الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قرطبة
قاعدة الأندلس، أم مدائنها ومستقر خلافة الأمويين بها، وآثارهم بها ظاهرة، وفضائل قرطبة ومناقب خلفائها أشهر من أن تذكر؛ وهم أعلام البلاد، وأعيان الناس؛ اشتهروا بصحة المذهب، وطيب المكسب، وحسن الزى، وعلو الهمة، وجميل الأخلاق؛ وكان فيها أعلام العلماء، وسادة الفضلاء؛ وتجارها مياسير، وأحوالهم واسعة؛ وهي في ذاتها مدن خمس يتلو بعضها بعضاً، وبين المدينة والمدينة سور حاجز؛ وفي كل مدينة ما يكفيها من الأسواق والفنادق والحمامات وسائر الصناعات؛ وطولها من غربيها إلى شرقيها ثلاثة أميال، وعرضها من باب القنطرة إلى باب اليهود ميل واحد. وهي في سفح جبل مطلٍ عليها، يسمى جبل العروس، ومدينتها الوسطى هي التي فيها باب القنطرة.
وفيها المسجد الجامع المشهور أمره، الشائع ذكره؛ من أجل مصانع الدنيا كبر مساحةٍ، وأحكام صنعةٍ، وجمال هيئةٍ، وإتقان بنيةٍ؛ تهمم به الخلفاء المروانيون، فزادوا فيه زيادةً بعد زيادة، وتتميماً إثر تتميم، حتى بلغ الغاية في الإتقان، فصار يحار فيه الطرف، ويعجز عن حسنه الوصف؛ فليس في مساجد المسلمين مثله تنميقاً وطولاً وعرضاً؛ طوله مائة باع، وعرضه ثمانون باعاً، ونصفه مسقف، ونصفه صحن بلا سقف؛ وعدد قسى مسقفه تسع عشرة قوساً، وسوارى مسقفه بين أعمدته وسوارى قببه صغاراً وكباراً مع سوارى القبلة الكبرى وما يليها ألف ساريةٍ؛ وفيه مائة وثلاث
عشرة ثريا للوقيد، أكبرها واحدة منها تحمل ألف مصباح، وأقلها تحمل انثى عشر مصباحاً، وجميع خشبه من عيدان الصنوبر والطرطوشى، ارتفاع حد الجائزة منه شبر وافر، وفي عرض شبرٍ إلا ثلاثة أصابع، في طول كل جائزة منها سبع وثلاثون شبراً؛ وبين الجائزة والجائزة غلظ جائزة؛ وفي سقفه من ضروب الصنائع والنقوش مالا يشبه بعضها بعضاً، قد أحكم تزيينها، وأبدع تلوينها؛ بأنواع الحمرة والبياض والزرقة والخضرة والتكحيل، فهي تروق العين وتستميل النفوس، بإتقان ترسيمها ومختلفات ألوانها. وسعة كل بلاطٍ من بلاط سقفه ثلاثة وثلاثون شبراً؛ وبين العمود والعمود خمسة عشر شبراً؛ ولكل عمود منها رأس رخامٍ وقاعدة رخامٍ ولهذا الجامع قبلة يعجز الواصفون عن وصفها وفيها إتقان يبهر العقول تنميقها، وفيها من الفسفساء المذهب والملون ما بعث به صاحب القسطنطينة العظمى إلى عبد الرحمن الناصر لدين الله؛ وعلى وجه المحراب سبع قسىٍ قائمة على عمد، طول كل قوس أنيف من قامة، وكل هذه القصى موجهة صنعة القوط، قد أعجزت المسلمين والروم بغريب أعمالها، ودقيق صنعها؛ وعلى أعلى الكل كتابان منحوتان بين بحرين من الفسيفساء المذهب في أرض الزجاج اللازوردى، وعلى وجه المحراب أنواع كثيرة من التزيين والنقوش، وفي جهتي المحراب أربعة أعمدة: اثنان أخضران واثنان زرزوريان لا تقوم بمال، وعلى رأس المحراب خصة رخام قطعة واحدة مشبوكة منصعة بأبدع التنميق من الذهب واللازورد وسائر الألوان، واستدارت على المحراب حظيرة خشبٍ، بها من أنواع النقش كل
غريبة، ومع يمين المحراب المنبر الذي ليس بمعمور الأرض مثله صنعةً، خشبه آبنوس وبقس وعود المجمر، يقلل إنه صنع في سبع سنين، وكان صناعة ستة رجال غير من يخدمهم تصرفاً؛ وعن شمال المحراب بيت فيه عدد وطشوت ذهبٍ وفضةٍ وحسك، وكلها لو قيد الشمع في كل ليلة سبع وعشرين من رمضان؛ وفي هذا المخزن مصحف يرفعه رجلان لثقله، فيه أربع أوراق من مصحف عثمان بن عفان " رضه " الذي خطه بيمينه، وفيه نقطة من دمه؛ ويخرج هذا المصحف في صبيحة كل يومٍ، يتولى إخراجه قوم من قومه المسجد وللمصحف غشاء بديع الصنعة، منقوش بأعزب ما يكون من النقش، وله كرسي يوضع عليه، ويتولى الإمام قراءة نصف حزب فيه، ثم يرفع إلى موضعه. وعن يمين المحراب والمنبر باب يفضى إلى القصر بين حائطى الجامع في ساباط متصل، وفي هذا الساباط ثمانية أبواب: منها أربعة تنغلق من جهة القصر، وأربعة تنغلق من جهة الجامع؛ ولهذا الجامع عشرون باباً مصفحةً بصفائح النحاس وكواكب النحاس؛ وفي كل باب منها حلقتان في نهاية الإتقان، وعلى وجه كل باب منها في الحائط ضروب من الفص المتخذ من الآجر الأحمر المحكوك، أنواع شتى وأصناف مختلفة من الصناعات والتنميق:
وللجامع في الجهة الشمالية الصومعة الغريبة الصنعة، الجلية الأعمال، الرائقة الشكل والمثال؛ ارتفاعها في الهواء مائة ذراع بالذراع الرشاشى، منها ثمانون ذراعاً إلى الموضع الذي يقف فيه المؤذن، ومن هناك إلى أعلاها عشرون ذراعاً؛ ويصعد إلى أعلى هذا المنار بمدرجين، أحدهما من الجانب الغربي والثاني من الشرقي؛ إذا افترق الصاعدان أسفل الصومعة لم يجتمعا إلا إذا وصلا الأعلى. ووجه هذه الصومعة مبطن
بالكذان، منقوش من وجه الأرض إلى أعلى الصومعة بصنعةٍ تحتوي على أنواع من التزويق والكتابة. وبالأوجه الأربعة الدائرة من الصومعة صفان من قسىٍ دائرةٍ على عمد الرخام، وبيت له أربعة أبواب معلقة يبيت فيه كل ليلة مؤذنان. وعلى أعلى القبه التي على البيت ثلاث تفاحات ذهباً، واثنان من فضة، وأوراق سوسنية؛ تسع الكبيرة من هذه التفاحات ستين رطلاً من الزيت، ويخدم الجامع كله ستون رجلاً، وعليهم قائم ينظر في أمورهم. فهذا ما حكاه محمد بن محمد بن إدريس.
وقرطبة على نهرٍ عظيم، عليه قنطرة عظيمة من أجل البنيان قرارا، وأعظمه خطرا؛ وهي من الجامع في قبلته وبالقرب منه فانتظم به الشكل. قالوا: وبأمر عمر بن عبد العزيز قام على نهر قرطبة الجسر الأعظم الذي لا يعرف في الدنيا مثله، وحول الأندلس من عمل إفريقية، وجرد لها عاملاً من قبله، ووقعت المغانم فيها عن أمره.
وذكر أن تفسير قرطبة بلسان القوط قرظبة بالظاء المعجمة، ومعنى ذلك بلسانهم القلوب المختلفة وقيل إن معنى قرظبة آخر فاسكنها. ودور مدينة قرطبة في كمالها ثلاثون ألف ذراع؛ ولها من الأبواب باب القنطرة، وهو بقبليها، ومنه يعبر النهر على القنطرة، والباب الجديد وهو شرقيها، وباب عامر وهو بين الغرب والجوف منها وغيرها، وقصر مدينة قرطبة بغربيها متصل بسورها القبلي والغربي؛ وجامعها بإزاء القصر من جهة الشرق، وقد وصل بينهما بساباط يسلك الناس تحته من المحجة العظمى التي بين الجامع والقصر إلى باب القنطرة، وكان طول مسقف
البلاطات من المسجد الجامع، وذلك من القبلة إلى الجوف قبل الزيادة، مائتين وخمسا وعشرين ذرعاً، والعرض من الشرق إلى الغرب قبل الزيادة مائة ذراع وخمس أذرع، ثم مازاد الحكم في طوله في القبلة مائة ذراع وخمس أذرع، فكمل الطول ثلاثمائة ذراع وثلاثين ذراعاً؛ وزاد محمد بن أبي عامر بأمر هشام بن الحكم في عرضه من جهة المشرق ثمانين ذراعاً، فتم العرض بمائتين وثلاثين ذراعاً. وكان عدد بلاطاته أحد عشر بلاطاً، عرض أوسطها ستة عشر ذراعاً، وعرض كل واحدٍ من اللذين يليانه شرقاً واللذين يليانه غرباً أربعة عشر ذراعاً؛ وعرض كل واحدٍ من الستة الباقية إحدى عشر ذراعاً؛ وزاد محمد بن أبي عامر فيه ثماني بلاطات، عرض كل واحدٍ عشر أذرع. وطول الصحن من المشرق إلى المغرب مائة وثمانٍ وعشرون ذراعاً، وعرضه من القبلة إلى الجوف مائة واحدة وخمس أذرع؛ وعرض السقائف المستديرة بصحنه عشرة أذرع؛ فتكسيره ثلاثة وثلاثون ألف ذراع ومائة وخمسون ذراعاً. وعدد أبوابه تسعة: ثلاثة في صحنه غرباً وشرقاً وجوفاً، وأربعة في بلاطات: اثنان غربيان واثنان شرقيان، وفي مقاصير النساء من السقائف بابان. وجميع ما فيه من الأعمدة ألف عمود ومائتا عمود وثلاثة وتسعون عموداً، رخام كلها. وقباب مقصورة الجامع مذهبة، وكذلك جدار المحراب وما يليه قد أجرى فيه الذهب على الفسيفساء، وثريات المقصورة فضة محضة؛ وارتفاع الصومعة اليوم وهي من بناء عبد الرحمن بن محمد، ثلاث وسبعون ذراعاً إلى أعلى القبة المفتتحة التي يستدير بها المؤذنون، وفي رأس هذه القبة تفاح ذهبٍ وفضةٍ، وارتفاعها إلى مكان الأذان أربع وخمسون ذراعاً، وطول كل حائطٍ من حياطانها على الأرض ثماني عشرة أذرع، وعدد المساجد بقرطبة على ما أحصى وضبط أربعمائة وإحدى وتسعون مسجداً.