المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌أعرابي في حمام

‌أعرابيٌّ في حَمّام

نشرت سنة 1936

صحبنا في رحلتنا إلى الحجاز (1)، دليلٌ شيخٌ من أعراب نجد يقال له صْلَبي (2)، ما رأيت أعرابياً مثله قوّةَ جَنان وفصاحة

(1) أخبار الرحلة مفصَّلة في كتاب «من نفحات الحرم» وفي الجزء الثالث من «الذكريات» ، وكانت سنة 1935، قبل سنة من نشر هذه المقالة (مجاهد).

(2)

استوحى جدي رحمه الله شخصية هذا الأعرابي من دليل صحبهم في تلك الرحلة، ونسج حوله قصصاً متخيَّلة: الثلاث التي تأتي في هذا الكتاب، و «أعرابي في بلودان» المنشورة في كتاب «نور وهداية». قال في كتاب «من نفحات الحرم»:"كنا قد سألنا أمير القريات دليلاً وأقمنا ننتظره حتى جاء، وإذا هو سيد من سادات الشرارات اسمه صْلَبي، ولي في صفته كلام في أول قصة «أعرابي في حمام»، ما زدت فيه على الحقيقة، وإن كنت قد أقمت القصة على الخيال". وانظر أيضاً الحلقة الثالثة والسبعين من الذكريات (3/ 65)، وصف فيها ذلك الدليل ثم قال:"وقد أثمرَت لي صحبته أدباً جديداً حين كتبت قصته «أعرابي في حَمّام» وأختيها، وما جاء في هذه القصص من وصف الأعرابي هو وصف هذا الدليل، وإن قامت هذه القصص على أعمدة من الخيال"(مجاهد).

ص: 93

لسان وشدة بيان، ولولا مكان النبرة البدوية من لسانه لحسبته قد انصرف الساعة من سوق عُكاظ، لبيان لهجته وقوة عارضته وكثرة ما يدور على لسانه من فصيح الكلام. وكان أبِيَّ النفس أشمَّ المعطس كريم الطباع، لكن فيه لوثة وجفاء من جفاء الأعراب. رافقَنا أياماً طويلة، فما شئنا خلة من خلال الخير إلا وجدناها فيه، فكان يواسينا إذا أُصبنا، ويؤثرنا إذا أضقْنا، ويدفع عنا إذا هوجمنا، ويفدينا إذا تألمنا، على شجاعة نادرة ونكتة حاضرة، وخفة روح وسرعة جواب؛ قلنا له مرة: إن «صْلَبَة» في عرب اليوم كباهلة في عرب الأمس، قبيلة لئيمة يأنف الكرام من الانتساب إليها، وأنت -فيما علمنا- سيّد كريم من سادة كرام وليس لك في هذه القبيلة نسب، فما لك تُدعى صْلَبي؟

فضحك وقال: صدقتم والله، ما أنا من صلبة ولا صلبة مني، وإني لكريم العم والخال، ولكن لهذا الاسم نكتة أنا مخبركم بها.

قلنا: هات.

قال: كان أبواي لا يعيش لهما ولد، فلما وُلدت خَشِيا عليّ الموت فسمّياني صلبي.

قلنا: أئن سمّياك «صلبي» عشت؟

قال: إن عزرائيل أكرم من أن يقبض روح صْلبي!

وسألناه مرة: هل أنت متزوج يا صْلَبي؟

قال: لقد كنت متزوجاً بِشَرّ امرأة تزوجها رجل، فما زلت

ص: 94

أحسن إليها وتسيء إليّ، حتى ضقت باحتمالها ذرعاً فطلقتها ثلاثاً وثلاثين.

قلنا: إنها تَبين منك بثلاث، فعلامَ الثلاثون؟

فقال على الفور: صدقةً مني على الأزواج المساكين!

وطال بنا الطريق إلى تبوك وملّ القوم، فجعلوا يسألونه عن تبوك ويكثرون عليه، يتذمرون من بُعدها، حتى إذا أكثروا قال لهم: ما لكم تلومونني على بعدها؟ والله لم أكن أنا الذي وضعها هناك.

ولم يكن صْلَبي يعرف المدن ولم يفارق الصحراء قطّ إلا إلى حاضرته تبوك (وتبوك لا تزيد عن خمسين بيتاً) فلما بلغنا مشارف الشام أغريناه بالإبلاد (1) ودخول المدينة، وجعلنا نصف له الشام ونشوّقه فيتأبى، وكنت صفيَّه من القوم وخليله ونَجِيَّه، فجعلت أحاوله وأداوره وبذلت في ذلك الجهد، فلم أصنع معه شيئاً لِمَا استقرّ في نفسه من كراهية المدن وإساءة الظن بأهلها، وكان عربياً حراً ومسلماً موحداً، لا يطيق أن يعيش يوماً تحت حكم «الروم» (2) أو يرى مرة مظاهر الشرك.

فودّعناه وتركناه.

* * *

(1) أبلد: دخل البلد، كأنجد وأبحر وأصحر، ومثلها أصبح وأمسى وأظهر.

(2)

كانت الشام يومئذ في أيدي الفرنسيين (مجاهد).

ص: 95

وعدت إلى دمشق، فانغمست في الحياة وغصت في حمأتها، أكدّ للعيش وأسعى للكسب، فنسيت صلبي وصُحبته وكدت أنسى الصحراء وأيامها، ومرّت على ذلك الشهور. وكان أمس، فإذا بي ألمح في «باب الجابية» وسط الزحمة الهائلة وجهاً أعرفه، فلحقت به أتبيّنه، فإذا هو وجه صلبي، فصحت به: صلبي!

قال: لا صْلَبي ولا مْلَبي!

قلت: ولِمَ ويحك؟

قال: أنا في طلبك منذ ثلاث ثم لا تأتي إليّ ولا تلقاني؟

فقلت له ضاحكاً: وأي ثلاث وأي أربع؟ أتحسبها تبوك فيها أربعمئة نسمة؟ إنها دمشق يا صلبي، فيها أربعمئة ألف إنسان، فأين تلقاني بين أربعمئة ألف؟

قال: صدقت والله.

قلت: هَلُمَّ معي.

فاستخرجته من هذه الزحمة الهائلة وملت به إلى قهوة خالية، فجلسنا فيها ودعوت له بالقهوة المرة والشاي، فسُرَّ وانطلق يحدثني. قال: لمّا فارقتكم ورجعت وحيداً أسير بجملي في هذه البادية الواسعة، جعلَتْ نفسي تحدثني أنْ لو أجبتَ القوم ورأيت المدينة. فلما كان رمضان مرّ بنا بعض الحضريين فدعوني إلى صحبتهم لأرشدهم الطريق، ثم أغروني كما أغريتموني وحاوروني كما حاورتموني، حتى غلبوني على أمري ودخلوا بي دمشق، فما راعني والله يا ابن أخي إلا سيارة كبيرة كسيارتكم

ص: 96

هذه، لكنها أهول وأضخم، لها نوافذ وفيها غرف، وقد خطوا لها خطين من حديد فهي تمشي عليهما، فأدخلوني إليها، فخشيت والله وأَبَيت، فأقسموا لي وطمأنوني، فدخلت ويدي على خنجري إن رأيت من أحد ما أكره وجأته به، وعيني على النافذة إن رابني من السيارة أمر قفزت إلى الطريق. وجلست، فما راعنا إلاّ رجل بثياب عجيبة قد انشق إزاره شقاً منكراً ثم التف على فخذيه فبدا كأنما هو بسراويل من غير إزار، وعمد إلى ردائه فصف في صدره مرايا صغيرة من النحاس ما رأيت أعجب منها، فعلمت أنه مجنون، وخفت أن يؤذينا فوضعت كفي على قبضة الخنجر، فابتسم صاحبي، وقال: هو الجابي.

قلت: جابي ماذا، جَبَّ الله (

)!

قال: اسكت، إنه جابي الترام، أعني هذه السيارة.

ثم مدّ يده إليه بقرشين اثنين، أعطاه بهما فُتاتة ورق، فما رأيت والله صفقة أخسر منها، وعجبت من بلاهة هذا الرجل إذ يشتري بقرشين ورقتين لا تنفعان! وجلست لا أنبس، فلم تكن إلاّ هُنَيّة حتى جاء رجل كالأول له هيئة قردية، إلا أنه أجمل ثياباً وأحسن بزّة، فأخذ هذه الأوراق فمزقها! فثارت ثائرتي وقلت: هذا والله الذل، فقبَّحَ الله مَن يقيم على الذل والخَسيفة. وقمت إليه فلببّته وقلت له: يا ابن الصانعة، أتعمد إلى شيء اشتريناه بأموالنا ودفعنا فيه قروشنا فتمزّقه، لأمزّقنّ عمرك.

وحسبت صاحبي سيدركه من الغضب لكرامته والدفاع عن حقه مثل ما أدركني، فإذا هو يضحك، ويضحك الناس ويعجبون

ص: 97

من فعلي، لأن عمل هذا الرجل -فيما زعموا- تمزيق أوراق الناس التي اشتروها بأموالهم!

ولما نزلنا من هذه الآفة قال لي صاحبي: هلمّ إلى الحمّام.

قلت: وما الحمام يا ابن أخي؟

قال: تغتسل وتلقي عنك وعثاء السفر.

قلت: إن كان هذا هو الحمام فما لي فيه من مأرب، حسبي هذا النهر أغطس فيه فأغتسل وأتنظف.

قال: هيهات! إن الحمام لا يعدله شيء، أوَما سمعت أن الحمام نعيم الدنيا؟

قلت: لا والله ما سمعت.

قال: إذن فاسمع ورَهْ (1).

وأخذني فأدخلي داراً قَوْراء (2) في وسطها بركة عليها نوافير يتدفق منها الماء، فيذهب صُعُداً كأنه عمود من البلَّور ثم يتثنى ويتكسر ويهبط كأنه الألماس، له بريق يخطف الأبصار، صنعة ما حسبت أن يكون مثلها إلا في الجنان، وعلى أطراف الدار دكك

(1)«رَ» فعل الأمر من رأى، والهاء للسَّكْت، يُؤتَى بها في الوقف على الفعل المعتلّ بحذف آخره، وهي عند النحاة جائزة إذا كان الفعل على أكثر من حرف، كما في قوله تعالى:{فبُهُداهُمُ اقْتَدِهْ} ، وواجبة إذا كان على حرف واحد كما هو هنا (مجاهد).

(2)

الدار القوراء هي الواسعة، ومثلها البيت الاقَور (مجاهد).

ص: 98

كثيرة مفروشة بالأسرّة والمُتَّكآت والزرابيّ كأنها خباء الأمير، فلم نكد نتوسطها حتى وثب إلينا أهلوها وثبة رجل واحد يصيحون علينا صياحاً غريباً، فأدركت أنها مَكيدة مدبَّرة وأنهم يريدون اغتيالي، فانتضيت خنجري وقلت: والله لا يدنو مني أحد إلا قطعت رقبته، فأحجموا وعجبوا ورَعَبوا، وغضب صاحبي وظنني أمزح ومال عليّ يعاتبني عتاباً شديداً.

فقلت له: ويحك! أوَما تراهم قد أحاطوا بنا؟

قال: إنهم يرحبون بنا ويسلمون علينا.

فسكتُّ ودخلت. وعادوا إلى حركتهم يضحكون من هذا المزاح ويدورون حولنا بقباقيبهم العالية، ويجيئون ويذهبون وأنا لا أدري ما هم صانعون، حتى قادونا إلى دكّة من هذه الدِّكَك وجاؤوا ينزعون ثيابنا، فتحققت أنها المكيدة وأنهم سيسلبونني خنجري حتى يهون عليهم قتلي، فقد عجزوا أن يقاتلوني وبيدي الخنجر، فأبيت وهممت بالخروج، ولكن صاحبي ألحَّ عليّ وأقسم لي، فأجبت واستسلمت، وإنّ روحي لتزهق حزناً على أني ذللت هذا الذل حتى أسلمتهم سَلَبي يسلبونني وأنا حيّ، ولو كنت في البادية لأريتهم كيف يكون القتال.

حتى إذا تمّ أمر الله ولم يبقَ عليّ شيء قلت: أما من مسلم؟ أما من عربي؟ أتكشف العورات في هذا البلد فلا يغار أحد ولا يغضب إنسان؟

فهدّأ صاحبي من ثورتي وقال: أفتغتسل وأنت متّزر؟

قلت: فكيف أتكشف بعد هذه الشيبة، وتذهب عني في

ص: 99

العرب فتكون فضيحتي إلى الأبد؟

قال: من أنبأك أنك ستتكشف؟ هلاّ انتظرت؟

فانتظرت وسكت، فإذا غلام من أغلمة الحمام يأخذ بيده إزاراً فيحجبني به حتى أنزع عني إزاري وأتّزر به، فحمدت الله على النجاة. وكان صاحبي قد تعرّى، فأخذ بيدي وأدخلني إلى باطن الحمام، فإذا غرف وسطها غرف، وساحات تفضي إلى ساحات، ومداخل ومخارج ملتفّة ملتوية يضلّ فيها الخرّيت، وهي مظلمة كأنها قبر، قد انعقدت فوقها قباب وعقود، فيها قوارير من زجاج تضيء كأنها النجوم اللوامع في السماء الداجية، وفي باطن الحمام أناس عري جالسون إلى قدور من الصخور فيها ماء، فتعوذت بالله من الشيطان الرجيم وقلت: هذه والله دار الشياطين! وجعلت ألتمس آية الكرسي فلا أذكر منها شيئاً، فأيقنت أنها ستركبني الشياطين لِمَا نسيت من آية الكرسي. وجعلت أبكي على شيبتي أن يُختم لها هذه الخاتمة السيئة! وإني لكذلك، وإذا بالخبيث يعود إليّ يريد أن ينزع هذا الإزار الذي كسانيه، فصحت به: يا رجل، اتّقِ الله، سلبتني ثيابي وسلاحي وعدت تجرّدني وتعريني؟ الرحمة يا مسلمون! الشفقة أيها الناس! فوثب إليّ الناس وأحدقوا بي وجعلوا يضحكون، فقال صاحبي: ما هذا يا صْلَبي؟ لا تُضحك الناس علينا، أعطه الإزار.

قلت: وأبقى عرياناً؟

قال: لا، ستأخذ غيره، هذا كساء يفسد إذا مسّه الماء، وإن للماء كساء آخر.

ص: 100

ونظرت فإذا عليه هيئة الناصح، وإذا هو يدفع إليّ إزاراً آخر، فاستبدلته به مكرهاً. وتبعت صاحبي إلى مقصورة من هذه المقاصير، فجلسنا إلى قدر من هذه القدور وأنا أستجير بالله لا أدري ماذا يجري عليّ، فبينما أنا كذلك وإذا برجل عارٍ كأنه قفص عظام، له لحية كثة وشكل مخيف، وقد تأبط ليفاً غليظاً، يا شرَّ ما تأبط! وحمل ماعوناً كبيراً يفور فَوَراناً، فاسترجعت وعلمت أنه السمّ وأنه سيتناثر منه لحمي، فقصد إليّ، فجعلت أفرّ منه وأتوثب من جانب إلى جانب، وهو يلحقني ويعجب من فعلي ويظن أني أداعبه، وصاحبي يضحك ويقسم لي إنه الصابون وإنه لا ينظف شيء مثله.

قلت: ألا شيء من سدر؟ ألا قليل من أُشنان؟

قال: والله ما أغشك، فجرب هذا، إنه خير منه.

فاستجبت واستكنت. وأقبل الرجل يدلكني دلكاً شديداً وأنا أنظر: هل تساقط لحمي؟ هل تناثر جلدي؟ فلا أجد إلا خيراً، فأزمعت شكره لولا أني وجدته يتغفّلني فيمد يده من تحت الإزار إلى فخذي فيدلكه ويقرصه، فقلت: هذا ماجن خبيث، ولو ترك من شرّه أحداً لتركني ولصرَفَته عني شيبتي. وهممت بهشم أنفه وهتم أسنانه، ولحظ ذلك صاحبي فهمس في أُذني: إنه ينظفك، وكذلك يصنع مع الناس كلهم.

فلما انتهى وصب عليّ الماء شعرت والله كأنما نشطت من عقال، وأحسست الزهو والخفة، فصحت فأنكرت صوتي وقلت: ما هذا؟ أينطق على لساني مُغَنٍّ من الجنّ؟ وأعدت

ص: 101

الصيحة فازددت لصوتي إنكاراً، واستخفّني الطرب، فجعلت أغني وأحدو، فقال صاحبي: لعلك استطبت صوتك؟

قلت: إي والله.

قال: أفأدلّك على باب القاضي؟

قلت: وما أصنع في باب القاضي؟

قال: ألا تعرف قصة جحا؟

قلت: لا والله، ما أعرف جحا ولا قصته.

قال: كان جحا عالماً نحريراً وأستاذاً كبيراً، لكن كان فيه فَضْلُ نادرة وكان خفيف الروح، فدخل الحمام مرة فغنى فأعجبه صوته (وكان أقبحَ رجلٍ صوتاً) وراقه حُسْنُه، فخرج من فوره إلى القاضي فسأله أن ينصبه مؤذناً، وزعم أن له صوتاً لا يدخل أُذناً إلا حمل صاحبها حملاً فوضعه في المسجد. فقال القاضي: اصعد المنارة فأذِّن نسمعْ. فلما صعد فأذَّن لم يبقَ في المسجد رجل إلا فرَّ هارباً. فقال له القاضي: أي صوت هذا؟ هذا هو الصوت الذي ذكره ربنا في الكتاب! (1) قال: أصلح الله القاضي، ما يمنعك أن تبني لي فوق المئذنة حمّاماً؟!

ولمح الأعرابي صديقاً له من أعراب نجد قد مرّ من أمام القهوة، فقطع عليّ الحديث وخرج مهرولاً يلحق به.

* * *

(1) في قوله تبارك وتعالى: {إنّ أنكَرَ الأصْوَات

} (مجاهد).

ص: 102