- ‌النوع الثاني

- ‌الضرب الأوّل

- ‌الضرب الثاني

- ‌النوع الثالث (مما كان يكتب لأرباب الوظائف من ديوان الخلافة ببغداد ما كان يكتب لأرباب الوظائف ببغداد من أصحاب الأقلام)

- ‌الضرب الأوّل (العهود)

- ‌الضرب الثاني

- ‌النوع الرابع

- ‌الطرف الرابع

- ‌الطرف الخامس

- ‌النوع الأوّل

- ‌المذهب الأوّل (أن يفتتح ما يكتب في الولاية بالتّصدير)

- ‌المرتبة الأولى (أن يقال بعد التصدير المقدّم «أما بعد فالحمد لله» )

- ‌الضرب الأوّل (سجلّات أرباب السيوف

- ‌المرتبة الثانية

- ‌المرتبة الثالثة (من المذهب الأول من سجلات ولايات الفاطميين أن تفتتح بالتّصدير أيضا

- ‌المذهب الثالث من مذاهب كتّاب الدولة الفاطميّة

- ‌المذهب الرابع (مما كان يكتب لأرباب الولايات بالدّولة الفاطمية مرتبة الأصاغر من أرباب السّيوف والأقلام)

- ‌النوع الثاني (مما كان يكتب في الدولة الفاطمية بالديار المصرية ما كان يكتب عن الوزير)

- ‌المصادر والمراجع المستعملة في حواشي الجزء العاشر من كتاب «صبح الأعشى»

- ‌فهرس الجزء العاشر من صبح الأعشى

الفصل: ‌المذهب الثالث من مذاهب كتاب الدولة الفاطمية

هذا ما عهد أمير المؤمنين فأوف بعهده، تهتد بهديه، وترشد برشده؛ وهذا أوّل إمرة أمّرها لك فاعمل بها، وحاسب نفسك قبل حسابها، ولا تدع من عاجل النظر لها أن تنظر لمآبها: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ

«1» .

وكتب في يوم الأحد لسبع ليال بقين من صفر «2» سنة 389.

‌المذهب الثالث من مذاهب كتّاب الدولة الفاطميّة

(أن يفتتح ما يكتب في الولايات بخطبة مبتدأة بالحمد لله «3» كما يكتب في أعلى الولايات في زماننا، ويقال: «يحمده أمير المؤمنين على كذا وكذا، ويسأله أن يصلّي على محمد وآله، وعلى جدّه عليّ بن أبي طالب» ثم يقال: «وإنّ أمير المؤمنين لم يزل ينظر فيمن يصلح لهذه الولاية، وإنه لم يجد من هو كفؤ لها غير المولّى، وإنه ولّاه تلك الوظيفة» ثم يوصّى بما يليق به من الوصية، ثم يقال: «هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجته عليك، فاعمل به» أو نحو ذلك مما يعطي هذا المعنى) وقد أورد عليّ بن خلف من إنشائه في كتابه «موادّ البيان» «4» المؤلّف في ترتيب الكتابة للدولة الفاطمية عدّة تقاليد لأرباب السّيوف.

منها- تقليد في رسم ما يكتب للوزير، [وهو] «5» :

الحمد لله المنفرد بالملكوت والسلطان، المستغني عن الوزراء والأعوان،

ص: 397

خالق الخلق بلا ظهير، ومصوّرهم في أحسن تصوير، الذي دبّر فأتقن التدبير، وعلا عن المكلّف والمشير، المانّ على عباده بأن جعلهم بالتوازر إخوانا، وبالتظافر أعوانا، وأفقر بعضهم إلى بعض في انتظام أمورهم، وصلاح جمهورهم.

يحمده أمير المؤمنين أن استخلفه في الأرض، وناط به أسباب البرم والنقض، واسترعاه على بريّته، واستخلصه لخلافته، وقيّضه لإعزاز الإسلام، وحياطة الأنام، وإقامة الحدود وتنفيذ الأحكام، ويسأله الصلاة على سيدنا محمد خاتم الأنبياء، وخيرة الأصفياء، المؤيّد فأفضل الظّهراء، وأكمل الوزراء:

عليّ بن أبي طالب المتكفّل في حياته، بنصره وإظهار شريعته، والقائم بعد وفاته، مقامه في أمّته، صلّى الله عليهما،، وعلى الأئمة من ذرّيتهما، مفاتيح الحقائق، ومصابيح الخلائق، وسلّم، وشرّف وكرّم.

وإنّ الله تعالى نظر لخلقه بعين رحمته، وخصّ كلّا منهم بضرب من ضروب نعمته، وأقدرهم بالتعاضد، على انتظام أمورهم الوجودية، وأوجدهم السّبل بالترافد، إلى استقامة شؤونهم الدّنيويه: لتنبجس عيون المعاون بتوازرهم، وتدرّ أخلاف المرافق بتظافرهم.

وأولى الناس باتّخاذ الوزراء، واستخلاص الظّهراء، من جعله الله تعالى إلى حقّه داعيا، ولخلقه راعيا، ولدار الإسلام حاميا، وعن حماه مراميا، واستخلفه على الدّنيا وكلّفه سياسة المسلمين والمعاهدين، ولذلك سأل موسى عليه السلام وهو القويّ الأمين، في استخلاص أخيه هارون لوزارته، وشدّ أزره بموازرته، فقال: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي

«1» ، واستوزر محمد صلى الله عليه وسلم وهو المؤيّد المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ابن عمه عليّا سيد الأوصياء، بدليل قوله له: «أنت منّي كهارون من موسى

ص: 398

إلا أنّه لا نبيّ بعدي» لأن الإمام لو تولّى كلّ ما قرب وبعد بنفسه، وعوّل في حيطته على حواسّه، لنصّ ذلك بتطرّق الخلل، ودخول الوهن والشّلل؛ وإنما تستعين الأئمة على ما كفّلها الله بكفاة الأعوان، وأهل النّصرة في الأديان، وذوي الاستقلال والتشمير، والمعرفة بوجوه السياسة والتدبير، والخبرة بمجاري الأعمال، وأبواب الأموال، ومصالح الرجال.

وإنّ أمير المؤمنين لم يزل يرتاد لوزارته حقيقا بها مستحقّا نعتها، جامعا بين الكفاية والغناء، والمناصحة والولاء، والأبوّة والاختصاص، والطاعة والإخلاص، والنّصرة والعزم، وأصالة الرأي والحزم، ونفاسة السياسة والتدبير، والنّظر بالمصلحة في الصغير والكبير، والاحتيال والتأديب، وملابسة الأيّام والتجريب، والانتماء إلى كريم المناجب، بضمير المناصب، ويكّرر في الاختيار تقليده «1» ، ويجيل في الانتقاء تأمّله وتدبّره. وكلّما عرضت له مخيلة قمن «2» توافق إيثاره، أخلف نوءها، وكلما لا حت له بارقة تطابق اختياره، خبا ضوءها، حتى انتهت رويّته إليك، وأوقفه ارتياده عليك، فرآك لها من بينهم أهلا، وبتقمّص سربالها أولى، وبالاستبداد بإمرتها أحقّ وأحرى: لاشتمالك على أعيان الخصائص التي كان زياد [لها]«3» جامعا، وحلولك في أعيان المناقب التي لم تزل ترومها متحلّيا بفرائدها، وما شهرت به من إفاضة العدل والإقساط، وإغاضة الجور والإشطاط، وإنالة الحقّ والإنصاف، وإزالة الظّلم والإجحاف، ومراعاة النّصح بإنسانك شاهدا، ومناجاته بحذارك جاهدا، ولنهوضك بالخطب إذا ألمّ وأشكل، والحادث إذا أهمّ وأعضل، وتفرّدك بالمساعي الصالحة، والآثار الواضحة، والطرائق الحميدة، والمذاهب السّديدة، والتحلّي بالنّزاهة والظّلف، والعطل من

ص: 399

الطّبع والنّطف «1» ، وفضل السّيرة، وصدق السّريرة، ومحبة الخاصّة والعامّة، والمعرفة بقدر الأمانة، والاضطلاع بالصّنيعة، والحفظ للوديعة.

فرأى أمير المؤمنين برأيه فيما يريه، ويقضي له بالصلاح فيما يعزم عليه ويمضيه، ويسدّد مراميه ومساعيه، ويتعهّده في جميع مقاصده بلطف تحلو ثماره، وتحسن عليه وعلى الكافّة آثاره، أن قد ولّاك النظر في مملكته، وأعمال دولته:

برّها وبحرها، وسهلها ووعرها، وبدوها وحضرها، وردّ إليك سياسة رجالها وأجنادها، وكتّابها وعرفائها «2» ، ورعيّتها ودواوينها، وارتفاعها ووجوه جباياتها وأموالها، وعدق بك البسط والقبض، والبرم والنّقض، والحطّ والرّفع، والعطاء والمنع، والإنعام والودع، والتصريف والصّرف، ثقة بأن الصواب منوط بما تسدي وتلحم، وتفيض وتنظم، وتنقض وتبرم، وتصدر وتورد، وتقرّر وتأتي وتذر، فلتهنأ هذه النعمة متملّيا بملبسها، ساريا في قبسها، وتلقّها من الشكر بما يسترهنها ويخلّدها، ويقرّها عليك ويؤبّدها، واعرف ما أهّلك له أمير المؤمنين من هذا المقام الأثير، والمحلّ الخطير؛ فإنّما ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

وأنت وإن كنت مكتفيا- بفضل حصافتك، وثقابة فطنتك، وحسن ديانتك، ووثاقة تجربتك- عن التبصير، مستغنيا عن التنبيه والتذكير، فإن أمير المؤمنين لا يمتنع أن يزيدك من مراشده، ما يقفك على سنن الصواب ومقاصده؛ وهو يأمرك بتقوى الله تعالى في سرّك وجهرك، واستشعار خشيته ومراقبته؛ والله قد جعل لمن اتّقاه مخرجا من ضيق أمره وحرجه، ونصب له أعلاما على مناهج فرجه. وأن

ص: 400

تستعمل الإنصاف والعدل، وتسبغ الإحسان والفضل، وتلين كنفك، وتظهر لطفك، وتحسن سيرك، وتفيض برّك، وتصفح وتحلم، وتعفو وتكرم، وتبصّر من ترجو صلاحه وتفهّمه، وتنصف من أفرط جماحه وتقوّمه، وتأخذ بوثائق الحزم، وجوامع العزم، والغلظة والشدّة على من طغى ولجّ في غيّه وعتا، وبارز الله وأمير المؤمنين بالخلاف والشّقاق، والانحراف والنّفاق، مستعملا فاضل التدبير عند الموادعة، وفاصل المكافحة عند المقارعة، مصلحا للفاسد، مشتّتا للشارد، مكثّرا لأولياء الدولة وخلصائها، وحاصدا لبغاتها وأعدائها، واعظا مذكّر للغافل، مؤمّنا للمظلوم الخائف، مخيفا للظالم الحائف، مستصلحا للمسيئين، مذكّرا بإحسان المحسنين، متنجّزا لهم الجزاء على بلائهم في الطاعة وآثارهم في الخدمة. وأن تنظر في رجال الدولة على اختلافهم نظرا يسلك بهم سبيل السّداد، ويجري أمورهم على أفضل العرف المعتاد؛ فأما الأماثل والأمراء، والأعيان والرؤساء، فتحفظ على من أحمدت طريقته، وعرف إخلاصه وطاعته، شعار رياسته، وتزيد في تكرمته، وتنتهي به إلى ما تتراءى إليه مواضي همّته؛ وأمّا طوائف الأجناد فتقرّهم على مراتبهم في ديوان الجيش المنصور، وتخصّهم من عنايتك بالنصيب الموفور، وتستخدمهم في سدّ الثّغور وتسديد الأمور، وتراعي وصول أطماعهم إليهم، أوقات الاستحقاق إليهم، وانفاقهم نصاب «1» الوجوب منهم؛ وأما الكتّاب المستخدمون منهم في استخراج الأموال، وعمارة الأعمال، فتخصّ كفاتهم بما تقتضيه كفايتهم، وأمناءهم بما توجبه أماناتهم، وتستبدل بالعاجز الخبيث الطّعمة، والطّبع المستشعر شعار المذمّة: ليتحفظ النّزه المأمون بنزاهته وأمانته، ويقلع الدّنس الخؤون عن دنسه وخيانته، وتأمر من تختاره لخدمة أمير المؤمنين منهم أن يسيروا بالسّير الفاضلة، ويعملوا على الرّسوم العادلة، فلا يضيّعوا حقّا لبيت مال المسلمين، ولا يخيفوا أحدا من المعاملين. وأما الرعيّة، فيأمرك أن تحكم بينها بالسّوية، وتعتمدها بعدل القضية، وترفع عنها نير الجور، وتحميها من ولاة

ص: 401

الظلم، وتسوسها بالفضل والرأفة متى استقامت على الطاعة، وتأدّبت في التّباعة، وتقوّمها متى أجرت إلى المنازح والافتتان، وأصرّت على مغضبة السلطان. وأما الأموال وهي العدّة التي ترهف عزائم الأولياء، وتغض من نواظر الأعداء، فتستخرجها من محقّها، وتضعها في مستحقّها، وتجتهد في وفورها، وتتوفّر على ما عاد بدرورها، وأن تطالع أمير المؤمنين بذرّة وجلّه، وعقد أمرك وحلّه، وتنهي إليه كل ما تعزم على إنهائه، وترجع فيه إلى آرائه: ليكرمك من موادّ تبصيره وتعريفه، ويزيدك من هدايته وتوقيفه، بما يفضي بك إلى جادّة الخير وسبيله، ويوضّح لك علم النّجاح ودليله.

هذا عهد أمير المؤمنين إليك: وقد أودعه من تلويح الإشارة، ما يكتفى به عن تصريح العبارة، ثقة بأنك الأريب الألمعيّ، والفطن اللّوذعيّ، الذي تنتهي به متون التذكير إلى أطرافه وحواشيه، وتفضي به هوادي القول إلى أعجازه وتواليه.

فتقلّد ما قلدك أمير المؤمنين، وكن عند حسن ظنّه في فضلك، وصدّق مخيلته في كمالك، والله تعالى يعرّف أمير المؤمنين وجه الخيرة في تصيير أمره إليك، وتعويله في مهماته عليك، ويوفقك لشكر الموهبة في استخلاصك، والمنحة في اجتبائك، وينهضك بما حمّلك من أعباء مظاهرته، وجشّمك من أثقال دولته، ويسدّدك إلى ما يدرّ عليك أخلاف [نعمته]«1» ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

ومنها- ما أورده في رسم تقليد زمّ الأقارب: وهو التقدمة على أقارب الخليفة، وهذه نسخته:

الحمد لله الذي ابتدأ بنعمته ابتداء واقتضابا، وأعادها جزاء وثوابا، وميّز من

ص: 402

اختصّه بهداية خلقه، واستخلصه لإظهار حقّه، بأضفاها عطافا، وأصفاها نطافا «1» ، وأحسنها شعارا، وأجملها آثارا، واستخرجهم من أطيب البريّة أعراقا، وأطهرها شيما وأخلاقا، وأقدمها سؤددا ومجدا، وأكرمها أبا وجدّا، وتوحّد بأفضل ذلك وأعلاه، وأكمله وأسناه، محمدا صفوته من خلصائه، وخيرته من أنبيائه، فأظهره من المنجب الكريم، والمنجم الصّميم، والدّوحة الطاهر عنصرها، الشريف جوهرها، الحلو ثمرها، ورشّح من اختاره من عترته لسياسة بريّته، والدعاء إلى توحيده وطاعته.

يحمده أمير المؤمنين أن شرّفه بميراث النبوّة، وفضّلة بأكرم الولادة والأبوّة، وأحلّه في الذّروة العالية من الخلافة، وناط به أمور الكافة، ويسأله الصّلاة على جدّه محمد وعليّ أبيه، صلّى الله عليهما.

وإن أمير المؤمنين يرى أنّ من أشرف نعم الله عليه موقعا، وألطف مواهبه لديه موضعا، توفيقه للمحافظة على من يواشجه في كريم نسبه، ويمازجه في صميم حسبه، ويدانيه في طاهر مولده، ويقاربه في طيب محتده، وتنزيل كلّ ذي تميّز منهم في دين وعلم، ودراية وفهم، وإحلاله بالمنزلة التي يستوجبها بفاضل نسبه، وفضل مكتسبه، ويبعث أنظاره على التحلّي بخصاله، والتزيّن بخلاله:

ليحصل لهم من فضل الخلائق والآداب، ما يضاهي الحاصل لهم من عراقة المناجب والأنساب؛ ولذلك لا يزال ينوط أمورهم، ويكل تدبيرهم، إلى أعيان دولته، وأماثل خاصّته، الذين يعتادون حضرته ويراوحونها، ويطالعونه بحقائق أحوالهم وينهونها، ويستخرجون أمره في مصالحهم بما يذلّل لهم قطوف إحسانه وطوله، ويعذب لهم مشارع برّه وفضله؛ وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكّل وإليه ينيب.

فإن كان العهد إلى خادم، قال:

ص: 403

ولما كنت بحضرة أمير المؤمنين معدودا في أولي النّباهة، المترشّحين للاستقلال بأعباء دولته وذوي الوجاهة، المستخلصين لاستكفاء جلائل مملكته:

لما اجتمع فيك من إباء النفس وعزّتها، ووثاقة الدّيانة وحصافتها، وسداد السّيرة واستقامتها، ونقاء السريرة وطهارتها، وتقيّلك منهج أمير المؤمنين ومذهبه، وتمثّلك بهديه وأدبه، ونشئك في قصور خلافته، وارتضاعك درّ طاعته- رأى- والله تعالى يعزم له على الخير في آرائه، ويوفّقه لصالح القول والعمل في انحائه- أن قلّدك زمّ بني عمّه الأشارف الإسماعيليين ثقة بسياستك وحميد طريقتك، وإنافة لمنزلتك وإعرابا عن أثير مكانتك.

وإن كان العهد إلى شريف قيل بدلا من هذا الفصل:

ولمّا كنت بحضرة أمير المؤمنين ممن زيّن شريف محتده، بمنيف سؤدده، وطاهر مولده، بظاهر محتده؛ وكريم تالده بنفيس طارفه، وجليل سالفه، بنبيل آنفه، مقتفيا سنن أوّليّتك، مفرّعا على أصول دوحتك، ضاربا بالسّهم المعلّى في الدين والعلم، حائزا خصل «1» السّبق في الرّجاحة والفهم، رأى أمير المؤمنين أن قلّدك نقابة بني عمّه الأشراف الفلانيين: ثقة بأنك تعرف ما يجمعهم وإيّاك من الأرحام الواشجة، والأواصر المتمازجة، وتحسن السّيرة بهم، والتعهّد لهم والتوفّر عليهم.

ثم يوصل الكلام بأيّ الخطابين قدّم فيقال:

فتقلّد ما قلّدك أمير المؤمنين مستشعرا تقوى الله وطاعته، معتقدا خيفته ومراقبته، سائرا فيمن ولّاك أمير المؤمنين بسيرته، مستنّا بسنّته، متأدّبا بآدابه، مقتفيا مناهج صوابه، وإكرام هذه الأسرة [التي]«2» خصّها الله تعالى بكرامته، وفرض مودّتها على أهل طاعته، ونزّهها عن الأدناس، وطهّرها من الأرجاس، فقال

ص: 404

جل قائلا: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً

«1» .

واعرف لهم حقّ مراتبهم الدانية من أمير المؤمنين، ونزّلهم بحيث نزّلهم الله من الدّنيا والدّين، واعتمد تعظيم مشايخهم وتوقيرهم، وسياسة شبّانهم وتدبيرهم، وتقويم أخلاقهم وتثقيفهم، وخذهم بلزوم الطرائق الحميدة، والمذاهب السّديدة، التي تليق بأصولهم الطاهرة، وفروعهم المثمرة، ومناحتهم الصّميمة، ومناجبهم الكريمة، وتفقّد منشاهم ومرباهم، وخلطاهم وقرباهم؛ فمن تناكرت أعراقه، وأخلاقه، وأنسابه، وآدابه، بالغت في تنبيهه وتعريفه، فإن نجع ذلك فيه وإلا بسطت يدك إلى تهذيبه، وإصلاحه وتأديبه: ليستيقظ من منامة غرّته، ويرجع إلى اللائق بشرف ولادته؛ وانظر فيما أوقف عليهم من الأملاك والمستغلّات، والضيّاع والإقطاعات، والرّسوم والصّلات، واندب لتولّي ذلك من تسكن إلى ثقته وأمانته من الكتّاب، وراع سيرته في عمارته، وطريقته في تثمير ماله وزيادته؛ فإن ألفيته كافيا أمينا أقررته، وإن وجدته عاجزا خؤونا صرفته، واستبدلت به من يحسن خبرك، ويطيب أثرك، وأجر الأمر في قسمته بين ذكورهم وإناثهم على الرسوم التي يشهد بها ديوانهم، واكتب الرّقاع عنهم إلى الحضرة في اقتضاء رسومهم، وما يعرض من مهمّات أمورهم، وتتنجّز كلّ ما يتعلق بهم وتنوب عنهم فيه: لتستقيم شؤونهم بسياستك، وتنتظم أحوالهم بحسن سيرتك.

هذا عهد أمير المؤمنين إليك فاعمل به وانته إلى متضمّنه، إن شاء الله تعالى.

ومنها- ما أورده في رسم تقليد بنقابة العلويّين، وهو:

الحمد لله الذي انتجب من أسرار عباده قادة جعلهم لمصالحهم نظاما،

ص: 405

وانتخب من أخيار خليقته سادة صيّرهم لأمورهم قواما، وعدق بهم هداية من ضلّ، وتقويم من دلّ «1» ، وتعليم من جهل، وتذكير من غفل، ونصبهم أعلاما على طرق الرّشاد، وأدلّة على سبل السّداد.

يحمده أمير المؤمنين أن اختصّه بأثرة الخلافة والإمامة، وميّزه بمزيّة الولاية على الأمّة والزّعامة، وانهضه بما كلّفه من سياسة بريّته وتنزيلهم منازلهم من اختصاصه وإيثاره، وإحلالهم في محالّهم من استخلاصه واختياره، ويسأله الصلاة على أشرف الأمم نجارا وأطيبهم عنصرا، وأعظمهم مفخرا، سيدنا محمد صلّى الله عليه وعلى أخيه وابن عمّه، وباب حكمته وعلمه، أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب الراسخ في نسبه، المداني [له]«2» في حسبه، سيفه الباتر، ومعجزه الباهر، ومكاتفه المظاهر، وعلى الأئمة من ذرّيتهما المهديّين، وسلم تسليما.

وإنّ أمير المؤمنين- بما خصّه الله تعالى من شرف المنجم والمولد، وكرم المحتد، وخوّله من مناصب الخلفاء والأئمّة، وناط به من إمامة الأمّة- يرى أنّ من نعم الله التي يجب التحدّث بشكرها، وتحقّ الإفاضة في نشرها، وتوفيقه للنظر في أحوال ذوي لحمته، وأولي مناسبته، المواشجين له في أرومته، المعتزين إلى كرم ولادته، وتوخّيهم بما يرفلهم في ملابس الجمال، ويوقّلهم في هضبات الجلال، ويرتّبهم في الرّتب التي يستوجبونها [ويراها]«3» أولى بمغارسهم وأنسابهم، وماسّا بأنفسهم وآدابهم؛ ولذلك يصرف اهتمامه إلى ما يجمع لهم بين شرف الأعراق، وكرم الأخلاق، وطهارة العناصر والأواصر، وحيازة المناقب والمآثر.

ولما كنت بحضرة أمير المؤمنين من جلّتهم العلماء، وطهرتهم الأزكياء، وأبرارهم الصّلحاء، وخيارهم الفضلاء، الذين تضارعت أخلاقهم وأعراقهم،

ص: 406

وتقارعت أنسابهم وآدابهم، وتشاكهت «1» مواردهم ومصادرهم، وتشابهت أوائلهم وأواخرهم، واتفقت جيوبهم ودخائلهم، وتوضّحت عن الدين والخير مخايلهم؛ هذا مع ما يرعاه أمير المؤمنين من كريم مساعيك في خدمته، وإصابة مراميك في طاعته، واعتصامك بحبل متابعته، ونهوضك بحقوق ما أسبغه عليك من نعمته، رأى أمير المؤمنين- والله تعالى يقضي له في آرائه بحسن الاختيار، ويمدّه بالعون والتأييد في مجاري الأقدار- أن قلّدك النّقابة على الأشراف الطالبيّين أجمعين، المقيمين بالحضرة وسائر أعمال المملكة شرقا وغربا، وبعدا وقربا، ثقة بأنّك تصدّق مخيلته فيك واعتقاده، وتستدعي بكفاية ما استكفاك شكره وإحماده، وتستدرّ بالاستقلال والغناء أخلاف إحسانه وفضله، وتمتري بالاضطلاع بمضلع الأثقال فائض امتنانه وطوله؛ فتقلّد ما قلّدك أمير المؤمنين عاملا بتقوى الله وطاعته، مستشعرا لخيفته ومراقبته، وأحسن رعاية من عدق بك رعايته، وسياسة من وكل إليك سياسته، واعلم أنّ أمير المؤمنين قد ميّزك على كافّة أهل نسبك، وجميع من يواشجك في حسبك، وجعلك عليهم رئيسا ولهم سائسا، فاعرف لهم حقّ القرابة والمشابكة، وتشاجر الأنساب والمشاركة؛ فإن الله تعالى يقول: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى

«2» ، وعمّهم جميعا بالتوقير والإكرام، والتفقّد والاهتمام، واتّخذ شيخهم أبا، وكهلهم أخا، وطفلهم ولدا، وافرض لهم من الحنان، والإشفاق والفضل والإحسان، ما تقتضيه الرّحم الدانية، والأواصر المتقاربة، وكن مع ذلك متفقّدا لأحوالهم، مطالعا لسيرهم وأفعالهم؛ فمن ألفيته سالكا لأقصد الطرائق، متخلّقا بأجمل الخلائق، حارسا لشرفه، متشبّها بسلفه، فزده في الأثرة زيادة ترغّب أمثاله في اقتفاء مذهبه، وتبعثه على التأدّب بأدبه، ومن وجدته مستحسنا ما لا يليق بصريح عرقه، راكبا ما ليس من طرقه، فأيقظه بنافع الوعظ، وذكّره بناجع اللّفظ؛ فإن استقام على الطريقة المثلى، ورجع

ص: 407

إلى الأجدر والأولى، عرفت ذلك من فعله، وفرضت له ما تفرضه لصلحاء أهله:

فإن الله تعالى قد فتح باب التوبة، ووعد بإقالة أهل الإنابة؛ ومن انحرف عن التذكير، وانصرف عن التبصير، وأصرّ وتمادى، وارتكب ما يوجب حدّا، امتثلت أمر الله تعالى فيه، وأقمت الحدّ عليه، غير مصغ إلى شفاعة، ولا موجب لحّق ذريعة: فإن أمير المؤمنين يصل من ذوي أنسابه، من وكّدها بأسبابه، ويقطع من أوجب الحقّ قطيعته، ولا يراعي رحمه وقرابته. ووكلّ بهم من يروي إليك أخبارهم، ويكشف لك آثارهم: ليعلموا أنهم ببال من مطالعتك، وبعين من اهتمامك ومشارفتك، فيكبح ذلك جامحهم عن العثار والسّقط، ويمنع طامحهم من الزّلل والغلط، وتوخّهم في خطابك بالإكرام، وميّزهم عن محاورة العوام، ولا تقابل أحدا منهم ببذاء ولا سبّ، ولا قدح في أمّ ولا أب، فإنهم فروع دوحة أمير المؤمنين وعترته الذين طهّرهم الله من الأرجاس، وفرض قراهم على الناس، ووفّر اهتمامك على صيانة النّسب من الوكس، وحياطته من اللّبس، فإنه نسب الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يتصل يوم انقطاع الأنساب، وسببه الذي يتّشج يوم انفراط الأسباب، وأثبت أسماء كافّة من يعتزي إلى هذا البيت منسوبة إلى أصولها: لتأمن من دخيل ملصق يتزوّر عليها، ومختلق ملحق ينضم إليها؛ وإن عرف مدّع نسبا لا حجة له فيه، ولا بينة عنده عليه، فغلّظ له العقاب، واشهره شهرة تحجزه عن معاودة الكذاب، واحتط في أمر المناكح وصنها عن العوامّ، ووقّر كرائم أهل البيت عن ملابسة اللّئام؛ وإن ادّعى أحد من الرعيّة حقّا على شريف فاحملها على السويّة وعده بإنصاف خصمه، وامنعه من ظلمه، وإن ثبت أيضا في مجلس الحكم حقّ على أحد من الأشراف فانزعه منه [وولّ]«1» على من في البلاد، أهل السّداد منهم والرّشاد، ومرهم بتقيّل مذهبك، ونقل أدبك، واصرف اهتمامك إلى حفظ أوقافهم وأملاكهم ومستغلّاتهم في سائر الأعمال، وحطها من العفاء والاضمحلال، وتوفّر على تثمير ارتفاعها، وتزجية «2» مالها، واستخدم لضبط

ص: 408

حاصلها، وجهات منفقها، من تسكن إلى ثقته، وتثق بنهضته، ووزّع ما يرتفع من استغلالها بينهم على رتبهم التي يشهد بها ديوانهم.

هذا عهد أمير المؤمنين إليك فآنته إليه منتهجا لتمثيله، معتمدا بدليله، وطالع أمير المؤمنين بما التبس عليك وأبهم، وأشكل واستعجم: ليقفك على واضح السّنن، ويرشدك إلى أحسن السّنن، واستعن بالله يهدك لمعونته، واستهده يؤيّدك بهدايته، إن شاء الله تعالى.

ومنها- ما أورده في رسم تقليد بزمّ طوائف الرجال.

الحمد لله البديع تقديره، الحكيم تدبيره، الذي أتقن ما صنع وأحكمه، وكمّل ما أبدع وتمّمه، وأعطى كلّ مصلحة من مصالح عباده نظاما، وكلّ مرفق من مرافق خلقه قواما، فلا يقارب فيما خلق وصوّر، ولا يشاكل فيما قدّر ودبّر، ورأب ثلم بريّته بمن استخلصه من خاصّتها، لسياسة عامّتها، وانتخبه من أشرافها، لتسديد أطرافها، وإقامة من سادها لإصلاح فاسدها وتقويم مائدها، وتوقيفها على سنن الصواب، وتعريفها بمحاسن الآداب.

يحمده أمير المؤمنين أن أحلّه في المنزلة العليّة: من اصطفائه واستخلاصه، والذّروة السنيّة: من اجتبائه واختصاصه، وفوّض إليه تنزيل الرتب وتخويلها، وإقرار المنازل وتحويلها، وناط به البرم والنقض، والرّفع والخفض، والرّيش والحصّ «1» ، والزيادة والنّقص، وسوّغه الشّكر على مواهبه السابغ عطافها، والفسيحة أكنافها، البعيدة أطرافها، و [يسأله]«2» أن يصلي على نبيّ الرحمة، ومفيد الحكمة، سيدنا محمد خاتم الرّسل، وموضّح السّبل، صلى الله عليه وعلى أخيه وابن عمّه، وخليفته على أمّته وقومه: عليّ بن أبي طالب أمير

ص: 409

المؤمنين، ومولى المسلمين، وعلى الأئمة من ذرّيتهما الطاهرين.

وإنّ أمير المؤمنين بما فوّضه الله تعالى إليه من حماية الأنام، والمراماة عن دار الإسلام، وكفّله من غضّ نواظر أهل العناد، وتنكيس رؤوس رؤساء الإلحاد، لا يزال ينظر في مصالح عبيده، وتوفّر سياسة رجال دولته وجنوده، الذين هم حزب الله الغالبون، وجنده المنصورون، ويردّ النظر في أمورهم، والتقدّم عليهم، وزمّ طوائفهم، إلى خواصّ دولته، وأعيان مملكته، الذين بلا طرائقهم وحمد خلائقهم: من الغناء والكفاية، والسّداد وحسن السياسة، ونقّلهم في الخدم فاستقلّوا بأعبائها وأثقالها، ونهضوا بناهض أعمالها، ومضت عزائمهم في حياطة البيضة، واشتدّت صرائمهم في تحصين الحوزة، وصدقت نيّاتهم في المراماة عن الملّة، والمحاماة عن الدعوة والدّولة.

ولمّا كنت بحضرة أمير المؤمنين معدّا لمهمّاته، معدودا في أماثل كفاته، مشهورا بحسن السياسة لما تورده وتصدره، معروفا بفضل السّيرة فيما تأتيه وتذره، رأى أمير المؤمنين- والله يرشده لأعود الآراء بالصلاح والإصلاح، وأدناها من الخير والنجاح- أن قلّدك زمام طائفة الرجال الفلانيين (ويوصفون بما تقتضيه مكانتهم من الدولة وحسن سيرهم في الخدمة) إنافة بقدرك، وإبانة عن خطرك، وتنويها بذكرك، وتفخيما لأمرك.

وهو يأمرك بتقوى الله تعالى وطاعته، واستشعار مراقبته، ورياضة خلائقك على محبّة العدل، وإيثار الفضل، واتّباع اللّطف، واجتناب العسف، وتوخّي الإنصاف، وبسط الهيبة من غير إجحاف، وأن تخصّ هذه الطائفة من النظر في أمورها، وتعهّد صغيرها وكبيرها، بما يسدّد أحوالها، ويحقّق آمالها، وتأخذها بأحسن الآداب اللائقة بأمثالها، وسلوك الطريقة المعهودة من أعيانها وأماثلها، وتشعرها من أمير المؤمنين بما يشرح صدرها في خدمته، ويقرّ عينها في طاعته، والمسارعة إلى مكافحة أعدائه، والتميّز في نصرة أوليائه، وتطالع بحال من يستحقّ الاحترام، ويستوجب إفاضة الإنعام، وتكتب الرّقاع عنها (مستدعيا للرّباطات في الأطماع والعاجزين شاملا في التعويد والتأمير والتلقيب والولايات قاصدا في ذلك

ص: 410

ما يفسّح آمالها في الآجال، ويوثّقها بدرور الأمثال) «1» ، فإنهم أمراء الحروب، وكفاة الخطوب، الذين يجاهدون عن الحوزة، ويرامون عن الدولة، وافرض لهم من الإكرام، وتامّ الاهتمام، ما تقتضيه مكانتهم في الدولة، وموضعهم من الخدمة، وتكفّل أوساطهم بالرّعاية، واصرف إليهم شطرا موفورا من العناية، وألحق من برّز منهم وتقدّم، ونهض وخدم، بنظرائه وأمثاله، وساو بينه وبين أشكاله، وتعهّد أطرافهم بملاحظتك، وتفقّدهم بسياستك؛ وخذهم بلزوم السّير الحميدة، والمذاهب السّديدة، والتوفّر على ما يرهف عزائمهم، ويؤيّد أيديهم، ولا تفسّح لأحد من هذه المذاهب في مخالطة العوام ولا مشاركة التّجّار والاحتراف، ووكّل بهم من النّقباء من يبتلي سيرهم، وينهي إليك أخبارهم: فمن علمته قد اجترأ إلى نسخ المذهب، فتناوله بأليم الأدب، واحضضهم على الإدمان في نقل السلاح، والضّرب بالسيف، والمطاعنة بالرمح، والإرماء عن القوس، وميّز من مهر واستقلّ، وقصّر بمن ضجّع وأخلّ، فهم كالجوارح التي ينفعها التعليم والإجراء، ويضرّها الإهمال والإبقاء؛ وفي صرفك الاهتمام إليهم ما يزيد في رغبة ذي الهمّة العليّة، ويبعث المعروف في النفس الدّنيّة، وأن تطالبهم بالاستعداد، وارتباط الخيول الجياد، والاستكثار من السّلاح الشاك والجنن، وليكن ما تطالبهم بإعداده من هذه الأصناف على حسب الفروض من العطاء، ولا ترخّص لأحد في الاقتناع بما لا يليق بمنزلته، والرضا بما يقع دون ما يعتدّه أماثل طبقته. ومن مات من هذه الطائفة وخلّف ولدا يتيما فضمّه إلى أمثاله، وانظر في حاله، ووكّل به من يفقّهه في دينه، ويعلّمه ما لا غنى به عن تعليمه من كتاب الله وسنّته، ومن يهذبه في الخدمة ويعلّمه العمل بآلاتها، والتنقّل في حالاتها، ويطلق له من إنعام أمير المؤمنين ما يقوم بكلفتها ولوازمها، وخذ كلّ من تقدّمهم بخدمها والجري على عادتها في النّهوض بما يستنهض به، ولا يفسّح لها في التّثاقل عنه، وسوّ بينهم في الاستخدام، ولا تخصّ قوما دون قوم بالترفيه والإجمام؛ فإنّ في ذلك إرهافا لعزائمهم، وتقوية

ص: 411

لمننهم، وإفاضة العدل عليهم.

هذا عهد أمير المؤمنين إليك، قد وكّد به الحجة عليك؛ فتأمّله ناظرا، وراجعه متدبّرا، وانته إلى مصايره ومراشده، واعمل على رسومه وحدوده، يوفّق الله مقاصدك، ويسعد مصالحك ويتولّاك، إن شاء الله تعالى.

ورسوم هذه العهود يتفاضل الخطاب فيها بحسب تفاضل الطوائف ومن يولّى عليها. وهذا الأنموذج متوسّط تمكن الزيادة عليه والنقص منه.

ومنها- ما أورده في رسم تقليد بإمارة الحج، وهذه نسخته:

الحمد لله الذي طهّر بيته من الأرجاس، وجعله مثابة «1» للناس، وآمن من حلّه ونزله، وأوجب أجر من هاجر إليه ووصله.

يحمده أمير المؤمنين أن خصّه بحيازة البيت الأعظم، والحجر المكرّم، والحطيم «2» وزمزم؛ وأفضى إليه ميراث النبوّة والإمامة، وتراث الخلافة والزّعامة، وجعله لفرضه موفّيا، ولحقوقه مؤدّيا، ولحدوده حافظا، ولشرائعه ملاحظا، ويسأله أن يصلّي على من أمره بالتأذين في الناس بالحجّ إلى بيته الحرام لشهادة منافعهم، وتأدية مناسكهم، وقضاء تفثهم «3» ، ووفاء نذرهم، وذكر خالقهم، والطواف بحرمه، والشكر على نعمه: سيدنا محمد رسوله صلّى الله عليه وعلى وصيّه وخليفته، وباب مدينة علمه وحكمته: عليّ بن أبي طالب سيد الوصيّين، وعلى الأئمة من ذرّيتهما الطاهرين.

ص: 412

وإنّ أولى ما صرف أمير المؤمنين إليه همّته، ووفّر عليه رعايته، مثابرا عليه، وناهضا لحق الله تعالى فيه، النظر في أمر رفق الحجيج الشاخصة إلى بيت الله الحرام، وزيارة قبر نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام، وردّه إلى من حلّ محلّك من الدين، وتميّز بما تميّز به صلحاء المسلمين: من العلم، ورجاحة الحلم، ونفاذ البصيرة، وحسن السريرة، وعدل السّيرة؛ ولذلك رأى أمير المؤمنين أن قلّدك أمر رفق الحجيج المتوجّهة من موضع كذا إلى الحرمين المحروسين، وولّاك الحرب والأحداث «1»

بها: واثقا باستقلالك وغنائك، وسدادك وإصابة ارائك؛ فتقلّد ما قلّدك أمير المؤمنين بعزم ثاقب، ورأى صائب، وهمّة ماضية، ونفس سامية، وشمّر فيه تشميرا يعرب عن محلّك من الاضطلاع، ويدلّ على استقلالك بحقّ الاصطناع، وخصّ الحجّاج بأتمّ الأحظّ «2» ، وكن من أمرهم على تيقّظ، واعتمد ترقّبهم في المسير، وسوّ في رعايتهم بين الصغير والكبير، فإنهم جميعا إلى الله متوجّهون، وإلى بيته الحرام قاصدون، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وافدون، قد استقربوا بعيد الشّقّة، واستدمثوا خشن المشقّة، رغبة في ثواب الله وعفوه، والنجاة من عقابه وسطوه، وتقرّبا إليه بارتسام أمره وطاعته، وإيجابا للحرمة بالحلول في عراص بيته وأفنيته؛ فمرافدتهم «3» واجبة، ومساعدتهم لازبة «4» ، حتّى يصلوا إلى بغيتهم وقد شملتهم السلامة في الأنفس والأموال، والأمنة في الخيل والرجال: متوجّهين وقارّين وقافلين، بعد أن يشهدوا منافعهم، ويؤدّوا مناسكهم، ويعملوا بما حدّ لهم.

وردّهم في سيرهم عن الازدحام، ورتّبهم على الانتظام، وراعهم في ورود المناهل، وامنعهم عن التحادث عليها والتكاثر فيها، حتّى لا ينفصلوا منها إلّا بعد

ص: 413

الارتواء، ووقوع التّساوي والاكتفاء، وقدّم أمامهم من يمنعهم من التسرّع، وأخّر وراءهم من يحفظهم من التقطّع، ورتّب ساقتهم، ولا تخلّ بحفظهم من جميع جهاتهم، وطالع أمير المؤمنين في كل منزل تنزله ومحلّ تحلّه بحقيقة أمرك ليقف عليها، ويمدّك بما ينهضك فيها.

هذا عهد أمير المؤمنين إليك فتدبّره عاملا عليه، متبصّرا بما فيه، عاملا بما يحسن موقعه لك؛ ويزيدك من رضا الله وثوابه، إن شاء الله تعالى.

ومنها- ما أورده في رسم تقليد الإمارة على الجهاد، وهذه نسخته.

الحمد لله الصادق وعده، الغالب جنده، ناصر الحق ومديله، وخاذل الباطل ومذيله، محلّ النّكب بمن انصرف عن سبيله، ومنزل العقاب بمن تحرّف عن دليله، الذي اختار دين الإسلام فأعلى مناره، ووضّح أنواره، واستخلص له من أوليائه أعضادا لا تأخذهم في الحق لومة لائم، ولا يغمضون عن المكافحة دونه جفن حالم، وجزاهم على سعيهم في نصرته جزاء فيه يتنافس المتنافسون، وإلى غاياته يرتمي بالهمم المجدّون، قصدا من الله تعالى في إعزاز دينه، وإنجاز ما وعد به خلفاءه من إظهاره وتمكينه، وقطّا لشوكة أهل العناد، وتعفية لآثار ذوي الفساد، وتوفيرا لأحاظي من بذل الاجتهاد، من سعداء عباده في الجهاد.

يحمده أمير المؤمنين أن اختصّه بلطيف الصّنع فيما استرعاه، ووفّقه للعمل بما يرضيه فيما ولّاه، وأعانه على المراماة عن دار المسلمين، والمحاماة عن ذمار الدّين، ومجاهدة [من]«1» ندّعنهما صادفا، ونكب عن سبيلهما منصرفا، وإبادة من عند عن طاعته واتّخذ معه إلها آخر لا إله إلا هو سبحانه وتعالى عما يقول المشركون علوا كبيرا؛ واستنزالهم من صياصيهم قهرا واقتسارا، وإخراجهم عن بيوتهم عزّا واقتدارا، وإذاقتهم وبال أمرهم [و]«2» عاقبة كفرهم، اتّباعا لقول الله

ص: 414

تعالى إذ يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ

«1» .

ويسأله أن يصلّي على أشهر الخلق نورا وفضلا، وأطهر البريّة فرعا وأصلا، وأرشد الأنبياء دليلا، وأقصد الرّسل سبيلا: محمد رسوله الذي ابتعثه وقد توعّر طريق الحق عافيا، وتغوّر نور الهدى خافيا؛ والناس يتسكّعون في حنادس الغمرات، ويتورّطون في مهاوي الهلكات، لا يعرفون أنهم ضلّال فيستهدون، ولا عمي فيستبصرون، فأيّده وعضّده، ووفّقه وسدّده، ونصره وأظهره، وأعانه وآزره، وانتخب له من صفوة خلقه، أولياء كاتفوه على ظهور حقّه، سمحوا بالأنفس العزيزة، والأموال الحريزة، وجاهدوا معه بأيد باسطة ماضية، وعزائم متكافية متوافية، وقلوب على الكفار قاسية، وعلى المؤمنين رؤوفة حانية؛ فلمّا صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وارتسموا أمره وانتهوا إليه، شركهم معه في الوصف والثناء، وأضافهم إليه في المدح والإطراء، فقال جل قائلا: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ

«2» ، صلّى الله عليه وعلى أخيه وابن عمّه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب سيف الله الفاصل، وسنانه العامل، ومعجز رسوله الباهر، ووزيره المظاهر، مبيد الشّجعان، ومبير الأقران، ومقطّر الفرسان، ومكسّر الصلبان، ومنكّس الأوثان، ومعزّ الإيمان، الذي سبق الناس إلى الإسلام، وتقدّمهم في الصّلاة والصّيام، وعلى الأئمة من ذرّيتهما الميامين، البررة الطاهرين، وسلّم تسليما.

وإنّ أمير المؤمنين بما كلّفه الله تعالى من [أمر]«3» دينه ووعده من إظهاره وتمكينه؛ يرى أنّ أفضل ما رنا إليه ببصر بصيرته، ورمى نحوه بطامح همّته، ما شملت الدين والدنيا بركته، وعمّت الإسلام والمسلمين عائدته، وحلّ محلّ الغيث

ص: 415

إذا تدفّق وهمع «1» ، والنهار إذا تألّق ولمع. ولا شيء أعود على الأمة، وأدعى إلى سبوغ النّعمة من علو كلمتهم، وارتفاع رايتهم، وتحصين حوزتهم، وإيمان منصّتهم، وتأدية الفريضة في مجاهدة أعدائهم، وصرفهم عن غلوائهم، واقتيادهم بالإذلال والصّغار، وكبحهم بشكائم الإهوان والاقتسار، ومواصلتهم بغزو الديار، وتعفية الآثار، وإيداع الرّعب في صدورهم، وتكذيب أمانيّ غرورهم، ووعظهم بألسنة القواضب، ومكاتبتهم على أيدي الكتائب: لما في ذلك من ذلّ الشّرك وثبوره، وعزّ التوحيد وظهوره، ووضوح حجّة أولياء الله تعالى على أعدائه بما ينزله عليهم من نصره ومعونته، ويؤيّدهم به من تأييده وعنايته؛ لا جرم أن أمير المؤمنين مصروف العزمة، موقوف الهمّة، على تنفيذ البعوث والسّرايا، والمواصلة بالجيوش والعرايا «2» ، وتجهيز المرتزقة من أولياء الدولة، وحضّ المطّوعة من أهل الملّة، على ما أمر الله تعالى به من غزو المشركين، وجهاد الملحدين، نافذا في ذلك بنفسه، وباذلا فيه عزيز مهجته، عند تسهّل السبل إلى البعثة، ووجود الفسحة، ومعوّلا فيه عند التعذّر على أهل الشّجاعة والرّجاحة من أعيان أهل الإسلام الذين أيقنت ضمائرهم، وخلصت بصائرهم، ورغبوا في عاجل الذكر الجميل وآجل الأجر الجزيل، وأمير المؤمنين يسأل الله تعالى أن يجريه فيما يصدر ويورد، على أفضل ما لم يزل يولى ويعوّد: من التوفيق في رأيه وعزمه، والتسديد في تدبيره وحزمه، ويؤتيه من ذلك أفضل ما آتاه وليّا استخلفه، وأمينا كفّله عباده وكلّفه؛ وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكّل وإليه ينيب.

ولمّا كنت بحضرة أمير المؤمنين ممن يعدّه لجلائل مهمّاته، ويعدّه من أعيان كفاته، ورآه سدادا للخلل، وعمادا في الحادث الجلل، وسهما في كنانته صائبا وشهابا في سماء دولته ثاقبا، وسيفا بيد الدين قاطعا، ومجنّا عن الحوزة دافعا،

ص: 416

رأى- وبالله التوفيق- أن يقدّمك على جيوش المسلمين، وبعوثهم الشاخصة إلى جهاد المشركين؛ فقلّدك الحرب والأحداث بها، وعقد لك لواء بيده يلوي إليك الأعناق، وينكّس لك رؤوس أهل الشّقاق، وشرّفك بفاخر ملابسه وحملانه، وضاعف لديك موادّ إحسانه، وحباك بطوق من التّبر، مرصّع بفاخر الدّرّ، عادقا هذه الخدمة منك بالنّصيح المأمون، والنّجيح الميمون، الذي تتوضّح فيه أنوار اللّبابة، وتلوح عليه آثار النّجابة، واثقا بما تنطوي عليه من الإخلاص والولاية، وتتحلّى به من الغناء والكفاية، ويفترضه من الاستمرار على سنن الطاعة، والاستقامة على سمت الانقياد والتّباعة، وتوجبه من مناصحة المسلمين، والتشمير في نصرة الدين.

فتقلّد ما قلّدك أمير المؤمنين مستشعرا تقوى الله وطاعته في الإسرار والإعلان، معتقدا خيفته ومراقبته في الإظهار والإبطان، مخلص القلب، رابط اللّبّ، واثقا بنصر الله الذي يسبغه على خلصائه، ويفرغه على أوليائه، وآخذا بوثائق الحزم، متمسّكا بعلائق العزم، ناظرا من وراء العواقب، متفرّسا في وجوه التجارب، مقلّصا سجوف الآراء بإضفاء غيار التدبير، ممرّا مرائر التقرير، موغلا في المخاتل والمكايد، حارسا للمطالع والمراصد، يقظان النفس والناظر، متحرّزا في موقف الواني والمخاطر، وأن تتوجه على بركة الله وعونه وحسن توفيقه، ويمن تأييده، بعد أن تتسلّم من الجيوش المنصورة جرائد «1» بعدّة رجال أمير المؤمنين السائرين تحت رايتك، المنوطين بسياستك، وتعرضهم عليها، فتتخيّر من شهرت بسالته وكفاحه، وعتق «2» جواده وكمل سلاحه، وعرف بصدق العزيمة في مقارعة الأعداء، وحسن الطويّة في الإخلاص والولاء، وتستبدل بالورع «3» الجبان، والرّعديد

ص: 417

الضعيف الجنان، الناقص العدّة، المقصّر النّجدة، المدخول النّيّة، النّغل «1» الطّويّة، فإذا كملت العدّة من أهل الجلد والشّهامة، وأولي الحماسة والصّرامة، استدعيت من بيت المال ما ينفق فيهم من مستحق أطماعهم، ومعونة طريقهم، وأجريت النفقة فيهم على أيدي عارضيهم وكتّابهم، فإذا أزحت عللهم فاستصحب من العدد والسّلاح والخيم والأزواد والأموال ما يرهب الأعداء، وينهض الأولياء، وأذّن في مطّوّعة «2» المسلمين، بجهاد المشركين؛ في [كل]«3» بلدة تنزلها، ومحلّة تحلّها، وابذل لهم الظّهر والميرة والمعونة بالسلاح وما يستدعونه، وأرهف عزائمهم في غزو الكفّار، وإجلائهم عن الأوطان والدّيار، واسلك الطريق القاصد، ولا تفارق أهل المناهل والموارد، ولا تغذّ «4» السير إغذاذا تنقطع له الرجال وتتأخّر به الأزواد، ولا تتلوّم «5» في المنازل تلوّما تتصرّم فيه الآماد، ويوجد المشركين مهلة للاحتيال والاستعداد، وراع جيشك عند الحلّ والتّرحال، ولا تباعد بين مضاربهم إذا نزلوا، ولا تمكّنهم من التفرّد إذا ارتحلوا، وخذهم بالاجتماع والالتئام، والتآلف والانتظام، ولا سيّما إذا حصلوا في أرض العدوّ فإنّهم ربّما اهتبلوا «6» الفرصة في المسير المتسرّع، والمبيت المتفرّد، ونالوا منه ما تتوسّم به الهضيمة «7» على أهل الإسلام؛ والعياذ بالله. وإذا دانيت القوم فأعط الحزامة حقّها، مستعملا تارة للدّهاء والخداع، وأخرى للّقاء والقراع؛ فربما أغنت المساترة عن المكاشرة، ونابت مخايل التّلطّف عن مداخل التعسّف، وكفت

ص: 418

غوائل المخادعة، عن مواقف المماصعة «1» ؛ وقد قال إمام الحرب، وزعيم الطّعن والضّرب:«الحرب خدعة» «2» . وإذا عزمت على المصاع والمنافحة، والإيقاع والمكافحة، فبثّ من سرعان الفرسان الذين لا تشكّ في محض نصحهم، ولا ترتاب بصدق نيّاتهم، طلائع تطلعك على الأخبار، وعيونا تكشف لك حقائق الآثار، وتغضّ الطّرف عن مجاوري الديار، ومر من تقدّمه عليهم بأن لا يقتحم خطرا، ولا يركب غررا، وليكن من تنفذه في ذلك [من]«3» أهل الخبرة بالطّرق والساحات، والدخلات والأودية والفجوات، حتى لا يتمّ للعدوّ فيهم حيلة، ولا ينالهم منه غيلة؛ فإذا أتوك بالخبر اليقين، وأقبسوك قبس النّور المبين، بدأت الحرب مستخيرا لله تعالى، مقدّما أمامك الاستنجاح به، واستنزال النصر من عنده، مرتّبا للكتائب، معبيا للصّفوف والمقانب «4» ، زاحفا بالراجل محصّنا بالفارس والرامي مجتنّا بالتارس، واشحن القلب والجناحين بالشّجعان المستبقين، والأبطال الحلاسين «5» ، وأنزل إلى رحى الحرب من خفّ ركابه من الأنجاد الراغبين في علوّ الصّيت والذكر، الطالبين الفوز بالثواب والأجر، واجعل وراءهم ردءا، وأعدّلهم مددا يوازرونهم إن يجئهم ما لا يطيقونه ويحين «6» ، ويطايرونهم على ما خلص إليهم وادعين، وقف من التأخير والإقدام، والنّفود والإحجام، موقفا تعطي الحزامة فيه حظّها، والرويّة قسطها، مصمّما ما كان «7» التصميم أدنى لانتهاز الفرصة، واهتبال الغرّة، متلوّما ما كان «8» التلوم أحمد للعاقبة، وأسلم للمغبّة.

ص: 419

واعلم أنّ ريح النصر قد تهبّ للكافرين على المسلمين؛ فلا يكن ذلك قادحا منك في الدّين، فإن الله تعالى يستدرج بسنّة الباطل لا بسنّة الإظفار، ويريهم الإقدار في مخايل الأقدار، حتى إذا فرحوا بما أوتوا أوردتهم كواذب أمانيّهم موارد الهلكة، وأخذوا بغتة، ودالت دولة الحق لأوليائها مرفوعة الأعلام، آخذة بنواصي العداة والأقدام؛ وتحقّق أنّ الأمور بخواتيمها، والأعمال بتمامها؛ وأنه وليّ [المؤمنين]«1» . ما جمع موقف فئتي شكّ ويقين، وكفر ودين، إلّا كان الفلج والنصر لأهل التّقى والدّين، والخسارة والبوار على الشاكّين الكافرين، تصديقا لوعده تعالى إذ يقول: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ

«2» وتحفظ بنفسك ولا تلقها في المهالك متهوّرا، ولا ترم بها في المتالف مخاطرا، ولا تساعدها على مطاوعة الحميّة والنّخوة، وتحرّز قبل السّقطة والهفوة، فإنك- وإن كنت واحدا من الجيش- أوحدهم الذين يتبادرون إليه، ويعتمدون في السياسة عليه؛ وما دمت محفوظا ملحوظا فالهيبة عالية، والعين سامية؛ وإن ألمّ بك- والله يعصمك- خطب، أو نالك- والله يكفيك- ريب، توجّه الخلل، وأرهف حدّ الوهن والشّلل. وإن دعتك نفسك إلى الجهاد، وحملك تصرّفك على الكفاح والجلاد، فليكن ذلك عند الإحجام، وتزلزل الأقدام: فإنّ ذلك يشحذ عزائم المسلمين، ويقوّي شكائم المتأخّرين، غير مضيّع للحذر، في الورد والصّدر؛ وكذلك فاحرس أماثل القوّاد، ووجوه الأجناد، الذين تشفى صدور الكفّار بمصارعهم، وتنقع غللهم بمضايعهم، وحام عنهم حماية الجفون عن المقل، وصنهم صيانة الصّوارم من الخلل، ودافع عن كافة [جند]«3» المسلمين المرتزقين والمتطوّعين، فإنّ الله تعالى قد كافى بين دمائهم، وسوّى بين ضعفائهم

ص: 420

وأقويائهم؛ على أنه سبحانه قد وعدهم عن بذل الأنفس في مجاهدة الملحدين، وإبادة المشركين، الجزاء الجسيم، والنعيم المقيم، والبقاء الذي لا يعتوره فناء، والجذل الذي لا يعترضه انقضاء.

وقدّم على الأساطيل والمراكب الحربيّة وأعمالها ورجال البحر من تختاره لذلك من أماثل الأمراء المشهورين بالشّدّة والنّجدة، والبصارة والمهارة والخبرة بشقّة البحر والقتال فيه، ومره بالتّسحيل «1» وملازمة السّيف والإرساء من الشّطوط بحيث يتأمّل مضاربك، ليكون ما حمل عليها من ميرة وعدّة قريبا منك؛ فإن نازلت ثغرا من ثغور الساحل فاملأه بالخيل من برّه، وبالسفائن من بحره، واستخدم لحفظ ما فيها من الأزواد والأسلحة والعدد والنّفط ودهن البلسان والحبال والعرّادات «2» وغيرها من الآلات من تثق بأمانته ومعرفته، وتقدّم إليهم بالحوطة على ما يخرجونه من العواري «3» واسترجاعه بعد الغنى عنه، واستظهر بذلك استظهارا يحمد موقعه لك، ويعرف به رصين رأيك، وسديد مذهبك. واستخلص لمجالستك من أهل الأصالة والحزم، والرّجاحة والفهم، والدّراية والعلم، والتجارب في ممارسة الحروب، وملابسة الخطوب، من ترجع إلى رأيه فيما أشكل، وتعتمد على تجربته فيما أعضل؛ ولا تستبدّ برأيك فإنّ الاستبداد يعمّي المراشد، ويبهم المقاصد.

ولمّا كانت الشّورى لقاح الأفهام، والكاشفة لغواشي الإبهام، أمر الله تعالى بها نبيّه عليه السلام فقال: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ

«4» .

ص: 421

ولا تشاور جبانا ولا مثبّطا عن انتهاز الفرصة الممكنة، ولا متهوّرا يحملك على الغرّة المهلكة، وتأنّ في الآراء فإنّ التأنّي يجمّ «1» الألباب، ويجلو وجه الصواب، ويقلّص سجوف الارتياب، واضرب بعض الآراء ببعض وسجّلها، وأجل فكرك فيها وتأمّلها؛ فإذا صرّحت عن زبدتها، وانشقّت أكمامها عن ثمرتها، فأمض صحيحها، واعتمد نجيحها؛ وإذا استوى بك وبالعدوّ مرحى «2» الحرب فحرّقهم بنار الطّعن، وأذقهم وبال أمرهم، وعاقبة كفرهم، ولا ترقّ لهم واتّبع ما أمر الله تعالى به في الغلظة عليهم، فإنه يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ

«3» ؛ فإن جنحوا للسّلم والموادعة مصانعين، فقابل بالقبول، فإن الله تعالى يقول: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

«4» . وابذل الأمان لمن طلبه، واعرضه على من لم يطلبه، وف لمن تعاهده بعهده، واثبت لمن تعاقده على عقده، ولا تجعل ما تفرطه من ذلك ذريعة إلى الخديعه، ولا وسيلة إلى الغيلة: فإن الله سبحانه وتعالى يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ

«5» ، ورسوله صلى الله عليه وسلم يقول:«الناس عند شروطهم» ، وإذا أعانك الله على افتتاح معاقل المشركين، واستضافته إلى ما بأيدي المسلمين، فارفع السيف عن قاطنيه، واعتمد اللّطف بالمقيمين فيه، وادعهم إلى الإسلام، واتل عليهم ما وعد الله به أهله من كريم المقام؛ فمن أجابك إلى استشعار ظلّه، والاعتصام بحبله، فافرض له ما تفرضه لإخوانك في الدّين، واضمم إليهم من علماء المسلمين من يبصّرهم ويرشدهم، ويثقّفهم ويسدّدهم، وخيّر من آثر المقام على دينه بين تأدية الجزية، والاستعباد والمملكة؛ فإن أدّوا الجزية فأجرهم مجرى أهل الذمّة المعاهدين، وخصّهم من الرّعاية بما أمر به في الدين، وإن أبوا ذلك فإن الله تعالى قد أباح

ص: 422

دماء رجالهم، واستعباد ذراريّهم ونسائهم، وابتن بالمعقل مسجدا جامعا يجمّع فيه بالمسلمين، ويخطب على منبره لأمير المؤمنين، وارفع منارته حتّى تعلو على كنائس المشركين، وانصب فيه إماما يؤدّي الصلاة في أوقاتها، وخطيبا مصقعا يخطب الناس ويعظهم، ومكبّرين يدعون إلى الصلوات، وينبّهون على حقائق الأوقات، وقوّاما وخدّاما يتولّون تنوير مصابيحه، وتعهّد تنظيفه وفرشه، وأطلق لهم من الأرزاق والجرايات ما يبعثهم على ملازمته ويعينهم على خدمته، واحتط على من يحصل في يدك من أسرى المشركين، لتفدي بهم من في قبضتهم من أسراء المسلمين، وإذا عرضوا عليك الفداء فاحذر من خديعة تتمّ فيه، أو حيلة تتوجّه في افتكاك معروف منهم بمجهول من أهل الإسلام؛ وإن كان الله تعالى قد فضّل أدنياء المسلمين على عظماء الملحدين، ولم يسوّ بينهم في دنيا ولا آخرة ولا دين، إلا أنّ هذا مما يوجب الحزم الحوطة فيه؛ وإن ظفرت بنسيب لطاغيتهم المتملّك عليهم أو خصيص «1» به فاحمله إلى حضرة أمير المؤمنين، ليقرّبها رهينة على من قبلهم من المأسورين، وسبيلا إلى انتزاع ما يبذلونه في فدايته من المعاقل والحصون. وقد أمضى لك أمير المؤمنين أن تعقد الهدنة معهم إذا رغبوا فيها على الشرائط التي تعود بعلوّ كلمة الملّة، وتجمع الخواطر والاستظهار للدولة؛ فعاقدهم محتاطا، واشترط عليهم مشطّا، وتحرّز في العقد ممّا يوجب تأوّلا، ويدخل وهنا، ويطرّق وهيا، وتحفّظ بجوالي «2» المعاهدين والأموال المقبوضة في فداء الغلّات والغنائم وسبي المشركين حتى يحمل ذلك إلى بيت مال المسلمين، فينظر أمير المؤمنين في تفريقه على مستحقّه، وإيصاله إلى مستوجبه، وافحص عن أحوال المستأمنين إليك تفحّصا يكشف ضمائرهم، ويبلو سرائرهم،

ص: 423

وتحرّز منهم تحرّزا يؤمّنك مكايدهم وحيلهم، وخدائعهم وغيلهم، وإذا نازلت حصنا من حصون الكفار، فكن على يقظة من مخاتلهم في الليل والنهار، وانصب الحرس والأرصاد، واحذر الغرّة ولا تهمل الاعتداد: لتعرّف أعداء الله أن طرفك ساهد، وجنانك راصد، وتفقّد أمر الجيش وأزح علّة من ترقبه في الأطماع والمواكدات، ومطّوّعته في المعاون والجرايات، ولا تغفل عنهم غفلة تضطرّهم إلى الانفلال، وتدعوهم إلى الانفصال؛ وأحسن إلى من حسن في الكفاح أثره، وطاب في الإبلاء خبره، وعده عن أمير المؤمنين بالحباء الجزيل والعطاء والتّنويل، فإنّ ذلك قادح لعزائم الأولياء، باعث لهم على التصميم في اللّقاء؛ فإذا أنت- بمشيئة الله- شفيت الصّدور، واحتذيت المأمور، وأعززت الدين، وذللت الملحدين، ودّوخت البلاد، ونكّست رؤوس أهل العناد، فانقلب بعساكر أمير المؤمنين، ومطّوّعة المسلمين، إلى حضرته واثقا بجميل جزائه، وجليل حبائه، وطالع في موردك ومصدرك؛ بما يجدّده الله لك ويفتحه على يدك، واذكر ما أشكل عليك ليمدّك أمير المؤمنين بالتبصير والتوقيف، والتعليم والتعريف، واستعن بالله فهو خير معين، وتوكّل على الله فإنه نعم الوكيل.

هذا عهد أمير المؤمنين إليك، فاعمل به وانته إليه يسدّد الله مساعيك، ويصوّب مراميك، إن شاء الله تعالى.

قلت: وأورد في خلال ذلك من تقاليد أرباب السيوف جملة أسقط من صدرها التحميدات.

ما أورده في رسم تقليد الإمارة على قتال أهل البغي أن يقال بعد التحميد ما مثاله:

وإن الله تعالى أوجب طاعة أولي الأمر على كافّة المؤمنين، وأكّد فرضها على جميع المسلمين، فقال جل قائلا، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ

«1» ، علما منه تعالى بأنّ الطاعة ملاك الأمر ونظامه،

ص: 424

ومساك الجمهور وقوامه، وأنه لا تتمّ سياسة مع الشّقاق والانحراف. وأمر سبحانه باستتابة من ألقى العصمة من يده، ونبذ الطاعة وراء ظهره، بشافي المواعظ والتبصير، ونافع التنبيه والتذكير؛ فإن أقلع وتاب، ورجع وأناب، وإلا جوهد وقوتل، وقوبل بالرّدع حتى يقبل ويعتصم بالطاعة، وينتظم في سلك الجماعة، فقال تعالى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما

«1» ، وقال:

فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ

«2» . وإنّ الغلاة «3» فارقوا اجتماع المسلمين، وانسلخوا من طاعة أمير المؤمنين، نابذين لبيعته، شائين بطل دعوته، وشقّوا عصا الإسلام، واستخفّوا محمل الحرام، واستوطئوا مركب السيئات والآثام، وعرّجوا عن قويم السّنن، وسمّوا بأراذل البدع أفاضل السّنن، وسعوا في الأرض بالفساد، وجاهروا بالعصيان والعناد؛ وكاتبهم أمير المؤمنين مبصّرا، ومعذرا منذرا ومخوّفا محذّرا، ودعاهم إلى التي هي أصلح في الأولى والأخرى، وأربح في البدء والعقبى، وأعلمهم أنّ الله تعالى لا يقبل صلاتهم ولا صيامهم، ولا حجّهم ولا زكاتهم؛ ولا يمضي قضاياهم ولا حكوماتهم، ولا عقودهم ومناكحاتهم، ما داموا على معصية إمامهم، ومفارقة وليّ أمرهم، الذي أوجب عليهم طاعته، وفرض في أعناقهم تباعته، وتابع في ذلك مواصلا، ووالاه مكاتبا ومراسلا، فأصرّوا على العقوق، واستمرّوا على اطّراح الحقوق، ودعوا إلى الأسوإ لها من إقدام الجيوش عليهم، ونقل العساكر إليهم، ومقابلتهم بما يقوّم أودهم، ويصلح فاسدهم ويزع جاهلهم، ويوقظ غافلهم.

وإنّ أمير المؤمنين تخيّرك للتقدّم على الجيش الهاتف نحوهم: لما يعلمه من شهامتك وصرامتك، وسدادك وسياستك، وإخلاصك ووفائك، وكفايتك وغنائك؛ (ويوصف بما تقتضيه منزلته، والأمر الذي هو أهل له) ، وهو يأمرك أن

ص: 425

تقدم النفوذ إليهم مستنجحا دعاء أمير المؤمنين، مستنزلا لصروف الغالبين، مستشعرا لباس التقوى، في الإعلان والنّجوى، فإذا نازلتهم في عقر دارهم، فأذقهم بالمضايقة وبال أمرهم، واسلك بهم سبيل أمير المؤمنين وافتتحهم بالإرشاد، وحضّهم على ما يقضي بصلاح الدنيا والمعاد؛ فإن استقاموا وتنصّلوا وراجعوا ورجعوا فأعطهم الأمان، وأفض عليهم ظلّ الإحسان، وإن أصرّوا وتمرّدوا، وجاهدوا واعتدوا، فشمّر لمنازلتهم، وصمّم في مقاتلتهم، واثقا بأن الله تعالى قد قضى بالنصر لأولياء أمير المؤمنين وأهل طاعته، والخذلان لأعدائه وأهل معصيته، إبانة بذلك عن تأييده لمن اعتصم بحبله، ودفعه لمن انسلخ من ظلّه، وحجّة بالغة لمن تمسّك بطاعته، وموعظة شافية لمن استخفّ بحمل معصيته؛ فإن ملّكك الله تعالى البلاد، وطهّرها من أهل الفساد، وشرّد عنها الدّعار والأشرار، إلى أقاصي الدّيار، فاجبب نواعق الفتنة والضّلالة، وعفّ آثار ذوي الغيّ والجهالة، وأسبغ الأمن على أهل السّلامة، وأفرغ العدل على من سلك سبيل الاستقامة، وأجر الأمر في الخطبة لأمير المؤمنين على الرّسم المحدود، والمنهج المعهود، وطالعه بما انتهيت إليه، ليكاتبك بما تعتمد عليه.

ويضمّن هذا العهد ما يقع فيه من شروط العهد المتقدّم، ويؤمر أن لا يستصحب من الجند إلّا من يثق بإخلاصه وصفائه، ويسكن إلى أمانته ووفائه، وأن يرفض المدخول النّية، النّغل الطويّة، فإنه لا شيء أضرّ على المحاربة من لقاء عدوّ بجيش مخامرين، وجند مماكرين؛ وقد يكون في العساكر من يداهن ويظهر الخدمة وهو في مثل العدوّ: إما لأنّ بينهما سالف وداد وولاية قد تأصّلت بإطماع وإفساد، أو يكون لسلطانه قليل الإحماد. وهذا الذي أوردناه ليس بمثال جامع وإنما هو الذي يتميز به هذا العهد عما تقدّمه، والكاتب إذا احتاج إلى استعماله رتّبه وقدّم ما يجب تقديمه، وأخّر ما يجب تأخيره [وأضاف إليه ما تجب]«1» إضافته؛ إن شاء الله تعالى.

ص: 426

وهذه نسخة سجلّ بولاية مصر، وهي:

الحمد لله، الموفّق إلى دواعي رضاه، المحسن العون على ما أوجب المزيد من إفضاله واقتضاه، المثيب على ما هدى إليه من طاعته، القابل عمل من استنفد في الشكر أقصى طاقته، المتكفّل بمصالح عباده، المولي من مواهبه ما تعجز الخواطر والألسنة عن تعداده، وصلّى الله على جدّنا محمد الذي جعل اتّباعه سبيلا إلى سكن جنّات الخلود، وآلت بهداه نار الكفر إلى الهمود والخمود، وأنقذ من مهاوي الضّلال، ووسم من حادّه وحاد عن سبيله بالصّغار والإذلال، وخلّف في أمّته الثقلين كتاب الله وعترته، وأبقى بهما فيهم آيته وهدايته، وعلى أخيه وابن عمّه أبينا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب مبرم أسباب الشريعة ومحكمها، ومطلق سيوفه في نفوس أعداء الملة ومحكّمها، وباب مدينة علم النّبوة التي لا يدخل إليها إلّا منه، وسيد من عناهم الله بقوله: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ*

«1» وعلى آلهما الأئمة الهداة قوّام الإسلام، وساسة الأنام، وخلفاء الله في أرضه، والموفين بعهده والآمرين بأداء سنّته وفرضه، وركن العصمة الذي من لجأ إليه نجا، والحصن الذي ما خاب من أمّه فرجا منه فرجا، وسلّم وعظّم، ووالى وكرّم.

وإنّ أمير المؤمنين- لما أودعه الله إيّاه من أسرار الحكمة، واجتباه له من إمامة الأمّة، واختاره له من كلاءة الخليفة وإيالتها، وحفظ حوزتها من المخاوف ورعايتها، وما خصّه به من بنوّة النبوّة والرّسالة، وأفرد به رأيه من الجزالة والأصالة، واكتنف به أنحاءه من التوفيق الذي لا يصدف عن غرض الإصابة ولا يحيد، وعضّده به من التأييد القاضي لعزائمه ببلوغ الغرض في نصرة التوحيد، واستودعه إياه من الإقبال الذي يجعل المستحيل لمراده إمكانا، والتأييد الذي أوضح به لإمامته برهانا، وتوحّده به من العصمة التي تصيب بها مراميه مواقع الرّشاد، وتضمن الخيرة لما يعانيه من الأمور مما سدّ وساد- يعمل خواطره فيما يكفل للنفوس برضاها، ويجزل للدّين والدنيا به حظاها، وتتظاهر به ضروب الصلاح على

ص: 427

الأمة، وتحيا به سنن الخيرات وتتمّ النعمة، وينظر لمن استودعه الله إيّاهم من بريّته نظر المؤدّي الأمانة إلى مؤتمنه، المستودع فيما يتقرّب به إليه من البرّ شكر سوابغ منائحه ومننه، ويقرّب على الأمة منال الخير باصطفائه من يكون لأفاضل الشّيم مستكملا، وإلى ما أزلفه إلى الله سبحانه من طاعة أمير المؤمنين متوصّلا، ولشواذّ الثناء بفاضل سيرته متحلّيا، وللتسمّح في قوانين السّياسة مجتنبا؛ ولما علم [رغبة]«1» الرعية فيه منتصبا، وفيما بلّغهم أقصى الآمال متسبّبا، وبمراقبة الله فيما يأتي ويذر متديّنا، وبحسن الجزاء على العمل بمرضاته متيقّنا: ليكون أمير المؤمنين قد قضى [ما أوجبه عليه]«2» مستخلفه باجتبائه واصطفائه، واستحمد إليه بإسناد جلائل الخدم إليه واستكفائه، وأتى ما تكون السلامة مضمونة في مباديه وعواقبه، وأحظى نبيل المراد في جميع جهاته وجوانبه، مستديما نعم الله التي أسداها إليه وأولاها، مواصلا حمده على مننه التي ظاهرها عليه ووالاها، ويستعينه على لوازم عوارفه التي من أجلّها خطرا، وأحمدها في البريّة أثرا، وأجمعها لمنافع الخاص والعام، وأعودها بحماية حوزة الإسلام، وأشهدها ببراهين الأئمّة، وأدلّها على عناية الله بهذه الأمّة، ما منحه أمير المؤمنين من موازرة فتاه ووزيره، ومعينه على المصالح وظهيره، السيد الأجل العادل أمير الجيوش أبي الحسن عليّ الظافريّ «3» ،- والدعاء- الذي أظهر الله به لأمير المؤمنين آيات حقوقه، واستأصل ببأسه شأفة من تتابع في مروقه وبالغ في عقوقه، وكسا الدهر بإيالته ملابس الجمال، وفسّح بفاضل سيرته مجال الآمال، وبذل من الجهاد غاية الاجتهاد، ووالى من عمارة البلاد ما أنطق بحمده الجماد، واستخلص نخائل الصّدور «4» بلطف سياسته ووسع عدله، ورغبت غرائب الآمال في الإيواء إلى سابغ فضله، وتبارت الليالي والأيام في خدمة أغراضه في أعاديه، واسترقّ قلوب الأولياء بما يواليه من بيض أياديه، ووضع الأشياء في مواضعها غير محاب ولا مرخّص، ولم

ص: 428

يحظ بأيامه النيّرة غير الطائع المخلص، ولم ينفق للباطل سوق، وأتت سيرته بما يرضي الخالق والمخلوق؛ فالله تعالى يجعل مدّته غير متناهية إلى مدى، والنصر والتوفيق لآرائه مددا، ويخلّد أبدا سعده، وينجز لأمير المؤمنين على يده وعده.

ولما كانت منزلته عند أمير المؤمنين المنزلة التي تتطامن دونها المنازل والرّتب، وجلّت أن ينالها أحد ممن بعد أو قرب، وأفعاله قدوة يهتدى بأمثالها في الشّكوك، وسيرته قد عظمت عن أن تتعاطى مماثلتها همم الملوك، ومحلّه عنده من الكمال بحيث تستحكم الثّقة باختياره، ويرجع في عقد الأمور وحلّها إلى اتّباع آثاره وموافقة إيثاره، وكانت مراتب الأولياء عند أمير المؤمنين بحسب مراتبهم من قربه، وموضعهم من رضاه مضاهيا لموضعهم من قلبه، ومكانهم من الحظوة لديه مناسبا لمكانهم من الزّلفة عنده، وأحقّهم بسناء الرّتب من أقبسه زنده وكساه مجده، ولا سيّما من لم يخرج منه عن حكم الولد، وحلّ منه محلّ القلب من الكبد، ونشأ في دوحته غصنا نضيرا، وطلع في سماء جلاله قمرا منيرا، واعتلى بجدّه، وقطع بحدّه، وتظاهرت شواهد سعده في مهده؛ وكنت أيها الأمير الحاوي لهذا الفضل المبين، المعتلق من ولاء أمير المؤمنين بالحبل المتين، الذي نشأ متوقّلا في درج المعالي، وغدا متقيّلا في ظلال الصّوارم والعوالي، وأخذت بمراشد السيد الأجلّ العادل فزدت عن الظّنون وأوفيت، ووعدت عنك فصدّقت ضمانها ووفّيت، وما زلت بعين الإجلال والتعظيم ملموحا، وبأفضل خلال الرّؤساء ممنوحا، ولجلائل المراتب مؤهّلا، وبلسان الإجماع مفضّلا، ولما أعيا من أدواء النّفاق حاسما، وفي مواقف المخاوف رابط الجأش حازما، ولما يعدّ الأماجد له مذخور المضاء، وفيما تعانيه وتلابسه موفّق الآراء؛ وقد اكتنفك من اتّباعك هدي السيد الأجل العادل- أدام الله قدرته وولاءه- ناصر الدين، الأجل المظفّر المقدّم الأمين، سيف الإمام، ركن الإسلام، شرف الأنام، فخر الملوك، مقدّم الجيوش، ذي الفضائل، خليل أمير المؤمنين، أبي الفضائل عبّاس «1»

ص: 429

الظافريّ العادليّ، أدام الله به الإمتاع، وعضّده وأحسن عنه الدّفاع، الذي هو فخر الملوك ونجلهم، وأثراهم من المفاخر وأجلّهم، وأقدمهم في الرياسة قدما وأعرقهم، وأطيبهم أرج ثناء وأعبقهم- ما جعلك أعلى الأعيان مفخرا، وأكرم الجواهر عنصرا، وأولاهم بآلاء أمير المؤمنين وعطائه، وأسبقهم في مضمار اختياره واجتبائه، وأثبتهم عنده مكانة، وأحراهم في خدمه بتأدية الأمانة؛ وقد عرف من مواقفك المشهودة، ومقاماتك المحمودة، ما كان منك في نوبة ابن مصّال «1» وجموع ضلاله، وما استفاض من كونك سبب انهزامه وانفلاله، وانقلاب تدبيره عليه وانعكاسه، والتفريق بين جسده وراسه، وحصل لك بذلك من إحماد أمير المؤمنين ما لا يبلغ الوصف مداه، إذ كان قد جرّد سيف نصر والدك الأجل المظفّر وأنت حدّاه، رأى أمير المؤمنين- وبالله توفيقه- أن لا يضيّع ما فيك من جوهر مكنون، ولا يرجع في أمر نباهتك إلى ما تدل عليه السّنون؛ إذ كنت للكمال مع فتاء السّنّ حائزا، وبمزيّة اصطناع أمير المؤمنين واختياره إيّاك فائزا؛ وفاوض السيد الأجلّ العادل- أدام الله قدرته- في تشريفك بولاية يكشف بها شفوف جوهرك، ويوضّح لكافّة البريّة بما شرتك إيّاها ما استقرّ عنده من جميل مختبرك، ووقع التعيين على تقليدك ولاية مصر وما مع ذلك من الصّناعتين وغير هما من حقوقهما، فأمضى أمير المؤمنين ذلك لما لهذه الولاية من الحظوة بالقرب والدّنوّ، وليوفّر على الإيثار على أن يبلّغ نظرك إلى غايات العلوّ والسموّ، وخرج أمره إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل بتقليدك الخدمة المذكورة: علما بانتظام شؤونها بإيالتك، وحياطة حوزتها بسطاك ومهابتك، وتحقّقا أنّ بسياستك تعمّها المصالح، وتتظاهر عليها الميامن والمناجح، وتظهر لها الحجة في الافتخار، على سائر

ص: 430

الأمصار، وتستأنف بمقارنتك من الميزة ما لم تحظ به فيما سلف من الأعصار، ويتضح بك البرهان لمن بالغ في تفضيلها، وتنال من فائض العدل بسيرتك ما تكاد تغنى به عن نيلها؛ فتقلّد ما قلدك أمير المؤمنين من ذلك: معتمدا على تقوى الله الذي إليه تصير الأمور، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور؛ قال الله تعالى في محكم كتابه المبين: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ

«1» ، واجعل من تحويه هذه المدينة بالعدل مشمولين، وعلى أجمل السّيرة والرسوم محمولين، وساو في الحكم بين الشريف والدّنيّ، وآس في المقدار بين الملّيّ والذّمّيّ، وأقم الحدود على من تجب عليه بمقتضى الكتاب وصحيح الآثار، ولا تتعدّها بإقلال ولا إكثار. وفي هذه المدينة من ذوي الأنساب، وأعيان الأجناد ومتميّزي الكتّاب، وأماثل الشهود: فاعتمد تمييزهم والاحتفاء بهم، ومعونتهم على مطالبهم ومحابّهم، وكذلك من تضمّنت هذه الولاية من التّجّار والرعية، وتوخّهم بما يسكّن جاشهم، ويزيل استيحاشهم، ويفسح لهم في الرجاء والأمل، ويعينهم على صالح العمل؛ وتقدّم بحفظ الجامع العتيق «2» وصونه وتوفيره، على ما يليق به وتوقيره، وامنع من ابتذاله في غير ما جعل له، ونصب له، من الإعلان بذكره فيه وأهله، ووفّر تامّ العناية، وشامل الرّعاية، على من به من الفقهاء والعلماء والمتصدّرين والقرّاء، وحضّهم بالتكرمة على المبالغة في طلب العلوم، والتزوّد من صالح الأعمال ليوم الوقت المعلوم، وخذ جميع المستخدمين معك بلزوم الطرائق الحميدة، والمقاصد المستوفقة السديدة؛ فمن استمرّ على ما ترضاه من اجتهاده، وتستوفقه من صواب اعتماده، أجريته على رسمه في الرعاية، وتوخّيته

ص: 431

بالصون والحماية، ومن كان بالخدم مخلّا، وسلوكه عما يلزمه ضالّا مضلّا، فأوعز بتأديبه، وما يقضي بتقويمه وتهذيبه؛ والثّقة بوفور حظّك من الصواب، وإجرائك على ما يناط بك على الاستتباب، أغنى عن الإطالة لك في الوصايا والإسهاب؛ والله تعالى يقرن الخير بما تنظر فيه، ويجعل التوفيق مضمونا فيما تذره وتأتيه، وينيلك من رتب السعادة ما أنت له أهل، ويتمّ نعمته عليك كما أتّمها على أبويك من قبل؛ فاعلم هذا واعمل به، إن شاء الله تعالى.

ومن السجلات بالوظائف الدينيّة على هذه الطريقة ما كتب به القاضي الفاضل عن العاضد بولاية بعض القضاة، وهو:

الحمد لله الواسعة عطاياه، الوازعة قضاياه، المشتملة على أقسام الخلق قسمه، المبرور في سؤالهم يوم فصل القضاء قسمه، المسطور في كتابه الذي ما فرّط فيه من شيء محلّل الشرع ومحرّمه، المتمثل فيه لمن مثله مطاع الأمر ومسلّمه، الكريم الذي لا يضيع ثواب العاملين، ولا يقطع أسباب الآملين، ولا يمنع طلاب السائلين، العدل الذي قامت حجّته على الناكبين والعادلين، والحقّ الذي يقضي بالحقّ وهو خير الفاصلين، مصفّي مشارع الشريعة من أعراض الكدر، وحامي معاقل الملّة من انتقاض المدر «1» ، ومنزّه أوليائه من محاسنها في رياض الفكر، ومعرّفهم بما عرض عليهم من إنافتها لارتياض النظر، وارتكاض «2» الفطن والفطر، جاعل الحكم سلطانه الذي يأوي اللهيف إلى ظلّه، وحماه الذي يلجأ الضعيف إلى عدله، ومفزع الرائع «3» الذي يقف المشروف

ص: 432

والشريف عند فصله، وشفاء العلل الذي يذهب بكل [ما في]«1» صدر من علّة، ومشرع الإنصاف الذي يفضي إلى الظّمإ فيض سجله، وموعد الخلائق يوم تطوى السماء كطيّ سجلّه، ومظهره ليظهر به هذا الدين على الدّين كلّه، والآمر فيما أشكل منه بالتعريج إلى مستنبطه من أهله، وجاعل الأئمة الهادين الحجج على من رجع إلى قياس عقله أو تقليد جهله، وأحد الثقلين الذي يخفّف عن كلّ غارب كل ثقله، وأخوه الكتاب فلن يفترقا حتّى يردا الحوض يوم نهله وعلّه، وصراطه المستقيم الذي من أتى اليوم فيها بزلّة رأيه أتى غدا بزلة فعله، ومنار الأنوار المضروب على طرق الساري في ليل الضّلال وسبله، وسبب العصمة التي أشار فيها إلى الاعتصام بحبله؛ وصلّى الله على جدّنا محمد الذي عظم به جدّنا، واعتلق بسببه مجدنا، ووجب به على كل من وادّ الله ورسوله ودّنا، وأورثنا من علمه ما حاز لنا شرفي الدين والدّنا، وحلم به نجير من ضاقت به المذاهب فرجا فرجا، وحكّمه المشركون فيما شجر بينهم فلم يجدوا في أنفسهم بما قضى حرجا، وعلى أخيه وابن عمّه، القائم مقامه بفصل حكمه وفضل علمه، أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب الذي حرز له من المكرمات لبابها، وطابت بغبار حلمه إقامة الألباب وإلبابها، وميّزه على الكافة بقوله:«أنا مدينة العلم وعليّ بابها» وشهد طورا بأنه أفتاهم، فعلم أنه أقربهم به شبها وفي مدى الفضل أقصاهم، وعلى الأئمة من ذرّيتهما الذين أنعموا فأجزلوا، وحكموا فعدلوا، وحمّلوا ثقل الأمانة فحملوا، وجاهدوا في سبيل الله فعلوا بما فعلوا، واستوجبوا الحمد بما أولوا والأجر بما ولّوا، صلاة مأمونة من الشبهات، متوضّحة الشّيات.

ولما كان حكم الصواب في الحكم بين الناس أن يختار من بان صوابه واتّضح، وبان عنه حكم الهوى الذي فضح، وأصغى ضميره إلى لسان الحقّ الذي فصح، وعرض جوهره على محكّ النّقد فصحّ، وميّز بينه وبين الرجال فثقل وزنا ورجح، واحتجّ به الإسلام على من نوى مناواته فنجح، وولي الأحكام بين

ص: 433

المسلمين فأصلح وصلح، وتسمّح إذا كان الحقّ له وإذا ما كان فيه فما أسمح ولا سمح «1» ، وجدّد جدّه من معالم العلوم ما صحّ رسمه وأمحّ «2» ، وأطلعته على خفايا المشكلات بديهة فكره لمّا لمح، وملك عنان هواه رأيه فجنح إلى هواه وما جمح، وشرح صدر الاختيار بما ملأ الأخيار من محاسنه وشرح، وتعالى الاقتراح لهذه المرتبة فكان وفق ما أراد وفوق ما اقترح، وتشبّث بعين الأعمال الصالحة وتمسّك، وتنزّه عن داء يلازمها وأعراض تشينها وتنسّك، وكثر الخوض في الباطل فإما صدع بالحق وإمّا أمسك، وأعدى فصله وفضله على من شكا أو شكّ، وغضّ عينيه عمّا أعطي سواه ومتّع به، واشترى طول راحته بنصيبه الآن من نصبه، وحسره «3» النعمة من تعبه، وأيس الظالم من ممالاته ومبالاته، وطمع المظلوم بقرب إعاناته وبعد إعناته «4» ، ومرّ مرّ الدهر وحلا حلوه فلم يشهد باستمالاته عن حالاته، ولم يرض أحد به حكم صرف دهر يجري بأذاته، ولا كشفت منه التجارب إلا عن البصائر التي تروق السّمّاع والنّظّار، والحسنات التي قضت بصائرها بقضاء مناظرة الأنظار، والديانة التي عمرت المحاريب في الليل وأطراف النهار، والأمانة التي استمسك عقدها فما خيف عليه أن يتداعى ولا أن ينهار، والصيانة التي استوى فوق مركبها فحلّت بجنّات عدن تجري من تحتها الأنهار.

ولمّا كنت أيّها القاضي ملتقى هذه الأوصاف وطيّعها، ومشرق نحرها ومطلعها، وملقى عصا ارتيادها ومنجعها، ومورد فرط تلك الأموال ومشرعها، ومراد هذه السّمات التي تقع منك موقعها، وتألف عندك موضعها، وأصل هذه المحامد التي إن استعلقت بسواه فمنه فرّعها، وقارع صفاة هذه الذّروة التي ما كان لغيره أن يقرعها، ومن تعدّه الخناصر أتقى كفاة الرتب وأورعها، وأبلج أباة الرّيب وأردعها، وأشدّها قياما ومقاما في ذات الله وإن كان له أطوعها، وأمضاها حدّا إذا

ص: 434

كف الباطل الغروب، وأشرقها شمسا لا تتوارى بحجاب الغروب، وأقواها سلّة في تنفيذ حكم حقّ إذا ضعف الطالب والمطلوب، وأنقاها صحيفة بما أودعها من نور العمل المكتوب، وأبداها زهدا في دنياه إذا أنموا بوعدها الكاذب أمل إيتائها المكذوب، وأدومها مصاحبة لشكر لا يستقلّ به رفيقها المصحوب، وأقومها طريقة في الحسنات فما طريقه إلى الحوب بملحوب «1» ، وأقواها طمأنينة قلب إلى ذكر الذي تطمئنّ به القلوب، وأنهضها عزما بما أعيا الهمم من تكاليف الطاعة وآد «2» بسمع وبصر وفؤاد، وأقدرها على مجاهدة الشهوات أشدّ الجهاد وأنظرها لنفسه في تحصيل عمل يشهد له يوم قيام الأشهاد، وأمهدها لجنبه وذخائر التقوى نعم المهاد.

وإلى اليقين «3» الذي ظهرت شواهده، والعمل الذي جمعت إليك شوارده، والدّين الذي صفت إليك موارده، والعلم الذي هبّت بمذاكرتك رواكده، والفهم الذي تظاهرت بمناظرتك مراشده، والنظر الذي ألقى فرسان الجدال بالجدالة «4» ، والأثر الذي يقضى به عليك بالعدالة، والمحاماة عن الحقّ بما يقضي لمخالفه بالإذالة ولمؤاليه بالإدالة، والإرشاد الذي ما بدا لفهم الشاكّ إلا بدا له، والفتيا التي ضربت ثبج الباطل بسيوفها، وحلّت مسامع المستفيدين بشنوفها، والجلالة التي لا يملّ مسموع أوصافها، والعدالة التي لا يملّ «5» مشروع إنصافها؛ وكم ليلة أغمدت ظلامها في نور التهجّد والناس هجود، وسكّنت جفون مناقبها بيقظات السّجود، وأنشأت الخشية غمامها فاطفأت بماء الدمع النار ذات الوقود، وبلغت رياضة الجوارح التي تريد ورياض القلب التي ترود، فأسفر الصبح منك عن سار واقف، واستسرّ لك القبول عن أنس خائف، وتأرّجت أنفاس الأسحار

ص: 435

باستغفارك، وتمّ عنوان السّجود بأسرارك، وابيضّت شية «1» الليل بحلى آثارك، واكتنفتك الطّهارة حتّى كأنّك مصحف، وأرهفتك الديانة حتّى كأنك مرهف، وحالفتك الرّكانة «2» وكأنك مع سلامة الخلق أحنف «3» ، وثقّفتك السّنّ فأبقت منك ما أبقت من سنان المثقّف، وعرفتك الأحكام بأنك ماض على الحقائق عند الشّبه تتوقّف، وألفتك النزاهة فشهد عدول أن نكرة المطامع عندك لا تتعرّف، وصرفتك النزاهة عن دنيا إن كانت عرائسها تزفّ فغدا مواردها تنزف، واستشرفتك المنازل التي لا تزال بأعناق الأشراف تستشرف؛ وما رأست، حتى درست، ولا تنبّهت، حتى تفقّهت، ولا أقنيت حتى أفنيت المحابر، ولا تصدّرت حتّى تصبّرت على كلف تغلب الصابر؛ فما حاباك من حباك، ولا قدّمك حتّى علم أن سواك ما ساواك؛ فرياستك لم تكن فلتة، واستشراف وجه الرياسة لك لم يكن لفتة، بل تنقّلت متدرّجا، وأثنى عليك لسان حقيقة ما كان متلجلجا؛ ولو أقعدك حسبك أو أباك «4» ، لقبلك المجد وما أباك؛ فكيف ولك نفس بنت لك الشرف الخالد، وجمعت الطريف منه إلى التالد، ولم تقنع بما ورثت من تراث رياسة الوالد.

والسيد الأجلّ الذي أعاد إلى الدولة رونق نضارتها، بعد رونق إضارتها، وأفاضت عليه حيا إشارتها، وأضافت إليه نصّ إشارتها، واعطته السعادة أفضل إمارتها، بما أعطته من فضل وزارتها، واشتملت معاني النّجاح من صفحة بشره التي عجّلناك الآمال ببشارتها، وأقرّت حركاته الخلافة في دارها والأنوار في دارتها، وقصّرت مهابته أيدي الأعداء بعد استطالتها، وأخمدت نارهم بعد استطارتها،

ص: 436

وذلّلت رياضته الأسود فلم ترع الأسماع بزأرها ولا العيون بزيارتها- يعدّك «1» للصّدور صدرا، ويعدك بما يرفع ذوي الأقدار قدرا، ويذكرك بما تطيب به نشرا، ويحسن ملبوسه بشرا، ويراك أولى من أقام الحقّ لازما جوادّه «2» ، وأقعد الباطل حاسما موادّه، ويصفك بالعدل الذي يتألّم عليه الأضداد، والسّداد الذي لا يضرب بينك وبينه بالأسداد، والنزاهة المنزّهة عن التصنّع بالرياء، والسريرة الطيّبة النّشر والسيرة الحسنة الرّواء.

ولما قرّر لك النيابة عنه في الصلاة والخطابة والقضاء والمظالم والإشراف على الجوامع والمساجد ودار ضرب العين «3» والورق والسّكّة بالحضرة وسائر أعمال المملكة، أمضى أمير المؤمنين ما قرّر، وتخيّر لهذه العطية من تخيّر، سكونا إلى أمانتك التي حملت نوقها، وركونا إلى ديانتك التي أوجبت تطلّع هذه الرتبة إليك وسوقها، وعلما أنك فارسها الذي اتّسع ميدانه، وواحدها الذي رجح ميزانه، وكفؤها الذي تمكّن مكانه؛ فتقلّد ما قلّدت من ذلك عاملا بتقوى الله التي يفوز العامل بها في مواقف الإسخاط، ويجوز بها السالك متالف الصراط، ويحوز بها الآمل معارف الاحتياط؛ قال الله في فرقانه الذي نزله على عبده ليكون للعالمين نذيرا: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً

«4» .

والحكم فهو عقد اللباس دنيا ودينا، وسبيل الحق الذي يسلكه من جرى شمالا وسلك يمينا، وبه كفّ الله الأيدي المتعدّية، وأنقذ من النار النفوس المتردّية، وأقام حدود كلّ من استحقّها ولم يتوقّها، وأوجب قصاص الدماء على من أراقها واستباح رقّها، وبه يقف القويّ والضعيف موقفا واحدا، ويظهر أولو عدل

ص: 437

الله لمن كان بعين قلبه مشاهدا، وبه تتبيّن مواقع التحليل والتحريم، وفيه تتعيّن مقاطع الحكم بالتحكيم، ولمجالسه الوقار فهي جنّة لا لغو فيها ولا تأثيم، والظالم فيه وإن ظفر فإنما ظفر بما يقطع له من نار الجحيم. ولا تجعل بين المتحاكمين إليك من فرق، وساو في الحكم بين كافّة الخلق، ولا تحكم بحجّة أحد الخصمين وإن كان لها السّبق: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ

«1» ، ولا تقطع بعلمك وإن كنت عليما، ولا تبال في الله أن تغضب ظالما وترضي مظلوما، واجعل لنفسك من نظرك وإصغائك بين المترافعين إليك مقسوما، فلا تحقر خطأ الحكم وتجنب منه بينهما ما تجده [عند] »

الله عظيما، واحكم بينهم بما أنزل الله ولا تكن للخائنين خصيما «3» وتجلبب بالوقار الذي يبيّن فضل الملّة، ويشهد للكفر بالذّلّة، ويلبسك فخر السّراة «4» الجلّة، ولا يمنعك مذموم التكبّر، عن محمود التدبّر، ولا جبر لكسر التجبّر، ولا خير فيمن لا يمهل رويّة التحير، فالعجلة تضيّق ميدان التخيّر؛ وإذا أوضح الملتبس لفهمك، وعزّ القطع بفصل حكمك، فأفهم الظالم ما توجّه عليه لخصمه، فربّما أوتي من سوء فهمه لا من طريق ظلمه، ولعله لا يجمع عليه بين فوت مراده وبقاء إثمه، وذاكر المقدمين على اليمين، بما على من يمين «5» ، وأن كاذبها يدع الديار بلاقع «6» ، وأن خرق الجرأة على الله ما له من راقع، وصرعة الفاجر ما لها من مزيل ولا رافع؛ ومن قطعه الحصر عن الإفصاح، وصرفه العيّ عن الإيضاح، فاستعمل معه أناة توضّح ما يختلج في صدره، ورفقا يفصح ما يختلج في فكره، فإنّ رسول

ص: 438

الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّكم لتختصمون إليّ ولعلّ أحدكم أن يكون ألحن بحجّته من الآخر فأقضي له على نحو ما أسمع» ولدخول المجالس دهشة تورث اللسان عقلة، ولمفاجأة المحافل حيرة تعقب البيان مهلة، فواجب عليك ممن تدلّه أن تدلّه، وممن يشده أن تشدّه: لتقضي بما تقضي، وتمضي الحكم بحقيقة تمضي؛ وإن تنجّزت قضيّة قد فرطت، وتدبّرت نوبة قد أفرطت، فبادر باستدراكها، قبل وقوعك في أدراكها، وتعذرك عن إدراكها؛ ولست معصوما من المغالط، ولا موصوما بالخطإ الفارط، ولا ملوما [إلا]«1» إذا أقمت على ما الله منه ساخط، فقد ذمّ الله من اتّقى الخلائق ولم يتّق الخلّاق، فقال تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ

«2» .

وكتاب الله وسنة رسوله السّراجان اللذان ما ضلّ هداهما، والمهادان اللذان ما أوضحهما إليه وأبداهما؛ وقد أغنت نصوصهما عن الأقيسة، وأوضح خصوصهما عامّة الأمور الملتبسة؛ قال الله سبحانه: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ

«3» ، وقال تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا

«4» وإن أشكلت نازلة غير مسطورة وأعضلت واقعة غير محصورة، فاسترشد أمير المؤمنين في أمرها، وقف على بحار علمه فلن تعدم سيح درّها، فأمير المؤمنين الذي أمر الله عند التنازع بأن نردّ [إليه]«5» ما أعضل، وأثّم أخذك للاستنباط [إلا من]«6» الذين حكم الله أن يردّ عليهم ما أشكل.

والشهادة فلقد أمر الله بإقامتها وكفى بالله شهيدا؛ وكفى بذلك جلالة وتمجيدا؛ ولا تتّخذ إلا العدول المقانع، ولا تسمع منهم إلا لمن هو لأمر الله سامع، فهم الأعوان التي تدفع بها نار جهنم، والجنن التي يتّقي بها الحاكم سهام

ص: 439

الآثام فيما حلّل وحرّم، وإلى علمهم انتهت مقاطع الحقوق التي الله بها أعلم؛ وما سرى حكم إلا بعد أن تجد أقواله دليلا، ولك السمع ولهم البصر وكلّ أولئك كان عنه مسؤولا؛ واستشفّ أمورهم فمن ألفيته آلفا لمحجّة الصواب، عائفا لمضلّة الارتياب، لا يحاف بالإغضاب، ولا يخاف بالإرهاب، ولا يحسب حسابا إلا ليوم الحساب، فاسمع مقالته، وأقرّ عدالته، ومن كان عن السبيل ناكبا، وللهوى راكبا، فأرجله عن ظهر العدالة، وتتبّع زلله بالإزالة، وواصل فيهم ألسنة حكمك، وأوجه علمك، فلا تستنب إلا من تعلم أن خطأه عليك وصوابه لك، ولا تعوّل إلّا على من لا يخجل نفسك ولا يذمّ تعويلك.

وكاتبك فقلمه لسانك، ولسانه ترجمانك، إن وقّع فإليك تنسب مواقع توقيعه، وإن وصل حكما بمسطوره فمقدارك مسطور من مسموعه؛ فلا ترض بالدّون فيما يدوّن، ولا تعوّل إلا على كل من تصوّر وتصوّن.

وحاجبك فهو عينك وإن سمّي حاجبا، ووجهك الذي تلقى به إذا كنت غائبا؛ فاختر من يكون متخيّرا في المقال، متحلّيا بحسن الفعال، مجرّبا في جميع الأحوال، لا يلتفت إلى دنيا دينه، ولا يخونك أمانته ولا تمتدّ يمينه، ولا يقول عنك ولا عن نفسه إلا ما يزينك ويزينه، ولا يخفّ إلى ما تخفّ به موازينه.

والخطباء فرسان المنابر، وألسنة المحاضر، وتراجم الشعائر، وأئمة المجامع، وسفراء القلوب بوساطة المسامع لمقامها الرافع، ومبرّها الفارع من القلوب على دائها، وتدحر حربه شياطين الأمم عند اعتدائها، ويعرب عن الهداية ويبالغ بلاغته في إهدائها، ويتقن مخارج الحروف محسنا في أدائها وإبدائها، وتحلّ موعظته عن العيون الجامدة عقد وكائها «1» ، وينادي القلوب الصّدية فيكون صداه صوب بكائها، ويستشعر أردية الوقار فتشهد المنابر له بارتدائها، وتغذي النفوس مواعظة إذا قصدته باستنصارها على القلوب واستعدائها.

ص: 440

والأيتام فأنت لهم والد، وأجر نفقتك عليهم في الصحيفة وارد، وهم ودائع الله لديك، وذخائر الآباء إلّا أنهم في يديك؛ فأحسن بهم السياسة بالشّفقة، وأحسن لهم التدبير بالنّفقة؛ ومن آنست رشده، فادفع ماله إليه، ومن لم تسترشد قصده، فأنفق منه عليه؛ قال الله تنبيها وتحذيرا: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً

«1» .

والمساجد بيوت الله التي يسبّح له فيها بالغدوّ والآصال، ومظانّ العبادة التي يعمرها أهل الاعتلاق بمعروفه والإفضال، ومصاعد الكلم الطيب والعمل الصالح، وأسواق الآخرة التي يوجب فيها المشترون صفقة البيع الرابح، فعبّد الطريق إلى زيارتها، واشرح قلوب المتطهّرين بطهارتها، وانس القائمين بالليل والمستغفرين بالأسحار بإنارتها.

والمضروب بدار الضرب فهو عين ما تجب عليه الزّكوات، ونفس ما تحاز [به]«2» المستملكات، ومدار ما تشتمل عليه المعاملات، وقيم ما تحقن به الدماء في الدّيات، ومنتهى ما توفّى به الصّدقات، وتوصي به الصدقات؛ فتولّ أخذ عياره، ومباشرة تصفية درهمه وديناره، وأخلصه لتنجو من النار بلفحات ناره، واحفظ شكله الذي ينقش خاتم جوازه؛ والأسماء المسطّرة عليه وسيلة امتيازه على بقية الأحجار وإعزازه.

والوكالة على باب الحكم فهي كفاح المتناضلين، وسلاح المتناصلين؛ ومن ينتفع بها لا يعزل من الخطاب، كما لا ينصّب بها من يفتح له الباطل الأبواب؛ فلا توعها إلا لمن حسمته الدّربة، في السرعة من القربة، وتدبر قول الله: وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ

«3» ممن يؤمن على النساء والرجال، ولا يعجبه إرسال لسانه في الحلال، ولا يبطل الحق إذا أطلق لسانه في سعة المجال.

ص: 441

والمتصرّفون الذين هم أيدي الشريعة التي تشخص الخصوم، ويستعان بهم على قمع الظّلوم ونفع المظلوم، فتخيّر أن يكون أكبرهم من أهل طبقته، وأمدّهم تحسينا لسمعته وتحصينا لأمانته.

هذا عهد أمير المؤمنين إليك فاهتد بهديه، وقم بفرض رعيه وحقّ وعيه، وكريم سعي الآخرة أحسن سعيه، وتصرّف بين أمر الحقّ ونهيه؛ والله سبحانه يبلّغك من مناجح أمرك، ما لا تبلغه بمطامح فكرك، وييسر لك من بديهة الإرشاد، ما تعجز عنه رويّة الارتياد؛ فاعلم هذا من أمير المؤمنين ورسمه، واعمل بموجبه وحكمه، إن شاء الله تعالى.

ومن ذلك ما أورده عليّ بن خلف الكاتب في كتابه «موادّ البيان» في سجلّ بالدعوة للدولة والمشايعة لها، والموافقة على مذهبها، وهو:

الحمد لله خالق ما وقع تحت القياس «1» والحواس، والمتعالي عن أن تدركه البصائر بالاستدلال والأبصار بالإيناس «2» ، الذي اختار الإسلام فأظهره وعظّمه، واستخلص الإيمان فأعزّه وأكرمه، وأوجب بهما الحجة على الخلائق، وهداهم بأنوارهما إلى أقصد الطرائق، وحاطهما بأوليائه الراشدين شموس الحقائق، الذين نصبهم في أرضه أعلاما، وجعلهم بين عباده حكّاما، فقال تعالى:

وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ

«3» .

يحمده أمير المؤمنين أن أصطفاه لخلافته، وخصّه بلطائف حكمته، وأقامه دليلا على مناهج هدايته، وداعيا إلى سبيل رحمته، ويسأله الصلاة على سيدنا

ص: 442

محمد نبيّه الذي ابتعثه رحمة للعالمين، فأوضح معالم الدين، وشرع ظواهره للمسلمين، وأودع بواطنه لوصيّه سيد الوصيين: عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين، وفوّض إليه هداية المستجيبين، والتأليف بين قلوب المؤمنين، ففجّر ينابيع الرّشاد، وغوّر ضلالات الإلحاد، وقاتل على التأويل كما قاتل على الرسل، حتى أنار وأوضح السّبل، وحسر نقاب البيان، وأطلع شمس البرهان، صلّى الله عليهما، وعلى الأئمة من ذرّيّتهما، مصابيح الأديان، وأعلام الإيمان، وخلفاء الرحمن، وسلّم عليهم ما تعاقب الملوان، وترادف الجديدان «1» .

وإنّ أمير المؤمنين- بما منحه الله تعالى من شرف الحكمة، وأورثه من منصب الإمامة والأئمّة، وفوّض إليه من التوقيف على حدود الدين، وتبصير من أعتصم بحبله من المؤمنين، وتنوير بصائر من استمسك بعروته من المستجيبين- يعلن بإقامة الدعوة الهاديّة بين أوليائه، وسبوغ ظلّها على أشياعه وخلصائه، وتغذية أفهامهم بلبانها، وإرهاف عقولهم ببيانها، وتهذيب أفكارهم بلطائفها، وإنقاذهم من حيرة الشّكوك بمعارفها، وتوقيفهم من علومها على ما يلحب لهم سبل الرّضوان، ويفضي بهم إلى روح الجنان وريح الحنان، والخلود السرمديّ في جوار الجواد المنّان- ما يزال نظره مصروفا إلى نوطها بناشيء في حجرها، مغتذ بدرّها سار في نورها: عالم بسرائرها المدفونة، وغوامضها المكنونة، موفّرا على ذلك اختياره، وقاصية انتقاده واختباره، حتّى أدّاه الاجتهاد إليك، ووقفه الارتياد عليك، فأسندها منك إلى كفئها وكافيها، ومدرهما «2» المبرّز فيها، ولسانها المترجم عن حقائقها الخفيّة، ودقائقها المطويّة، ثقة بوثاثة دينك، وصحّة يقينك، وشهود هديك وهداك، وفضل سيرتك في كل ما ولّاك، ومحض إخلاصك، وقديم اختصاصك، وأجراك على رسم هذه الخدمة في التشريف والحملان، والتنويه ومضاعفة الإحسان؛ فتقلّد ما قلّدك أمير المؤمنين مستشعرا للتقوى، عادلا عن

ص: 443

الهوى، سالكا سبيل الهدى؛ فإنّ التقوى أحصن الجنن، وأزين الزّين، وادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ

«1» ، فإن الله تعالى يقول: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً

«2» ، وحضّ على ذلك فقال سبحانه: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ

«3» ، وخذ العهد على كل مستجيب راغب، وشدّ العقد على كل منقاد ظاهر، ممن يظهر لك إخلاصه ويقينه، ويصحّ عندك عفافه ودينه، وحضّهم على الوفاء بما تعاهدهم عليه، فإن الله تعالى يقول: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا

«4» ، ويقول جل من قائل: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ

«5» ، و [كفّ]«6» كافّة أهل الخلاف والعناد، وجادلهم باللّطف والسّداد، واقبل منهم من أقبل إليك بالطّوع والانقياد، ولا تكره أحدا على متابعتك والدخول في بيعتك، وإن حملتك على ذلك الشفقة والرأفة والحنان والعاطفة: فإنّ الله تعالى يقول لمن بعثه داعيا إليه بإذنه، محمد صلى الله عليه وسلم: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ

«7» ؛ ولا تلق الوديعة إلا لحفّاظ الودائع، ولا تلق الحبّ إلا في مزرعة لا تكدي «8» على الزارع، وتوخّ لغرسك أجلّ المغارس، وتوردهم مشارع ماء الحياة المعين، وتقرّبهم بقربان المخلصين، وتخرجهم من ظلم الشكوك والشّبهات، إلى نور البراهين والآيات، واتل مجالس الحكم التي تخرج إليك في الحضرة على المؤمنين والمؤمنات، والمستجيبين والمستجيبات، في قصور الخلافة الزاهرة، والمسجد الجامع

ص: 444

بالمعزّيّة القاهرة، وصن أسرار الحكم إلا عن أهلها، ولا تبذلها إلا لمستحقّها، ولا تكشف للمستضعفين ما يعجزون عن تحمّله، ولا تستقلّ أفهامهم بتقبّله، واجمع من التبصّر بين أدلّة الشرائع والعقول، ودلّ على اتصال المتل بالممنون «1» ؛ فإن الظواهر أجسام والبواطن أشباحها، والبواطن أنفس والظواهر أرواحها، وإنه لا قوام للأشباح إلا بالأرواح، ولا قوام للأرواح في هذه الدار إلا بالأشباح، ولو افترقا لفسد النّظام، وانتسخ الإيجاد بالإعدام. واقتصر من البيان، على ما يحرس في النفوس صور الإيمان، ويصون المستضعفين من الافتتان، وانههم عن الإثم ظاهره وباطنه، وكامنه وعالنه، فإن الله تعالى يقول: وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ

«2» .

واتّخذ كتاب الله مصباحا تقتبس أنواره، ودليلا تقتفي آثاره، واتله متبصّرا، وردّده متذكّرا، وتأمّله متفكرا، وتدبّر غوامض معانيه، وانشر ما طوي من الحكم فيه، وتصرّف مع ما حلّله وحرّمه، ونقضه وأبرمه، فقد فصّله الله وأحكمه، واجعل شرعه القويم الذي خصّ به ذوي الألباب، وأودعه جوامع الصلوات ومحاسن الآداب، سببا تتّبع جادّته، وتبلغ في الاحتجاج محجّته، وتمسّك بظاهره وتأويله ومثله، ولا تعدل عن منهجه وسبله، واضمم نشر المؤمنين، واجمع شمل المستجيبين، وأرشدهم إلى طاعة أمير المؤمنين، وسوّ بينهم في الوعظ والإرشاد، والله تعالى يقول في بيته الحرام: سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ

«3» ، وزدلهم من الفوائد والموادّ على حسب قواهم من القبول، وما يظهر لك من جودة المحصول، ودرّجهم بالعلم ووفّ المؤمن حقّه من الاحترام، ولا تعدم الجاهل عندك قولا سلاما كما علّم ربّ السلام، وتوخّ رعاية المؤمنين، وحماية المعاهدين، وميّزهم من العامّة بما ميّزهم الله من فضل الإيمان والدين، وألن لهم جانبك واحن عليهم

ص: 445

والطف، وابسط لهم وجهك وأقبل إليهم واعطف، فقد سمعت قول الله تعالى لسيد المرسلين: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ

«1» ، ولا تفسّح لأحد منهم في التطاول بالدين، ولا الإضرار بأحد من المعاهدين والذّمّيّين، وميزّهم بالتواضع الذي هو حلية المؤمنين؛ وإذا ألبس عليك أمر وأشكل، وصعب لديك مرام وأعضل، فأنهه إلى حضرة الإمامة متّبعا قول الله تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ*

«2» ، وقوله: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا

«3» :

ليخرج إليك من بصائر توقيفها، ومراشد تعريفها، ما يقفك على مناهج الحقيقة، ويذهب [بك]«4» في لاحب الطّريقة، واقبض ما يحمله المؤمنون لك من الزكاة والجزى «5» والأخماس والقربات وما يجري هذا المجرى، وتتقدّم إلى كاتب الدعوة بإثبات أسماء أربابه، واحمله إلى أمير المؤمنين لينتفع مخرجوه بتنقيله له ووصوله إليه، وتبرأ ذممهم عند الله منه، واستنب عنك في أعمال الدعوة من شيوخ علم الحكمة ومن تثق بديانته، وتسكن فيه إلى وفور صناعته، واعهد إليهم كما عهد إليك، وخذ عليهم كما أخذ عليك، واستطلق لهم من فضل أمير المؤمنين ما يعينهم على خدمته، ويحمل ثقلهم عن أهل دعوته، واستخدم كاتبا ديّنا أمينا مؤمنا بصيرا عارفا، حقيقا بالاطلاع على أسرار الحكمة التي أمر الله بصيانتها وكتمانها عن غير أهلها، نقيّا حصيفا لطيفا، ينزلهم في مجلسك بحسب مراتبهم من العلم والدين والفضل.

هذا عهد أمير المؤمنين إليك فتدبّره متبصّرا، وراجعه متدبّرا، وبه الوصايا

ص: 446