الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في الليل
نشرت سنة 1943
انفضَّ السامرون بعدما صدّعوا رأسي بأحاديث الانتخابات والنيابات، والمطامع المكسوَّة بأثواب القناعة والمنافع المتَّشحة بوشاح الإخلاص. وكان هزيع من الليل، فتنفست الصعداء وخرجت إلى «المَشْرَقة» (1) أشرف على دمشق. وإن دمشق وغوطتها وسبع عشرة قرية من قراها لتبدو للناظر من شرفة داري في «المهاجرين» واضحة كأنها صفحة الكف، يأخذ منها فضاءً عرضُه خمسون كيلاً بنظرة واحدة من علو مئتي متر. وكانت ليلة ساكنة رَخِيّة النسيم، قد زانها بدر شعبان، فوقفت أمتع النفس بها وآنس بسكون الكون بعد ضجة المجلس، ورحب الفضاء بعد
(1) من البيوت الشامية القديمة ما كان بطابق واحد ومنها ما كان بطابقين، فإذا كان البيت بطابقين لزم أن يوجد فيه دَرَج يصل طابقه الأرضي بطابقه العلوي. ولم يكن هذا الدرج داخلياً كما هو في أبنية اليوم، بل كان يبدأ من طرف «الدِّيار» (وهو المساحة الواسعة أو الباحة التي تنفتح عليها غرف الدار في الطابق الأرضي) وينتهي بمساحة مكشوفة أصغر منها تنفتح عليها غرف النوم في الطابق العلوي، وهذه المساحة العلوية هي التي كانت تُسمَّى «المَشْرَقة» (مجاهد).
ضيق الغرفة، وأرخيت العنان لأفكاري فانسابت على مهل.
ولبثت ساهراً وحدي وقد نامت النجوم على فرش المُزْن الرقراق، ونامت الجبال على أكتاف الأودية وحوافي السهول، ونامت الغوطة في أحضان قاسيون، ونامت الأشجار في جنان الغوطة، حتى بردى فإنه يمشي نائماً فِعْلَ الجند وهم قافلون من سفر بعيد متعب، وقد ملّ من طول السفر وبعد الغاية التي لم يصل إليها وهو يمشي نحوها منذ ألف ألف سنة، وكاد يخالطه اليأس من بلوغها! ولم يبقَ ساهراً معي إلا هذه الأضواء الكليلة التي ترتجف من الوحدة والخوف، وتنظر بعيونها «الزرقاء» خلال الظلام فلا تبصر الطريق.
* * *
وجعلت أفكر فأرى الطبيعة ظاهرها كباطنها، لا يُضمر الجبل نفاقاً، ولا السهل يبطن حقداً، ولا السحاب ينطوي على مكر، ثم أنظر إلى هذه السقوف التي كانت تبدو بهية براقة، يقطر منها النور بعدما اغتسلت بضياء القمر، فأفكر فيها: ماذا تحت هذه السقوف؟
كم تحتها من خبايا وعجائب ومؤتلف ومختلف! كم من معبد لمتهجد متنسك إلى جنب مخدع لمستهتر متهتك، هذا خلا بربّه وذاك بحبّه، فتجاورت منهما الظلمة والنور. وكم من سرير لميت يحف به أهله يبكون، ومضجع لعروسين أحاط بهما الأقرباء يضحكون. ومَن يبيت يتبرم بالولد ومن يتألم من العقم، وشاكٍ من التخمة وباكٍ من الجوع، ومسرور يتمنى لو طال الليل
ومنكود موجع ينتظر النهار، وكادح للعيش ناصب لا يستريح نهاره ولا يكاد ينام ليله، همه المال يجمعه ويرْكُمُه، قد حرم نفسَه من أجله الطيبات، ولو كُشف له الغطاء لعلم أنه إنما سخّره الله لآخر فهو يجمعه له ويكدح من أجله، وذاك نائم لا يفكر فيه ولا يباليه، حتى يجيء وقته فيأتيه
…
وتلميذ ذكي قد أثقل جفنيه النعاس وهدّ جسده التعب وهو مقبل على كتبه ودفاتره، وآخر كسلان يغطّ غطيط البَكْر، ولو اطلعا على الآتي لرأيا أن هذه الدنيا سترفع الجاهل الخامل وتخفض العالم العامل، تفيض على الأول المجد والمال وتحرم الثاني، ولا يدري الحكمةَ في ذلك إلا الله.
وكم من زوجين باتا متنافرين، يتمنى كل لو كان عزرائيل ووُكل بقبض روح صاحبه، وما ثمة من سبب إلا أن الزوج راح إلى الدار متألماً من أمر أصابه، يبتغي الراحة عند زوجه إذ تقبل عليه مُواسيةً مسلية بوجه طلق وفم باسم، وأن الزوجة كانت تنتظره وقد أناخ عليها الملل وترقب دخوله ضاحكاً مرحاً، فلما رأته مُرْبَدَّ الوجه خاب أملها فتألمت وأعرضت، ولما رآها معرضة ضاع رجاؤه منها فزوى وجهه عنها، وأمل كلٌّ أن يبدأه الآخر بالصلح لأنه عند نفسه لا ذنب له، فلما طال الوقت وهما متنافران يتراميان بالنظرات شزراً كالقطط في عراكها، استحكمت العقدة فلم يبق إلا الطلاق!
وكم من سجين يتقلب في السجن على مثل الإبر، يذكر أهله الذين لا عائل لهم سواه، وقد حُبس في تهمة، وقاضيه في النادي يضارب على المائدة الخضراء بالمال الذي قبضه رشوة من
خصمه ليحكم عليه.
وتائبة تجول في الطرقات الخالية مع الكلاب، ولا تجد من يَمُنّ عليها بكسرة خبز إلا إن دفعت ثمنها من جسدها لأنها زانية ملعونة لا تُقبَل لها توبة، والذي أفسدها وأغواها يتصدر المجالس، لا يذكر الناس خطيئته التي استزلّه الشيطانُ إليها في شبابه لأنه تاب منها، ومن تاب تاب الله عليه!
وكم من أديب، أديب حقاً، قد طاعت له عَصِيّات الكَّلِم وذلَّت له العوالي من قطوف البلاغة، قد انزوى في خُصِّه لا يدري به أحد، ودعيٌّ جاهل، لصُّ معانٍ وصفّاف كلمات، قد جُمع له المجد الأدبي من أطرافه فكان له الاسم السائر والمال الوافر.
ومُتَمَشْيِخ قد لبس مُسوح الزهّاد واتّزر بإزار الصالحين، قد عرّض لحيته وكوّر عمامته وأدلى عذبته وطوّل سبحته، ودعا الناس إلى الزهد في الدنيا ونبذ الأموال ورمي النقود في الطرقات لأنها وسخ الدنيا، فلما أطاعوه ورموها خالفهم إليها فالتقطها!
وكم من أزواج قد باتوا في الفراش مع نساء لا يفضلن زوجاتهم في جمال ولا كمال، ولكنه شرع إبليس لا لذة فيه إلا مع الحرام. وكم من نساء تركن أزواجهن وارتمين في أحضان الملاعين من لصوص الأعراض!
كم تحت هذه السقوف من شاعر يعتقد الناس أنه خُلق روحاً بلا جسم، وأنه يتغذى بالحب ويأكل العواطف، قد أغلق عليه بابه وطفق يعدّ نقوده التي يستوحيها الخيال ويستلهمها الشعر، فلما رآها قليلة لا تزال انصرف إلى نظم قصيدة جديدة يستدرّ بها المال.
ونصير للفضيلة، سخّر صحيفته لها ووقفها عليها، قد هرب من بيته وانصرف في تلك الساعة إلى عشيقته ليقرأ عليها مقالته الجديدة في ذم العشق وامتداح الوفاء الزوجي.
وفلاح عاكف على لَبَنه يخلطه بالماء، وكلما صبّ فيه شيئاً نظر إليه وذاقه، فلما اطمأن إلى أنه لم يعد يحتمل زيادة جعل يفكر في أيمان جديدة يحلف بها غداً على أن اللبن خالص لم يمسه الماء!
وباتت عشرون ألف فتاة ينتظرْنَ الزواج، وبات عشرون ألف فتى ينتظرون الزواج، وما حال بين الطائفتين إلا غلاء المهور وكثرة التكاليف، وسخف الآباء الذين يحسبون بناتهم دوابّ تباع في سوق البقر فهم يشتطون بأثمانها، والذين لا يمتثلون أوامر الشرع فيُروا البنت للخاطب الكفء ويطلقونهنّ في الطرقات متبرجات سافرات، فيراهن الفاسق والصالح وكل ذي عينين، حتى الحمار!
وباتت الخمّارات مفتَّحة الأبواب مزدحمة بالطلاب، وبات المسجد مغلقاً قد قام خطيبه بالواجب عليه، فخطب في ذم الخمر وألقى فيه درساً، وانصرف لينام مطمئناً بعد ما أنكر المنكر وأمر بالمعروف.
وكان النواب لا يزالون مجتمعين يتباحثون، وقد ملّ البوّابُ ونعس، ولكنه بقي قائماً يعلل النفس بأن البرلمان سيأتيه بقماش رخيص، وسيكسر رجل صاحب الدار إن جاء يطلب الأجرة ويسقط ديونه كلها، وتخيّل الديون ساقطة فأغمض عينيه مرتاحاً ونام.
وخلال ذلك عشرة آلاف شاب لا ينقصهم شيء من مال وصحة، ولكنهم لا يزالون يشكون الملل ولا يدرون ما يصنعون، فيُقبلون على الملاهي أو ينتحرون، ولو دققوا لعلموا أنهم إنما ينقصهم الإيمان.
وأربعمئة ألف نسوا همومهم وناموا كالقتلى! (1)
* * *
وجعلت أَلِجُ بخيالي هذه البيوت وأجول تحت السقوف، فأجد كل خبيثة لا تعرفها أصناف الحيوان، وإن هي عرفتها ترفّعَت عنها وأبتها؛ أفهذا هو الإنسان سيد المخلوقات؟ وفيمَ هذه السيادة إن لم تكن بالإيمان والفضيلة والاستقامة والصدق والعلم؟ أليس الإنسان الذي يكفر بالذي خلقه، ويخون وطنه، ويسيء إلى أبيه الذي رباه وأمّه التي حملته، ويكذب وينافق ويغش ويسرق، ويكون عبدَ شهواته وأسيرَ جهله
…
أليس هذا الإنسان شراً من الحمار؟
(1) يشير إلى سكان دمشق، فكأنهم كانوا في تلك السنة أربعمئة وخمسين ألفاً أو نحوها. وقد تتبعت عدد سكان دمشق فوجدت أن أول إحصاء رسمي لهم أُجري في أيام السلطان عبد الحميد، سنة 1884، وظهر فيه أنهم مئة وستون ألفاً. وقُدِّر عدد السكان بثلاثمئة ألف في بداية الحرب العالمية الأولى، ثم ازداد هذا العدد إلى 530 ألفاً عام 1960، و837 ألفاً عام 1970، وتجاوز المليون عام 1980، والمليونين عام 1990، والثلاثة الملايين عام ألفين، ولعلهم اليوم أربعة ملايين أو يزيدون (مجاهد).
ويل لهذا الإنسان! أتته آلاف الأنبياء والحكماء والمصلحين، وآلاف الآيات والنُّذُر، ولا يزال ممعناً في غوايته مقبلاً على شهواته. إن امرأة واحدة عارية تهدم في ساعة واحدة ما يبنيه الأستاذ المرشد المصلح الهادي في عشرين سنة. إن الصخر الأصم لَيلينُ ويتفجر منه الماء وقلب الإنسان لا يلين، وإن الجماد ليعي النُّذُرَ ويعتبر وهذا الإنسان لا يعي ولا يعتبر.
من فكر واعتبر بهذه البيوت وكم مَرَّ عليها من ساكنين؟ كم رأت مَن ذلَّ بعد عزّ وعَزَّ بعد ذل، ولم يبق من ذلك شيء! هنالك وراء الأموي كانت «الدار الخضراء» ، منزل الأخلاف من بني أمية، وكانت أمنعَ من النجم وأبهى من الشمس، وكانت سُرّة الأرض، من جبال الصين إلى البيرنيه، فآضت اليومَ مصبغةً صغيرة حقيرة! وسترجع المصبغة قصراً، ثم يصير القصر مقبرة (1).
(1) تحدث عن هذه الدار في بعض مواضع «الذكريات» فقال: "
…
وسوق القباقبية حيث تُصنَع القباقيب، وقد كان في موضعه «الدار الخضراء» ، دار معاوية وأكثر الخلفاء من بني أمية، جنوبي الجامع ووراء جدار القبلة، ولا يزال الباب الذي كان يدخل منه الخلفاء إلى المقصورة ظاهراً ولكنه مسدود. كل ما في الدنيا يولد ويموت، يقوى ويضعف، يعزّ ويذلّ؛ فالدار الخضراء التي كانت يوماً عاصمة الدنيا وسرّة الأرض، ومنزل الخلفاء من بني أمية الذين كانوا يحكمون ما بين قلب فرنسا وقلب تركستان وأطراف باكستان، وكانت محط الآمال ومطمح أنظار الرجال، صارت سوقاً للقباقيب! ولم يبقَ من اسم الخضراء إلا مصبغة صغيرة تحت الأرض، هي المصبغة الخضراء" (الذكريات: 1/ 194). وانظر أيضاً مقالة «على أطلال الخضراء» في كتاب «البواكير» (مجاهد).
هذه هي الدنيا، ولكنّا غافلون عن حقيقتها، مطمئنون إليها، ظانّون أنها تدوم لنا.
ماذا بقي من بني أمية ومن المماليك إلا هذه الجدران القائمة وهذه القباب؟ وماذا بقي من بني عثمان إلا السراي؟ سلوا دَرَج السراي كم رأى من صاعدين ونازلين، ما استقر منهم أحد، لا ربّ القصر يخلد فيه ولا ساكن السجن، كلهم عابر سبيل (1).
واستغرقت في أفكاري، فلم أنتبه إلا وصوت المؤذن يَرِنّ في هذا السكون نقياً صافياً عذباً، يقول:«الصلاة خير من النوم» ، فقلت: صدق والله، ومن السهر ومن المال ومن المجد، لأنها هي التي تبقى، على حين تفنى الدنيا بما فيها من مسرّات وأحزان.
وقمت إلى الصلاة.
* * *
(1) اقرؤوا أيضاً المقالة الوجيزة البليغة (وفيها العبرة لمن شاء أن يعتبر): «على دار الزعيم» ، في كتاب «مقالات في كلمات» (مجاهد).