المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

من أحاديث الإذاعة   ‌ ‌اعرف نفسك ! أذيعت سنة 1952   إنكم تسمعون كل يوم أحاديث - صور وخواطر

[علي الطنطاوي]

الفصل: من أحاديث الإذاعة   ‌ ‌اعرف نفسك ! أذيعت سنة 1952   إنكم تسمعون كل يوم أحاديث

من أحاديث الإذاعة

‌اعرف نفسك

!

أذيعت سنة 1952

إنكم تسمعون كل يوم أحاديث في الجِدّ وفي الهَزْل وفي الخير وفي الشر؛ أحاديث تدعو إلى الوطنية، وأحاديث تسمو بالخُلُق، وأحاديث فيها متعة وفيها تسلية

ولكن حديثي الليلةَ أهم من هذه الأحاديث كلها، لا لأني أنا كاتبه، أعوذ بالله من رذيلة الغرور، بل لأنه أمَسّ الموضوعات بكم وأقربها إليكم، ولأنه دعوة لكم لتعرفوا أنفسكم.

لا تضحكوا يا سادة ولا تظنوا أني أهزل، ولا تقولوا: ومَن منّا لا يعرف نفسه؟ فإنه كان مكتوباً على باب معبد أثينة كلمة سقراط: «أيها الإنسان اعرف نفسك» . ومن يوم سقراط إلى هذه الأيام لم يوجد في الناس إلا الأقل منهم مَن عرف نفسه!

ومتى تعرف نفسك -يا أخي- وأنت من حين تصبح إلى حين تنام مشغول عنها بحديث أو عمل أو لهو أو كتاب؟ ومتى تعرف نفسك وأنت لا تحاول أن تخلو بها ساعة كل يوم تفكر فيها، لا يشغلك عنها تجارة ولا علم ولا متاع؟ ومتى، وأنت أبداً

ص: 61

تفكر في الناس كلهم إلا نفسك وتحدثهم جميعاً إلا إيّاها؟

تقول: «أنا» ، فهل خطر على بالك مرة واحدة أن تسأل:«ما أنا» ؟ هل جسمي هو «أنا» ؟ هل «أنا» هذه الجوارح والأعضاء؟ إن الجسم قد ينقص بعاهة أو مرض، فتُبتَر رجل أو تُقطَع يد، ولكن «أنا» لا يصيبني بذلك نقصان! فما «أنا» ؟

ولقد كنت يوماً طفلاً ثم صرت شاباً، وكنت شاباً وصرت كهلاً، فهل خطر على بالك أن تسأل: هل هذا الشاب هو ذلك الطفل؟ وكيف؟ وما جسمي بجسمه ولا عقلي بعقله، ولا يدي هذه يده الصغيرة، فأين تذهب تلك اليد؟ ومن أين جاءت هذه؟ وإذا كانا شخصين مختلفين فأيهما أنا؟ هل أنا ذلك الطفل الذي مات ولم يبقَ فيّ من جسده ولا فكره بقية؟ أم أنا الكهل الذي يُلقي هذا الحديث؟ أم أنا الشيخ الذي سيأتي على أثره بجسمه الواني وذهنه الكليل؟ ما «أنا» ؟

وتقول: «حدّثت نفسي» و «نفسي حدّثتني» ، فهل فكرت مرّةً ما أنت وما نفسك، وما الحد بينهما، وكيف تحدثك أو تحدثها؟ (1)

وتسمع الصباحَ جرس الساعة يدعوك إلى القيام، فقد حان موعد الصلاة، فتحس من داخلك داعياً يدعوك إلى النهوض، فإذا ذهبت تنهض ناداك منك مُنادٍ أنْ تريَّثْ قليلاً واستمتع بدفء الفراش ولذة المنام. ويتجاذبك الداعيان: داعي القيام وداعي المنام. فهل

(1) في كتاب «تعريف عام بدين الإسلام» حاشية طويلة في فصل «بين يدي الكتاب» توسّعَ فيها علي الطنطاوي في هذه المعاني، فمن شاء فليرجع إليها (مجاهد).

ص: 62

تساءلت: ما هذا وما ذاك؟ وما أنت بينهما؟ وما الذي يزيّن لك المعصية، ومَن يصور لك لذّتها ويجرّك إليها، وما الذي ينفّرك منها ويبعدك عنها؟ يقولون: إنها النفس وإنه العقل، فهل فكرت يوماً ما النفس الأمّارة بالسوء، وما العقل الرادع عنه؟ وما أنت؟

وتثور بك الشهوة حتى ترى الدنيا كلها مخدع الحبيب والحياة كلها متعة الجسد، وتتمنى أمانيّ لو أُعطيها شيطان لارتجف من فظاعتها الشيطان، ثم تهدأ شهوتك فلا ترى أقبح من هذه الأماني ولا أسخف من ذلك الوصال! ويعصف بنفسك الغضب حتى ترى اللذة في الأذى والمتعة في الانتقام، وتغدو كأن سبعاً حل فيك فصارت إنسانيتك وحشية، ثم يسكت عنك الغضب، فتجد الألم فيما كنت تراه لذة، والندم على ما كنت تتمناه. وتقرأ كتاباً في السيرة أو تتلو قصة أو تنشد قصيدة، فتحس كأنْ قد سكن قلبَك مَلَكٌ فطرتَ بغير جناح إلى عالم كله خير وجمال، ثم تدع الكتاب فلا تجد في نفسك ولا في الوجود أثارة من ذلك العالم.

فهل تساءلت مرة: ما أنا من هؤلاء؟ هل أنا ذلك الإنسان الشهوان الذي يستبيح في لذته كل محرَّم ويأتي كل قبيح؟ أم ذلك الإنسان البطّاش الذي يشرب دم أخيه الإنسان ويتغذى بعذابه ويسعد بشقائه؟ أم ذلك الإنسان السامي الذي يحلق في سماء الطهر بلا جناح؟ أسبع أنا أم شيطان أم مَلَك؟ (1)

* * *

(1) راجع مقالة «النفس الأمّارة بالسوء والنفس اللوّامة» في كتاب «نور وهداية» (مجاهد).

ص: 63

أتحسب أنك واحد وأنك معروف، وأنت جماعة في واحد، وأنت عالم مجهول؟ كشفتَ مجاهل البلاد وعرفت أطباق الجو، ولا تزال أنت مَخفيّاً لم يظهر على أسرارك أحد. فهل حاولت مرة أن تدخل إلى نفسك فتكشف مجاهلها؟

نفسك عالم عجيب، يتبدل كلَّ لحظة ويتغير ولا يستقر على حال: تحب المرءَ فتراه مَلَكاً، ثم تكرهه فتبصره شيطاناً. وما ملكاً كان قطّ ولا شيطاناً، وما تبدل، ولكن تبدلت حالة نفسك. وتكون في مسرَّة فترى الدنيا ضاحكة، حتى إنك لو كنت?مصوِّراً? (1) لملأت صورتها على لوحتك بزاهي الألوان، ثم تراها وأنت في كدر باكية قد غرقت في سواد الحداد. وما ضحكت الدنيا قط ولا بكت، ولكن كنت أنت الضاحك الباكي.

فما هذا التحول فيك؟ وأي أحكامك على الدنيا أصدق وأي نظرَيك أصح؟ وإذا أصابك إمساك فنالك منه صداع ساءت عندك الحياة، وامّحى جمال الرياض وطُمس بهاء الشمس واسْوَدّ بياض القمر، وملأتَ الدنيا فلسفة شؤم إن كنت فيلسوفاً وحشوت الأسماع شعر بؤس إن كنت شاعراً، فإذا زال ما بك بقَدَح من زيت الخَرْوَع ذهب التشاؤم في الفلسفة والبؤس في الشعر. فما فلسفتك -يا أيها الإنسان- وما شِعرك إن كان مصدرهما فَقْدَ قَدَح من زيت الخَرْوَع؟

وتكون وانياً واهي الجسم لا تستطيع حراكاً، فإذا حاق بك خطر أو هبط عليك فرح وثبت كأنْ قد نشطت من عقال وعدوت

(1) أي رسّاماً، هكذا استعمل جدي هذه المفردة على الدوام (مجاهد).

ص: 64

عدو الغزال، فأين كانت هذه القوة كامنة فيك؟ هل خطر على بالك أن تبحث عن هذه القوة فتحسن استغلالها؟ هل تساءلت مرة عندما تغضب أو تفرح فتفعل الأفاعيل: كيف استطعت أن تفعلها؟ (1)

إن النفس -يا أخي- كالنهر الجاري؛ لا تثبت قطرة في مكانها ولا تبقى لحظة على حالها، تذهب وتجيء غيرها، تدفعها التي هي وراءها وتدفع هي التي أمامها. في كل لحظة يموت واحد ويولد واحد، وأنت الكل؛ أنت الذي مات وأنت الذي وُلد، فابتغِ لنفسك الكمال أبداً، واصعد بها إلى الأعالي، واستولدها دائماً مولوداً أصلح وأحسن، ولا تقل لشيء «لا أستطيعه» ، فإنك لا تزال كالغصن الطري لأن النفس لا تيبس أبداً ولا تجمد على حال، ولو تباعدت النقلة وتباينت الأحوال. إنك تتعود السهر حتى ما تتصور إمكان تعجيل النوم، فما هي إلا أن تبكر المنام ليالي حتى تتعوّده فتعجب كيف كنت تستطيع السهر. وتدمن الخمر حتى ما تظن أنك تصبر عنها، فما هي إلا أن تدعها حتى تألف تركها وتعجب كيف كنت تشربها. وتحب المرأة حتى ما ترى لك حياة إلا بها، فما هي إلا أن تسلوها حتى تعجب كيف كنت تحبها (2).

فلا تقل لحالة أنت فيها: "لا أستطيع تركها"، فإنك في سفر دائم، وكل حالة لك محطة على الطريق، لا تنزل فيها حتى ترحل عنها.

* * *

(1) انظر ص20 - 21 في هذا الكتاب (مجاهد).

(2)

واقرأ إن شئت مقالتَي «عوِّدْ نفسك الخير» و «بَدِّلْ عاداتك إلى الأفضل» ، وهما في كتاب «فصول اجتماعية» (مجاهد).

ص: 65

فيا أخي: اعرف نفسك، واخلُ بها، وغُصْ على أسرارها، وتساءل أبداً: ما النفس؟ وما العقل؟ وما الحياة؟ وما العمر؟ وإلى أين المسير؟

ولا تنسَ أنّ مَن عرف نفسه عرف ربه، وعرف الحياة، وعرف اللذة الحق التي لا تعدلها لذة. وإن أكبر عقاب عاقب به الله مَن نسوا الله أنه أنساهم أنفسهم!

* * *

ص: 66