الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حرف الكاف
حصن الكرس
بالأندلس من عمل جيان، كان الفنش نزل عليه مدة، وفيه القائد أبو جعفر بن فرج، فارس مشهور بالشجاعة، فرأى منه ضبطاً وصبراً وحسن دفاع؛ وكان عند الفنش مهندس من المسلمين المعاهدين بطليطلة، فصنع له برجاً عظيماً من خشب ارتفع به على سور الحصن، فلما أكمل المهندس عمله، بعث إلى ابن فرج في الباطن: إني صنعت هذا البرج اضطراراً لحفظ دمي، وصون من ورائي من الأهل، فاحتل في إحراقه، لئلا تكون ذنوب المسلمين في عنقي وعنقك، إن تركته وأنت قادر عليه بأنواع الحيل؛ وقد طليته بدهانٍ خفيٍ يقبل النار بسرعةٍ، فاعرف كيف تكون في الكتم والإبقاء على! فاختار ابن فرج من أنجاد الرجال جماعةً، ونهض بهم، وبأيديهم القطران والكتان والينران، ودفع تحت الظلام بهم نحو البرج، فأحرقه حتى صار رماداً، ومات من كان فيه ومن حامى عنه، ورجع سالماً. فاغتم الفنش وقال: هذا كان رجاؤنا في فتح الحصن، وقد طالت عليه إقامتنا، ولم يبق إلا أن نعلم قدر ما بقي فيه من الطعام والماء لنبنى أمرنا على حقيقةٍ في ذلك؛ فانتدب لهذا الشأن نصرانى ماكر أشقر أزرق أنحس، تقضى الفراسة بأنه جامع للشر، فأظهر أنه أسلم وأنه هرب من الوباء والغلاء
الواقعين في معسكرهم، فقبله المسلمون وخالطهم حتى اطلع على أنه لم يبق عندهم غير زبيب يقتسمونه بالعدد، وماء يتوزعونه بالقسط؛ فسار ونزل من السور ليلاً إلى أهل ملته، فأعلمهم بحقيقة الأمر؛ فوجه الفنش إلى ابن فرج: إنا قد اطلعنا على خبيئاتكم، ولم يبق إلا أن تسلموا الحصن، وتستريحوا من التعب، المفضى إلى الطب، أو تصبروا قليلاً حتى نظفر بكم رغماً، فنقتل جميعكم! فاشترط عليه ابن فرج أن يقيم لأهل الحصن سوقاً حتى يبيعوا مالا يقدر على حمله، وأن يدفع لهم دواب يحملون عليها أشياءهم إلى جيان فأوفى لهم بذلك. ولما خرج ابن فرج تعجب الفنش من طوله وعظم خلقته، وأنكر عليه كونه سلم عليه بالإشارة ولم يقبل يده، وتكلم معه الترجمان في ذلك فقال: لو كنت أخدمه أكان يجوز أن أقبل يد خصمه؟ فذكر ذلك للفنش فقال: لا يجوز! وضحك الفنش وقال: مثل هذا ينبغي أن تكون الرجال! وأحسن إليه وأعطاه فرسه وسلاحه وقال له: يعجبني أن يكون مثلك عند مثلي.
قال: وشغل الله تعالى الفنش مدةً طويلةً بهذا الحصن عن بلاد الإسلام، وكان الناس يرون ذلك في صفيحة ابن فرج، وكان ذلك في سنة620.