الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب تعزية
نشرت سنة 1967
إلى السيدة الفاضلة التي كتبت إليّ وكتمت اسمَها عني، ونِعِمّا فعلت، فما لي باسمها حاجة بعدما فهمت ما في كتابها.
وأنا أحب أن تصدّقي يا بنتي (أو يا أختي) أني لمّا قرأت كتابك بكيت معك وشاركتك حزنك، وأني قرأته على أصحابي فبكوا منه مثل بكائي. إنها فاجعة، ولكنك لست أول مَن فَرَّقَ الموت بينه وبين من يحب، ولست أول أم فقدت بنتها، ومن عرف أن له في مصيبته شركاء وأن لهذه المصيبة أمثالاً خَفَّ عنه بعض ما يلقى.
إن كتابك -على عامية ألفاظه، وعلى أنه ليست فيه كلمة صحيحة، لا في رسمها ولا في إعرابها- إنه على هذا كله قطعةٌ فنية قليلٌ أمثالُها. إنك استطعت أن تستنزلي به الدمعَ من عيون طائفة من أعلام الأدب، وكم من الشعراء الذين يَرْثون فلا يستقطرون قطرة من دمع قارئ أو سامع، لأنهم ما بكوا لمّا نظموا.
ذلك ليعلم طلاب الأدب أن الذي يخرج من القلب هو
الذي يقع في القلب، وأن من يمتلكه المعنى الذي يكتب فيه هو الذي يمتلك به الذين يقرؤونه، أما الذي ينحت الألفاظ من أعماق القاموس بالمعول ليكوّمها على الورق بالمجرفة، فهو عامل في إصلاح الطرق وليس صائغاً لجواهر الكلام! ولست أدعو إلى العامية، ولا إلى نبذ البلاغة وإهمال القواعد، معاذ الله، ولكنْ أدعو إلى امتلاء النفس بالفكرة قبل تحريك القلم على القرطاس.
والعفو -يا بنتي- إذا انصرفت عن جوابك وتكلمت في الإنشاء، فإنما جاء ذلك استطراداً، والصناعة تميل بطبع الإنسان، والاستطراد من شأن الأديب العربي.
* * *
فهمت من كتابك أنك من مكة، لأنك تقولين إنك لم تعودي تستطيعين دخول الحرم بعد ذهاب الفقيدة. فما هذا الكلام يا بنتي؟ إنْ فقدتِ بنتك فهل فقدت -والعياذ بالله- إيمانك؟
في مثل هذه المواقف، مواقف الحزن واللوعة، يعرف المؤمن قيمة هذه النعمة التي هي الإيمان. الملحد الذي لا يرى إلا هذه الحياة الدنيا يُجَنّ إن مات له عزيز أو ينتحر؛ إنه يتصور أنه كان له ففقده، وكان معه ففارقه إلى الأبد. أما المؤمن فيعلم أن الله هو الذي أعطى وهو الذي أخذ، وأن بعد هذا الفراق لقاء، حيث يلتقي الصالحون في الجنة، فهو يجتهد ليكون من أهل الصلاح ويسأل الله أن يرحم ميّتَه ويجعله من أهل الصلاح، ليكون هذا اللقاء لقاء دائماً سعيداً لا فراق بعده.
هذا هو الفرق بين المؤمن والكافر، فأين إيمانك؟
اسمعي يا بنتي: لو أن الفقيدة -رحمها الله- ذهبت تزور خالتها أو جدّتها وبقيت عندها شهراً، هل كنت تخافين، أم تطمئنين عليها لأنها في رعاية أختك أو أمك؟ هل كنت تبكين وتُعَوّلين لذهابها، أم ترضَين وتُسَرّين لثقتك بمن هي ذاهبة لزيارتها؟
فلماذا لا تطمئنين عليها وأنت مؤمنة، تعتقدين أنها ذهبت إلى رحمة من هو أرحم منك بها، وهو الله الذي خلقك وخلقها؟
أنا أعلم أن هذا الكلام الذي أقوله حق كله، ولكن من كان مصاباً مثلك لا يفهمه ولا يدخل في عقله، ويجده ثقيلاً على قلبه. فدعيه واشتغلي بشيء يملأ وقتك، بعمل من الأعمال. وبدّلي منزلك وانتقلي إن استطعت إلى منزل آخر، لأن بقاءك في المنزل الذي كانت فيه الفقيدة يهيج عليك أحزانك؛ إنّ كل ركن منه وكل شيء فيه يذكرك بها، فإن بدّلتِه أو تركته وسافرت، فابتعدت عنه حيناً، خَفَّ عليك لذع الذكريات.
تحدثي عنها؛ قولي لمن معك كلَّ ما يخطر منها على بالك. حمّلي مَن حولك بعض أحزانك. لا تنطوي على نفسك وهي على ظهرك فتنفردي وحدك بحملها.
لذلك كان من المستحسن -عند التعزية- الكلام عن الميت لينفس أهلوه عن أنفسهم بهذا الكلام، والخوض في غيره من الموضوعات لينسوا بها لحظةً ما هم فيه من الأحزان. أما ما يصنعه النساء عندنا في الشام في المآتم، مما لم يرد به شرع ولم يسوِّغه عقل، إذ يصطفّ قريبات الميت حتى يملأن المكان ولا يُبقين إلا كرسياً أو كرسيين للمعزيات، تدخل المعزية بلا سلام وتقعد لحظة
بلا كلام ثم تَنْسَلّ خارجة بلا وداع، فشيء من أقبح العادات.
إن الكلام ينفّس عن المصاب، فتكلمي. والشغل يلهي عن الحزن، فاعملي. والسفر والانتقال يمنع سيل الذكريات الأليمة، فانتقلي أو فسافري، وإنْ عرض لك البكاء فابكي، لا تخجلي. أما سمعت بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم لمّا أرسلت إليه إحدى بناته أنّ ولدها يجود بنفسه، وتسأله الحضور، فأرسل إليها أن اصبري واحتسبي، فأعادت الطلب حتى ذهب، فلما رأى الولد وهو يضطرب اضطراب الموت لم يستطع أن يمسك عنه فبكى صلى الله عليه وسلم.
ابكي، فالبكاء سَلْوَة المحزون، ولكن لا تقولي ما لا يرضاه الله من القول.
* * *
تقولين إن بنتك التي كنت تخافين عليها النسيم أن ينال منها مَسُّ النسيم، وتذبّين عنها الذباب كيلا يؤذيها حَطُّ الذباب، قد وُضعت في التراب وداخلها دود الأرض، وأنك تركتها وحيدة وقد كنت لا تتخلّين لحظة عنها.
فما هذا الكلام يا أيتها المرأة: البنت وُضعت في التراب؟ لا، إن الجسد هو وحده الذي وُضع في التراب ورتع فيه الدود. وما الجسد؟ الجسد قميص، فهل كنت تبكين وتعوّلين إن نزعت قميصَها البنتُ فأُحرق بالنار القميصُ؟
صحيحٌ أنّ الجسد جزء منا، ولكنْ في هذه الدنيا فقط. ألم تكن المشيمة جزءاً من الجنين، ثم إذا وُلد أُلقيت في صندوق
القُمامة؟ أفتبكي الأم لأن ولدها نُزعت عنه مشيمته وألقاها؟
ولو كان في بطن الحامل توأمان اثنان يعيشان فيه معاً وأمكن أن يفكرا لاعتقدا أن البطن هو الدنيا، ولو جاءت ساعة الولادة وسبق واحدٌ منهما، ورآه الثاني يفارقه ويغوص في الأعماق، لظن أنه مات ودُفن في باطن الأحشاء، ولبكى عليه ورثاه! ولو ترك مشيمته وراءه لحزن الباقي لمرآها كما نحزن نحن إذ نرى جسد الميت.
هذا هو مثال الموت: إن الذي اعتقده التوأم موتاً إنما هو ولادة وخروج إلى عالم أرحب وأوسع، عالم لا يقاس به البطن وضيقه وظلامه. وما نراه نحن موتاً إنما هو ولادة وخروج إلى عالم آخر، إذا قسناه بهذه الدنيا رأينا نسبته إليها كنسبة الدنيا إلى بطن الحامل.
هل سافرت مرة من جدة إلى مكة؟ إنك تنظرين فلا ترين من الطريق إلا خطاً قصيراً، ولكن الطريق أطول مما ترين، وما خفي وراءك مما قطعت وما بقي أمامك مما لم تقطعي أكثر مما ظهر. وكذلك طريق الحياة: إننا نرى منه خطاً قصيراً هو هذه الحياة الدنيا التي نعيش فيها، وما خفي عنا أكثر.
الحياة أربع مراحل: مرحلة الحمل في بطن الأم، ومرحلة الدنيا، ومرحلة البرزخ، ومرحلة الآخرة؛ ونسبة كل واحدة لما قبلها كنسبة ما بعدها إليها.
لو أمكن أن نخاطب الجنين في بطن أمه ونسأله: ما هي الدنيا؟ لأجاب أن الدنيا هي هذه الأحشاء المظلمة الضيقة. فلو
قلنا له: إن ها هنا دنيا أوسع، فيها الأفق الممتد والبحر العريض والسهل الفسيح والجبل العالي، وفيها جمال الربيع وصفاء الينبوع، وفتنة الجمال وسحر العيون ونشوة الحب
…
لما استطاع أن يفهم لذلك كله معنى.
وكذلك نحن إذا سمعنا وصف الحياة الآخرة وما أعد الله فيها من ألوان النعيم وأفانين العذاب.
* * *
لا تقولي إني أتفلسف عليك، فإن الذي أقوله صحيح، وأنا لا أملك لك -مع الأسف- إلا الكلام. أنا لا أستطيع أن أنتزع أشواك الحزن من قلبك، ولكن أنت تستطيعين.
تقولين: كيف؟ بالرجوع إلى الذي يقلّب القلوب ويبدل الأحوال، إلى الله الذي يحول بين المرء وقلبه. توجَّهي إليه فاسأليه لك الصبر والأجر، ولها المغفرة والعفو، واسأليه أن يجمعك بها في دار النعيم، يوم يُوفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب.
وانظري الأكلة التي كانت تحبها، فاصنعيها وجوّديها وجودي بها عن روحها، وانظري الثوب الذي كانت تُؤْثره فتصدّقي به على من يستحقه وهَبي ثوابه إليها. هذا الذي ينفعها عند ربها ويخفف عنك من حزنك عليها.
هذا وأنا أسأل الله أن يرزقك الصبر ويجزل لك -إن صبرت- الأجر.
* * *