الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى أن انقطع عنهم الضوء وانصرفوا من غير فائدةٍ تجدي، ثم وعدهم خيراً، وصرفوا إلى موضع حبسهم، إلى أن بدأ جرى الريح الغربية؛ فعمر بهم زورق وعصبت عيونهم وجرى بهم في البحر برهةً من الدهر.
قال القوم: قدرنا أنه جرى بنا ثلاثة أيامٍ بلياليها، حتى جئ بنا إلى البر، فأخرجنا وكتفنا إلى خلفٍ، وتركنا بالساحل إلى أن تضاحى النهار، وطلعت الشمس، ونحن في ضنكٍ وسوء حالٍ من شدة الكتاف، حتى سمعنا ضوضاء وأصوات ناسٍ فصحنا بجملتنا، فأقبل القوم إلينا فوجدونا بتلك الحال السيئة؛ فحلوا أو ثاقنا وسألونا فأخبرناهم بخبرنا، وكانوا برابر، فقال لنا أحدهم: أتعلمون كم بينكم وبين بلدكم؟ فقلنا: لا، فقال: مسيرة شهرين! فقال زعيم القوم: واأسفى! فسمى المكان إلى اليوم آسفي، وهو المرسى الذي في أقصى المغرب.
إشبيلية
مدينة بالأندلس جليلة بينها وبين قرطبة مسيرة ثلاثة أيامٍ، ومن الأميال ثمانون. وهي مدينة قديمة أزلية، يذكر أهل العلم باللسان اللطينى أن أصل تسميتها إشبالى معناه المدينة المنبسطة، ويقال إن الذي بناها يوليش القيصر، وإنه أول من تسمى قيصر، وكان سبب بنائه إياها أنه لما دخل الأندلس ووصل إلى مكانها أعجبه كرم ساحته، وطيب أرضه، وجبله المعروف بالشرف. فردم على النهر الأكبر مكاناً، وأقام فيه المدينة وأحدق عليها بأسوارٍ من صخرٍ، وبنى في وسط المدينة قصبتين
متقنتين عجيبتى الشأن، تعرفان بالأخوين، وجعلها أم قواعد الأندلس، واشتق لها اسماً من اسمه ومن اسم رومية فسماها رومية يوليش؛ ويقال إن إشبانيا اسم خاص ببلد إشبيلية الذي كان يبزله إشبان بن طيطش وباسمه سميت الأندلس إشبانيا، ولم تزل معظمة عند العجم من ذلك الوقت، وقد كان منها رجال ولوا قيادة العجم العظمى والمملكة بمدينة رومية، وروى ابن وضاح أن المرأة التي قتلت يحيى بن زكرياء عليه السلام من إشبيلية من قرية طالقة.
وهي كبيرة عامرة لها أسوار حصينة، وأسواقها عامرة، وخلقها كثير، وأهلها مياسير، وجل تجارتهم الزيت يتجهزون به إلى المشرق والمغرب برا وبحراً فيجتمع هذا الزيت من الشرف، وهو مسافة أربعين ميلاً كلها في ظل شجر الزيتون والتين، أوله مدينة إشبيلية، وآخره مدينة لبلة، وسعته اثنا عشر ميلاً، وفيه ثمانية آلاف قريةٍ عامرةٍ بالحمامات والديار الحسنة، وبين الشرف وإشبيلية ثلاثة أميال.
ومدينة إشبيلية موفية على النهر الكبير، وهو في غربيها؛ ويذكر في بعض الأخبار أن إشبان بن طيطش من ذرية طوبيل بن يافت بن نوح كان أحد أملاك الإشبانين، وخص بملك أكثر الدنيا، وأن بدء ظهوره كان من إشبيلية فغلظ أمره، وبعد صيته، وتمكن في كل ناحية سلطانه: فلما ملك نواحى الأندلس، وطاعت له أقاصى البلاد خرج في السفن من إشبيلية إلى إيلياء؛ فغنمها وهدمها وقتل بها من اليهود
مائة ألف، وسبى مائة ألف، وفرق في الأرض مائة ألف، وانتقل رخامها إلى إشبيلية وماردة وباجة؛ وإنه صاحب المائدة التي ألفيت بطليطلة، وصاحب الحجر الذي وجد بماردة، وصاحب قليلة الجوهر التي كانت بماردة أيضاً على حسب ما ذكر في فتح الأندلس، فإنه حضر خراب بيت المقدس الأول مع بخت نصر، وحضر الخراب الذي كان مع قيصر بشيشيان؛ وأذريان قيصر يذكر أنه من طالقة إشبيلية، وفي سنة عشرين من دولته أنفق ببنيان إيلياء، وكان من مضى من ملوك الأعاجم يتداولون بمسكنهم أربعة من المدن الأندلسية: إشبيلية، وماردة، وقرطبة، وطليطلة، ويقسمون أزمانهم على الكينونة.
وكان سور إشبيلية من بناء الإمام عبد الرحمن بن الحكم، بناه بعد غلبة المجوس عليها بالحجر وأحكم بناءها، وكذلك جامعها من بنائه، وهو من عجيب البنيان وجليله، وصومعته بديعة الصناعة، غريبة العمل، وأركانها الأربعة عمود فوق عمودٍ إلى أعلاها، في كل ركنٍ ثلاثة أعمدة؛ فلما مات عبد الرحمن بن إبراهيم بن حجاج في محرم سنة 301 قدم أهلها أحمد بن مسلمة، وكان من أهل البأس والنجدة فأظهر العناد، وجاهر بالخلاف، فأخرج إليه عبد الرحمن بن محمد قائداً من قواده بعد قائدٍ، حتى افتتحها على يدي الحاجب يوم الاثنين لخمس خلون من جمادى الأولى سنة301.
واستعمل عليها سيعد بن المنذر المعروف بابن السليم، فهدم سورها، وألحق أعاليه بأسافله، وبنى القصر القديم المعروف بدار الإمارة، وحصنه بسور صخرٍ
رفيع، أبراج منيعةٍ وبنى سور المدينة في الفتنة بالتراب.
وبإشبيلية آثار للأول كثيرة، وبها أساطين عظام تدل على هياكل كانت بها؛ وإشبيلية من الكور المجندة نزلها جند حمص، ولواؤهم في الميمنة بعد لواء جند دمشق، وهي من أمصار الأندلس الجليلة الكثيرة المنافع، والعظيمة الفوائد، ويظل على إشبيلية جبل الشرف، وهو شريف البقعة، كريم التربة، دائم الخضرة، فراسخ في فراسخ طولاً وعرضاً، لا تكاد تشمس منه بقعة لا لتفاف زيتونه واشتباك غصونه، وزيته من أطيب الزيوت كثيرة الرفع عند العصر، لا يتغير على طول الدهر، ومن هناك يتجهز به إلى الآفاق براً وبحراً، وكل ما استودع أرض إشبيلية نمى وزكى وجل؛ والقطن يجود بأرضها فيعم بلاد الأندلس ويتجهز به التجار إلى إفريقية وسجلماسة وما والاها، وكذلك العصفر بها يفضل عصفر الآفاق؛ وبقبلى مدينة إشبيلية بساتين تعرف بجنات المصلى وبها قصب السكر، وفي آخر نهر إشبيلية من كلتى جانبيه جزائر كثيرة يحيط بها الماء، كلأها قائم لا يصوح لدولم ندوتها، ورطوبة أرضها، ويصلح نتاجها وتدوم ألبانها ويمتنع ما فيها من الحوافر والظلف على العدو فلا يصل إليه أحد، وهذه الجزائر تعرف بالمدائن وبعضها بقرب من البحر.
وفي سنة 597، في جماداها الأخير، كان السيل العظيم الجارف على إشبيلية المربى على كل سيلٍ، وهو مذكور في الثاني من جالى الفكر في أول ورقة منه سنة597 فانقله من هناك.