المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌القبر التائه نشرت سنة 1940   كم ذا يقاسي العاشقون ويألمون، ولا يدري - صور وخواطر

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌ ‌القبر التائه نشرت سنة 1940   كم ذا يقاسي العاشقون ويألمون، ولا يدري

‌القبر التائه

نشرت سنة 1940

كم ذا يقاسي العاشقون ويألمون، ولا يدري بهم أحد، ولا يبلغ وَهْمَ إنسان تصوُّرُ ما يعانون!

كم للحب من شهداء عاشوا يائسين وقضوا صامتين، فما حازوا مجداً ولا فخاراً، ولا اشتروا جنة ولا أمنوا ناراً. مساكين، يعيشون في دنيا الناس وليسوا فيها، يرون بغير العيون، فلا يرى الناس ما يرون ولا يبصرون ما يرى الناس، يموت عندهم كل حي ما لم يتصل بالحبيب، ويحيا كل ذي صلة به حتى الجماد. إن فكروا ففي المحبوب، أو تكلموا فَعَنْه، أو اشتاقوا فإليه، أو تألموا فعليه:

فإنْ تكلَّمْتُ لم أنطق بغيرِكمُ

وإنْ سَكَتُّ فشغلي عنكمُ بكمُ

وإن مُنحوا الدنيا باعوها كلها بقبلة منه أو شمّة أو ضمّة، ثم لم يأملوا إلا دوامها أو الموت بعدها لئلا يجدوا فقدها! لا يألمون إن قال الناس «مجانين» ، ولا يحزنون إن نالهم الأذى، بل ربما سرّهم ما يسوء إن كان فيه رضا المحبوب. ويا ويلهم من العذّال، يا ويل الشَّجِيّ من الخَلِيّ!

ص: 35

يلومون قيساً لأنهم لا يرون لَيْلاه إلا كسائر النساء، ففي كل امرأة عِوَض عنها وبديل منها، ولو استعاروا عينَي قيس فنظروا بهما لرأوا ليلى هي الدنيا، وهي الأخرى، وهي الروح، لولاها ما كانت الحياة ولا أضاءت الشمس ولا أنار القمر، ولا بسم الروض ولا ضحك الينبوع، ولا همس النسيم ولا غنى الطائر، ولا كان في الدنيا جميل.

قصة الحب هي القصة الأزلية التي تكرَّر دائماً وتعاد أبداً، لا تُمَلّ ولا تُسأم. نقرؤها كل يوم فلا نراها تبدّلَ فيها إلا الاسم، فهي آناً قصة ليلى أو لبنى أو عفراء، وهي آناً قصة ماجدولين أو فرجيني أو شارلوت، ولا تغيّر إلا المنازل؛ فمن بِطاح نجد إلى ضفة البحيرة، إلى ساحل الدنيا الجديدة، إلى ظلال الزيزفون، أما القصة فهي هي ما تبدلت ولا تغيرت، ولا يمكن أن تتبدل حتى تُبدَّل الأرضُ غيرَ الأرض.

على أن للحب مواسم، وله منازل ينبت فيها كما ينبت النخيل في البصرة والكرم في الشام. فمن منازله لبنان، لبنان (شرقيّه والغربي) الذي برأه الله على مثال الجنة: روح وريحان، وحور وولدان، فمَن حلّ فيه مؤمناً ذاق نعيم الخلود في دار الفناء وأحس بسعادة الأخرى في الدنيا، ومن حلّه غيرَ مؤمن أذهب طيباته في حياته الدنيا وما له في الآخرة من خَلاق.

لبنان الذي كان دارَ الأولياء والشعراء والسياح والزهّاد، من كل عابد متبتل ومحبّ هائم وتائب أوّاب. لبنان الذي جعل الله ماءه خمراً وجماله سحراً، فلا تدري أهو السحر قد خَيّل لك أنك في جنة الخلد أم هو السكر قد جعلك تحس التخلص من هذا

ص: 36

العالم الغارق في الدم، الملتحف باللهب، وتشعر أنك تعيش في الأفق الأعلى عيشة اللذة الدائمة والذهول الناعم الهنيء، وسط عوالم من النور تُدرَك ولا تُرى.

لبنان الذي لا تدري أي شيء فيه هو أجمل: أذُراه التي تبرقعت ببراقع الثلج فلم تبصرها عين حي من يوم خلق الله العالم، فعزّ بالحجاب جمالُها حين ذل بالسفور الجمال، أم سفوحه الحالِيَة بالصنوبر، أم القرى المنثورة على تلك السفوح، أم ينابيعه المتفجرة تفجر الحكمة، أم أوديته الملتوية التواء الفكرة في رأس أديب لا يملك البيان عنها؟ وأيُّه هو أبهى: أصباح بلودان، أم ظهيرة الشاغور أو حمّانا، أم الأصيل الفاتن في ربى صوفر، أم المساء الوادع في خليج جونيه، أم مناجاة الملائكة في قمة جبل الشيخ، أم مسامرة الزمان عند الأَرْز، أو في بعلبك؟ أم أنت تؤثر هذا كله وتتمنى لو شملته بنظرة منك واحدة، ثم ضممته إليك، ثم شددت عليه حتى أفنيته فيك أو فنيت أنت فيه؟

تعالوا سائلوا سفوحه وذراه ووديانه ورباه كم شهدت من فصول هذه القصة الخالدة، قصة الحب، وكم أُريق على صخوره من الحَيَوات والعواطف، يُطِلْ جوابَكم لو ملك الكلام. ولكنه أبكم لا ينطق، والناس بُكْمٌ لا يروون إلا تاريخ الوحشية المدمرة العاتية، يحفّظونه أبناءهم ليكون لهم منه أظفار كأظفار الوحش ومخالب كمخالب النسور، أما تاريخ الإنسانية العاشقة فإنهم يَزْدَرونه ويترفعون عن حفظه، ويرون من الخطر على الأخلاق أن يُدَرَّس في المدارس!

* * *

ص: 37

وكذلك أرى أنا، وهل أنا إلا من غُزَيّة؟

وإلا فمَن يروي لي قصة هذا القبر التائه، الذي نأى عن موطنه وفارق إخوانه، وطوّفَ حتى استقرّ عند قدم صخرة هائلة من صخور رأس بيروت، يلطمه الموج صباح مساء فيستغيث استغاثة غريق عاين الموت، ولا من مغيث؟

قبر منفرد ضائع بين الصخور، ليس ما يدلّ عليه إلا حجر منحوت نحتاً غير متقَن، عليه كتابة قد براها الماء فلم يبقَ منها إلا أنقاض هذه الأبيات:

الشمسُ تطلع تارةً وتغيبُ

والليلُ يجمع شملَ

...

وأنا محبٌّ لم أجِدْ إلا الشّقا

أُحيي الليالي

...

أفيجمعُ القبرُ الأحبّةَ إنْ نَمُتْ

ويكون

...

...

فمَن -يا أهل بيروت- يعرف تلك القصة التي لم يبقَ منها إلا هذه الخاتمة الأليمة: قبرٌ تائه عليه شِعْر، إن لم يحفل به علماء اللسان كان حسبه أن يحفل به علماء القلوب؟

هل في هذا القبر عاشق من لبنان (يوم لم يكن قد فسد لبنان ولا عاثت فيه يد الحضارة) عرف فتاته في طفولتها الحلوة المبرَّأة، تتهادى بين البيت السعيد والحقل الخصيب، والمرعى الجميل والكرم البهي، فكانا يلحقان الأفراخ (الصيصان) وهُنّ بنات يوم واحد، قد خرجن من البيض كُراتٍ ذهبيةً من الريش الأصفر الناعم، تطير لخفّتها مع النسيم وتحل لحلاوتها في الفؤاد، فإذا رأتهما الدجاجة الأم فأقبلت عليهما نافشة ريشها مستنسرة خافا، فارتدّا إلى الجدي يلاعبانه والجحش يركبانه. وكان عالمهما

ص: 38

صغيراً كله، والصغير من كل شيء فاتن محبوب. ومَن منّا لا يحب الصبي والبُنَيّة، وفرخ الطائر والهُرَيرة والكُلَيب، وغُصَين الشجرة وزر الورد، وكل لطيف من التحف والطرف (1) ودقيق من الأشياء؟ من لا تنجذب إلى ذلك نفسه ويحنو عليه قلبه؟

ثم كبرا، فكانا يصحبان القطيع إلى القمم القريبة وإلى الوادي، ثم أبعدا المرعى فكانا يرافقان الشمس في غدوّها ورواحها ويطوّفان تَطوافها. ثم اكتمل جمالها وتمّت رجولته، وكذلك تؤتي الفضيلة أكلها إذا عاشت تحت عين الشمس، في الأعالي التي لا ترقى إليها جراثيم الفساد، فصارا يقاسمان الكبار السمر على «المصطبة» في ليالي الصيف وفي «العلِّيّة» في الشتاء. ومرت الأيام، فإذا هي فاتنة القرية وحسناؤها، وإذا هو بطل الديرة ورجلها، ومقدَّم الشباب في المصارعة وحمل الأثقال والعدو والسباحة، وتلك كانت مفاخر الشباب الجبلي في تلك الأيام، وكان رقصهم الدَّبْكة على «اليادل» أو على «دلعونة» ، وكان هو شيخ الدبكة.

وكان الحب قد ولد في نفسيهما، فكانا يجلسان على قلعة على شفير الوادي، يرعيان هذا الحب الوليد ويدعان القطيع يرعى بنفسه، وكان لها عنده مثل الذي له عندها، فما الذي فرق بينهما؟ أهو المال أم الدسائس، أم قد زوجوها من غيره، أم ماذا؟ مَن يحفظ قصتهما يا أهل بيروت؟ وكيف عاشت من بعده، وكيف عاش من بعدها؟

(1) الطرف أو الطرائف هي ما يسمى في لسان التجارة وفي لغة العامة «نوفوتيه» (nou veautes)، والكلمتان في اللغتين بمعنى واحد تقريباً.

ص: 39

أم كان متكئاً في زورقه، يرقب الشمس وهي في موقف الوداع صفراء شاحبة، لا يحفل بها أحد ممّن كان في الميناء لأن هموم العمل لم تدع في قلوبهم مكاناً للشعر، فأيقظه من غفلة التأمل أسرة تريد أن تجول في البحر جولة في الزورق، هنالك رآها واستقر حبها في قلبه، ولم يكن بذي صاحبة ولا ولد، فهام بها هياماً وقلب الأرض يفتش عنها علّه يحظى منها بنظرة فلم يلقها، فعاش بقية عمره يتجرع غصص الألم المكتوم، حتى مات حيث لقيها ودُفن حيث مات؟

أم أن هذا قبرها هي، يقوم على الشاطئ، على مسرح المأساة التي طالما مُثِّلَت عليه وأُعيدت؟ هنا كانت تقوم ترقب عودته من المهجر، من أميركا، تذكر أبداً كيف ودّعته بالدموع الغِزار وودّعها، ومنّاها الغنى والجاه والعودة القريبة، وانقضت الأيام وكرّت الشهور ولا حسَّ ولا خبر، والفتاة ترقب وتنظر وقد عافت عشّها وجَفَت أهلها، واختصرت دنياها كلها فكانت هذه الصخرة الصلعاء التي شهدت مبدأ آلامها وتأمُل أن تشهد نهايتها، تظن -من حبها وتذكّرها- أن السفينة لا تزال قريبة منها، وأن الحبيب يلوح بمنديله لا يزال، وبينها وبين الحبيب بحار ولُجَج وأيام وليال، والحبيب قد سلاها ونسيها، وطمست صورتَها في نفسه أمواجُ الثروة واللذة والدنيا العظيمة في نيويورك حتى محتها

فماتت شوقاً إليه وأسفاً عليه.

أم هي لم تمت، وإنما شهدت عودته، فإذا هو قد عاد رجلاً غير الذي ذهب لم يبقَ فيه من ابن القرية إلا كما يبقى من ندى الصباح تحت شمس الهاجرة، لا زيّه زيه ولا لسانه لسانه،

ص: 40

فأعرض عنها وازدراها، ورأت إلى جانبه فتاة من بنات «بايْ بايْ» ، فخولطت وعادت إلى صخرتها تنتظر عودة من ليس يعود، حتى وافاها الأجل فدُفنت مكانها؟

أم هو قبر عاشق ماتت حبيبته كما ماتت ليلى، فعاش بعدها كما يعيش كل حبيب يائس؟ أم كانت قصة هذا القبر شيئاً آخر، فمن يعرف هذا الشيء؟ من يهتم بشهيد من شهداء الغرام؟ من يعنى بضحية من ضحايا العواطف؟ من يبكي للمحب المجهول ويقف على قبره وقوف الناس على قبر الجندي المجهول؟

يا رحمتا للعاشقين! حيهم بائس، وميتهم مَنسي، وحديثهم ضائع. يا رحمتا للعاشقين! لا يقام لشهيدهم قبر، وإن أقيم له لم يقف عليه أحد ولم يُحفَظ له تاريخ.

ويا ضيعة هذا الكنز الأدبي العظيم، هذه الدنيا من العواطف التي لم يبقَ منها إلا ما أودع ديوان «العتابا» ، فمن يُعنى بجمع هذا الديوان ونشره في كتاب؟ ألم تعلموا بعد أن في هذه «العتابا» من الصور والمعاني ما لا يملك بعضه غزل شعراء العرب كلهم مجتمعاً؟ فمن يهتم به؟ ومتى يأخذ الشعراء هذه الصور والمعاني فيودعونها الشعر الفصيح؟

* * *

وبعد، فيا أهل بيروت: إذا جزتم بهذا القبر التائه فقفوا عليه كما تقفون على قبر الجندي المجهول، وقدّروا فيه المحبة كما تقدرون هنالك البغض، وكرموا فيه الحياة، فالحياة حب والحب حياة، واجعلوه تمثال العاطفة، فالعاطفة فوق العقل، والإنسان

ص: 41

إنسان بالعواطف لا بالتفكير.

لا تحقروا العاطفة ولا تزدروا القلوب، فإن القلب منزل أقدس شيئين في الوجود: الإيمان والحب، وحسب العقل جموداً وعجزاً أنه لا يستطيع أن يفهم الحب ولا يدرك الإيمان. وحسب العاطفة كرماً ونبلاً أنّ من ضروبها حب الوطن والوفاء والإحسان والرحمة، وذلك ما يميز الإنسان من سائر الحيوان.

ونحن اليوم في حاجة إلى الإيمان بالعاطفة الخيّرة، فلنجعل الحب العفيف وسيلة إليها (1)، ولنتخذ منه سلاحاً نحارب به الفسوق والدعارة والغلظة الوحشية، ولنستكمل به إنسانيتنا، فمن لم يعرف الحب لم يكن له قلب.

* * *

(1) هذا كلامي سنة 1940 وأنا في ذروة الشباب، وقد علمت الآن أن الحب الشريف كالليل المشمس، شيء كالمستحيل.

ص: 42