الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
للتسلية والإحماض (1)
ديوان الأصمعي
نشرت سنة 1955
[كان ديوان الأصمعي مفقوداً حتى وجد صديقنا الأستاذ سعيد رمضان هذه النسخة المفرَدة منه في مكتبة جامعة برنستون فأهداها إليّ، وأنا أنقل عنها اليوم هذه الصفحة من باب «الكُنى والألقاب». (2)]
قال الأصمعي: سألت أبا عمرو بن العلاء: لِمَ سُمِّي أحمد بالشوقي؟
قال: لقد سألت عن هذا جدّي أبا العلاء (يعني المعرّي. قلت: وهو غير أبي على المصري) فقال: سُمّي بذلك لأنه أكثَرَ
(1) روى ابن اسحاق أن ابن عباس كان إذا جلس مع أصحابه حدّثَهم ساعة في القرآن والتفسير والحديث، ثم يقول: حَمِّضونا. فيأخذ في حديث العرب، ثم يعود. ورُوي عن أبي الدرداء قوله: إني لأستجم ببعض اللهو ليكون لي عوناً على الحق.
(2)
لم يكن ذلك قط، فلا يَهِمْ قارئٌ فيحسبه حقيقة ويحمله على محمل الجِدّ ثم يحدّث به في الناس. وهذا الفصل لا تظهر طرافته ولا =
في شعره من ذكر الشوق. قلت: فلِمَ لُقِّبَ إبراهيم بالحافظ؟ قال: لكثرة حفظه الحديث.
قال الجاحظ: وأبو عمر هو زوج أم عمرو التي قال فيها الشاعر:
إذا ذهب الحمارُ بأمّ عَمْروٍ
…
فلا رجَعَتْ ولا رجعَ الحمارُ
وسبب هجائه إياها أنها منعت عنه الكأس، حيث يقول:
صَبَنْتِ (1) الكأسَ عنّا أمَّ عَمروٍ
…
وكان الكأسُ مجراها اليمينا
= تكتمل المتعة بقراءته إلا لذي علم بالأدب واللغة والتاريخ والأعلام، وقد افترض جدي أول الأمر -لمّا نشره في عدد مجلة «المسلمون» الصادر في نيسان 1955 (رمضان 1374) - أن كل قارئ له سيدرك كل إشارة فيه، فلم يعلق عليه بشيء من الحواشي غير اثنتين، ثم أضاف إليه خمسَ حواش أُخَر لما نشر المقالة في الكتاب في طبعته الأولى، وما زال يزيد فيها -طبعةً بعد طبعة- حتى صارت أربعين. ذلك أن الزمان تبدل، وذهب ناس وجاء ناس، وكثير ممّا كان يُعرف بَداهةً صار غامضاً يحتاج إلى بيان؛ فتابعته رحمه الله على خطّته وأضفت بعض الحواشي التي رأيت لها ضرورة، فما وجدته معروفاً (أو ينبغي أنه كذلك) تركته إذ لم أجد بي حاجة إلى تعريف المعرَّف، وما غلب على ظني الجهل به عرّفت به على قَدْر الحاجة وعلى الغاية من الاختصار (مجاهد).
(1)
رُوي البيت في «الأغاني» بلفظ صددت، وكذلك هو في «خزانة الأدب» ، وفي «الجمهرة» بلفظ صرفت، والصَّبْن والصرف واحد، والبيتان لعمرو بن كلثوم من معلقته (مجاهد).
وما شَرُّ الثلاثة -أمَّ عمرو-
…
بصاحِبِكِ الذي لا تَصْبَحينا (1)
والثلاثة هم شوقي وحافظ والمطران، والمطران هو الذي ذهب بأم عمرو، وسبب تلقيبه بالحمار أنه كان مع صاحبيه كالحمار مع الجوادين، يحاول أن يجري معهما وما هو من جنسهما.
قال الأصمعي: وحدثنا ابن قُتَيبة وطه بن الحصيني (2)، عن أحمد الإسكندري (3) أنه إنما لُقِّبَ أحمد بالشوقي لأنه سمّى ديوانه «الشوقيات» .
قال: وحدثني إبراهيم المازني، عن جده أبي عثمان المازني (4)، أنه قال: لقيت من الحفّاظ مَن لا أحصي، فما وجدت مثل الحافظ إبراهيم. قلت: فما بلغ من حفظه؟ قال: أنه كان يحفظ أسماء أيام الأسبوع وشهور السنة، ويعدّ الخلفاء الراشدين لا يغيب عن ذهنه أحدٌ منهم.
قال إبراهيم بن عبد القادر المازني: فعجبت من ذلك،
(1) أي الذي لا تسقينه الصَّبوح. والصَّبوح اللبنُ الذي يُحلَب صباحاً، أو هو كل شراب يُشرَب في الصباح (مجاهد).
(2)
الحصيني في لغة أهل الشام الثعلب.
(3)
أحمد عمر الإسكندري: أديب أزهري من علماء مصر، اشتغل بالتعليم وألف كتباً مدرسية كثيرة، وكان من أعضاء مجمع اللغة بالقاهرة، وتوفي سنة 1937 (مجاهد).
(4)
أبو عثمان المازني من أئمة اللغة الكبار، من أعلام القرن الثالث (مجاهد).
ورويته في كتابي «قبض الريح (1) في أخبار رواة الصحيح» .
قال: والمازني لم يكن من بني مازن، ولكنهم ادّعَوه، وسبب ذلك أنهم سمعوا قصيدته المشهورة:
لو كنتُ من مازنٍ لم تَستَبِحْ إبلي
…
بنو اللقيطة من ذُهْل بن شَيْبانا
فأعجبتهم، فردّوا عليه إبله، وأكرهوا بني اللقيطة على تقبيل يده وسؤاله الدعاء.
قلت: وزعم أبو عبيدة أن اللقيطة أمهم، والصحيح أن «اللقيطة» قصة مطبوعة في مصر (2).
قال الأصمعي: ووقفت في الموصل على حلقة محمد بن الصواف (3)، وهو يُملي «باب الكُنى والألقاب» من كتابه، وكان ممّا أملاه:"وبنو الأصفر الروم، والمصفِّرة طائفة من الخوارج، والحمراء مُضَر"
…
فسأله رجل من عرض الحلقة: وبنو الأسود في حلب (4)، لِمَن يُنسَبون؟ قال الشيخ: للأسود بن أبي الأسود الدُّؤَلي الذي وضع النحو. قال: فالأزرق؟ قال: لعُلاثَة بن الأحوط، وهو أبو الأزارقة.
(1)«قبض الريح» كتاب للمازني.
(2)
«لقيطة» رواية للقاصّ المصري محمد عبد الحليم عبد الله (مجاهد).
(3)
الشيخ محمد محمود الصواف (الذي كان من جدّي بمنزلة الأخ الشقيق وكان له الرفيق الصديق) كان من الموصل، رحمهما الله (مجاهد).
(4)
منهم عبد القادر الأسود، كان رئيس محكمة النقض.
قال الأصمعي: وحدثنا السّمعاني (وكان عالماً بالأنساب) أنه لما أوقع الحَجّاج بالأزارقة ذهب أَخَوان منهم، الأزرق والزرقاء، فسكنا حلب، وأبوهما علاثة من بني فارع، بطن من تميم.
وحدثني ابن هشام (وكان أنحى أهل زمانه) قال: أخبرني ابن جنّي أن «الزرقاء» من أسماء الرجال، وعلامة التأنيث فيه للاكتفاء. قلت: وما الاكتفاء؟ قال: كانت امرأة علاثة تشتهي أن تلد بنتاً، فلما ولدت فحلاً سمته الزرقاء، اكتفاءً بعلامة التأنيث عن الأنثى. قال ابن هشام: وهذه فائدة جليلة تكتب بماء الذهب.
وحدثني عبد القادر المَغْربي (وهو رجل عالم من أهل أطْرابلس الشام (1)، وإنما سُمّي «المُغرَبي» لكثرة غرائبه وفوائده، ثم قيل «المَغربي» بفتح الميم تخفيفاً، فظن من لا علم له أنه من المغرب، وليس كذلك)، قال: وللزرقاء عَقِب في حلب، منهم المحدث مصطفى الزرقاء، وكان يُملي الحديث في جامع حلب ثم اتصل بالسلطان. وثّقَه الذهبي، وقال يحي بن سعيد القطان إنه ثقة، ولكنه أضاع نفسه بدخوله النّيابات وسَوْقه السيارات (2).
قال الأصمعي: وهو غير عبد الوهاب (وقيل عبد الواهب) ابن الأزرق، الذي كان يتولى جباية المُكوس للملك أوديب (قلت: بل الملك أديب، أي الشُّشْكُلي)، وهو الذي مدحه رؤبة
(1) ولد عبد القادر المغربي في اللاذقية، ولكنه نشأ في طرابلس وأمضى فيها شطر عمره (مجاهد).
(2)
اشتغل الشيخ مصطفى الزرقا بالسياسة حيناً، فكان نائباً عن حلب مرّتين وعُيِّنَ مدةً وزيراً للعدل ووزيراً للأوقاف، رحمه الله (مجاهد).
ابن العجاج بقوله:
حيِّ الفتى عبدَ الوّهاب الأرزقا
…
وهو مدير المُكْس، أعني القمرقا
صيَّرَ باب الرَّشَوات مُغلَقا
…
وأصلح الأمورَ حتى فَوْرَقا
قال المبرّد في تفسيره: القُمْرُق هو المُكس (1)، معرَّبة عن الهندية، وفَوْرَق لا يحتاج إلى تفسير لأنه غامض، والتفسير إنما يكون للواضحات البَيِّنات.
قال الأصمعي: وحدثني العزّ بن شيخ السروجية (2) قال: أخبرني أبو زيد السروجي (قلت: وهذا من روايات الأكابر عن الأصاغر، لأنه شيخ السروجية وأبو زيد سروجيٌّ من مريديه) قال: لقد وهم المغربي، والصحيح أن الزرقاء والأزرق بلدان في البلقاء في شرقيّ الأردن (3) وليسا رجلين كما خُيِّل إليه. والمغربي يتخيل أشياء لا وجود لها ويكتب عنها، من ذلك المجمع العلمي العربي، توهمه قائماً وهو لم يوجد، ولو كان موجوداً لكان له آثار ولنفع البلد بشيء (4).
(1) كان عبد الوهاب الأزرق هو المدير العام للجمارك أيام الشيشكلي. ذكره جدي في آخر الحلقة 112 من «الذكريات» وأثنى عليه، رحم الله الاثنين (مجاهد).
(2)
هو عز الدين التنوخي شيخ السروجية رحمه الله.
(3)
هما اسما مدينتين في الأردن.
(4)
كان الشيخ المغربي نائب رئيس المجمع العلمي بدمشق، رحمه الله.
وهذا الرَّجَز منحول لرُؤْبة، صنعه رجل من أهالي الشام يقال له أنور العطار، وكان مولعاً بصنع الأشعار.
قال الأصمعي: ولُقِّبَ بالحكيم جماعة، منهم توفيق الحكيم، وحكيم باشي قصر العيني في القاهرة، وهي إحدى مدن اليمن.
وحدثني محمود بن محمد بن شاكر (1)(وهو محدث أصله من نِينَوَى) قال: إن الذي أسقط القِفْطي وأخمل ذكرَه هو حمار الحكيم. قلت: وما خبر ذلك؟
قال: إنه لمّا ألف كتابه «أخبار الحكماء» أهداه إلى أمير نينوى، وزعم له أنه لم يَدَعْ حكيماً لم يذكره فيه، وكان في مجلسه رجل ماكر يحسد القفطي يقال له الفريد بن أبي الحديد (2) (قلت: وقد شرح «نهج البلاغة» الذي ألّفه الشريف الرَّضِي) فقال له: تقول إنك لم تدع حكيماً إلا ذكرته، فأين حمار الحكيم؟ فبُهت، وغضب الأمير وضربه عشرين سوطاً، ونهى الناس عن قراءة كتبه.
قال الأصمعي: وكان حمار هذا من كبار الحكماء، ولكن أهل مصر اطّرَحوه انتصاراً منهم للقفطي، فلم يذكره إلا رجلٌ من أبناء عمومته يقال له توفيق الحكيم.
قال النووي: وتوفيق الحكيم وَضَّاع لا يُقبَل له حديث، ذهب
(1) كتوفيق الحكيم ومحمود شاكر معروفان.
(2)
محمد فريد أبو حديد: أديب مصري، كان من أعضاء المجمع اللغوي، واشتغل مديراً للمطبوعات ووكيلاً لدار الكتب (مجاهد).
إلى قرى مصر نائباً في الأرياف، فأهمل عمله وخان أمانته، وصار يفكر في الرقص والغناء وهو على كرسيّ النيابة في المحكمة، والقاضي ينتظر مطالعته والظَّنينُ يرقب ما تنفرج عنه شفتاه، فلما أفاق زعم أن نومه معجزة وأنه كان مع أهل الكهف (1). قلت: وكان يكتب في القهوات وعلى أرصفة الشوارع، ويزعم في «الرسالة» أنه يكتب «من البرج العاجي» (2).
قال: ولُقِّب طه بن الحُصَيني بطَقْطُر، بفتح الطاء وسكون القاف وضم الطاء الثانية، واختُلف في تفسيره على ثلاثة أوجه:
الأول: أنه لفظ أعجمي، معرّب «دَكْتُر» ، والدَّكْتُر بلسان الروم الطبيب. قال منير العجلاني الدمشقي (3) في كتابه «الأمثال السائرة في طبقات الدكاترة»: وهذا أصح الأقوال، والجمع دكاترة، قاسوه على جِهْبِذ وجَهابذة قياساً على التوهّم. قال شارحه أحمد السمّان (4): وقياس التوهّم أن يكون على اختلاف الوزن المصرفي، وذلك لأن جِهْبِذ فِعْلِل كدِعْبِل، ودُكْتُر فُعْلُل كدُعْبُب، وربما أشبعوا الضمة فقالوا «دكتور» ، كما قالوا «أصبوع» في أُصْبُع ويَبْرود في يَبْرُد، قال الشاعر (قلت: وهو عبد القادر بن المبارك):
(1)«حمار الحكيم» و «يوميات نائب في الأرياف» و «أهل الكهف» كلها كتب لتوفيق الحكيم (مجاهد).
(2)
عنوان مقالات له في «الرسالة» .
(3)
منير العجلاني، وكان قد كتب مقالة عنوانها «طبقات الدكاترة» .
(4)
رفيق جدي في طفولته، درس الاقتصاد وصار من بعدُ مديرَ جامعة دمشق، رحم الله الاثنين (مجاهد).
يَبْرودُ يَبرُدُ صيفاً مَن أقام بها
…
لذاك قيل مع الإشباع يَبرودُ (1)
الثاني: أنه عند الروم بمعنى «الحاج» عند المسلمين، وذلك أنّ كل مَن حج إلى دَيْر يُقال له «الصَّرْبون» في مدينة البَريز (2)، على نهر السين (وقيل نهر الشين)، وجلس إلى رهبانٍ فيه سُمي طَقْطُر، وهو لقب تشريف. وأكبر رهبان ذلك الدير المِص صَنيون (3)، على وزن صَهيون ومَلعون.
قال الزكي بن المبارك: وأصل المِصّ المُصْيُ، حُذفت ياؤه على شبه التّرخيم، والمِصْيُ والمِصْطِر (4) السيد، ومن الروم قوم يقال لهم بنو ألْمان يدعون السيد القط. قال النشاشيبي: وهو وهم من ابن المبارك، والسيد عند الألمان «الهر» وعند الطليان «السّنور» (5). قلت: والقط والهر والسِّنَّوْر واحد، ولا وجه لما قاله النشاشيبي.
الثالث: أن الطقطر مَن يأخذ من بيت مال المسلمين ثمن ظَهْره ونفقته ويرحل إلى بلاد الإفرنج فيلهو ويلعب، ثم إذا حان
(1) يبرود بلدة قريبة من النبك، في القلمون، وهي مشهورة ببردها؛ في الذكريات:"لما جئت النبك رأيت جماعة ماتوا من شدّة البرد في الذُّرى العالية المحيطة بالنبك ويبرود الممتدّة إلى بَعْلَبكّ"(مجاهد).
(2)
السوربون في باريس.
(3)
ماسينيون.
(4)
المسيو والمستر.
(5)
السِّنْيور والهِرْ.
مَعاده إلى بلده استكتب أحدَ العلوج كتاباً بلسان القوم هناك، ثم وضع اسمه في ذَنَبه وأخذ به إجازةَ مشايخ الإفرنج بالتدريس والإقراء، وشهادتَهم له بأنه عالمٌ علاّمة مُدركٌ فَهّامة! وربما اشترطوا أن يأتي معه بزوجة إفرنجية من أجيرات المعامل أو بائعات التذاكر!
قال سعيد بن جمال الدين الأفغاني (1): وهذا هو القول الصحيح، وبه قال شيخنا الصوفي الصالح أبو قيس عز الدين بن علم الدين التنوخي قُدِّس سرُّه، تحقق له من باب الكشف.
قال جعفر الحسني (2): وقد ثبت عند أهل الآثار أن قبر السروجي بطاح الجمل في «شاغور دمشق» هو لشيخ السروجية هذا. قال الأصمعي: وهذا غلط، لأن شيخ السروجية حي يُرزَق، وهو اليوم أمير بَلاس (3)، من أعمال دمشق، يقصده فيها الشعراء وأرباب الحاجات فيعودون بالهبات الوفيرة من «جُرَز» البقدونس و «حُزَم» البصل، مَدَّ الله في عمره وزاد في ملكه.
وربما وُصف الواحد بصفة الجماعة، فقالوا:«الدكاترة زكي مبارك» (4). حدّثنا أبو هاشم محمد بن المبارك، عن أبيه، عن جده، قال: حدثني عمي عبد الله بن المبارك أن هارون الرشيد
(1) سعيد الأفغاني، العلامة باللغة والنحو، كان هو وعلي الطنطاوي رفيقَي عمر من الطفولة إلى الممات، رحمهما الله (مجاهد).
(2)
أمين سر المجمع ومدير الآثار.
(3)
للتنوخي مزرعة في قرية بَلاس.
(4)
كان يدعى بذلك تظرّفاً لأنه حمل ثلاث شهادات دكتوراة (مجاهد).
سأله لمّا دخل عليه: هل تعرف الزكي المبارك؟ قال: هو من قبيلتنا. وكره أن يزيد على ذلك.
قال أبو هاشم: ولعله نزَّه نفسه عن الغيبة. قلت: بل خشي لسانَه، وكان هَجّاء. وابنه (ابن الزكي) كان قاضي دمشق على عهد صلاح الدين الأيوبي. قال الزيات: وأنا أعرفه، وقد رويت عنه في «الرسالة» .
قال الأصمعي: والزيات صاحب «الرسالة» مختلَف في اسمه، قيل أحمد، وقيل عبد الملك. كان في أول أمره يبيع الزيت في أزقّة المنصورة، ثم رحل إلى بغداد ليؤدب بعض أولاد الملوك، وبها نشأ ابنه (ابن الزيّات) وعلا نجمه حتى وَلِيَ الوزارة للمعتصم والواثق، فرحل أبوه إلى مصر وأعرض عن الولايات والأعمال، وهجر «الرسالة» ، واعتكف في تكيّة الدراويش التي يقال لها «المجمع اللغوي» (1).
حدثنا أبو عبيدة، قال: أخبرني ابن الأعرابي -قراءةً عليه من كتاب «أسواق الأدب» - أن أسواق الأدب كانت ممتلئة بأرباب الصناعات من الأدباء والعلماء، كالقَطّان واللبّاد والوَرّاق والوَشّاء والشَوّاء والعلاّف والرفّاء والدبّاغ والصبّاغ والعطّار والصبّان واللحّام والقفّال والبَزّاز والبَزّار والسمّان والطحّان والبَيْطار والصوّاف والعقّاد والجَوْهري والإسطرلابي والصابوني والبستاني
(1) توقفت «الرسالة» عن الصدور قبل نشر هذه المقالة بعامين، وصار صاحبها (الزيات) عضواً في المجمع، ثم أعاد إصدار مجلته سنة 1963 فلم تكن لها قيمتها الأولى ولم تَعِشْ إلا قليلاً (مجاهد).
والحانوتي والسكّري والحَلواني والزجّاجي والكَتّاني والحريري والبارودي والخُضَري والجندي والعسكري.
قال الأصمعي: حدثنا ابن قتيبة أن السمّان هو «أزهر» الذي وفد على المنصور (1)، وله نسل في الشام، منهم أحمد ووجيه الدين، وكانا يبيعان السمن في دكان لهما في دمشق، عند باب القلعة، مما يلي المهاجرين في الباب الشرقي (2)، ثم أقبلا على العلم. أما وجيه فبرع في السيمياء والسحر، حتى مَدَّ حبالاً من داره إلى دور الناس علق فيها قوارير صغاراً من الزجاج، فإذا كان الليل نفث فيها من سحره، فتوقدت القوارير من غير نار فأضاءت ما حولها، وزعم أن اسمها الكهرباء (3)، وصنع مراكب تمشي على دواليب وربطها بهذه الحبال فسارت من غير أن يجرّها إنسان أو حيوان، وقال إنها «الترام» .
قال الأصمعي: وما رويت هذا الخبر إلا تملّحاً، فلا تَغْتَرَّ به، فإن ذلك من المحال الذي لا يكون أبداً.
وأما أحمد فبرع في العلم حتى ولاّه السلطان مَشْيَخةَ المدرسة الكبرى التي تُدعى «الجامعة» (4)، خلفاً لقسطنطين بن
(1) قصته مشهورة في كتب الأدب، وفيها طرافة (مجاهد).
(2)
لا يدرك النكتة في هذا التخليط إلا ابن دمشق أو رجل عارف بمعالمها وأحيائها (مجاهد).
(3)
هو صديقنا الأستاذ وجيه السمان، العالم الأديب ومدير مؤسسة الكهرباء.
(4)
كان رئيس الجامعة.
زريق (1)، صاحب القصيدة التي يقول فيها:
أستودعُ اللهَ في بغدادَ لي قَمَراً
…
بالكَرْخِ من فَلَك الأزْرار مطلعُهُ
ودَّعْتُهُ وبِودّي لو يودّعني
…
صفوُ الحياة وأَنّي لا أُوَدّعُهُ
قال أنور العطار: وقد سألت عن خبر هذه القصيدة لما زرت الكَّرْخ، فعلمت أن هذا القمر هو الصافي النّجَفي (2)، وكان قد لقيه ففتنه جماله من أول نظرة.
والعطار هذا شاعر بارع وَصَّاف، وكان يَتَّجِرُ بالعطر، يأتي به من تلفيتا في جبل سنير ويبيعه في دارَيّا، وكان راوية يحفظ ما لا يُحصَى من القصائد ولا يحفظ حسبة أربع في أربع، فكان الناس يحتالون عليه، فترك تجارة العطر ورحل إلى الموصل، فاشتغل فيها بصناعة الشعر وألَّف كتابه «ظلال الأيام» (3)، وهو أجمع كتاب لفقه الإمامية.
وأما ابن البيطار فهو أعلم الناس بالنبات، وله فيه الكتاب المعروف بـ «المفردات» ، وكان أبوه بيطاراً في الميدان بدمشق، وكان رجلاً صالحاً يبطر خيول المجاهدين حسبة بالمجان. قال ابن الأنباري: والبطر الشق، ومنه البيطر والبيطار. ثم عكف على العلم حتى صار يشار إليه بالبنان ولُقِّب بـ «بهجة الشام» ، وكان
(1) قسطنطين زريق من أساتذة الجامعة الأميركية، ولَّوه مرة رئاسة جامعة دمشق.
(2)
الشاعر المعروف، وابن زريق شاعر قديم.
(3)
ديوان أنور العطار، وقد كتبت أنا مقدمته.
محاضراً نظاراً بليغاً، وكانت له حلقة في «جامعة دمشق» يُقرئ فيها (1).
والبارودي منسوب إلى البارود. قال جالينوس: وهو تراب أسود يؤتَى به من جزيرة في بحر الظلمات، فإذا مَسَّتْه النار كان له دويٌّ كأنه صوت الرعد، وهو يوضع في قناة الرمح فينطلق من أعلاها ناراً محرقة، ويقال لها البندقية.
قال الجاحظ في كتاب «الحيوان» : وهذا من أكاذيب الأوّلين ولا يقول به إلا من أخزاه الله وسلبه نعمة العقل، ولو كانت هذه القناة تقذف ناراً لأحرقَتْها هذه النار، وما «البندقية» إلا اللَّوْزينج بلُبّ البندق، وقد أكلتها غيرَ مرة.
قال عمر الحكيم (2): وهذا كله باطل، و «البندقية» مدينة في بلاد الصين، كثيرة المطر دروبها مغمورة أبداً بالماء، فمن أراد أن يعبر غاص في الماء إلى ركبتيه، وفيها رجل يقال له جَنْدُل (بفتح الجيم وضم الدال)(3) يحمل الناس على عاتقه لئلا يمسهم الماء، قرأنا ذلك في كتاب الجغرافيا للنظيم الموصلي (4).
قال أحمد بن أمين: وكان جندل هذا ممدَّحاً، ولمحمد بن وهّاب المغني المخنَّث قصيدة في مدحه غاية في الغَثَاثة والثقل،
(1) الشيخ بهجة البيطار، وكان يدرّس في الجامعة.
(2)
أستاذ الجغرافيا في جامعة دمشق.
(3)
الجَنْدول، القارب الذي يجوب قنوات البندقية (فينيسيا)(مجاهد).
(4)
كان أستاذاً للجغرافيا.
يصفه فيها بأنه "ذهبي الشعر حلو اللفتات"(1).
قال الأصمعي: والصحيح أن البارودي منسوب إلى بلدة يقال لها: بارودة، نبغ من أهلها جماعة منهم فخر الدولة وسروال الملّة (2)، ومنهم محمود بن سامي البارودي، ومصطفى الباردوي (3). وكان فخر الدولة (وربما اختُصر فقيل له: الفخري والسراويلي) زعيم الجَرْبا، وهي بلدة في غوطة دمشق على يمين السالك إلى بحر لوط، ثم انتُخب لنيابة السلطنة في دمشق فقال فيه ابن منير الطرابلسي (وكان خبيث اللسان) أرجوزة مطلعها: دمشق قد فاز الزعيم «فَخْري» ! (4)
قال أبو الفرج: وكان الفخري البارودي بصيراً بالموسيقى (5) وله أصوات فيها صنعة حسنة، اتصل بحيي بن أكثم (قاضي قضاة المسلمين الذي قال فيه الشاعر: متى تصلح الدنيا ويصلح أهلها) فأقطعه الجربا، ولما أغار الإفرنج على الشام -يتقدمهم غورو
(1) طرفا بيت من قصيدة «الجندول» المشهورة للشاعر علي محمود طه (مجاهد).
(2)
كانت تلك العبارة مباسطة لفخري البارودي.
(3)
أستاذ في جامعة دمشق سابقاً.
(4)
انظر الذكريات 5/ 134 من الطبعة الجديدة (مجاهد).
(5)
بلغ من اهتمام فخري البارودي بالفن الموسيقي أن ألّفَ موسوعة موسيقية في أربعة أجزاء! وفي «الذكريات» حلقة حكى فيها جدي رحمه الله قصته مع «رقص السماح» في الشام، وهي قصة طويلة فمن شاء قرأها هناك (الحلقة 136 في الجزء الخامس)، وفيها أن ولع فخري البارودي بالموسيقى كان وراء تلك الفتنة (مجاهد).
الأعور- باعها وأنفق ثمنها في الجهاد (1)، وكان كريماً.
وحدثني من أثق به أن الخياط كان يَخيط ثياب الجند ويعيش من ذلك، ثم ادّعى الولاية وأظهر الكرامات، من ذلك أنه ينظر إلى قدح الماء العذب الزّلال فيرى فيه آلافاً من العقارب الصغيرة ذوات الأيدي والأرجل والخراطيم، وقال إن اسمها «الجراثيم» ، وإنها على صغرها تقتل الفيل! وجاء بأنبوبة مسحورة، فمن نظر منها خُيِّل إليه أنه يرى ذلك، فأنكر عليه العلماء، وصدَّقه جماعة من الأحداث وتبعوه وعظّموه أشد التعظيم، ولقبوه «العليم» (2).
قال ابن الأثير في حوادث تلك السنة: ثم رُفع أمره إلى السلطان، فلما ثبت ذلك عليه أخرجه من دمشق، فابتنى لنفسه صومعة في رأس جبل قاسيون (3)، وبقي فيها حتى نبغ ولده ابن الخياط هيثم (4) المشهور، فـ «انتصر» له (5)، فأعادوه وولَّوه الإقراء في المدرسة الجامعة.
قال: ووجدت في كتاب «صناعات الأشراف» للزكيّ المحاسني الشاعر: أن الخُضَري المؤرخ الأصولي كان يبيع
(1) ورث فخري البارودي أراضيَ واسعةً في بعض قرى الغوطة، باعها وأنفق ثمنها في دعم الثورة والعمل الوطني (مجاهد).
(2)
الدكتور أحمد حمدي الخياط أستاذ أطباء دمشق وأول من فتح مخبراً للتحاليل في الشام، وقد عرّب هو كلمة الدكتور فجعلها «العليم» .
(3)
كانت داره أعلى دار في جبل قاسيون في دمشق.
(4)
الدكتور هيثم ولده، وهو أستاذ في كلية الطب وأحد نوابغ الشام.
(5)
«الانتصار» كتاب معروف لابن الخياط.
الخُضَر على باب الجامع الأزهر في مصر، تورّعاً وتنزّهاً عن أموال السلاطين، والماوَرْدي كان يصنع ماء الورد ويبيعه، والخُبْزأَرُزّي (1) كان يعمل الأرز ملفوفاً برقاق الخبز ويبيع الواحدة بدرهم، وأن الخصّاف كان يخصف نعال الحُجّاج في مِنى، والقَفّال كان يصنع أقفال الصناديق الحديدية للمصارف، وأن حسن البنّاء (2) كان يبني البيوت، ثم تركها وأقبل على بناء النفوس. (3)
* * *
(1) أو الخُبْزرُزّي، نصر بن أحمد، شاعر غَزِل عاش في البصرة آخرَ القرن الثالث وأول الرابع، كان يعمل بخَبْز «خُبز الرُّز» وينشد الأشعار فيجتمع عليه الناس، وله أخبار طريفة (مجاهد).
(2)
رحمه الله.
(3)
لمّا اشتغلت بترتيب أوراق جدي رحمه الله وجدت قطعة مخطوطة (لم تُنشر من قبل) فيها مشروع تتمة لديوان الأصمعي، ولكنها قصيرة مقطوعة، فقد شرع فيها ثم لم يكملها فبقيت نواةَ مقالة لا مقالة قائمة بذاتها، فنَفِسْتُ بها أن تبقى بلا نشر، ولم أجد لها مكاناً أثبتها فيه أصلحَ من هذا الموضع، فألحقتها بالمقالة الأصلية. وها هي ذي في الصفحة الآتية (مجاهد).
-2 -
قال الأصمعي: قد انتهى القول في «الكُنى والألقاب» ، وهذا هو القول في «الأمالي»:
أخبرنا حمزة بن فتح الله المصري الأزهري، قراءةً عليه في كتابه «حديث الأربعاء» (1)، أن آخر من أملى في جامع عمرو بن العاص في الفسطاط هو أبو الحسن النَّدْوي الهندي. قال: ومن أماليه:
ماذا ببدرٍ فالعَقَنْقَلِ من مَزارِبَةٍ جَحاجِحْ
الضّاربينَ التَّقْدُمِيّةَ بالمُهنَّدةِ الصفائحْ (2)
قال الأصمعي: البيتان من شواهد سيبويه في كتابه «الأغاني» ، وقد كره أن يُنسَب إليه فعزاه إلى أبي الفرج الأصبهاني (الذي وُلد بعد موت سيبويه بدهر طويل)!
قال طه بن الحصيني: وهذا يؤيد مذهبنا في أن الأدب العربي منحول كله، وأن ما يُنسَب إلى مجنون ليلى من الشعر هو من نَظْم شاعر مجهول عاش قبل سيل العرمرم، أو أنه من نظم المستشرق المعروف بـ «مَرْج الليوث» (3).
(1) كتاب لطه حسين (مجاهد).
(2)
قال جدي في حاشية وضعها هنا: "البيتان في لسان العرب، مادة «قدم» ". قلت: ومن أراد «فَكَّ رموزهما» فليعد إلى اللسان في الموضع المذكور (مجاهد).
(3)
مارجليوث.
و «بدر» الواردة في البيت موضع بين فاس وخراسان، ذكره ياقوت في كتابه «القاموس العصري» (1)، وهو أصح كتاب في لغة الفرس. وقيل: بل المراد بدر الدين الحامد (2)، وكان صديقاً للشاعر، وقد بلغه أن به شيئاً، فهو يسأل: ما به؟
و «ما» اسم ممنوع من الصرف لعلّتين، هما حذف الهمزة وبقاء الألف، وأصله «ماء». قال الأصمعي: وسمعت من أنسطاس ابن الكرملي أن الماء إنما سُمّي ماء لأن المِعزى إذا عطشت قالت: «ماء» ، فسمي بذلك حكايةً لصوتها. ولم أرَ من ذكر هذه الفائدة غيره، وقد أرشدَته إليها عنزة كانت عنده في الدَّيْر.
و «ذا» من قولهم: "يا هذا"، أي "يا أيها الرجل"، قال المَرْدَميّ في معلَّقته التي عُلِّقت على باب المجمع العلمي العربي:
يا أيها الرّجُلُ المُعلّمُ غيرَهُ
…
هلاّ لنفسك كان ذا التَّعْليمُ
وقد سرقه من قول أبي هريرة في وداع ابنته:
ودِّعْ هُرَيرةَ إن الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ
…
وهل تُطيقُ وَداعاً أيُّها الرَّجُلُ؟
و «العقنقل» شيء لم يذكره الشعراء في أشعارهم لاجتماع
(1) لإلياس أنطون إلياس، كان في وقته أشهرَ معجم إنكليزي-عربي، فلما نُشر «المَوْرد» فاقه شهرة حتى خَمَل ذكره ونسيه الناس (مجاهد).
(2)
شاعر مشهور من حماة، أسَنُّ من جدي بنحو عشر سنين، وكان يُلقَّب بشاعر العاصي (والعاصي -لمن لا يعرف من القرّاء- هو نهر حماة، وعليه نواعيرها المشهورة)(مجاهد).
العين والقافين فيه. والمَزاربة والجَحاجِح مما لا يحتاج إلى تفسير، لأنه غير معروف.
و «الضاربين» من الضرب الذي يكون منه الطرح ثم القسمة، وذلك كله بعد الجمع. قال الشاعر:
وجمعته فضربته
…
فطرحته فقسمته
أي أخذت بـ «مجامع» ثوبه فـ «ضربته» فـ «طرحته» أرضاً فـ «قسمته» أقساماً! قلت: وهذا التفسير كمن فسر الماء بالماء. قال الميداني في «مجمع الأمثال» : والذي فسر الماء بالماء رجل من العرب، وقيل من غيرهم، وقال قوم: هو امرأة وليس برجل.
قال ابن المبارك: وقوله "وليس برجل" من اللغو، ويكفي قوله "امرأة". قلت: وهذا وهم من ابن المبارك قاسه على ما عُرف في أيامه من أن الناس رجال ونساء، ولو أدرك أيامنا لرأى أنّ مِن النساء مَنْ لَسْنَ بنساء ولا رجال، وأن من الرجال من ليسوا برجال ولا نساء!
* * *