الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ظنّك بثواب الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته، والسلام «1» .
قلت: هذا ما ذكره ابن عبد ربّه في «العقد» . ويقع في بعض المصنّفات ابتداؤه: من عمر بن الخطاب إلى عبد الله بن قيس- سلام عليك أما بعد.
ووقع في مسند البزّار «2»
أن أوّله: اعلم أنّ القضاء فريضة محكمة، مع تغيير بعض الألفاظ وتقديم بعض وتأخير بعض.
الطرف الثاني (فيما كان يكتب عن خلفاء بني أميّة)
كتب عبد الحميد بن يحيى الكاتب، عن مروان بن محمد لبعض من ولّاه «3» .
أما بعد، فإنّ أمير المؤمنين- عند ما اعتزم عليه من توجيهك إلى عدوّ الله الجلف الجافي الأعرابيّ، المتسكّع في حيرة الجهالة، وظلم الفتنة، ومهاوي الهلكة، ورعاعة الذين عاثوا في أرض الله فسادا، وانتهكوا حرمة الإسلام استخفافا، وبدّلوا نعمة الله كفرا، واستحلّوا [دماء أهل]«4»
سلمه جهلا- أحبّ أن يعهد إليك في لطائف أمورك، وعوامّ شؤونك، ودخائل أحوالك، ومصطرف «5»
تنقّلك عهدا يحمّلك فيه أدبه، ويشرع لك به عظته، وإن كنت بحمد الله من دين الله وخلافته بحيث اصطنعك الله لولاية العهد مختصّا لك بذلك دون لحمتك وبني أبيك. ولولا ما أمر الله تعالى به، دالّا عليه، وتقدّمت فيه الحكماء آمرين به: من تقديم العظة، والتّذكير لأهل المعرفة وإن كانوا أولي سابقة في الفضل وخصيّصاء «1»
في العلم، لا عتمد أمير المؤمنين على اصطناع الله إيّاك، وتفضيله لك بما رآك أهله في محلّك من أمير المؤمنين، وسبقك إلى رغائب أخلاقه، وانتزاعك محمود شيمه، واستيلائك على مشابه تدبيره. ولو كان المؤدّبون أخذوا العلم من عند أنفسهم، أو لقّنوه إلهاما من تلقائهم ولم نصبهم تعلّموا «2»
شيئا من غيرهم، لنحلناهم «3»
علم الغيب، ووضعناهم بمنزلة قصّر بها عنهم خالقهم «4»
المستأثر بعلم الغيب عنهم بوحدانيّته في فردانيّته وسابق لا هوتيّته، احتجابا منه لتعقّب في حكمه، وتثبّت في سلطانه وتنفيذ إرادته، على سابق مشيئته، ولكنّ العالم الموفّق للخير، المخصوص بالفضل، المحبوّ بمزيّة العلم وصفوته، أدركه معانا عليه بلطف بحثه، وإذلال كنفه، وصحّة فهمه، وهجر سآمته.
وقد تقدّم أمير المؤمنين إليك، آخذا بالحجّة عليك، مؤدّيا حقّ الله الواجب عليه في إرشادك وقضاء حقّك، وما ينظر به الوالد المعنيّ الشّفيق لولده. وأمير المؤمنين يرجو أن ينزّهك الله عن كل قبيح يهشّ له طمع، وأن يعصمك من كلّ مكروه حاق بأحد، وأن يحصّنك من كلّ آفة استولت على امريء في دين أو خلق، وأن يبلّغه فيك أحسن ما لم يزل يعوّده ويريه من آثار نعمة الله عليك، سامية بك
إلى ذروة الشرف، متبحبحة بك بسطة الكرم «1»
، لائحة بك في أزهر معالي الأدب، مورثة لك أنفس ذخائر العز؛ والله يستخلف عليك أمير المؤمنين ويسأل حياطتك، وأن يعصمك من زيغ الهوى، ويحضرك داعي التوفيق، معانا على الإرشاد فيه، فإنه لا يعين على الخير ولا يوفّق له إلّا هو.
اعلم أنّ للحكمة مسالك تفضي مضايق أوائلها بمن أمّها سالكا، وركب أخطارها «2»
قاصدا، إلى سعة عاقبتها، وأمن سرحها «3»
، وشرف عزّها، وأنها لا تعار بسخف الخفّة، ولا تنشأ بتفريط الغفلة «4»
، ولا يتعدّى فيها بامريء حدّه؛ وربما أظهرت بسطة الغيّ مستور العيب. وقد تلقّتك أخلاق الحكمة من كلّ جهة بفضلها، من غير تعب البحث في طلبها، ولا متطاول لمناولة ذروتها «5»
؛ بل تأثّلت «6»
منها أكرم نبعاتها، واستخلصت [منها]«7»
أعتق «8» جواهرها؛ ثم سموت إلى لباب مصاصها «9» ، وأحرزت منفس ذخائرها، فاقتعد «10» ما أحرزت، ونافس فيما أصبت.
واعلم أنّ احتواءك على ذلك وسبقك إليه بإخلاص تقوى الله في جميع
أمورك مؤثرا لها، وإضمار «1» طاعته منطويا عليها، وإعظام ما أنعم الله به عليك شاكرا له، مرتبطا فيه للمزيد بحسن الحياطة له والذّبّ عنه من أن تدخلك منه سآمة ملال، أو غفلة ضياع، أو سنة تهاون، أو جهالة معرفة: فإنّ ذلك أحقّ ما بديء به ونظر فيه، معتمدا عليه بالقوّة والآلة والعدّة والانفراد به من الأصحاب والحامّة «2» ، فتمسّك به لا جئا إليه، واعتمد عليه مؤثرا له، والتجيء إلى كنفه متحيّزا إليه «3» :
فإنه أبلغ ما طلب به رضا الله، وأنجحه مسألة، وأجزله ثوابا، وأعوده نفعا، وأعمّه صلاحا؛ أرشدك الله لحظّك، وفهّمك سداده، وأخذ بقلبك إلى محموده.
ثم اجعل لله، في كل صباح ينعم عليك ببلوغه، ويظهر منك السلامة في إشراقه، [من نفسك]«4» ، نصيبا تجعله له شكرا على إبلاغه إيّاك يومك ذلك بصحّة جوارح وعافية بدن، وسبوغ «5» نعم، وظهور كرامة. وأن تقرأ فيه من كتاب الله- تبارك وتعالى جزءا تردّد رأيك في آيه «6» ، وترتّل «7» لفظك بقراءته، وتحضره عقلك ناظرا في محكمه، وتتفهّمه مفكّرا في متشابهه: فإنّ في القرآن شفاء الصّدور من أمراضها، وجلاء وساوس الشيطان وصعاصعه «8» ، وضياء معالم النّور، تبيانا لكل شيء وهدّى ورحمة لقوم يؤمنون. ثم تعهّد نفسك بمجاهدة هواك: فإنّه مغلاق الحسنات، ومفتاح السّيّئات، وخصم العقل.
واعلم أنّ كلّ أهوائك لك عدوّ يحاول هلكتك، ويعترض غفلتك: لأنّها
خدع إبليس، وخواتل «1» مكره، ومصايد مكيدته، فاحذرها مجانبا لها، وتوقّها محترسا منها، واستعذ بالله عز وجل من شرّها، وجاهدها إذا تناصرت عليك بعزم صادق لاونية «2» فيه، وحزم نافذ لا مثنويّة «3» لرأيك بعد إصداره، وصدق غالب لا مطمع في تكذيبه، ومضاءة صارمة لا أناة «4» معها، ونيّة صحيحة لا خلجة شكّ فيها: فإنّ ذلك ظهريّ «5» صدق لك على ردعها عنك، وقمعها دون ما تتطلّع إليه منك، فهي واقية لك سخطة ربك، داعية إليك رضا العامّة عنك، ساترة عليك عيب من دونك، فازدن بها متحلّيا، وأصب بأخلاقك مواضعها الحميدة منها، وتوقّ عليها الآفة التي تقتطعك عن بلوغها، وتقصّر بك دون شأوها: فإنّ المؤونة إنما اشتدّت مستصعبة، وفدحت باهظة أهل الطّلب لأخلاق أهل الكرم المنتحلين سموّ القدر، بجهالة مواضع ذميم الأخلاق ومحمودها، حتّى فرّط أهل التقصير في بعض أمورهم فدخلت عليهم الآفات من جهات أمنوها، فنسبوا إلى التفريط، ورضوا بذلّ المنزل، فأقاموا به جاهلين بموضع الفضل، عمهين «6» عن درج الشّرف، ساقطين دون منزلة أهل الحجا، فحاول بلوغ غاياتها محرزا لها بسبق الطلب إلى إصابة الموضع، محصّنا أعمالك من العجب: فإنه رأس الهوى، وأوّل الغواية، ومقاد الهلكة؛ حارسا أخلاقك من الآفات المتّصلة بمساوي الألقاب وذميم تنابزها «7» ، من حيث أتت الغفلة، وانتشر الضّياع، ودخل الوهن. فتوقّ
غلوب «1» الآفات على عقلك، فإنّ شواهد الحق ستظهر بأماراتها تصديق آرائك عند ذوي الحجا، وحال الرأي وفحص النظر، فاجتلب لنفسك محمود الذّكر وباقي لسان الصّدق بالحذر لما تقدّم إليك فيه أمير المؤمنين، متحرّزا من دخول الآفات عليك من حيث أمنك وقلّة ثقتك بمحكمها: من ذلك أن تملك أمورك بالقصد، وتداري جندك بالإحسان، وتصون سرّك بالكتمان، وتداوي حقدك بالإنصاف، وتذلّل نفسك بالعدل، وتحصّن عيوبك بتقويم أودك «2» ، وتمنع عقلك من دخول الآفات عليه بالعجب المردي. وأناتك فوقّها الملال وفوت العمل، ومضاءتك فدرّعها رويّة النظر واكنفها بأناة الحلم، وخلوتك فاحرسها من الغفلة واعتماد الراحة، وصمتك فانف عنه عيّ اللّفظ، وخف سوء القالة «3» ؛ واستماعك فأرعه حسن التفهّم، وقوّه بإشهاد الفكر، وعطاءك فامهد «4» له بيوتات الشّرف وذوي الحسب، وتحرّز فيه من السّرف واستطالة البذخ وامتنان الصّنيعة، وحياءك فامنعه من الخجل، وبلادة الحصر «5» ، وحلمك فزعه «6» عن التّهاون وأحضره قوّة الشّكيمة، وعقوبتك فقصّر بها عن الإفراط، وتعمّد بها أهل الاستحقاق، وعفوك فلا تدخله تعطيل الحقوق، وخذ به واجب المفترض، وأقم به أود الدّين، واستئناسك فامنع منه البذاء وسوء المناقثة «7» ، وتعهّدك أمورك فحدّه أوقاتا، وقدّره ساعات، لا تستفرغ قوّتك، ولا تستدعي سآمتك، وعزماتك فانف عنها عجلة الرأي، ولجاجة الإقدام؛ وفرحاتك فاشكمها «8» عن البطر،
وقيّدها عن الزّهوّ، وروعاتك فحطها من دهش الرأي، واستسلام الخضوع، وحذراتك فامنعها من الجبن، واعمد بها الحزم، ورجاءك فقيّده بخوف الفائت، وامنعه من أمن الطّلب.
هذه جوامع خلال، دخّال النقص منها واصل إلى العقل بلطائف أبنه وتصاريف حويله «1» ، فأحكمها عارفا بها، وتقدّم في الحفظ لها، معتزما على الأخذ بمراشدها والانتهاء منها إلى حيث بلغت بك عظة أمير المؤمنين وأدبه إن شاء الله.
ثم لتكن بطانتك وجلساؤك في خلواتك، ودخلاؤك في سرّك، أهل الفقه والورع من خاصّة أهل بيتك، وعامّة قوّادك ممن قد حنّكته السّنّ بتصاريف الأمور، وخبطته فصالها بين فراسن «2» البزّل منها، وقلّبته الأمور في فنونها؛ وركب أطوارها: عارفا بمحاسن الأمور ومواضع الرّأي وعين المشورة؛ مأمون النصيحة، منطوي «3» الضمير على الطاعة. ثم أحضرهم من نفسك وقارا يستدعي لك منهم الهيبة، واستئناسا يعطف إليك منهم المودّة، وإنصاتا «4» يفلّ إفاضتهم له عندك بما تكره أن ينشر عنك من سخافة الرأي وضياع الحزم، ولا يغلبنّ عليك هواك فيصرفك عن الرأي، ويقتطعك دون الفكر. وتعلّم أنك- وإن خلوت بسرّ فالقيت دونه ستورك، وأغلقت عليه أبوابك- فذلك لا محالة مكشوف للعامّة، ظاهر عنك وإن استتر [ت]«5» بربّما ولعلّ وما أرى إذاعة ذلك وأعلم «6» ، بما يرون
من حالات من ينقطع به في تلك المواطن. فتقدّم في إحكام ذلك من نفسك، واسدد خلله عنك: فإنه ليس أحد أسرع إليه سوء القالة ولغط العامّة بخير أو شرّ ممن كان في مثل حالك ومكانك الذي أصبحت به من دين الله والأمل المرجوّ المنتظر فيك. وإيّاك أن يغمز «1» فيك أحد من حامّتك «2» وبطانة خدمتك بضعفة يجد بها مساغا إلى النّطق عندك بما لا يعتزلك عيبه، ولا تخلو من لائمته، ولا تأمن سوء الأحدوثة فيه، ولا يرخص سوء القالة به إن نجم ظاهرا أو علن «3» باديا، ولن يجترئوا على تلك عندك إلّا أن يروا منك إصغاء إليها، وقبولا لها، وترخيصا لهم في الإفاضة بها. ثمّ إيّاك وأن يفاض عندك بشيء من الفكاهات والحكايات والمزاح والمضاحك التي يستخفّ بها أهل البطالة، ويتسرع نحوها ذو والجهالة، ويجد فيها أهل الحسد مقالا لعيب يذيعونه «4» وطعنا في حقّ يجحدونه؛ مع ما في ذلك من نقص الرأي، ودرن العرض، وهدم الشرف، وتأثيل «5» الغفلة، وقوّة طباع السّوء الكامنة في بني آدم ككمون النار في الحجر الصّلد، فإذا قدح لاح شرره، وتلهّب وميضه، ووقد تضرّمه؛ وليست في أحد أقوى سطوة، وأظهر توقّدا، وأعلى كمونا، وأسرع إليه بالعيب وتطرّق الشّين منها لمن كان في مثل سنّك: من أغفال «6» الرجال وذوي العنفوان في الحداثة، الذين لم تقع عليهم سمات الأمور، ناطقا عليهم لائحها، ظاهرا فيهم وسمها، ولم تمحضهم «7» شهامتها، مظهرة للعامّة فضلهم، مذيعة حسن الذكر عنهم، ولم يبلغ بهم الصّيت في الحنكة مستمعا يدفعون به عن أنفسهم نواطق السن أهل البغي، وموادّ أبصار أهل الحسد.
ثم تعهّد من نفسك لطيف عيب لازم لكثير من أهل السلطان والقدرة: من أبطال الذرع «1» ونخوة الشّرف والتّيه وعيب الصّلف، فإنها تسرع بهم إلى فساد وتهجين «2» عقولهم في مواطن جمّة، وأنحاء مصطرفة، منها قلّة اقتدارهم على ضبط أنفسهم في مواكبهم ومسايرتهم العامّة: فمن مقلقل شخصه بكثرة الالتفات عن يمينه وشماله، تزدهيه الخفّة، ويبطره إجلاب «3» الرجال حوله، ومن مقبل في موكبه على مداعبة مسايره بالمفاكهة له والتّضاحك إليه، والإيجاف «4» في السّير مرحا، وتحريك الجوارح متسرّعا، يخال أنّ ذلك أسرع له وأحثّ لمطيّته، فلتحسّن في ذلك هيأتك، ولتجمّل فيه دعتك؛ وليقلّ على مسايرك إقبالك إلا وأنت مطرق النظر، غير ملتفت إلى محدّث، ولا مقبل عليه بوجهك في موكبك لمحادثته، ولا موجف في السير مقلقل لجوارحك بالتحريك والاستنهاض؛ فإنّ حسن مسايرة الوالي واتّداعه «5» في تلك الحالة دليل على كثير من عيوب أمره ومستتر أحواله.
واعلم أنّ أقواما يتسرّعون «6» إليك بالسّعاية، ويأتونك على وجه النّصيحة «7» . ويستميلونك بإظهار الشّفقة، ويستدعونك بالإغراء والشّبهة، ويوطئونك عشوة «8» الحيرة: ليجعلوك لهم ذريعة إلى استئكال «9» العامّة بموضعهم
منك في القبول [منهم «1» ] والتصديق لهم على من قرفوه بتهمة، أو أسرعوا بك في أمره إلى الظّنّة، فلا يصلنّ إلى مشافهتك ساع بشبهة، ولا معروف بتهمة، ولا منسوب إلى بدعة [فيعرّضك «2» ] لإيتاغ «3» دينك، ويحملك على رعيّتك بما لا حقيقة له عندك، ويلحمك أعراض قوم لا علم لك بدخلهم «4» ، إلا بما أقدم [به]«5» عليهم ساعيا وأظهر لك منهم منتصحا. وليكن صاحب شرطتك المتولّي لإنهاء ذلك هو «6» المنصوب لأولئك، والمستمع لأقاويلهم، والفاحص عن نصائحهم؛ ثمّ لينه ذلك إليك على ما يرفع إليه منه لتأمره بأمرك فيه، وتقفه على رأيك من غير أن يظهر ذلك للعامّة: فإن كان صوابا نالتك خيرته «7» ، وإن كان خطأ أقدم به عليك جاهل أو فرطة سعى بها كاذب فنالت الساعي «8» منهما أو المظلوم عقوبة، أو بدر من واليك إليه عقوبة «9» ونكال، لم يعصب ذلك الخطأ بك ولم تنسب إلى تفريط، وخلوت من موضع الذّمّ فيه «10» : محضرا إليه ذهنك وصواب رأيك، وتقدّم إلى من تولّي ذلك الأمر وتعتمد عليه فيه أن لا يقدم على شيء ناظرا فيه، ولا يحاول أخذ أحد طارقا له، ولا يعاقب أحدا منكّلا به، ولا يخلّي سبيل أحد صافحا عنه: لإصحار «11» براءته، وصحّة طريقته، حتّى يرفع إليك أمره، وينهي إليك قضيّته على جهة الصّدق، ومنحى الحق، ويقين الخبر، فإن رأيت
عليه سبيلا لمحبس أو مجازا لعقوبة، أمرته بتولّي ذلك من غير أدخاله عليك، ولا مشافهة لك منه، فكان المتولّي لذلك ولم يجر على يديك مكروه رأي ولا غلظة عقوبة، وإن وجدت إلى العفو [عنه]«1» سبيلا، أو كان مما قرف به خليّا كنت أنت المتولّي للإنعام عليه بتخلية سبيله، والصفح عنه بإطلاق أسره، فتولّيت أجر ذلك واستحققت ذخره، وأنطقت لسانه بشكرك، وطوّقت قومه حمدك، وأوجبت عليهم حقّك، فقرنت بين خصلتين، وأحرزت حظوتين: ثواب الله في الآخرة، ومحمود الذّكر في الدّنيا «2» .
ثم وإيّاك «3» أن يصل إليك أحد من جندك وجلسائك وخاصّتك وبطانتك بمسألة يكشفها لك، أو حاجة يبدهك بطلبها، حتّى يرفعها قبل ذلك إلى كاتبك الذي أهدفته «4» لذلك ونصبته له، فيعرضها عليك منهيا لها على جهة الصّدق عنها، وتكون على معرفة من قدرها: فإن أردت إسعافه بها ونجاح ما سأل منها، أذنت له في طلبها، باسطا له كنفك، مقبلا عليه بوجهك، مع ظهور سرورك بما سألك، وفسحة رأي وبسطة ذرع، وطيب نفس، وإن كرهت قضاء حاجته، وأحببت ردّه عن طلبته، وثقل عليك إجابته إليها، وإسعافه بها، أمرت كاتبك فصفحه «5» عنها، ومنعه من مواجهتك بها، فخفّت عليك في ذلك المؤونة، وحسن لك الذّكر، ولم ينشر عنك تجهّم الردّ «6» ، وينلك سوء القالة في المنع، وحمل على كاتبك في ذلك لائمة أنت منها بريء الساحة.
وكذلك فليكن رأيك وأمرك فيمن طرأ عليك من الوفود وأتاك من الرّسل، فلا يصلنّ إليك أحد منهم إلّا بعد وصول علمه إليك، وعلم ما قدم له عليك، وجهة
ما هو مكلّمك به، وقدر ما هو سائلك إيّاه إذا هو وصل إليك، فأصدرت رأيك في حوائجه «1» ، وأجلت فكرك في أمره، واخترت معتزما على إرادتك في جوابه «2» ، وأنفذت مصدور رويّتك في مرجوع مسألته قبل دخوله عليك، وعلمه بوصول حاله إليك، فرفعت عنك مؤونة البديهة، وأرخيت عن نفسك خناق الرّويّة، وأقدمت على ردّ جوابه بعد النّظر وإجالة الفكر فيه؛ فإن دخل إليك أحد منهم فكلمك بخلاف ما أنهى إلى كاتبك وطوى عنه حاجته قبلك، دفعته عنك دفعا جميلا، ومنعته جوابك منعا وديعا «3» ، ثم أمرت حاجبك بإظهار الجفوة له، والغلظة عليه، ومنعه من الوصول إليك، فإنّ ضبطك لذلك مما يحكم لك تلك الأسباب، صارفا عنك مؤونتها، ومسهلا عليك مستصعبها «4» .
احذر تضييع رأيك وإهمالك أدبك في مسالك الرضا والغضب واعتوارهما «5» إيّاك، فلا يزدهينّك إفراط عجب تستخفّك روائعه، ويستهويك منظره، ولا يبدرنّ منك ذلك خطأ ونزق خفّة لمكروه إن حلّ بك، أو حادث إن طرأ عليك، وليكن لك من نفسك ظهريّ ملجأ تتحرّز به من آفات الرّدى، وتستعضده «6» في موهم النازل، وتتعقّب به أمورك في التدبير، فإن احتجت إلى مادّة من عقلك، ورويّة من فكرك، أو انبساط من منطقك، كان انحيازك إلى ظهريّك مزدادا مما أحببت الامتياح منه والامتيار «7» ؛ وإن استدبرت «8» من أمورك بوادر جهل أو مضى زلل أو معاندة حقّ أو خطل تدبير، كان ما احتجنت «9» إليه من
رأيك عذرا لك عند نفسك، وظهريّا قويّا على ردّ ما كرهت، وتخفيفا لمؤونة الباغين عليك في القالة وانتشار الذكر، وحصنا من غلوب الآفات عليك، واستعلائها على أخلاقك.
وامنع أهل بطانتك وخاصّة خدمك «1» من استلحام أعراض الناس عندك بالغيبة، والتقرّب إليك بالسّعاية، والإغراء من بعض ببعض، أو النّميمة إليك بشيء من أحوالهم المستترة عنك، أو التحميل لك على أحد منهم بوجه النّصيحة ومذهب الشّفقة: فإنّ ذلك أبلغ بك سموّا إلى منالة الشرف، وأعون لك على محمود الذكر، وأطلق لعنان الفضل في جزالة الرأي وشرف الهمّة وقوّة التدبير.
واملك نفسك عن الانبساط في الضحك والانفهاق «2» ، وعن القطوب بإظهار الغضب وتنحّله: فإنّ ذلك ضعف عن ملك سورة الجهل «3» ، وخروج من انتحال اسم الفضل، وليكن ضحكك تبسّما أو كشرا في أحايين ذلك وأوقاته، وعند كلّ رائع مستخفّ مطرب، وقطوبك إطراقا في مواضع ذلك وأحواله، بلا عجلة إلى السّطوة، ولا إسراع إلى الطّيرة، دون أن يكنفها رويّة الحلم، وتملك عليها بادرة الجهل.
إذا كنت في مجلس ملئك، وحيث حضور العامّة مجلسك، فإيّاك والرمي بنظرك إلى خاصّ من قوّادك، أو ذي أثرة عندك من حشمك، وليكن نظرك مقسوما في الجميع، وإراعتك «4» سمعك ذا الحديث بدعة هادئة، ووقار حسن، وحضور فهم مجتمع، وقلّة تضجّر بالمحدّث، ثم لا يبرح وجهك إلى بعض حرسك وقوّادك متوجّها بنظر ركين، وتفقّد محض، فإن وجّه إليك أحد منهم نظره محدّقا، أو رماك ببصره ملحّا، فاخفض عنه إطراقا جميلا باتّداع وسكون،
وإيّاك والتسّرع في الإطراق، والخفّة في تصريف النظر، والإلحاح على من قصد إليك في مخاطبته إيّاك رامقا بنظره.
واعلم أنّ تصفّحك وجوه جلسائك وتفقّدك مجالس قوّادك، من قوّة التدبير، وشهامة القلب، وذكاء الفطنة، وانتباه السّنة، فتفقّد ذلك عارفا بمن حضرك وغاب عنك، عالما بمواضعهم من مجلسك، ثم اعدبهم عن ذلك سائلا لهم عن أشغالهم التي منعتهم من حضور مجلسك، وعاقتهم بالتخلّف عنك «1» .
إن كان أحد من حشمك وأعوانك تثق منه بغيب ضمير، وتعرف منه لين طاعة، وتشرف منه على صحة رأي، وتأمنه على مشورتك، فإيّاك والإقبال عليه في كلّ حادث يرد عليك، والتوجّه نحوه بنظرك عند طوارق ذلك، وأن تريه أو أحدا من أهل مجلسك أنّ بك حاجة إليه موحشة، أو أن ليس بك عنه غنّى في التدبير، أو أنّك لا تقضي دونه رأيا، إشراكا منك له في رويّتك، وإدخالا منك له في مشورتك، واضطرارا منك إلى رأيه في الأمر يعروك: فإنّ ذلك من دخائل العيوب التي ينتشر بها سوء القالة عن نظرائك فانفها عن نفسك خائفا لاعتلاقها ذكرك، واحجبها عن رويّتك قاطعا لأطماع أوليائك عن مثلها عندك، أو غلوبهم عليها منك.
واعلم أنّ للمشورة موضع الخلوة وانفراد النظر، ولكلّ «2» أمر غاية تحيط بحدوده، وتجمع معالمه، فابغها محرزا لها، ورمها طالبا لنيلها، وإيّاك والقصور عن غايتها أو العجز عن دركها، أو التفريط في طلبها. إن شاء الله تعالى.
إيّاك والإغرام عن حديث ما أعجبك، أو أمر ما ازدهاك بكثرة السؤال، أو
القطع لحديث من أرادك بحديثه حتّى تنقضه عليه بالخوض في غيره أو المسألة عمّا ليس منه: فإن ذلك عند العامّة منسوب إلى سوء الفهم وقصر الأدب عن تناول محاسن الأمور والمعرفة بمساويها، ولكن أنصت لمحدّثك وأرعه سمعك حتّى يعلم أن قد فهمت حديثه، وأحطت معرفة بقوله: فإن أردت إجابته فعن معرفة بحاجته وبعد علم بطلبته، وإلا كنت عند انقضاء كلامه كالمتعجّب «1» من حديثه بالتبسّم والإغضاء، فأجزى عنك الجواب، وقطع عنك ألسن العتب.
إيّاك وأن يظهر منك تبرّم بطول مجلسك، أو تضجّر ممن حضرك؛ وعليك بالتثبّت عند سورة الغضب، وحميّة الأنف، وملال الصبر في الأمر تستعجل به والعمل تأمر بإنفاذه، فإنّ ذلك سخف شائن، وخفّة مردية، وجهالة بادية؛ وعليك بثبوت المنطق، ووقار المجلس، وسكون الريح، والرّفض لحشو الكلام، والتّرك لفضوله، والإغرام «2» بالزّيادات في منطقك والترديد للفظك: من نحو اسمع، وافهم عنّي، ويا هناه «3» ، وأ لا ترى، أو ما يلهج به من هذه الفضول المقصّرة بأهل العقل، الشائنة لذوي الحجا في المنطق «4» ، المنسوبة إليهم بالعيّ، المردية لهم بالذّكر. وخصال من معايب الملوك والسّوقة عنها غبيّة النظر إلا من عرفها من أهل الأدب، وقلّما حامل لها، مضطلع بها، صابر على ثقلها، آخذ لنفسه بجوامعها، فانفها عن نفسك بالتحفّظ منها، واملك عليها اعتيادك إيّاها معتنيا بها: منها كثرة
التنخّم «1» ، والتبصّق، والتنخّع، والثّؤباء، والتمطّي، والجشاء، وتحريك القدم، وتنقيض «2» الأصابع، والعبث بالوجه واللّحية أو الشارب أو المخصرة «3» أو ذؤابة السيف، أو الإيماض بالنظر، أو الإشارة بالطّرف إلى بعض خدمك بأمر إن أردته، أو السّرار في مجلسك، أو الاستعجال في طعمك أو شربك، وليكن طعمك متّدعا، وشربك أنفاسا، وجرعك مصّا، وإيّاك والتسرّع إلى الأيمان فيما صغر أو كبر من الأمور، والشّتيمة بقول يا ابن الهناة «4» ؛ أو الغميزة «5» لأحد من خاصّتك بتسويغهم مقارفة الفسوق بحيث محضرك أو دارك وفناؤك: فإنّ ذلك كلّه مما يقبح ذكره، ويسوء موقع القول فيه، وتحمل عليك معايبه، وينالك شينه، وينتشر عليك سوء النبإ به «6» فاعرف ذلك متوقّيا له، واحذره مجانبا لسوء عاقبته.
استكثر من فوائد الخير: فإنها تنشر المحمدة، وتقيل العثرة، واصبر «7» على كظم الغيظ: فإنه يورث الراحة «8» ، ويؤمّن الساحة، وتعهّد العامّة بمعرفة دخلهم، وتبطّن «9» أحوالهم، واستثارة دفائنهم، حتّى تكون منها على رأي عين، ويقين خبرة، فتنعش عديمهم، وتجبر كسيرهم، وتقيم أودهم، وتعلّم جاهلهم، وتستصلح فاسدهم: فإنّ ذلك من فعلك بهم يورثك العزّة، ويقدّمك في الفضل، ويبقي لك لسان الصّدق في العاقبة «10» ، ويحرز لك ثواب الآخرة، ويردّ عليك
عواطفهم المستنفرة منك، وقلوبهم المتنحّية عنك «1» .
قس بين منازل أهل الفضل في الدّين والحجا والرأي، والعقل والتدبير، والصّيت في العامّة، وبين منازل أهل النّقص في طبقات الفضل وأحواله، والخمول عند مباهاة النّسب «2» ؛ وانظر بصحبة أيّهم تنال من مودته الجميل، وتستجمع لك أقاويل العامة على التفضيل، وتبلغ درجة الشرف في أحوالك المتصرّفة بك، فاعتمد عليهم مدخلا لهم في أمرك، وآثرهم بمجالستك لهم مستمعا منهم، وإيّاك وتضييعهم مفرّطا، وإهمالهم مضيّعا.
هذه جوامع خصال قد لخّصها لك أمير المؤمنين مفسّرا، وجمع لك شواذّها «3» مؤلّفا، وأهداها إليك مرشدا، فقف عند أوامرها، وتناه عن زواجرها، وتثّبت في مجامعها، وخذ بوثائق عراها تسلم من معاطب الرّدى، وتنل أنفس الحظوظ ورغيب الشّرف، وأعلى درج الذّكر، وتأثل سطر العز «4» والله يسأل لك أمير المؤمنين حسن الإرشاد، وتتابع المزيد وبلوغ الأمل، وأن يجعل عاقبة ذلك بك إلى غبطة يسوّغك إيّاها، وعافية يحلّك أكنافها، ونعمة يلهمك شكرها: فإنه الموفّق للخير، والمعين على الإرشاد؛ منه تمام الصالحات، وهو مؤتي الحسنات، عنده مفاتيح الخير، وبيده الملك وهو على كلّ شيء قدير.
فإذا أفضيت نحو عدوّك، واعتزمت على لقائهم، وأخذت أهبة قتالهم، فاجعل دعامتك التي تلجأ إليها، وثقتك التي تأمل النجاة بها، وركنك الذي ترتجي منالة الظّفر به، وتكتهف به لمعالق الحذر تقوى الله مستشعرا لها بمراقبته،
والاعتصام بطاعته متبعا لأمره، مجتنبا لسخطه، محتذيا سنّته، والتوقّي لمعاصيه في تعطيل حدوده، أو تعدّي شرائعه، متوكّلا عليه فيما صمدت «1» له، واثقا بنصره فيما توجّهت نحوه، متبرّئا من الحول والقوّة فيما نالك من ظفر، وتلقّاك من عزّ، راغبا فيما أهاب «2» بك أمير المؤمنين إليه من فضل الجهاد ورمى بك إليه، محمود الصبر فيه عند الله من قتال عدو «3» المسلمين، أكلبهم عليه وأظهره عداوة لهم، وأفدحه ثقلا لعامّتهم، وآخذه بربقهم «4» ، وأعلاه عليهم بغيا، وأظهره عليهم فسقا وفجورا «5» ، وأشدّه على فيئهم الذي أصاره الله لهم «6» وفتحه عليهم مؤونة وكلّا «7» والله المستعان عليهم، والمستنصر على جماعتهم، عليه يتوكّل أمير المؤمنين، وإيّاه يستصرخ عليهم، وإليه يفوّض أمره وكفى بالله وليّا وناصرا ومعينا، وهو القويّ العزيز.
ثم خذ من معك من تبّاعك وجندك بكفّ معرّتهم، وردّ مشتعل جهلهم «8» ، وإحكام ضياع عملهم «9» ، وضمّ منتشر قواصيهم، ولمّ شعث أطرافهم، وتقييدهم عمّن «10» مرّوا به من أهل ذمّتك وملتك بحسن السيرة، وعفاف الطّعمة، ودعة الوقار، وهدي الدّعة، وجمام المستجم «11» ، محكما ذلك منهم، متفقّدا لهم تفقّدك إيّاه من نفسك. ثم اصمد لعدوّك المتسمّي بالإسلام، الخارج من جماعة أهله،
المنتحل ولاية الدّين مستحلّا لدماء أوليائه، طاعنا عليهم، راغبا عن سنّتهم، مفارقا لشرائعهم، يبغيهم الغوائل، وينصب لهم المكايد، أضرم حقدا عليهم، وأرصد عداوة لهم، وأطلب لغرّات فرصهم من التّرك «1» ، وأمم الشرك، وطواغي الملل، يدعو إلى المعصية والفرقة، والمروق من دين الله إلى الفتنة، مخترعا بهواه للأديان المنتحلة والبدع المتفرّقة خسارا وتخسيرا، وضلالا وتضليلا، بغير هدى من الله ولا بيان، ساء ما كسبت له يداه [وما الله بظلّام للعبيد]«2» وساء ما سوّلت له نفسه الأمّارة بالسّوء، والله من ورائه بالمرصاد: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ
«3» .
حصّن «4» جندك، واشكم نفسك بطاعة الله في مجاهدة أعدائه، وارج نصره، وتنجّز موعوده، متقدّما في طلب ثوابه على جهادهم، معتزما في ابتغاء الوسيلة إليه على لقائهم: فإنّ طاعتك إيّاه فيهم، ومراقبتك له ورجاءك نصره مسهّل لك وعوره، وعاصمك من كل سبّة، ومنجيك من كلّ هوّة، وناعشك «5» من كلّ صرعة، ومقيلك من كل كبوة، وداريء عنك كلّ شبهة، ومذهب عنك لطخة كلّ شك، ومقوّيك بكلّ أيد «6» ومكيدة، ومعزّك في كل معترك «7» قتال، ومؤيّدك في كلّ مجمع لقاء، وكالئك عند كل فتنة مغشية «8» وحائطك «9» من كل شبهة مردية؛ والله وليّك ووليّ أمير المؤمنين فيك، والمستخلف على جندك ومن معك «10» .
اعلم أنّ الظفر ظفران: أحدهما وهو أعمّ منفعة، وأبلغ في حسن الذكر قالة، وأحوطه سلامة، وأتمّه عافية [وأعوده عاقبة]«1» وأحسنه في الأمور [موردا]«2» وأعلاه في الفضل شرفا، وأصحّه في الرويّة حزما، وأسلمه عند العامّة مصدرا- ما نيل بسلامة الجنود، وحسن الحيلة، ولطف المكيدة [ويمن النّقيبة]«3» واستنزال طاعة ذوي الصّدوف بغير إخطار «4» الجيوش في وقدة جمرة الحرب، ومبارزة «5» الفرسان في معترك الموت؛ وإن ساعدتك «6» طلوق الظّفر، ونالك مزيد السعادة في الشرف؛ ففي مخاطرة التّلف مكروه المصائب، وعضاض السيوف وألم الجراح، وقصاص الحروب وسجالها بمغاورة أبطالها. على أنك لا تدري لأيّ يكون الظفر في البديهة، ومن المغلوب بالدولة «7» ، ولعلك أن تكون المطلوب بالتمحيص، فحاول إصابة أبلغهما في سلامة جندك ورعيّتك، وأشهرهما صيتا في بدوّ تدبيرك ورأيك، وأجمعهما لألفة وليّك وعدوّك، وأعونهما على صلاح رعيّتك وأهل ملّتك، وأقواهما شكيمة في حزمك، وأبعدهما من وصم عزمك، وأعلقهما بزمام النجاة في آخرتك «8» ، وأجزلهما ثوابا عند ربّك.
وابدأ بالإعذار إلى عدوّك، والدّعاء لهم إلى مراجعة الطاعة، وأمر الجماعة، وعزّ «9» الألفة، آخذا بالحجّة عليهم، متقدّما بالإنذار لهم، باسطا أمانك لمن لجأ إليك منهم، داعيا [لهم إليه]«10» بألين لفظك وألطف حيلك، متعطّفا برأفتك عليهم، مترفّقا بهم في دعائك، مشفقا عليهم من غلبة الغواية لهم،
وإحاطة الهلكة بهم، منفذا رسلك إليهم بعد الإنذار، تعدهم إعطاء كلّ رغبة يهشّ ليها طمعهم في موافقة الحق، وبسط كل أمان سألوه لأنفسهم ومن معهم ومن تبعهم، موطّنا نفسك فيما تبسط لهم من ذلك على الوفاء بعهدك، والصبر على ما أعطيتهم من وثائق عقدك، قابلا توبة نازعهم «1» عن الضّلالة، ومراجعة مسيئهم إلى الطاعة، مرصدا للمنحاز إلى فئة المسلمين وجماعتهم إجابة إلى ما دعوته إليه وبصّرته إيّاه من حقّك وطاعتك، بفضل المنزلة، وإكرام المثوى، وتشريف الجاه، وليظهر من أثرك عليه، وإحسانك [إليه]«2» ما يرغب في مثله الصادف عنك، المصرّ على خلافك ومعصيتك، ويدعو إلى اعتلاق حبل النجاة وما هو أملك به في الاعتصام عاجلا، وأنجى له من العقاب آجلا، وأحوطه على دينه ومهجته بدءا وعاقبة، فإنّ ذلك مما يستدعي به من الله نصره عليهم، ويعتضد به في تقديمه الحجّة إليهم، معذرا أو منذرا، إن شاء الله.
ثم أذك عيونك «3» على عدوّك متطلّعا لعلم أحوالهم التي يتقلّبون فيها، ومنازلهم التي هم بها، ومطامعهم التي قدمدّوا أعناقهم نحوها، وأيّ الأمور أدعى لهم إلى الصّلح، وأقودها لرضاهم إلى العافية، وأسهلها لاستنزال طاعتهم، ومن أيّ الوجوه مأتاهم: أمن قبل الشّدة والمنافرة والمكيدة والمباعدة والإرهاب والإيعاد، أو التّرغيب والإطماع، متثبّتا في أمرك، متخيّرا في رويّتك، مستمكنا من رأيك، مستشيرا لذوي النصيحة الذين قد حنّكتهم السّنّ، وخبطتهم «4» التّجربة، ونجّذتهم «5» الحروب، متشزّنا «6» في حربك، آخذا بالحزم في سوء الظن، معدّا
للحذر، محترسا من الغرّة، كأنّك في مسيرك كلّه ونزولك أجمع مواقف لعدوّك رأي عين تنتظر حملاتهم، وتتخوّف كرّاتهم، معدّا أقوى مكايدك، وأرهب عتادك، وأنكأ جدّك «1» ، وأجدّ تشميرك «2» ، معظّما أمر عدوّك لأعظم مما بلغك، حذرا يكاد يفرط: لتعدّ له من الاحتراس عظيما، ومن المكيدة قويّا، من غير أن يفثأك «3» ذلك عن إحكام أمورك، وتدبير رأيك، وإصدار رويّتك، والتأهّب لما يحزبك «4» ، مصغّرا له بعد استشعار الحذر، واضطمار الحزم، وإعمال الرّويّة، وإعداد الأهبة: فإن ألفيت عدوّك كليل الحدّ، وقم الحزم «5» ، نضيض «6» الوفر، لم يضرّك ما اعتددت له من قوّة، وأخذت له من حزم، ولم يزدك ذلك إلا جرأة عليه، وتسرّعا إلى لقائه. وإن ألفيته متوقّد الحرب «7» ، مستكثف الجمع، قويّ التّبع، مستعلي سورة الجهل، معه من أعوان الفتنة وتبع إبليس من يوقد لهب الفتنة مسعّرا، ويتقدّم إلى لقاء أبطالها متسرّعا، كنت لأخذك بالحزم، واستعدادك بالقوّة، غير مهين الجند، ولا مفرّط في الرأي، ولا متلهّف على إضاعة تدبير، ولا محتاج إلى الإعداد وعجلة التأهّب مبادرة تدهشك، وخوفا يقلقك. ومتى تغترّ بترقيق المرقّقين، وتأخذ بالهوينى في أمر عدوّك لتصغير المصغّرين، ينتشر عليك رأيك، ويكون فيه انتقاض أمرك ووهن تدبيرك، وإهمال للحزم في جندك، وتضييع له وهو ممكن الإصحار، رحب المطلب، قويّ العصمة، فسيح المضطرب، مع ما يدخل رعيّتك من الاغترار والغفلة عن إحكام أحراسهم «8» ، وضبط مراكزهم، لما
يرون فيه من استنامتك إلى الغرّة، وركونك إلى الأمن، وتهاونك بالتدبير، فيعود ذلك عليك في انتشار الأطراف، وضياع الأحكام، ودخول الوهن بما لا يستقال محذوره، ولا يدفع مخوفه.
احفظ من عيونك وجواسيسك ما يأتونك به من أخبار عدوّك، وإيّاك ومعاقبة أحد منهم على خبر إن أتاك به اتّهمته فيه أو سؤت به ظنّا وأتاك غيره بخلافه، أو أن تكذّبه فيه فتردّه عليه ولعله أن يكون قد محضك النصيحة وصدقك الخبر، وكذبك الأوّل، أو خرج جاسوسك الأوّل متقدما قبل وصول هذا من عند عدوّك، وقد أبرموا لك أمرا، وحاولوا لك مكيدة، وأرادوا منك غرّة، فازدلفوا «1» إليك في الأهبة ثم انتقض بهم رأيهم، واختلف عنه جماعتهم، فأرادوا «2» رأيا، وأحدثوا مكيدة، وأظهروا قوّة، وضربوا موعدا، وأمّوا مسلكا لمدد «3» أتاهم، أو قوّة حدثت لهم، أو بصيرة في ضلالة شغلتهم؛ فالأحوال بهم متنقّلة في الساعات، وطوارق الحادثات. ولكن البسهم «4» جميعا على الانتصاح، وارضخ «5» لهم بالمطامع، فإنّك لن تستعبدهم بمثلها، وعدهم جزالة المثاوب «6» ، في غير ما استنامة منك إلى ترقيقهم أمر عدوّك، والاغترار إلى ما يأتونك به دون أن تعمل رويّتك في الأخذ بالحزم، والإستكثار من العدّة، واجعلهم أوثق من تقدر عليه، وآمن من تسكن إلى ناحيته: ليكون ما يبرم عدوّك في كل يوم وليلة عندك إن استطعت ذلك، فتنقض عليهم برأيك وتدبيرك ما أبرموا، وتأتيهم من حيث أمنوا، وتأخذ لهم أهبة ما عليه أقدموا «7» ، وتستعدّ لهم بمثل ما حذروا.
واعلم أنّ جواسيسك وعيونك ربّما صدقوك، وربّما غشّوك، وربّما كانوا لك وعليك فنصحوا لك وغشّوا عدوّك وغشّوك ونصحوا عدوّك، وكثيرا ما يصدقونك ويصدقونه، فلا تبدرنّ منك فرطة عقوبة إلى أحد منهم، ولا تعجل بسوء الظن إلى من اتّهمته على ذلك، واستنزل نصائحهم بالمياحة والمنالة، وابسط من آمالهم فيك من غير أن يرى أحد منهم أنك أخذت من قوله أخذ العامل به والمتّبع له، أو عملت على رأيه عمل الصادر عنه، أو رددته عليه ردّ المكذّب به، المتهم له، المستخفّ بما أتاك منه، فتفسد بذلك نصيحته، وتستدعي غشّه، وتحترّ عداوته. واحذر أن يعرفوا في عسكرك أو يشار إليهم بالأصابع، وليكن منزلهم على كاتب رسائلك وأمين سرّك، ويكون هو الموجّه لهم، والمدخل عليك من أردت مشافهته منهم.
واعلم أن لعدوّك في عسكرك عيونا راصدة، وجواسيس متجسّسة «1» ، وأنه لن يقع رأيه عن مكيدتك بمثل ما تكايده به «2» ، وسيحتال لك كاحتيالك له، ويعدّ لك كإعدادك فيما تزاوله منه، ويحاولك كمحاولتك إيّاه فيما تقارعه عنه، فاحذر أن يشهر رجل من جواسيسك في عسكرك فيبلغ ذلك عدوّك ويعرف موضعه، فيعدّ له المراصد، ويحتال له بالمكايد. فإن ظفر به فأظهر عقوبته، كسر ذلك ثقات عيونك، وخذلهم عن تطلّب الأخبار من معادنها، واستقصائها من عيونها، واستعذاب اجتنائها من ينابيعها، حتّى يصيروا إلى أخذها مما عرض من غير الثّقة ولا المعاينة، لقطا لها بالأخبار الكاذبة، والأحاديث المرجفة. واحذر أن يعرف بعض عيونك بعضا: فإنّك لا تأمن تواطؤهم عليك، وممالأتهم عدوّك، واجتماعهم على غشّك، وتطابقهم على كذبك، وإصفاقهم «3» على خيانتك، وأن
يورّط بعضهم بعضا عند عدوّك؛ فأحكم أمرهم فإنّهم رأس مكيدتك، وقوام تدبيرك، وعليهم مدار حربك، وهو أوّل ظفرك، فاعمل على حسب ذلك وحيث رجاؤك به، تنل أملك من عدوّك وقوّتك على قتاله، واحتيالك لإصابة غرّاته وانتهاز فرصه، إن شاء الله.
فإذا أحكمت ذلك وتقدّمت في إتقانه، واستظهرت بالله وعونه، فولّ شرطتك وأمر عسكرك أوثق قوّادك عندك، وأظهرهم نصيحة لك، وأنفذهم بصيرة في طاعتك، وأقواهم شكيمة في أمرك، وأمضاهم صريمة «1» ، وأصدقهم عفافا، وأجزأهم غناء «2» ، وأكفاهم أمانة، وأصحّهم ضميرا، وأرضاهم في العامّة دينا، وأحمدهم عند الجماعة خلقا، وأعطفهم على كافّتهم رأفة، وأحسنهم لهم نظرا، وأشدّهم في دين الله وحقّه صلابة؛ ثم فوّض إليه مقوّيا له، وابسط من أمله مظهرا عنه الرضا، حامدا منه الابتلاء، وليكن عالما بمراكز الجنود، بصيرا بتقدّم المنازل، مجرّبا، ذا رأي وتجربة وحزم في المكيدة، له نباهة في الذّكر، وصيت في الولاية، معروف البيت، مشهور الحسب، وتقدّم إليه في ضبط معسكره، وإذكاء أحراسه في آناء ليله ونهاره؛ ثم حذّره أن يكون منه إذن لجنوده في الانتشار والاضطراب، والتقدّم لطلائعك، فتصاب لهم غرّة يجتريء بها عدوّك عليك، ويسرع إقداما إليك، ويكسر من إياد «3» جندك ويوهن من قوتهم: فإنّ الصوت في إصابة عدوّك الرجل «4» الواحد من جندك أو عبيدهم مطمع لهم فيك، مقوّ لهم على شحذ أتباعهم عليك وتصغيرهم أمرك، وتوهينهم تدبيرك، فحذّره ذلك وتقدّم إليه فيه، ولا يكوننّ منه إفراط في التضييق عليهم، والحصر لهم، فيعمّهم أزله «5» ،
ويشملهم ضنكه، وتسوء عليهم حاله «1» وتشتدّ به المؤونة عليهم، وتخبث له ظنونهم؛ وليكن موضع إنزاله إيّاهم ضامّا لجماعتهم، مستديرا بهم جامعا لهم، ولا يكون منبسطا منتشرا متبدّدا، فيشقّ ذلك على أصحاب الأحراس، وتكون فيه النّهزة «2» للعدوّ، والبعد من المادة إن طرق طارق في فجآت الليل وبغتاته. وأو عز إليه في أحراسه، وتقدّم إليه فيهم كأشدّ التقدّم وأبلغ الإيعاز، ومره فليولّ عليهم رجلا ركينا مجرّبا جريء الإقدام، ذاكي الصّرامة، جلد الجوارح، بصيرا بمواضع أحراسه، غير مصانع ولا مشفّع للناس في التنحّي إلى الرّفاهية والسّعة، وتقدّم العسكر والتأخّر عنه، فإن ذلك مما يضعف الوالي ويوهنه لاستنامته إلى من ولّاه ذلك وأمنه به على جيشه.
واعلم أنّ مواضع الأحراس من معسكرك، ومكانها من جندك، بحيث الغناء عنهم والرّدّ عليهم، والحفظ لهم، والكلاءة لمن بغتهم طارقا، أو أرادهم خاتلا، ومراصدها المنسلّ منها والآبق «3» من أرقائهم وأعبدهم؛ وحفظها من العيون والجواسيس من عدوّهم. واحذر أن تضرب على يديه أو تشكمه عن الصّرامة بمؤامرتك «4» في كلّ أمر حادث وطاريء إلا في المهمّ النازل والحدث العام: فإنك إذا فعلت ذلك به، دعوته إلى نصحك، واستوليت على محصول ضميره «5» في طاعتك، وأجهد نفسه في ترتيبك «6» ، وأعمل رأيه في بلوغ موافقتك وإعانتك، وكان ثقتك وردأك «7» وقوّتك ودعامتك، وتفرّغت أنت لمكايدة عدوّك، مريحا
لنفسك من همّ ذلك والعناية به، ملقيا عنك مؤونة باهظة وكلفة فادحة، [إن شاء الله]«1» .
واعلم أنّ القضاء من الله بمكان ليس به شيء من الأحكام، ولا بمثل محلّه أحد من الولاة: لما يجري على يديه من مغاليظ الأحكام ومجاري الحدود، فليكن من تولّيه القضاء في عسكرك [من ذوي]«2» الخير في القناعة والعفاف والنّزاهة والفهم والوقار والعصمة والورع، والبصر بوجوه القضايا ومواقعها، قد حنّكته السّنّ وأيّدته التجربة وأحكمته الأمور، ممن لا يتصنّع للولاية ويستعدّ للنّهزة، ويجتريء على المحاباة في الحكم، والمداهنة في القضاء، عدل الأمانة، عفيف الطّعمة، حسن الإنصاف «3» ، فهم القلب، ورع الضمير، متخشّع السّمت «4» ، بادي الوقار، محتسبا للخير. ثم أجر عليه ما يكفيه ويسعه ويصلحه، وفرّغه لما حمّلته، وأعنه على ما ولّيته: فإنك قد عرّضته لهلكة الدنيا وبوار الآخرة، أو شرف الدنيا وحظوة الآجلة، إن حسنت نيّته، وصدقت رويّته، وصحّت سريرته وسلّط حكم الله على رعيّته، مطلقا عنانه، منفّذا قضاء الله في خلقه، عاملا بسنّته في شرائعه، آخذا بحدوده وفرائضه.
واعلم أنه من جندك بحيث ولايتك، الجارية أحكامه عليهم «5» ، النافذة أقضيته فيهم، فاعرف من تولّيه ذلك وتسنده إليه. ثم تقدّم في طلائعك فإنها أوّل مكيدتك، ورأس حربك، ودعامة أمرك، فانتخب لها من كلّ قادة وصحابة رجالا ذوي نجدة وبأس، وصرامة وخبرة، حماة كفاة، قد صلوا «6» بالحرب وذاقوا
سجالها، وشربوا مرار كؤوسها، وتجرّعوا غصص درّتها، وزبنتهم «1» بتكرار عواطفها، وحملتهم على أصعب مراكبها، وذلّلتهم بثقاف أودها. ثم انتقهم على عينك، واعرض كراعهم «2» بنفسك، وتوخّ في انتقائك ظهور الجلد، وشهامة الخلق، وكمال الآلة. وإيّاك أن تقبل من دوابّهم إلا الإناث من الخيل المهلوبة «3» ، فإنّهنّ أسرع طلبا، وأنجى مهربا، وألين معطفا، وأبعد في اللّحوق غاية، وأصبر في معترك الأبطال إقداما؛ وخذهم من السّلاح بأبدان «4» الدّروع، ماذيّة «5» الحديد، شاكّة «6» النّسج، متقاربة الحلق، متلاحمة المسامير وأسوق الحديد، مموّهة الركب، محكمة الطّبع، خفيفة الصّوغ، وسواعد طبعها هنديّ، وصوغها فارسيّ، رقاق المعاطف، بأكفّ واقية «7» وعمل محكم. ويلمق «8» البيض مذهبة ومجرّدة، فارسيّة الصّوغ، خالصة الجوهر، سابغة الملبس، واقية الجنن، مستديرة الطّبع، مبهمة السّرد «9» ، وافية الوزن كتريك «10» النّعام في الصّنعة واستدارة التّقبيب، واستواء الصّوع معلمة بأصناف الحرير وألوان الصّبغ، فإنّها أهيب لعدوّهم، وأفتّ لأعضاد من لقيهم، والمعلم «11» مخشيّ محذور، له بديهة رادعة، وهيبة هائلة، معهم السّيوف الهندية، وذكور البيض اليمانية، رقاق الشّفرات، مسنونة الشّحذ «12» ، مشطّبة الضرائب «13» ، معتدلة الجواهر، صافية
الصّفائح، لم يدخلها وهن الطبع، ولا عابها أمت «13» الصّوغ، ولا شانها خفّة الوزن، ولا فدح حاملها بهور «1» الثّقل، قد أشرعوا لدن القنا، طوال الهوادي «2» ، مقوّمات الأود، زرق الأسنّة، مستوية الثّعالب «3» ؛ وميضها متوقّد، وسنخها «4» متلهّب، معاقص «5» عقدها منحوتة، ووصوم «6» أودها مقوّمة، وأجناسها مختلفة، وكعوبها جعدة «7» ، وعقدها حبكة، شطبة «8» الأسنان، مموّهة الأطراف، مستحدّة الجنبات، دقاق الأطراف، ليس فيها التواء أود، ولا أمت وصم، ولا بها مسقط عيب، ولا عنها وقوع أمنية، مستحقبي كنائن النّبل وقسيّ الشّوحط والنّبع «9» ؛ أعرابيّة التعقيب «10» ، وروميّة النّصول، مسمومة الصّوغ، ولتكن سهامها على خمس
قبضات سوى النّصول، فإنها أبلغ في الغاية، وأنفذ في الدّروع، وأشكّ في الحديد، سامطين حقائبهم على متون خيولهم، مستخفّين من الآلة والأمتعة والزاد [إلا ما لا غناء بهم عنه]«1» .
واحذر أن تكل مباشرة عرضهم وانتخابهم إلى أحد من أعوانك وكتّابك، فإنّك إن وكلته إليهم أضعت مواضع الحزم، وفرّطت حيث الرأي، ووقفت دون عزم الرّويّة، ودخل عملك ضياع الوهن، وخلص إليك عيب المحاباة، وناله فساد المداهنة، وغلب عليه من لا يصلح أن يكون طليعة للمسلمين ولا عدّة ولا حصنا يدّرئون به، ويكتهفون بموضعه. والطلائع حصون المسلمين وعيونهم، وهم أوّل مكيدتك، وعروة أمرك، فليكن اعتناؤك بهم، وانتقاؤك إيّاهم بحيث هم من مهمّ عملك، ومكيدة حربك، ثم انتخب للولاية عليهم رجلا بعيد الصوت «2» ، مشهور الاسم، ظاهر الفضل، نبيه الذّكر، له في العدوّ وقعات معروفات، وأيام طوال وصولات متقدّمات، قد عرفت نكايته، وحذرت شوكته، وهيب صوته، وتنكّب لقاؤه، أمين السّريرة، ناصح الجيب «3» ؛ قد بلوت منه ما يسكّنك إلى ناحيته: من لين الطاعة، وخالص المودّة، وركانة «4» الصّرامة، وغلوب الشّهامة، واستجماع القوّة، وحصافة التدبير، ثم تقدّم إليه في حسن سياستهم، واستنزال طاعتهم، واجتلاب مودّاتهم واستعذاب ضمائرهم، وأجر عليهم وعليه أرزاقا تسعهم، وتمدّ من أطماعهم، سوى أرزاقهم في العامّة، فإنّ ذلك من القوّة لك عليهم، والاستنامة إلى ما قبلهم.
واعلم أنهم في أهمّ الأماكن لك، وأعظمها غناء عنك وعمّن معك؛ وأقمعها كبتا لمحادّك وأشجاها غيظا لعدوّك؛ ومن يكن في الثّقة، والجلد، والبأس،
والطاعة، والقوّة، والنصيحة والعدّة، والنّجدة حيث وصف لك أمير المؤمنين وأمرك به، يضع عنك مؤونة الهم، ويرخ من خناقك روع الخوف، وتلتجيء إلى أمر منيع، وظهر قويّ، ورأي حازم، تأمن به فجآت عدوّك، وغرّات بغتاتهم، وطوارق أحداثهم، ويصير إليك علم أحوالهم، ومتقدّمات خيولهم، فانتخبهم رأي عين، وقوّهم بما يصلحهم من المنالات والأطماع والأرزاق، واجعلهم منك بالمنزل الذي هم به من محارز علاقتك، وحصانة كهوفتك، وقوّة سيّارة عسكرك. وإيّاك أن تدخل فيهم أحدا بشفاعة، أو تحتمله على هوادة، أو تقدّمه لأثرة، أو أن يكون مع أحد منهم بغل نفل «1» ، أو فضل من الظّهر، أو ثقل «2» فادح، فتشتدّ عليهم مؤونة أنفسهم، ويدخلهم كلال السآمة فيما يعالجون من أثقالهم، ويشتغلون به عن عدوّهم إن دهمهم منه رائع، أو فجأهم منه طليعة، فتفقّد ذلك محكما له، وتقدّم فيه آخذا بالحزم في إمضائه، أرشدك الله لإصابة الحظّ، ووفّقك ليمن التدبير، وقصد بك لأسهل الرأي وأعوده نفعا في العاجل والآجل، وأكبته لعدوّك وأشجاه لهم، وأردعه لعاديتهم.
ولّ درّاجة عسكرك وإخراج أهله إلى مصافّهم ومراكزهم رجلا من أهل بيوتات الشّرف، محمود الخبرة، معروفا بالنّجدة، ذا سنّ وتجربة، ليّن الطاعة، قديم النّصيحة، مأمون السّريرة، له بصيرة بالحق نافذة تقدّمه، ونيّة صادقة عن الإدهان «3» تحجزه، واضمم إليه عدّة نفر من ثقات جندك وذوي أسنانهم يكونون شرطة معه؛ ثم تقدّم إليه في إخراج المصافّ، وإقامة الأحراس، وإذكاء العيون، وحفظ الأطراف، وشدّة الحذر، ومره فليضع القوّاد بأنفسهم مع أصحابهم في مصافّهم، كلّ قائد بإزاء مكانه، وحيث منزله، قد سدّ ما بينه وبين صاحبه بالرّماح
شارعة، والتّرسة موضونة»
، والرجال راصدة، ذاكية الأحراس، وجلة الرّوع، خائفة طوارق العدوّ وبياته، ثم مره فليخرج كلّ ليلة قائدا في أصحابه أو عدّة منهم إن كانوا كثيرا، على غلوة «2» أو اثنتين من عسكرك، منتبذا عنك محيطا بمنزلك، ذاكية أحراسه، قلقة التردّد، مفرطة الحذر، معدّة للرّوع، متأهّبة للقتال، آخذة على أطراف المعسكر ونواحيه، متفرّقين في اختلافهم كردوسا كردوسا «3» ؛ يستقبل بعضهم بعضا [في الاختلاف]«4» ويكسع «5» تال متقدّما في التردّد، واجعل ذلك بين قوّادك وأهل عسكرك نوبا معروفة، وحصصا مفروضة، لا تعر «6» منها مزدلفا منك بمودّة، ولا تتحامل فيه على أحد بموجدة، إن شاء الله تعالى.
فوّض إلى أمراء أجنادك وقوّاد خيلك أمور أصحابهم، والأخذ على قافية أيديهم، رياضة منك لهم على السّمع والطاعة لأمرائهم، والاتّباع لأمرهم، والوقوف عند نهيهم، وتقدّم إلى أمراء الأجناد في النوائب التي ألزمتهم إيّاها، والأعمال التي استنجدتهم لها، والأسلحة والكراع التي كتبتها عليهم، واحذر اعتلال أحد من قوّادك عليك بما يحول بينك وبين تأديب جندك، وتقويمهم لطاعتك، وقمعهم عن الإخلال بمراكزهم لشيء مما وكلوا به من أعمالهم؛ فإنّ ذلك مفسدة للجند، مفثأة «7» للقوّاد عن الجدّ والإيثار للمناصحة، والتقدّم في الاحكام.
واعلم أنّ في استخفافهم بقوّادهم وتضييعهم أمر رؤسائهم دخولا للضياع
على أعمالك، واستخفافا بأمرك الذي يأتمرون به ورأيك الذي ترتئي؛ وأوعز إلى القوّاد أن لا يقدم أحد منهم على عقوبة أحد من أصحابه، إلا عقوبة تأديب في تقويم ميل، وتثقيف أود؛ فأما عقوبة تبلغ تلف المهجة وإقامة حدّ في قطع، أو إفراط في ضرب أو أخذ مال، أو عقوبة في شعر «1» فلا يلينّ ذلك من جندك أحد غيرك، أو صاحب شرطتك بأمرك وعن رأيك وإذنك، ومتى لم تذلّل الجند لقوّادهم، وتضرعهم لأمرائهم، توجب لهم عليك الحجة بتضييع- إن كان منهم- لأمرك، أو خلل- إن تهاونوا به- من عملك، أو عجز- إن فرط منهم- في شيء مما وكّلتهم به أو أسندته إليهم، ولا تجد إلى الإقدام عليهم باللّوم وعضّ العقوبة عليهم مجازا تصل به إلى تعنيفهم، بتفريطك في تذليل أصحابهم لهم، وإفسادك إيّاهم عليك وعليهم؛ فانظر في ذلك نظرا محكما، وتقدّم فيه برفقك تقدّما بليغا؛ وإيّاك أن يدخل حزمك وهن، أو يشوب عزمك إيثار، أو يخلط رأيك ضياع، والله يستودع أمير المؤمنين نفسك ودينك.
إذا كنت من عدوّك على مسافة دانية وسنن لقاء مختصر، وكان من عسكرك مقتربا قد شامت «2» طلائعك مقدّمات ضلالته، وحماة فتنته، فتأهّب أهبة المناجز، وخذ اعتداد الحذر «3» ، وكتّب خيولك، وعبّ جندك، وإيّاك والمسير إلا في مقدّمة وميمنة وميسرة وساقة، قد شهروا الأسلحة، ونشروا البنود والأعلام؛ وعرّف جندك مراكزهم سائرين تحت ألويتهم، قد أخذوا أهبة القتال، واستعدّوا للّقاء، ملتجئين إلى مواقفهم، عارفين بمواضعهم في مسيرهم ومعسكرهم، وليكن ترحّلهم وتنزّلهم على راياتهم وأعلامهم وفي مراكزهم، قد عرّف كلّ قائد منهم أصحابه مواقفهم: من الميمنة والميسرة والقلب والساقة والطّليعة، لا زمين لها، غير مخلّين بما استنجدوا له، ولا متهاونين بما أهيب بهم إليه؛ حتّى تكون عساكرك في منهل
تصل إليه ومسافة تختارها «1» كأنها عسكر واحد في اجتماعها على العدوّ، وأخذها بالحزم، ومسيرها على راياتها، ونزولها في مراكزها، ومعرفتها بمواضعها، إن ضلّت دابة من موضعها، عرف أهل العسكر من أيّ المراكز هي، ومن صاحبها، وفي أيّ المحلّ حلوله منها فردّت إليه، هداية معروفة بسمت صاحب قيادتها، فإنّ تقدّمك في ذلك وإحكامك له طارح عن جندك مؤونة الطّلب، وعناية المعرفة، وابتغاء الضّالّة.
ثم اجعل على ساقتك أوثق أهل عسكرك في نفسك صرامة ونفاذا ورضا في العامّة، وإنصافا من نفسه للرعيّة وأخذا بالحق في المعدلة، مستشعرا تقوى الله وطاعته، آخذا بهديك وأدبك واقفا عند أمرك ونهيك معتزما على مناصحتك وتزيينك نظيرا لك في الحال، وشبيها بك في الشّرف، وعديلا في الموضع، ومقاربا في النسب «2» ؛ ثم أكثف معه الجمع، وأيّده بالقوّة، وقوّه بالظّهر، وأعنه بالأموال، واعمده «3» بالسلاح، ومره بالتعطّف على ذوي الضّعف من جندك ومن أزحفت «4» به دابّته وأصابته نكبة: من مرض أو رجلة «5» أو آفة، من غير أن يأذن لأحد منهم في التنحّي عن عسكره، أو التخلّف بعد ترحّله، إلا لمجهود سقما، أو لمطروق بآفة جائحة. ثم تقدّم إليه محذّرا، ومره زاجرا، وانهه مغلظا في الشدّة على من مرّ به منصرفا عن معسكرك من جندك بغير جوازك، شادّا لهم أسرا، وموقرهم «6» حديدا، ومعاقبهم موجعا، وموجّههم إليك فتنهكهم عقوبة، وتجعلهم لغيرهم من جندك عظة.
واعلم أنه إن لم يكن بذلك الموضع من تسكن إليه واثقا بنصيحته قد بلوت منه أمانة تسكّنك إليه، وصرامة تؤمّنك مهانته، ونفاذا في أمرك يرخي عنك خناق الخوف في إضاعته، لم يأمن أمير المؤمنين تسلّل الجند عنك لواذا «1» ، ورفضهم مراكزهم، وإخلالهم بمواضعهم وتخلّفهم عن أعمالهم، آمنين تغيير ذلك عليهم، والشدّة على من اجترمه منهم، فأوشك ذلك في وهنك، وخذل من قوّتك، وقلّل من كثرتك.
اجعل خلف ساقتك رجلا من وجوه قوّادك، جليدا ماضيا، عفيفا، صارما، شهم الرأي، شديد الحذر، شكيم القوّة، غير مداهن في عقوبة، ولا مهين في قوّة، في خمسين فارسا يحشر إليك جندك، ويلحق بك من تخلّف عنك بعد الإبلاغ في عقوبتهم والنّهك لهم والتنكيل بهم. وليكن بعقوتك «2» في المنزل الذي ترحل عنه، والمنهل الذي تتقوّض منه، مفرطا في النفض له، والتتبّع لمن تخلّف عنك به، مشتدّا في أهل المنزل وساكنه بالتقدّم، موعزا إليهم في إزعاج الجند عن منازلهم، وإخراجهم عن مكامنهم، وإيعاد العقوبة الموجعة والنّكال المبسل «3» في الأشعار والأبشار، واستصفاء الأموال وهدم العقار لمن آوى منهم أحدا أو ستر موضعه، أو أخفى محلّه، وحذّره عقوبتك إيّاه في الترخيص لأحد، والمحاباة لذي قرابة، والاختصاص بذلك لذي أثرة وهوادة، ولتكن فرسانه منتخبين في القوّة، معروفين بالنّجدة، عليهم سوابغ الدّروع دونها شعار الحشو وجبب الاستجنان، متقلدين سيوفهم، سامطين كنائنهم، مستعدّين لهيج إن بدههم [أو كمين إن يظهر لهم] «4» ؛ وإيّاك أن تقبل منهم في دوابّهم إلا فرسا قويّا أو برذونا وثيجا «5» : فإن ذلك
من أقوى القوّة لهم، وأعون الظّهريّ «1» على عدوّهم، إن شاء الله.
ليكن رحيلك إبّانا واحدا «2» ، ووقتا معلوما: لتخفّ المؤونة بذلك على جندك، ويعلموا أوان رحيلهم، فيقدّموا فيما يريدون من معالجة أطعمتهم، وأعلاف دوابّهم، وتسكن قلوبهم إلى الوقت الذي وقفوا عليه، ويطمئنّ ذو والرأي إلى إبّان الرحيل، ومتى يكن رحيلك مختلفا، تعظم المؤونة عليك وعلى جندك [ويخلّوا بمراكزهم]«3» ولا يزال ذو والسّفه [والنّزق]«4» يترحّلون بالإرجاف «5» وينزلون بالتوهّم، حتى لا ينتفع ذو رأي بنوم ولا طمأنينة.
إيّاك أن تظهر استقلالا، أو تنادي برحيل من منزل تكون فيه، حتّى تأمر صاحب تعبئتك بالوقوف بأصحابه على معسكرك، آخذا بجنبتي فوهته «6» ، بأسلحتهم عدّة لأمر إن حضر، أو مفاجأة من طليعة للعدوّ إن رأت منكم نهزة، أو لمحت عندكم غرّة، ثم مر الناس بالرّحيل وخيلك واقفة، وأهبتك معدّة، وجنّتك واقية، حتّى إذا استقللتم «7» من معسكركم، وتوجّهتم من منزلكم، سرتم على تعبئتكم بسكون ريح، وهدوّ حملة، وحسن دعة. فإذا انتهيت إلى منهل أردت نزوله أو هممت بالمعسكر به، فإيّاك ونزوله إلا بعد العلم بأهله، والمعرفة بمرافقه؛ ومر صاحب طليعتك أن يعرف لك أحواله، ويستثير لك علم دفينه، ويستبطن علم أموره ثم ينهيها إليك على ما صارت إليه: لتعلم كيف احتماله لعسكرك، وكيف ماؤه وأعلافه وموضع معسكرك منه، وهل لك- إن أردت مقاما به، أو مطاولة عدوّك أو مكايدته فيه- قوّة تحملك ومدد يأتيه: فإنّك إن لم تفعل ذلك، لم تأمن أن تهجم على منزل يعجزك ويزعجك عنه ضيق مكانه، وقلّة
مياهه، وانقطاع موادّه، إن أردت بعدوّك مكيدة، أو احتجت من أمورهم إلى مطاولة، فإن ارتحلت منه كنت غرضا لعدوّك، ولم تجد إلى المحاربة والاخطار سبيلا، وإن أقمت به أقمت على مشقّة وحصر وفي أزل وضيق، فاعرف ذلك وتقدّم فيه. فإن أردت نزولا أمرت صاحب الخيل التي وكّلت بالناس فوقفت خيله متنحّية من معسكرك، عدّة لأمر إن غالك، ومفزعا لبديهة إن راعتك، فقد أمنت بحمد الله وقوّته فجأة عدوّك، وعرفت موقعها من حرزك «1» ، حتّى يأخذ الناس منازلهم، وتوضع الأثقال مواضعها، ويأتيك خبر طلائعك، وتخرج دبّابتك «2» من معسكرك درّاجة ودبّابا محيطين بعسكرك، وعدّة إن احتجت إليها. ولتكن دبّابات جندك أهل جلد وقوّة، قائدا أو اثنين أو ثلاثة بأصحابهم، في كلّ ليلة ويوم نوبا بينهم، فإذا غربت الشمس ووجب «3» نورها، أخرج إليهم صاحب تعبئتك أبدالهم، عسسا بالليل في أقرب من مواضع دبّابي النهار، يتعاور ذلك قوّادك جميعا بلا محاباة لأحد فيه ولا إدهان [إن شاء الله]«4» .
إيّاك وأن يكون منزلك إلا في خندق وحصن تأمن به بيات عدوّك وتستنيم فيه إلى الحزم من مكيدتك إذا وضعت الأثقال وحطّت أبنية أهل العسكر، لم يمدد طنب «5» ، ولم يرفع خباء، ولم ينصب بناء حتى تقطع لكلّ قائد ذرعا معلوما من الأرض بقدر أصحابه، فيحفروه عليهم خندقا يطيفونه بعد ذلك بخنادق الحسك «6» ، طارحين لها دون اشتجار الرّماح، ونصب التّرسة، لها بابان قد وكّلت
بحفظ كل باب منهما رجلا من قوّادك، في مائة رجل من أصحابه، فإذا فرغ من الخندق كان ذانك الرجلان القائدان بمن معهما من أصحابهما أهل ذلك المركز، وموضع تلك الخيل، وكانوا البوّابين والأحراس لذينك الموضعين، قد كفوهما وضبطوهما وأعفوا من أعمال العسكر ومكروهه غيرهما.
واعلم أنك إذا كنت في خندق، أمنت بإذن الله وقوّته طوارق عدوّك وبغتاتهم، فإن راموا تلك منك، كنت قد أحكمت ذلك وأخذت بالحزم فيه، وتقدّمت في الإعداد له، ورتقت مخوف الفتق منه؛ وإن تكن العافية استحقّيت حمد الله عليها، وارتبطت شكره بها، ولم يضررك أخذك بالحزم: لأن كل كلفة ونصب ومؤونة إنفاق ومشقّة عمل مع السلامة غنم وغير خطر بالعاقبة، إن شاء الله. فإن ابتليت ببيات عدوّك أو طرقك رائعا في ليلك، فليلفك حذرا مشمّرا عن ساقك، حاسرا عن ذراعك، متشزّنا لحربك، قد تقدّمت درّاجتك إلى مواضعها على ما وصفه لك أمير المؤمنين، ودبّابتك في أوقاتها التي قدّر لك، وطلائعك حيث أمرك، وجندك على ما عبّأ لك قد خطرت عليهم بنفسك، وتقدّمت إلى جندك إن طرقهم طارق، أو فاجأهم عدوّ، أن لا يتكلّم منهم أحد رافعا صوته بالتكبير مغرقا في الإجلاب، معلنا بالإرهاب لأهل الناحية التي يقع بها العدوّ طارقا، وليشرعوا رماحهم ناشبين بها «1» في وجوههم، ويرشقونهم بالنبل مكتنّين «2» بأترستهم، لازمين لمراكزهم، غير مزيلي قدم عن موضعها، ولا متجاوزين إلى غير مركزهم؛ وليكبّروا ثلاث تكبيرات متواليات وسائر الجند هادون، لتعرف موضع عدوّك من معسكرك، فتمدّ أهل تلك الناحية بالرجال من أعوانك وشرطتك ومن انتخبت قبل ذلك عدّة للشدائد بحضرتك وتدسّ إليهم النّشّاب والرّماح.
وإيّاك وأن يشهروا سيفا يتجالدون به. وتقدّم إليهم أن لا يكون قتالهم في تلك المواضع لمن طرقهم إلا بالرّماح مسندين لها إلى صدورهم، والنّشّاب راشقين به وجوههم، قد ألبدوا «1» بالأترسة، واستجنّوا بالبيض، وألقوا عليهم سوابغ الدّروع وجباب الحشو، فإن صدّ العدوّ عنهم حاملين على جهة [أخرى، كبّر]«2» أهل تلك الناحية التي يقع فيها كفعل الناحية الأولى، وبقيّة العسكر سكوت والناحية التي صدّ عنها العدوّ لازمة مراكزهم منتطقة الهدوّ ساكنة الرّيح، ثم عملت في تقويتهم وإمدادهم بمثل صنيعك بإخوانهم.
وإياك أن تخمد نار رواقك [وإذا وقع العدوّ في معسكرك فأجّجها ساعرا لها وأوقدها حطبا جزلا يعرف به أهل العسكر مكانك وموضع رواقك]«3» فيسكن نافر قلوبهم، ويقوى واهي قوّتهم، ويشتدّ منخذل ظهورهم، ولا يرجمون بك الظّنون، ويجعلون لك آراء السّوء، ويرجفون بك آناء الخوف، وذلك من فعلك رادّ عدوّك بغيظه لم يستفلل منك ظفرا، ولم يبلغ من نكايتك سرورا. وإن انصرف عنك عدوّك ونكل عن الإصابة من جندك وكانت بخيلك قوّة على طلبه أو كانت لك من فرسانك خيل معدّة وكتيبة منتخبة، [و]«4» قدرت على أن تركب بهم أكساءهم «5» ، وتحملهم على سننهم، فأتبعهم جريدة «6» خيل عليها الثّقات من فرسانك، وأولو النّجدة من حماتك، فإنك ترهق عدوّك وقد أمن من بياتك، وشغل بكلاله عن التحرّز منك والأخذ بأبواب معسكره، والضّبط لمحارسه عليك، موهنة حماتهم لغبة «7» أبطالهم: لما ألفوكم عليه من التشمير والجدّ، قد عقر الله فيهم «8» ، وأصاب منهم، وجرح من مقاتلتهم، وكسر من أمانيّ ضلّالهم، وردّ من
مستعلي جماحهم.
وتقدّم إلى من توجّهه في طلبهم، وتتبعه أكساءهم، في سكون الرّيح، وقلّة الرّفث «1» ، وكثرة التسبيح والتهليل، واستنصار الله عز وجل بألسنتهم وقلوبهم سرّا وجهرا، بلا لجب ضجّة، ولا ارتفاع ضوضاء، دون أن يردوا على مطلبهم، وينتهزوا فرصتهم، ثم ليشهروا السّلاح، وينتضوا السّيوف، فإنّ لها هيبة رائعة، وبديهة مخوفة، لا يقوم لها في بهمة الليل وحندسه «2» إلا البطل المحارب، وذو البصيرة المحامي، والمستميت المقاتل، وقليل ما هم عند تلك الحميّة وفي ذلك الموضع.
ليكن أوّل ما تتقدّم به في التهيّؤ لعدوّك، والاستعداد للقائه، انتخابك من فرسان عسكرك وحماة جندك ذوي البأس والحنكة والجلد والصّرامة، ممّن قد اعتاد طراد الكماة، وكشّر عن ناجذه في الحرب، وقام على ساق في منازلة الأقران، ثقف الفروسية، مجتمع القوّة، مستحصد المريرة «3» ، صبورا على هول الليل، عارفا بمناهزة الفرص، لم تمهنه «4» الحنكة ضعفا، ولا بلغت به السّنّ كلالا، ولا أسكرته غرّة الحداثة جهلا، ولا أبطرته نجدة الأغمار «5» صلفا، جريئا على مخاطرة التلف، مقدما على ادّراع الموت، مكابرا لمهيب «6» الهول، متقحّما مخشيّ الحتوف، خائضا غمرات المهالك، برأي يؤيّده الحزم، ونيّة لا يخالجها الشّكّ، وأهواء مجتمعة، وقلوب مؤتلفة، عارفين بفضل الطاعة وعزّها وشرفها، وحيث محلّ أهلها من التأييد والظّفر والتمكين، ثم اعرضهم رأي عين على كراعهم وأسلحتهم، ولتكن دوابّهم إناث عتاق الخيل، وأسلحتهم سوابغ الدّروع
وكمال آلة المحارب، متقلّدين سيوفهم، المستخلصة من جيّد الجوهر وصافي الحديد، المتخيرة من معادن الأجناس، هنديّة الحديد [أو تبّتيّة]«1» يمانية الطّبع، رقاق المضارب، مسمومة الشّحذ، مشطّبة الضّربية، ملبدين بالتّرسة الفارسيّة، صينيّة التعقيب، معلمة المقابض بحلق الحديد، أنحاؤها مربّعة، ومخارزها بالتجليد مضاعفة، محملها مستخف، وكنائن النّبل وجعاب القسيّ قد استحقبوها، وقسيّ الشّريان «2» والنّبع أعرابيّة الصّنعة، مختلفة الأجناس، محكمة العمل، مقوّمة التثقيف، ونصول النّبل مسمومة، وعملها مصيّصيّ «3» ، وتركيبها عراقيّ، وترييشها بدويّ، مختلفة الصّوغ في الطّبع، شتّى الأعمال في التشطيب والتجنيح والاستدارة، ولتكن الفارسية مقلوبة المقابض منبسطة السّية «4» ، سهلة الانعطاف، مقرّبة الانحناء، ممكنة المرمى، واسعة الأسهم، فرضها سهلة الورود، ومعاطفها غير مقتربة المواتاة، ثم ولّ على كلّ مائة رجل منهم رجلا من أهل خاصتك وثقاتك ونصحائك، له صيت في الرّياسة، وقدم في السابقة، وأوّليّة في المشايعة، وتقدّم إليه في ضبطهم، وكفّ معرّتهم، واستنزال نصائحهم، واستعداد طاعتهم، واستخلاص ضمائرهم، وتعاهد كراعهم وأسلحتهم: معفيا لهم من النوائب التي تلزم أهل عسكرك وعامّة جندك، واجعلهم عدّة لأمر إن حزبك أو طارق إن أتاك؛ ومرهم أن يكونوا على أهبة معدّة، وحذر ناف لسنة الغفلة عنهم، فإنك لا تدري أيّ الساعات من ليلك ونهارك تكون إليهم حاجتك، فليكونوا كرجل واحد في التشمير والتّرادف وسرعة الإجابة، فإنّك عسيت أن لا تجد عند جماعة جندك في مثل تلك الرّوعة والمباغتة- إن احتجت إلى ذلك منهم- معونة كافية، ولا أهبة معدّة، بل ذلك كذلك. فليكن هؤلاء القوم الذين تنتخب عدّتك وقوّتك بعوثا قد وظّفتها على القوّاد الذين ولّيتهم أمورهم، فسمّيت أوّلا
وثانيا وثالثا ورابعا وخامسا وسادسا؛ فإن اكتفيت فيما يطرقك ويبدهك ببعث واحد، كان معدّا لم تحتج إلى انتخابهم في ساعتك تلك فقطّع البعث عليهم عند ما يرهقك. وإن احتجت إلى اثنين أو ثلاثة وجّهت منهم إرادتك أو ما ترى قوّتك، إن شاء الله.
وكّل بخزائنك ودواوينك رجلا ناصحا أمينا، ذا ورع حاجز، ودين فاضل، وطاعة خالصة، وأمانة صادقة، واجعل معه خيلا يكون مسيرها ومنزلها ومرحلها «1» مع خزانتك وحولها، وتقدّم إليه في حفظها، والتوقّي عليها، واتّهام كلّ من تسند إليه شيئا منها على إضاعته والتهاون به، والشّدّة على من دنا منها في مسير، أو ضامّها في منزل، أو خالطها في منهل. وليكن عامّة الجند والجيش- إلا من استخلصت للمسير معها- متنحّين عنها، مجانبين لها في المسير والمنزل، فإنه ربّما كانت الجولة وحدثت الفزعة، فإن لم يكن للخزائن ممن يوكّل بها أهل حفظ لها وذبّ عنها، وحياطة دونها، وقوّة على من أراد انتهابها، أسرع الجند إليها وتداعوا نحوها حتّى يكاد يترامى ذلك بهم إلى انتهاب العسكر، واضطراب الفتنة، فإنّ أهل الفتن وسوء السّيرة كثير، وإنما همّتهم الشّر، فإيّاك أن يكون لأحد في خزائنك ودواوينك [وبيوت أموالك]«2» مطمع أو يجد سبيلا إلى اغتيالها ومرزأتها [إن شاء الله]«3» .
اعلم أنّ أحسن مكيدتك أثرا في العامّة، وأبعدها صيتا في حسن القالة، ما نلت الظّفر فيه بحزم الرّويّة، وحسن السّيرة، ولطف الحيلة، فلتكن رويّتك في ذلك وحرصك على إصابته بالحيل، لا بالقتال وأخطار التّلف، وادسس إلى عدوّك، وكاتب رؤساءهم وقادتهم وعدهم المنالات، ومنّهم الولايات، وسوّغهم التّراث، وضع عنهم الإحن «4» ، واقطع أعناقهم بالمطامع، واستدعهم بالمثاوب،
واملأ قلوبهم بالترهيب إن أمكنتك منهم الدّوائر، وأصارتهم إليك الرّواجع، وادعهم إلى الوثوب بصاحبهم أو اعتزاله إن لم يكن لهم بالوثوب عليه طاقة، ولا عليك «1» أن تطرح إلى بعضهم كتبا كأنّها جواب «2» كتب لهم إليك، وتكتب على ألسنتهم كتبا إليك تدفعها إليهم، وتحمل بها صاحبهم عليهم وتنزلهم عنده بمنزلة التّهمة ومحلّ الظّنّة، فلعلّ مكيدتك في ذلك أن يكون فيها افتراق كلمتهم، وتشتيت جماعتهم، وإحن قلوبهم، وسوء الظنّ من واليهم بهم، فيوحشهم منه خوفهم إيّاه على أنفسهم إذا أيقنوا باتّهامه إيّاهم، فإن بسط يده فقتلهم، وأولغ سيفه في دمائهم، وأسرع الوثوب بهم، أشعرهم جميعا الخوف، وشملهم الرّعب، ودعاهم إليك الهرب فتهافتوا نحوك بالنصيحة وأمّوك بالطّلب، وإن كان متأنّيا محتملا رجوت أن تستميل إليك بعضهم، ويستدعي الطمع ذوي الشّره منهم، وتنال بذلك ما تحب من أخبارهم، إن شاء الله.
إذا تدانى الصّفّان، وتواقف الجمعان، واحتضرت الحرب، وعبّأت أصحابك لقتال عدوّهم، فأكثر من قول: لا حول ولا قوّة إلا بالله، والتوكّل على الله عز وجل والتفويض إليه، ومسألته توفيقك وإرشادك، وأن يعزم لك على الرّشد المنجي، والعصمة الكالئة، والحياطة الشاملة. ومر جندك بالصّمت وقلّة التلفّت عند المصاولة، وكثرة التكبير في أنفسهم «3» ، والتسبيح بضمائرهم، ولا يظهروا تكبيرا إلا في الكرّات والحملات، وعند كل زلفة يزدلفونها، فأما وهم وقوف فإنّ ذلك من الفشل والجبن، وليذكروا الله في أنفسهم ويسألوه نصرهم وإعزازهم، وليكثروا من قول: لا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم، حسبنا الله ونعم الوكيل، اللهمّ انصرنا على عدوّك وعدوّنا الباغي، واكفنا شوكته المستحدّة وأيّدنا بملائكتك الغالبين، واعصمنا بعونك من الفشل والعجز إنك أرحم الراحمين.