الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وإنعامه عليك؛ فتلقّه من الشّكر بما يكون للمزيد سببا مؤكّدا، ويغدو الإحسان معه مردّدا مجدّدا، وابذل جهدك فيما أرضى الله وأرضى إمام العصر، وثابر على الأعمال التي تناسب فضائلك المتجاوزة حدّ الحصر؛ والله يعضّدك بالتوفيق، ويمهّد لك إلى السعادة أسهل طريق، ويرهف في الحرب عزائمك، ويمضي في الأعداء صوارمك، ويضاعف لك موادّ النصر والتأييد، ويخصّ بناء مجدك بالإعلاء والتشييد؛ إن شاء الله. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
قلت: والذي يظهر أن مما كان يكتب في دولتهم على هذه الطريق سجلّات كبار نياباتهم، حال استفحال الدولة في مباديء أمرها، قبل خروج البلاد الشاسعة عنها واستقلاعها من أيديهم: كدمشق ومضافاتها من البلاد الشامية قبل خروجها عنهم لبني أرتق في زمن المستنصر أحد خلفائهم، وكأفريقية وما معها من بلاد الغرب قبل تغلّب المعزّ بن باديس نائب المستنصر المتقدّم ذكره بها وقطع الخطبة له، وكجزيرة صقلّيّة من جزائر البحر الرّوميّ قبل تغلّب رجّار أحد ملوك الفرنج عليها وانتزاعها من أيديهم في زمن المستنصر المذكور أيضا؛ فإنّ دمشق وأفريقية وصقلّيّة كانت من أعظم نياباتهم، وأجلّ ولاياتهم، فلا يبعد أن تكون في كتابة السّجلّات عندهم من هذه الطبقة.
المرتبة الثانية
(من المذهب الأوّل من سجلّات ولايات الفاطميين أن يفتتح السّجلّ بالتصدير، فيقال: «من عبد الله ووليّه» إلى آخر التصلية، ثم يؤتى بالتحميد مرة واحدة ويؤتى في الباقي بنسبة ما تقدّم، إلا أنه يكون أخصر مما يؤتى به مع التحميدات الثلاث) ثم هي إما لأرباب السّيوف أو لأرباب الأقلام من أرباب الوظائف الدّينية والوظائف الدّيوانية.
فأما السّجلّات المكتتبة لأرباب السّيوف، فمن ذلك نسخة سجلّ بولاية
القاهرة من هذه الرتبة: لرفعة قدر متولّيها حينئذ، وهي:
من عبد الله ووليّه (إلى آخره) .
أما بعد، فالحمد لله رافع الدّرجات ومعليها، ومولي الآلاء ومواليها، ومحسن الجزاء لمن أحسن عملا، ومضاعف الحباء للذين لا يبغون عن طاعته حولا، ومنيل أفضل المواهب ومخوّلها، ومتمّم النعمة على القائم بشكرها ومكمّلها، متبع المنن السالفة بنظائرها وأشكالها، والمجازي على الحسنة بعشر أمثالها، وصلّى الله على جدّنا محمد رسوله الذي أقام عماد الدين الحنيف ورفعه، وخفض بجهاده منار الإلحاد ووضعه، وأرغم عبدة الصّليب والأوثان، ونشر في أقطار المملكة كلمة الإسلام والإيمان، وكشف غياهب الضّلال بأنوار الهدى اللامعة، وهتك حجاب الكفر ببراهين التوحيد الصادعة وسيوف النصر القاطعة، صلّى الله عليه وعلى أخيه وابن عمّه أبينا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، سيف الحقّ الماضي المضارب، وبحر العلم الطامي اللّجج والعوارب «1» ، ومعين الحكمة العذب المشارع، والمخصوص بكلّ شرف باسق وفضل بارع، وعلى آلهما سادة الأنام، وحماة سرح الإسلام، وموضّحي حقائق الدّين، وقاهري أحزاب الملحدين، وسلّم ومجّد، وضاعف وجدّد.
وإنّ أمير المؤمنين لما آتاه الله من شرف المحتد والنّجار، وتوّجه به من تيجان الإمامة المشرقة الأنوار، وألقاه إليه من مقاليد الإبرام والنّقض، وأناله إيّاه من الخلافة في الأرض، والشّفاعة في يوم العرض، وعدقه به من إيضاح سبل الهدى اللامعة، وهتك حجاب الكفر ببراهين التوحيد الصادعة وسيوف النصر القاطعة، إلى الأنام «2» ، وأطلعه عليه من أسرار الحكمة بمناجاة الإلهام، وأقامه له من إعلاء منار الملّة وتقويم عماد الحق، وأمدّ به آراءه من العنايات الرّبانيّة فيما جلّ ودقّ،
وأمضاه له في الأقطار من الأوامر والنّواهي، وأفرده به من الخصائص الشريفة التي يقصر عن تعديدها إسهاب الواصف المتناهي، ويسّره لإرادته من اقتياد كلّ أبيّ جامح، وحبّبه إليه من استعمال السّيرة المستدنية من المصالح كلّ بعيد نازح- يضاعف بهاء أيّامه باصطفاء ذوي الصّفاء، ويزيد في بهجة زمانه باستكفاء أولي الوفاء، ورفع منازل المعرقين في الولاء إلى غايات السّناء، وينيل المخلصين من الحباء، ما يدل على مواضعهم الخطيرة من الاجتباء، ويسند معالي الأمور، إلى الأعيان الصّدور، ويعدق الولايات الخطيرة، بمن حسنت منه الآثار والسّيرة، وأظهر تغاير الأمور ما هو عليه من خلوص النّية ونقاء السّريرة، واستولى على جوامع الفضل وغاياته، وقصرت همم الأكفاء عن مماثلته في الغناء ومساواته، وألقت إليه المناقب قياد المستسلم المسلّم، وأعجز تعديد محاسنه البارعة كلّ ناطق ومتكلّم، وسمت همّته إلى اكتساب الفخار، واستكمل فنون المحامد فحصلت لديه حصول الاقتناء الادّخار، وفاز من كلّ مأثرة بالنصيب الوافر المعلّى، وتشوّفت إليه الرّتب السنية تشوّف [من]«1» رأته لها دون الأكفاء أهلا، وكفى المهمّات بجنان ثابت وصدر واسع، وقرّبت عليه أفعاله المرضيّة من الميامن كلّ بعيد شاسع، ووسم جلائل التصرّفات بما خلّفه بها من مستحسن الآثار، وخلصت مشايعته من الأكدار فحلّ في أميز محلّ من الإيثار، وجارى المبرّزين من أرباب الرّياسات فسبق وأبرّ، وأحرز جميل رأي وليّ نعمته فيما ساء وسرّ.
ولمّا كنت أيها الأمير المعنيّ بهذا الوصف الرفيع، المخصوص من مفاخره بكلّ رائع بديع، الحالّ من الاصطفاء في أقرب محلّ وأدناه، المرتقي من الرياسة أشمخ مكان وأسناه، الأوحد في كل فضيلة ومنقبة، الكامل الذي أوجب له الكمال صعود الجدّ وسموّ المرتبة، المصلح ما يردّ إلى نظره بالتدبير الفائق، الشامل ما يعدق به بحزمه الذي لا تخشى معه البوائق «2» ، المجمع على شكر خصائصه
وخلاله، الفائت جهد الأعيان الأفاضل بعفو استقلاله، المعتصم من المشايعة بالسبب المتين، المتميّز على الأكفاء بمآثره المأثورة وفضله المبين؛ وما زالت مساعيك في طاعة أمير المؤمنين توجب لك منه المزيد، تستدعي لمنزلتك من جميل رأيه مضاعفة التشييد، وتخصّك من الاجتباء بالنصيب، الوافر الجزيل، وتبلّغك من تتابع النّعم ما يوفي على الرجاء والتأميل.
وقد باشرت جلائل الولايات، وعدق بك أفخم المهمّات، فاستعملت السّيرة العادلة، وسست السياسة الفاضلة، وجمعت على محبّتك القلوب، وبلّغت الرعية من إفاضة الإنصاف كلّ مؤثر ومطلوب؛ وإذا برقت بارقة نفاق، ونجم ناجم من مردة المرّاق، كنت الوليّ الوفيّ، والمخلص الصّفيّ، والمدافع عن الحوزة بجهاده، والمحامي عنها بماضي عزمه وصادق جلاده، والباذل مهجته دون وليّ نعمته، والجاهد فيما يحظيه بنائل مواتّه وتأكّد أذمّته «1» ؛ ومجلي ظلام الخطب الدامس بحسامه، ومزيل الخطب الكارث برأيه واعتزامه؛ ومواقفك في الحروب، تكشف الكروب، وتروي من دماء الأبطال ظامئات الغروب «2» ، وتورد سنان اللّدن العاسل «3» ، وريد الكميّ الباسل، وتحكّم ظبا المناصل، في الهامات والمفاصل، وتستبيح من مهج الأقران كلّ مصون، وترميهم من قوارع الدّمار بضروب متّسعة الفنون؛ فآثارك في كل الحالات محمودة، وشرائط الاصطفاء فيك فاضلة موجودة. وحضر بحضرة أمير المؤمنين فتاه ووزيره، وكافل ملكه وظهيره، السيد الأجل الملك الذي «4» فأثنى عليك ثناء وسّع فيه المجال، وخصّك من شكره وإحماده بما أفاض عليك حلل الفخر والجمال، وقرر لك
الخدمة في ولاية القاهرة المحروسة، فتقلّد ما قلّدك أمير المؤمنين من ذلك: عاملا بتقوى الله الذي تصير إليه الأمور، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور؛ قال الله في كتابه المبين: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ
«1» .
واعلم أنّ هذه المدينة هي التي أسّس على التقوى بنيانها، ولها الفضيلة التي ظهر دليلها ووضح برهانها: لأنها خصّت بفخر لا يدرك شأوه ولا تدرك آماده، وذلك أنّ منابرها لم يذكر عليها إلا أئمة الهدى آباء أمير المؤمنين وأجداده، ثم إنها الحرم الذي أضحى تقديسه أمرا حتما، وظلّ ساكنه لا يخاف ظلما ولا هضما، وغدت النعمة به متمّمة مكمّلة، والأدعية في بيوت العبادات به مرفوعة متقبّلة:
للقرب من أمير المؤمنين باب الرحمة ومعدن الجلالة، وثمرة النبوّة وسلالة الرسالة؛ فاشمل كافّة الرعايا بها بالصّيانة والعناية، وعمهم بتامّ الحفظ والرّعاية، وابسط عليهم ظلّ العدل والأمنة، وسرفيهم بالسّيرة العادلة الحسنة، وساو في الحقّ بين الضعيف والقويّ، والرّشيد والغويّ، والملّيّ والذّميّ، والفقير والغنيّ، واعتمد من فيها من الأمراء والمميّزين، والأعيان المقدّمين والشّهود المعدّلين، والأماثل من الأجناد، وأرباب الخدم من القوّاد، بالإعزاز والإكرام، وبلّغهم نهاية المراد والمرام، وأقم حدود الله على من وجبت بمقتضى الكتاب الكريم، وسنّة محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم، وتفقّد أمور المتعيّشين، وامنع من البخس في المكاييل والموازين، وحذّر من فساد مدخل على المطاعم والمشارب، وانتهج في ذلك سبيل الحق وطريق الواجب، واحظر أن يخلو رجل بامرأة ليست له بمحرم، وافعل في تنظيف الجوامع والمساجد وتنزيهها عن الابتذال بما تعزّ به وتكرم، واشدد من أعوان الحكم في قود أباة الخصوم، واعتمد من نصرة الحق ما تبقى به النعمة عليك وتدوم، وأوعز إلى المستخدمين بحفظ الشارع والحارات، وحراستها في جميع الأزمنة والأوقات، وواصل التّطواف في كل ليلة بنفسك في أوفى عدّة، وأظهر عدّة، وانته في ذلك وفيما يجاريه إلى ما يشهد باجتهادك، ويزيد في شكرك
وإحمادك؛ والله تعالى يوفّقك ويرشدك، ويسدّدك في خدمة أمير المؤمنين ويسعدك؛ فاعلم ذلك وأعمل به، وطالع مجلس النظر الأجليّ الملكيّ بما تحتاج إلى علمه، إن شاء الله تعالى.
قلت: وعلى هذا النّمط كان يكتب سجلّ ولاية الشرقية من أعمال الديار المصرية دون غيرها من سائر الولايات، إذ كانت هي خاصّ الخليفة كالجيزيّة والمنفلوطيّة «1» الآن، وكان واليها هو أكبر الولاة عند هم لذلك.
وأما الوظائف الدينية.
فمنها- ما كتب به القاضي الفاضل عن العاضد بولاية قاض:
من عبد الله ووليّه عبد الله أبي محمد الإمام العاضد لدين الله أمير المؤمنين، إلى القاضي المؤتمن الأمين، علم الدين، خالصة أمير المؤمنين، وفّقه الله لما يرضيه، وسدّده فيما يذره ويأتيه، وأعانه على ما عدق به ووليّه.
سلام عليك فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو، ويسأله أن يصلّي على جدّه سيّد ولد آدم، وعالم كل عالم، ومبقي كلمة المتقين على اليقين، ومعلي منار الموحّدين على الملحدين، صلّى الله عليه وعلى آله الطاهرين، وعلى أمراء المؤمنين، صلاة تتصل في كلّ بكرة وأصيل، ويعدّها أهل الفضل وأهل التحصيل، ووالى وجدّد، وعظّم ومجّد، وكرّر وردّد.
وإن أمير المؤمنين لما آتاه الله إيّاه من نفاذ حكمه ومضاء حكمته، وفوّضه إليه من إمامة أمّته، وأفاضه عليه من أنوار كشفت غمامة كلّ غمّة، وشرّدت بعدله من بسطة ظلم وسطوة ظلمة، وأظهره له من حقّ نصب للنصر علمه وللهداية علمه، وأيّده به من كلّ عزمة فتكت بكل أزمة، ووكّل به هممه من إتمام نعمة وابتداء نعمة، وأطلق به يده من معروف روّض الآمال صوب «2» مدراره، وبدت
على الأحوال آثار إيثاره، وأخذ به الخصب من المحل ثاره واستقال به الرخاء من وهدات عثاره، وعضّد به أفعاله من أمور التوفيق اتّباعا واقتضابا، وألهمه من موالاة الآلاء التي لا تذهب عهود عهادها انقضاء ولا انتضابا، ويسّر له عزيمة من الآراء التي لا تكسب إلا حمدا أو ثوابا؛ يختصّ بإحسانه من ينصّ الاختبار على أنه أهل للاختيار، وتفيض الأحوال من حوالي أوصافه ما يديم المطار في الأوطار، وينعم على النعمة بإهدائها إلى ذوي الاستيجاب، ويصطنع الصّنيعة بإقرارها في مغارس الاستطابة والاستنجاب، ويرشّح لخدمه من عرف ذكره بأنه فائح، وعرف عرفه ناصع ناصح، ويبوّيء جنان إنعامه من أحسن عملا، واستحقّت منزلته من الكفاية أن تكون له بدلا، ولم تبغ تصرّفاته في كل الأحوال عنها حولا، ودرّجته خصائصه العلية فاقتعد صهوات الدّرجات العلى، واستحقّ بفضل تفضيله أن يولى الجميل جملا، وعرضت خلاله على تعيين الانتقاد فاقتضاها ولا يتضاهى، وزويت مسالك الغناء بصدره فضاهى فضاها.
ولما كنت أيّها القاضي المشتمل على هذه الخلال اشتمال الرّوض على الأزاهر، والأفق على النّجوم الزّواهر، والعقود على فاخر الجواهر، والخواطر على خطراتها الخواطر، والنّواظر على ما تصافح من الأنوار وتباشر، المثري من كل وصف حسن، المتبوع الأثر بما فرض من المحاسن وسنّ، الكاليء ما تستحفظ بعين كفاية لا يصافح أجفانها وسن، الأمين الذي تريه أمانته متاع الدنيا قليلا، وتصحبه ناظرا عن نضارتها كليلا، والمؤثر دينه على دنياه، المطيع الذي لا يسلو العصبة عن هواه، المخلص النية في الولاء و «لكلّ امريء ما نواه» الناصح الذي ينزّه ما يلابسه عن لباس الرّيب، البعيد عن مظانّ الظّنون فلا تتطلّع الأوهام منه على عيب غيب، النقيّ الساحة أن يغرس بها وصمة، التقيّ الذي لا تخدع يده عن التمسّك ما استطاع بحبل عصمة، المحتوم الحقوق بأن يستودع دهر الوفاء، المتوسّل بمواتّ توجب له الإيفاء على الأكفاء، المستقيم على مثل الظّهيرة كهلا ويافعا، الشافع بنفسه لنفسه وكفى بالاستحقاق شافعا؛ وحسبك أنك حملت الأمانة وهي حفظ الكتاب، وأطلق الله به لسانك فشفيت القلوب من
الأوصاب، ووصل به سببك إلى رحمته يوم تنقطع الأسباب، وأصبح محلّك في الدارين آهلا أثيرا، وكنت ممن قال الله فيه: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً
«1» .
وقد خالطت في مواكب أمير المؤمنين المعقّبات التي من بين يديه ومن خلفه، وقربت من مجالسه المشتملة منه على عنوان عناية الله بالبريّة ولطفه، ونوره الذي كلّت العيون عن كشفه والحيل عن كسفه، وتقدّمت بخدمة الخلفاء الراشدين، أمراء المؤمنين، إلى سوابق سبقت بها في كل مضمار، وجمعت في المخالصة فيها بين الإعلان والإضمار، وسبر التجريب حالتيك بصحائف خبرة، واستمرّت بك الحال في القرب منهم وفي تقلّب الأحوال عبرة، وتدرّجت في حجب القصور، وبدت لك الغايات فما كنت عنها ذا قصور؛ فكانت التّقدمة لك مظنونة وبك مضمونة، وسريرتك على الأسرار المصونة مأمونة، وما اعوجّت معالم إلا وكان تقويمها بتقويمك، ولا استيقظت حيلة فخاف الحقّ سبيل غيّها بتهويمك «2» ؛ وإنّ كل قائل لا يملك من إصغاء أمير المؤمنين ما تملك بتلاوة الذّكر الحكيم، ولا يسلك من قلبه ما تسلك بمعجز جدّه العظيم؛ فأنت تخدم أمير المؤمنين بقلبك مواليا، وبلسانك تاليا، وبنظرك مؤتمنا، وبيدك مختزنا، لا جرم أنك حصدت ما زرعت طيّبا، وسقاك ما استمطرت صيّبا، وزفّت لك الأيادي بكرا وثيّبا، وحللت يفاع المنازل مستأنسا إذا حلّ غيرك وهداتها متهيبا.
فأمّا حرمتك التي بوّأتك من الاختصاص حرما، وجعلتك بين الخواصّ علما، وتوالي يدك بلمس ما حظي من الملابس بصحبة جسده الطاهر، واشتمل على زهر النّضار وزهر الجواهر، فذلك جار مجرى السّكة والدّعوة في أنهما أمانة تعم العباد والبلاد، وهذه أمانة تخصّ النّفوس والأجساد، ولك مما في خزانته وكالة
التخيير والتعيير، وعن أغراضه الشريفة سفارة الإفراج والتغيير، وهذه مواتّ تجعل سماء السّماح لك دائمة الدّيم، وتسكن آمالك في حرم الكرم، وتعقد بينك وبين السعادة أوكد الذّمم، وتتقاضى لك جدود الجدّ بقدم الخدم.
وحضر بحضرة أمير المؤمنين فتاه، الذي زهي الزمان به فتاه، ووزيره، الذي عزّ به منبره وسريره، السيد الأجلّ أفضل الملوك قدرا، وأكثرهم قدرة، وأعظمهم صبرا، وأدربهم نصرة وأفيضهم جودا غمرا، وأكشفهم لغمرة، وأمضاهم على الهول صدرا، وأردّهم لكرّة، وأثبتهم جأشا وصليل السيوف يخطب والمقاتل تسمع، وأوضحهم في استحقاق المجد حجّة شرعتها الرّماح الشّرّع، وأركبهم في طاعة أمير المؤمنين لمشقه، وأشدّهم وطأة على من جحد نوره وعقّ حقّه، فالدنيا مبتسمة به عن ثغور السّرور، والملك بكفالته بين وليّ منصور وعدوّ محصور، فأسفرت سفارته عن أنك من أمثل ودائع الصّنائع وأكفاء الاستكفاء، وأعيان من يحقّق اختيارهم وفضلهم العيان، وأفاضل من هو أهل لإسداء الفواضل؛ وأن الصنيعة ثوب عرك «1» داره، وجار قد عقد بين شكرك وبينه جواره، وقرّر لك تقدمة في الحضرة لأنك فارسهم اسما وفعلا، وأوّلهم حين تتلو وحين تتلى، والنظر على المؤذّنين بالقصور الزاهرة، والمساجد الجامعة، وبالمشاهد الشريفة: لأن الأذان مقدّمة بين يدي القرآن، وأمارة على معالم الإيمان، والنظر في تقويم ما يرد إلى الخزانة العالية الخاصّة والعامّة من الملابس على اختلاف أصنافها، والأمتعة على ائتلاف أوصافها، ومشارفة خزانة الفروش ليكمل لك النظر في الكسوات التي تصان للملبوس، والكسوات التي تبتذل للجلوس، وخزن بيت المال الخاص ليكمل لك النظر في الذهب مصوغا ومرقوما، وخزنا وتقويما؛ واستصوب أمير المؤمنين ما رآه، وأمضى ما أمضاه، وخرج أمره إلى ديوان الإنشاء أن يكتب هذا السجلّ لك بذلك.
فاعرف قدر ما عدق بك من أمور دين ودنيا، وخدم لا تقوى عليها إلا بلباس التقوى، وأنك قد أصبحت لجنّات أنعم أمير المؤمنين رضوانا، ويدك للفظ إحسانه لسانا، وباشر ذلك مستشعرا خشية الله في سرّك وجهرك، متحقّقا أنه غالب على أمرك، مدّخرا من الأعمال الصالحة ما يبقى عند فناء ذخرك، مستديما للنعمة بما يقيّدها من شكرك، وما يصونها أن تبتذل من بشرك، عالما أن التّقيّة حلية الإيمان، وضمان الأمان، وزاد أهل الجنان إلى الجنان، بقول الله سبحانه في كتابه العزيز: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى
«1» .
وأخلص نيّتك في خدمة أمير المؤمنين فمع الإخلاص الخلاص، وأدّ له الأمانة فإنّ أداءها أطيب القصص يوم القصاص، وقم في خدمته المقام المحمود، واستدم بها صعود ركاب السّعود، فقد عرفك الله بركة النصيحة وعوائدها، وأنجزت لك الآمال المنبسطة مواعدها، واستشرف أحوال القرّاء فهم أحقّ قوم بالتهذيب، ولزوم أساليب التأديب، فمن كان للآيات مرتّلا وللدّراسة متبتّلا، وبأثواب الصلاح متقمّصا، وبخصائص الدّين متخصّصا، ولما في صدره بقلبه لا بلسانه حافظا، وعلى آداب ما حفظ محافظا، فذلك الذي تشافه تلاوته القلوب، وتروض بأنواء المدامع جدوب الذّنوب، ومن كان دائم الإطالة في سفر البطالة، ساترا لأنوار المعرفة بظلم الجهالة، فحقّ عليك أن تصرفه وتبعده، وتجعل التوبة للعود موعده؛ وكذلك المؤذّنون فهم أمناء الأوقات، ومتقاضون ديون الصلوات، ولا يصلح للتأذين إلا من كملت أوصاف عدالته، وأمنت أوصام جهالته.
وأما الأمانة في الأموال التي وكلت إلى خزنك وختمك، والأمتعة التي وكلت إلى تقويمك وحكمك، فأن تؤدّى بسلوك أخلاقك وهي الأمانة، واتّباع طباعك وهي الإباء للخيانة، وأن تستمرّ على وتيرتك، ومشكور سيرتك، ومشهور سريرتك، ومنير بصيرتك، وأن لا تؤتى من هوى تتّبعه، ولا حيف تبتدعه، ولا قويّ تنخدع له، ولا ضعيف تخدعه، ولا من محاباة وأن أحببت، ولا من مداجاة كيفما تقلّبت،
واذكر ما يتلى من آيات الله في مثلها: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها
«1» والله يتولّى توفيقك وتوقيفك، ويديم [على]«2» ما يحبّ تصريفك؛ إن شاء الله تعالى.
ومنها- ما كتب به القاضي الفاضل أيضا، وهي:
من عبد الله ووليّه (إلى آخره) .
أما بعد، فإنّ رتب الولايات متفاوتة الأقدار، متباينة الأخطار، وكلّ شيء منها عند أمير المؤمنين بمقدار، ولها رجال مشرّفو الأقدار، ومحالّها بحضرته مقدّرة تقدير منازل الأقمار، ومحالّ الأولياء بمقامه محالّ الأهلّة تتنقّل بين أوّل النّماء إلى انتهاء الإبدار «3» ؛ ومن أميزها قدرا، وأحقّها بأن يكون صدرا، وأن يشرح لمن حلّه صدرا، وأن يسوق إليه الخاطب من استحقاقه مهرا، ولاية مدينة مصر: لأنها المجاورة لمحلّ الخلافة، وكلّ مصر بالنّسبة إليها معها بالإضافة، وهي خطّة النّيل، وفرضة المنيل «4» وبها إذا هجمت الخطوب المنيل، ومنها من عثرات الأيام المقيل، ومنها تؤنس أنوار الإمامة على أنها تتوضّح بغير التأميل وبدء التأميل، ولا يؤهّل لولايتها إلا كل حامل لعبئها الثقيل، ولا تسند الخدمة فيها إلا لكل مثر من ذخائر السياسة غير فقير ولا مقلّ، ولا يتوقّل «5» رتبتها إلا من تكون به الرتب منيرة ومحاسنه لا تملّ مما يملّ، ولا يمتطي صهوتها إلا من لا يطأطيء للأطماع عزّة نزاهته ولا يذلّ، ولا يرتقي درجتها إلا من يهتدي بأعلام الديانة التي لا تضلّ، ولا يقرأ سجلّها إلا لمن يطوي مظالم الرعية طيّ الكتاب للسّجلّ.
ولما كنت أيها الأمير ممن توقّدت هذه الأوصاف فيه توقّد النار في ذرى
علمها، وأوجد معاني معاليها وأنقذها من إسار عدمها، وارتقى إلى هضبات الرياسة المنيعة بما جعل خلاله المسلّم فضلها مثل سلمها، وناولته الدّراية عناني سيفها وقلمها، وشهدت الأيام بتقدّم قدمه في مراتبها وقدمها، وأمنت الصواب أن يتبع أفعاله إذا أمضاها بعيب «1» بذمّها، وكتبت أقلام رماحه سطور الطعن في صدور العدا مستمدّة من دمّها، وتجشّم مشقّات المعالي فآثرته تعفي راحة بجسمها، واجتمعت فيه صفات المحاسن المتفرّقة فقضى عليها بتجسيمها، وتصدّر الدرجات المحصنة من مطالع الحاضر لحظّه من رقتها ونسيمها، وتعرّضت ذخائر المحامد لما في طبعه من اقتناصها ونعيمها، وقرّت عين المنازل فما زوت وجه إقبالها ولا بسطت راحة تظلّمها، وانثنت إليه عقائلها المصونة فما ثنت دون ديانته عنان تلوّمها، وأثرك في كل ولاية مشكور، وسعيك في كل غاية غير مقصور، وغناؤك في المهمّات معدّ مذخور، ومساجلك عن أيسر ما وصلت إليه مدفوع مدحور، وليل شبابك بالكوكب الدّريّ من صولتك منحور، وأفعالك أفعال من لا يجوز غير محرز كسب الأجور، وخلالك خلال من انتظم في سلك الذين يرجون تجارة لن تبور.
وقد سلفت لك خدم تصرّفت فيها وتدرّجت، وعرّفت «2» بطهر الذكر من رعيّتها وتأرّجت، وتحوّبت «3» من الأوزار على ما يوقع ذنبك وتحرّجت، وجريت على أجمل عادة، واقتضيت عند انقضاء شأو الإبداء استئناف شأو الإعادة. ومثل بحضرة أمير المؤمنين لسان أمره، وسيف زجره، السيد الأجلّ الذي قام بما استكفاه فأحسن وحسّن، وصان حمى الملك فأحصن وحصّن، وجاد بنفسه في
سبيل الله فما ضنّ، وكان مكان ما أمّل عند اصطفائه وفوق ما ظنّ، وسدّد قصوده، فمرقت سهامها وما مرقت عن طاعته، وأطلع سعوده، وفأنارت نجوما لأوليائه ورجوما لأهل خلاف خلافته، وأطلقت أحكام عدل الله في خلق الله أحكام مراماته وسيف إخافته؛ فالدنيا بيمن إيالته عن مآخذ السراء، وطلقاء الجود بما عملته يده من قيود الإحسان في عداد الأسراء، ورضا أمير المؤمنين عنه كافل له بأن يرضي الله في الأعداء، وملوك الأرض إن فدت السماء «1» طيّبة أنفسها له بالفداء، والدنيا متأرّجة بطيب خبره، والعلياء متبرّجة بحسن نظره، وبحار التدبير لا تفارق زبد أمواجها إلا بفاخر جوهره، وقوانين السّياسة لا توجد مسندة إلا عن اتّباع أثره، ولا حظّ لمحاربه إلا سلمه بعثاره وتثلّمه بعثيره «2» ، فأثنى عليك بحضرته واصفا، وثنى إليك عنان عنايته عاطفا، ورأى تقليدك ولايتها معربا باستحقاقك عارفا- خرج أمير المؤمنين إليه بأن يوعز إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجلّ لك بتقليدك ولاية المعونة والحسبة بمدينة مصر والجيزة والقرافة «3» ، إنافة بك عن النّظراء، وإبانة عمّا لك من جميل الآراء، وتطرية لحظك بما حصل به من الإطراء، ورعاية لما لك من الانتهاء إلى أقصى غايات الإحسان والإجراء، وإيجابا لما تتوسل به من العناء، وذخائر الغناء والإثراء، وإشادة لقدرك الذي أشاده ما أنت عليه من الإيواء إلى ظلّ النزاهة والاستيناء «4» .
فتقلّد ما قلّدته من هذه الخدمة، وارفل بما ضفا عليك من ملابس هذه النعمة
وبما صفا لديك من موارد هذه الجمّة «1» ، وقدّم تقوى الله أمامك، واتّبع وصيّتها التي استعمل الله بها إمامك؛ فبها النجاة مضمونة، والرحمة متيقّنة لا مظنونة، قال الله سبحانه في كتابه المكنون: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ
«2» .
واعتمد المساواة بين الناس فيما هو حكم، والنظر بالعدل في كلّ ما هو ظلم، ولا تجعل بين الغنيّ والفقير في الحق فرقا، واسلك فيهم طريقا واحدا فقد ضلّ من سلك فيهم طرقا، واشمل أهل المدينة بطمأنينة تنيم الأخيار وتوقظ الأشرار، وأمنة تساوي فيها بين ظلام الليل ونور النهار: لتكون ولايتك لهم موسما، وموردها لثغور الأمر مبسما، وأنصف المظلوم واقمع الظالم، وكن لنفسك زعيما بنجاتها فالزعيم لها غارم، وانه عما نهى الله عنه من الفحشاء والمنكر، وأمر بالمعروف وحسبك أن تعرف به وتذكر، وخذ في الحدود بالاعتراف أو الشّهادة، ولا تتعدّ حدّها بنقص ولا زيادة؛ وكما تقيمها بالبينات، فكذلك تدرؤها بالشّبهات، وفي هذه المدينة من أعيان الدولة ووجوهها، وكلّ سامي الأقدار نبيهها، وأرباب السيوف والأقلام، والمعدودين في العلماء والأعلام، والمعدّلين الذين هم مقاطع الأحكام، والتجار الذين هم عين الحلال والحرام، والرعية الذين بهم قوام العيش في الأيام، من يلزمك أن تكون لهم مكرما، ولإيالتهم محكما، ومن ظلمهم متحرّجا متأثّما، ولسانهم في الشكر عن لسانك متكلّما، وإلى قلوبهم بجميل السّيرة متحبّبا، ولمساخطهم- ما لم تسخط الله- متجنّبا.
واشدد من المستخدمين بباب الحكم في إشخاص من يتقاعد عن الحضور مع خصمه، ويتّبع حكم جهله فيخرج عن قضيّة الشرع وحكمه، وأوعز إلى أصحاب الأرباع «3» بإطلاعك على الخفايا، وإبانة كل مستور من القضايا، وأن يتيقّظوا
لسكنات الليل وغفلات النهار، وخذهم في الليل بما التزموه من الحرس من مكايد اللّصوص والدّوّار، وأيقظهم لأن يتيقّظوا فربّما اجتنى ثمر الأمن من غرس الحذار، وإذا ظفرت بجان قد أوبقه عمله، وطمح إلى الفساد أمله، فاجمع له بين التنكيل والتوكيل، أو ذي ريبة إن زاد ريبة بالحبس الطويل، وإلا فطالع بأمره إن كان من غير هذا القبيل، وواصل التّطواف في العدد الوافر، والسّلاح الظاهر، في أرجاء المدينة وأطرافها، وعمّر بسرّك سائر أرجائها وأكنافها، وانظر في الحسبة نظر من يحتسب ما عند الله خير وأبقى ومن يرغب في الأجر ويعرض عن شعار لباس التمويه والّلبس، وامنع أن يخلو رجل بامرأة ليست بذات محرم: لتكون قد سلّمت وسلمت من شبهتي المطمع والمطعم، واستوضح آلات المعاملات وغيرها، فبها تخفّ الموازين أو ترجح يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ
«1» ، واعتمد في تهذيبها وتصويبها ما تحسن فيه للمسيء والمحسن، لأنك تكفّ أحدهما عن عمل المتهافت وعن المهوب الممعن.
وتقدّم بنفض الأذى عن جادّة الطريق، وانه أن تحمّل دابّة أكثر مما تطيق، وتفقّد الجوامع والمساجد بالتنظيف إبانة لجمالها، وصيانة من ابتذالها، ولا تمكّن أحدا أن يحضرها إلا مؤدّيا للفرض أو منتظرا أو متطوّعا، أو عالما أو متعلما أو مستمعا، فإنها أسواق الآخرة، ومنازل التّقوى العامرة؛ وأجر الأمور على عاداتها، واسترشد في طارئاتها ومشكلاتها؛ فاعلم هذا واعمل به. إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة سجلّ بولاية قاض بثغر الإسكندرية، من إنشاء القاضي الفاضل، من هذه الرتبة، وهي:
من عبد الله ووليّه (إلى آخره) .
أما بعد، فالحمد لله الذي نشر راية التوحيد وأعزّ ملّة الإسلام، وهدى بكرمه من اتّبع رضوانه سبل السّلام، رافع منار الشرع وحافظ نظامه، ومجزل الثواب لمن عمل بأمره في تحليل حلاله وتحريم حرامه؛ وسع كلّ شيء رحمة وعلما، وساوى بين الخليقة فيما كان حكما، وقال جلّ من قائل في كتابه العزيز: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً
«1» . سبحانه من خالق لم يزل رؤوفا ببريّته، عادلا في أقضيته، مضاعفا أجر من خشيه وعمل بخيفته، موفّرا ذلك له يوم يودّ المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته «2» .
يحمده أمير المؤمنين أن أفاض عليه أنوارا إلهيّة، وتعبّد البريّة بأن جعلها بطاعته مأمورة وعن مخالفته منهيّة، واستخلف منه على الخليقة القويّ الأمين، وآتاه ما لم يؤت أحدا من العالمين، ويسأله أن يصلّي على جدّه الذي عمّ إرساله بالرحمة، وكشف بمبعثه كلّ غمّة، وجعل شرعه خير شرع وأمّته خير أمّة، فأحيا من الإيمان ما كان رميما، وهدى بالإسلام صراطا مستقيما، وخاطبه الله فيما أنزل عليه بقوله: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً
«3» وعلى أبينا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب الذي وفّر الله نصيبه من العلم والحكمة، وجعل خلافته في أرضه لا تخرج عن ذرّيته الهداة الائمّة، وعلى آلهما الأطهار، وعترتهما السادة [سلاما]«4» باقيا إلى يوم الدين.
وإن أمير المؤمنين لما أفرده الله به من المآثر، وتوحّده به من المناقب
والمفاخر، وخصّه بشرفه من الإحسان إلى أوليائه بالإنعام إليهم في الدنيا والشفاعة لهم في اليوم الآخر، يرتاد لجلائل الخدم من يشار إليه ويومى، ويختار لتولّيها من يكون بأثقالها ناهضا وبأعبائها قؤوما، ويسند أمرها إلى من لا يتمارى في سؤدده ولا يختلف في فضله، ويعدق شؤونها بمن عدقت الرياسة به وبأسلافه من قبله، فيكون إذا شرّف بها عرف منزلتها ومحلّها، ووقع الاتفاق على التمثل بقوله:
وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها
«1» .
ولما كنت أيّها القاضي المكين من البيت الذي اشتهر قدره، وارتفع ذكره، وحلت رتبته، بأوصاف كلّ من أهله في قوله وفعله، وتردّدت رياسته، في عدد كثير لا عهد للرياسة بالتردّد في مثله، وكانت لك ولمن مضى من أسلافك آثار في الخدم خلّدت لكم مجدا يبقى، وأقرّت من الحديث به ما لا يسمو إليه النّسيان ولا يرقى؛ فكل ما تتولّونه متجمّل بكم ولا يريد معكم زيادة، وكلّ ما يعتمد فيه عليكم قد نال مطلوبه وبلغ البغية والإرادة، والذي يخرج عن نظركم يتلهّف عليكم حنينا إليكم واشتياقا، وإن ردّ إليكم لم يأل تشبّثا بكم وتمسّكا واعتلاقا؛ هذا إلى ما لكم من الحرمات المرعية، والمواتّ التي ليست بمنسية، والسيد الأجلّ الأفضل الذي حسبه من المفاخر قيامه بحق الله لمّا غفل الملوك عنه وقعدوا، واستيقاظه بمفرده حين ناموا دون استخلاصه مما عراه ورقدوا؛ وإن انتصابه آية أظهرها الله للملّة، وحسم بها في رفع منار الدّين كلّ علّة، فإذا أنفقت الأعمار في [بيان]«2» أوصافه كانت جديرة بذلك حريّة، وإذا ذكرت آثاره في الإسلام كان العلم بكرمها لاحقا بالعلوم الضّرورية، فما ينسب المتوسّع في التقريظ له إلى تغال «3» ، ولا تضييع وقت يقضى في اهتمام بالثناء على مناقبه واشتغال، يواصل «4» الثناء عليك والشكر
لك، ويتابع من ذلك ما إذا ذكر اليسير منه شرّفك وجمّلك، ويصف ما كان لأخيك القاضي المكين- رحمه الله من الاجتهاد في المناصحات، ومن الأفعال الحسنة والأعمال الصالحات، ومن الوجاهة التي أحلّته مكانا متجاوزا غاية الآمال الطامحات، ما رفعه عن طبقات كثير من سادات الناس، وجعل حاسديه في راحة لما شملهم من دعة الياس. وإنك أيّها القاضي المكين، الأشرف الأمين، قد بلغت مداه في الجلالة، وورثت مجده لا عن كلالة، وحويت فضله وفخره، وقفوت أثره وأحييت ذكره، وحزت خلاله الجميلة وأفعاله الرضيّة، وحصّلت الفضيلتين الذاتيّة والعرضيّة، ولذلك تقرّرت نعوتك «القاضي المكين» لاستيجابك فيما تقضي به جزيل الثواب، ولتمكّن أفعالك في محل الصّواب، و «الأشرف الأمين» لشرف نفسك، وكون أمانتك في حاضر يومك على ما كانت في ماضي أمسك، و «تاج الأحكام» لأن ما يصدر منها سامي المنهاج، وقد ارتفع محلّه كما ارتفع محلّ التاج، و «جمال الحكّام» لأنك لما وليت ما ولّوا جمّلتهم إذ فعلت من الواجب فوق ما فعلوا، و «عمدة الدين» لأنّ من كان مثلك ركن إليه الدين واستند، وتوكّأ على جانبه واعتمد، و «عمدة أمير المؤمنين» لأنك ذخيرة لدولته، ونعم البقية الصالحة لمملكته.
ومعلوم أن ثغر الإسكندرية- حماه الله تعالى- الثغر الرفيع المقدار، الذي هو قرّة العين للإسلام وقذى في عيون الكفّار، ومحلّه مما تتطامن له معاقل التوحيد وحصونه، وهو مشتمل من الفقهاء والصلحاء والمرابطين وأهل الدّين على من لم يزل يحفظه ويصونه، وإليه تتناثل «1» السّفّار، وتتردّد التّجّار، وهو المقصود من الأقطار القصيّة النائية، ومن البلاد القريبة الدانية؛ وما زالت أحواله جارية بنظرك على أحسن الأوضاع وأفضلها، وأوفى القضايا وأكملها؛ وما كان استخدام غيرك فيه إلا ليظهر إشراق شمسك، وليزول الشكّ في تبريزك على جنسك، وليتبيّن
فضل مباشرتك وتولّيك على أن ذلك لم يكن مكتتما، وليتحقّق أنّ عقد صلاحه لا يكون بتولّي غيرك متّسقا ولا منتظما.
وقد رأى أمير المؤمنين إمضاء ما رآه السيد الأجلّ الأفضل من إقرارك على الحكم والقضاء: لاطّلاعك من ذلك على سرّه، ونفاذك في جميع أمره، ولخبرتك به ودربتك، ولاستقلالك ومضائك ومعرفتك؛ وإنك إذا استمررت على عادتك، غنيت عن تجديد وصيّتك؛ فتماد على سنّتك، ولا تخرج عن سبيلك ومحجّتك؛ وأنت تعلم أنّ الشّهود بهم يعطي الحكّام ويمنعون، وبأقوالهم يفصلون ويقطعون، وبشهاداتهم تثبت الظّلامات وتبطل، وعليها يعتمد في انتزاع الحقوق ممن يدافع ويمطل؛ فواجب أن يكونوا من أتقياء الورى، وممن لا يتّبع الهوى؛ فاستشفّ أحوالهم، واستوضح أمورهم وأفعالهم؛ فمن كان بهذه الصفة فأجره على عادته في استماع مقالته، ومن كان بخلافه فقف الأمر على عدالته، واحسم مادّة الضرر في قبول شهادته؛ وقد جعل لك ذلك من غير استئذان عليه، ولا اعتراض لك فيه؛ ولا تقرّب أحدا من رتبة العدالة، وارفعها بإزالة الأطماع فيها عن الإهانة والإذالة، واغضض من أبصار المتطلّعين إليها، والمتوثّبين عليها، بالتطارح على الجهات، والتماسها بالعنايات التي هي من أقوى الشّبهات؛ وإن ورد إليك توقيع وتزكية من الباب فأصدره [في]«1» مطالعتك ليحيط العلم به، ويخرج إليك من الأمر ما تفعل على حسبه؛ وافعل في دار الضّرب وأحوال المستخدمين والمتصرّفين على ما أنت به العالم البصير، والعارف الخبير.
وقد جعل لك إضافة إلى ذلك النظر في أمر جميع هذا الثّغر المحروس وأسند إليك ووكل إلى صائب تدبيرك، وإلى حسن تهذيبك، وإلى بركة سياستك، وإلى عملك فيه بمقتضى ديانتك؛ وصار جميع المستخدمين به من قبلك متصرّفين، ولأوامرك متوكّفين «2» ، وعند ما تحدّه واقفين، ولمراسمك متابعين
غير مخالفين؛ فمن أحمدته منهم وعلمت نهضته فأجره على عادته ورسمه، ومن كان بخلاف ذلك فاستبدل به وامح من الخدمة ذكر اسمه؛ فلا يد مع يدك، ولا عدول عن مقصدك؛ والاستخدام في هذا الامر قد أسند إليك وردّ، وكونه من جهة غيرك أغلق بابه وسدّ؛ فلا تصّرف فيه إلا لمن صرّفته، ولا خدمة إلا لمن استخدمته.
وتأكيد القول عليك لا يزيدك حرصا، والمعرفة بهمّتك وخبرتك تغنيك عن أن توصى؛ والذي تقدّم ذكره في هذا السجلّ إرهاف لحدّك، وإعلاء لجدّك، وإطلاع لكوكب سعدك؛ والله يتولّى تأييدك وتوفيقك، ويوضح إلى الخير سبيلك وطريقك؛ فاعلم هذا واعمل به، وطالع مجلس النظر بأمور خدمتك، وما تحتاج إلى عمله في جهتك. إن شاء الله عز وجل.
وأما السّجلّات المكتتبة بالوظائف الدّيوانية، فكما كتب به بعض كتّابهم بولاية ديوان المرتجع «1» :
لسنيّ الدولة وجلالها، ذي الرياستين، أبي المنجّى سليمان بن سهل بن عمران.
أما بعد، فإنّه من حسنت آثاره في مناصحات الأئمة الخلفاء، وارتفع محلّه في طاعتهم عن الأنظار «2» والأمثال والأكفاء، وظهرت بركات أفعاله فيما يتولّاه ظهور الشمس ليس بها من خفاء، وباهى بتدبيره كلّ ما يباشره من أمر خطير قدره،
واستدعت من الثناء والإطراء ما يتأرّج نشره ويتضوّع ذكره، وتساوى عنده القول والعمل ونافس فيه الخبر الخبر، ورتّبه مرتّبه مقدّما على من مضى من طبقته وغبر، ووسم الأعمال بسمات في العمائر تضاف إليه وتنسب، وغدت الخدم تزهى به وتعجب، وهو لا يزهى ولا ينظر ولا يعجب. كان ردّ المهمّات إليه حسن نظر لها وإذا حظرت جلالة تولّيها على غيره أضحى نفاذه منتهجا له محلّها، وكان التنويه به حقّا من حقوقه وواجبا من واجباته، والمبالغة في تكريمه وتفخيمه مما يتعيّن الانتهاء فيه إلى أقصى آماده وأبعد غاياته.
ولمّا كنت في متولّي الدواوين، مشهور الشأن والقدر، وحالّا من مراتب الكفاة المقدّمين، في حقيقة الصّدر، إن انتظموا عقدا كنت فيه الواسطة، وإن قسط غيرك على معامل لم تكن أفعالك قاسطة؛ ولك السياسة التي ظلّت ساحاتها رحابا، والرياسة التي من وصفك بها فما تملّق ولا داجى ولا حاجى، والصّناعة البارعة التي تشهد بها الطّروس واليراع، والأمانة الوافية التي ارتفع فيها الخلاف ووقع عليها الإجماع، والتصرّف في أنواع الكتابة على تباين ضروبها، والاستيلاء على ظاهرها ومستورها وواضحها ومكتومها، والأخذ لها عن أهل بيتك الذين لم يزالوا فيها عريقين، ولم ينفكّوا في مداها سابقين غير ملحوقين؛ وقد زدت عليهم بما حزته بهمّتك، ونلته بقريحتك، حتّى بلغت منها ذروة شامخة عليّة، وحصّلت فضيلتين فضيلة ذاتيّة وفضيلة عرضيّة، وأمنت من يباريك ويساجلك، وكفيت من يناوئك ويطاولك؛ وكان الديوان المرتجع عن بهرام وغيره من أجلّ الدواوين وأوفاها، وأحقّها بالتقديم وأولاها: لأنه يشتمل على نواح مختارة، ويحتوى على ضياع مكنوفة بالعمارة؛ وقد زاده ميزة على غيره كونك ناظرا فيه، وأنك مدبّر أمره ومستوفيه.
وحضر بحضرة أمير المؤمنين فتاه ووزيره السيد الأجلّ الأفضل الذي عزّ بحسن سيرته الملك وتضاعف بهاؤه، وضمنت مصالح الأمور تدبيراته وآراؤه، وظلّت شؤون الدولة بما يقرّره منتظمة مستقيمة، وغدت الميامن والسّعود مخيّمة في داره مقيمة، واتّفقت على الثناء عليه مختلفات الأقوال، وقضت مهابته بحماية
النّفوس وصيانة الأموال، وفاوضه في أمر هذا الدّيوان فأفاض في وصفك وشكرك، وأطنب في تقريظك وإجمال ذكرك، ونبّه على الحظ في تولّيك إيّاه، وواصل من مدحك بما يتضوّع عرفه ويطيب ريّاه، وقرّر لك من تولّيه ما يصل سبب الخيرات بسببه، وميّزك بما لم يطمع أحد من كافّة متولي الدّواوين به، فلم يجعل فيه يدا مع يدك، ولا نظرا إلا لك بمفردك؛ فلا يرفع [أحد]«1» شيئا إلى غير ديوانك من حساب ما يجري في أعماله، ولا معاملة لبيت المال إلّا معك فيما يحلّ من أمواله، فأمضى أمير المؤمنين ذلك وأمر به، وخرج أمره إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجلّ بتقليدك الدّيوان المرتجع المذكور: ثقة بأنك تأتي فيه على الإرادة، وتتأتّى لبلوغ الغرض وزيادة؛ فاستخر الله تعالى وباشر أموره بجدّك المعهود، وشمّر عن ساق عزمك المشهود وسعيك المحمود، واجر على رسمك في العمل بما يحفظ أوضاعه، ويزجي ارتفاعه، ويزيح علّته، ويغزر مادّته، فاعتقد مواصلة الليل والنهار في مصالحه فرضا إذا اعتقدها غيرك نفلا «2» ، واجعل اجتهادك لاستخراج أمواله وكن عليها إلى أن يصل إلى بيت المال قفلا، واستنظف ما فيه من تقاو «3» وباق، وافعل في تدبيره ما يجري أموره على الوفاق، واستخدم من الكتّاب من تحمده وترتضيه، ونصّهم إلى الأفعال التي تستدعي شكرك لهم وتقتضيه، ولا تسوّغ لضامن ولا عامل أن يقصّر في العمارة، واعتمد من ذلك ما يكون على كفايتك أوضح دلالة وأصحّ أمارة.
وقد أمر أمير المؤمنين أن تجري الحال على ما كانت عليه من دخول ذلك وبيعه بغير مكس في جميع الأعمال، وأزاح مع ذلك علّتك ببسط يدك وإنفاذ أمرك وإمضاء قولك، وإفرادك بالنظر من غير أن يكون لأحد من متولّي الدواوين على اختلافهم نظر معك، فتماد في حسن تدبيره على سنّتك، ولا تخرج عن مذهبك