المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌وَحْي صورة نشرت سنة 1956   [كنت أبحث في أوراقي القديمة، فخرجت في - صور وخواطر

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌ ‌وَحْي صورة نشرت سنة 1956   [كنت أبحث في أوراقي القديمة، فخرجت في

‌وَحْي صورة

نشرت سنة 1956

[كنت أبحث في أوراقي القديمة، فخرجت في يدي صورة لغلام في التاسعة من عمره، بطربوش طويل وإزار (سركس) لا ينزل عن الركبتين إلا قليلاً، فوقه سترة ضيقة وتحته جوارب غلاظ وحذاء قديم، فرَجَعتْني هذه الصورة ثماناً وثلاثين مرحلة من طريق العمر، رجعتني إلى سنة 1917.]

وأمسكت بها أنعم النظر إليها لا أستطيع تركها، وأشعر كأني أعرف هذا الغلام، وأجد أن له من المحبة في قلبي أكثر مما لولدي! ولكن من هو؟ وما صلتي به؟ لست أذكر!

وغبت في نفسي موغلاً في مسارب الماضي، وأبصرت الصبي يتحرك وتنصَبُّ الحياة فيه، ثم رأيته يخرج من الصورة بشراً يتكلم ويمشي كالذي تراه في الأفلام! فدنوت منه أحاول أن أمسّه، فإذا هو يتفلّت مني ويروغ، يحاول أن يدخل في هذا الضباب المنتشر من حولي والذي أظلمت منه الدنيا. ولم يكن في يدي إلا مصباح شاحب الضوء تخرج منه خيوط قليلة من النور، فكنت كلما حاولت أن أخترق بمصباح الذكرى ضباب النسيان

ص: 189

عاد يتكاثف الضباب، حتى حصرت الغلام بين خطَّين من الضوء فربطته بهما.

قلت: من أنت، فإني أرى كأني أعرفك؟

قال: أما أنا فإني ما رأيتك ولا أرى أني أعرفك، فأرسلني.

قلت: إنك لَغلام مشاكس، فما اسمك؟

قال: وما لك من اسمي؟ اسمي علي الطنطاوي.

ص: 190

قلت: هذا اسمي أنا، فكيف -ويحك- تنتحل اسمي، وما أنت أنا، لا يدك هذه يدي، ولا جسدك جسدي، ولا رأيك في الحياة رأيي؟!

ونظرت يا أيها القراء، فإذا أنا أرى أمامي عشرات من الناس مختلفين جسماً وعقلاً؛ طفلاً وليداً، ودارجاً فَطيماً، وصبياً ناشئاً، ويافعاً مراهقاً، وفتى مجتمعاً، وشاباً مكتهلاً، كلهم يزعم أنه علي الطنطاوي!

وسمعت قائلاً يقول لي: لا تعجب، فأنت أبداً في انتقال، في دورة موت وحياة؛ كلَّ يوم يموت فيك شخص ويولد شخص، كالشجرة تطرح أبداً من قشورها وتصنع لنفسها غيرها، أو كالنهر. تأمّل النهر تَرَ في كل لحظة قطرة تذهب وقطرة تجيء، والنهر هو النهر، ولولا هذا الجريان المستمر لكان بركة مستطيلة فيها ماء آسن. ما كان النهر نهراً إلا لأنه يجري ويتبدل، وما كان الإنسان إنساناً حياً إلا لأنه يتغير ويتحول.

وتصور الإنسان الذي كان في جلدك من عشرين سنة، هل فيك ذرة من جسده أو نقطة من دمه؟ ألا تحب ما كان يكره، وتحْقِر ما كان يقدس، وتزهد فيما كان يحرص عليه؟ وانظر لنفسك: أما يتبدل المخلوق الذي يحمل اسمك بين ساعة وساعة؟ بين ساعة الرضا وساعة الغضب، وحين يملأ قلبَه الإيمانُ وحين تشتعل أعصابه بالشهوة؟ أما يكون مرة نمراً كاسراً، ومرة شيطاناً مَريداً، ومرة مَلَكاً نورانياً؟

وولى عني وتركني أفكر: كيف كان هذا الغلام يوماً أنا،

ص: 191

أو كيف كنت أنا يوماً هذا الغلام؟ وكيف يصير علي الطنطاوي الواحد مئة علي الطنطاوي، ما فيهم واحد كالآخر؟ ولكن ما هذا الذي أقوله؟ أترونني جُننت؟ أم أن الناس قد جنّوا فما يفكر أحد في نفسه ولا يحاول أن يكشف أسرارها ويدرك عجائبها، وما يرون في الحديث عن أسرار النفس إلا فناً من فنون الجنون؟

ومن ينفرد منا بنفسه يفكر فيها ويسائلها: من أين جاءت، ولِمَ خُلقَت، وإلى أين المصير؟ إننا نهرب منها أبداً ونشتغل عنها بكل شيء، حتى الكتاب الفارغ والحديث التافه واللعبة الحمقاء، والقعود على كرسي القهوة الساعات بلا عمل، كل شيء إلا صحبة النفس!

كذلك الناس اليوم: نسوا الله فأنساهم أنفسهم.

* * *

وأَنِسْتُ بهذا العالَم الذي رجعَتْني الصورةُ إليه، لا أدري أكان ذلك لأنه أفضل وأكمل، أم أن الإنسان فُطر على الزهد في حاضره والحنين إلى ماضيه والتطلع إلى مستقبله. يُضيِّع الحاضرَ لماضٍ لن يعود أبداً ومستقبل لن يجيء أبداً، لأنه إذا جاء صار حاضراً فتركه ومضى يتطلع إلى مستقبل آخر؛ فهو كحزمة الحشيش المعلَّقة بعصا مربوطة بظهر الفرس، فهو يراها أمامه فيعدو ليدركها، وتعدو معه فلا يصل إليها أبداً.

وهذا من عجائب صنع الله في هذه الدنيا، لئلا يشعر المرء أبداً بالاستقرار فيها ولا يرى فيها إلا ما يراه المسافر في القطار.

وصاح بي الغلام يريد أن أرسله لينطلق، فأسقطني صياحه

ص: 192

من أجواء الفكر، فالتفَتُّ إليه، وعلقت أنظاري بهذه الثياب الزريّة التي يلبسها، فسألته: أتذهب إلى المدرسة بهذه الثياب؟

قال: نعم، وهل تبصر فيها عيباً؟ هل تكشف عورة؟ هل ترى فيها تشبّهاً بالنساء؟ أليست نظيفة؟

قلت: ألا تلبس الحلة التي يلبسها التلاميذ جميعاً؟

قال: أتعني السترة والبنطال؟ هل تريد أن يسخر مني الأولاد ويلحقوني في الأزقة ينادون «فلَّق زم» ؟ وهل يلبسها من التلاميذ إلا المخنثون.

قلت: ويجيء التلاميذ جميعاً بهذا الإزار (السَّرْكَس)؟

قال: نعم.

فذكرت أننا كنا كذلك حقيقة، وكان الذي يلبس هذه الحلة الإفرنجية كالذي يلبس «شلحة» أمه، وكان الأولاد يهتفون وراءه بهذا الهتاف الشنيع، وأننا لما وصلنا إلى الثانوية (وكان ذلك بعد ميسلون ودخول الفرنسيين) وألزمونا بلبسها كانت أمي رحمها الله هي التي تخيطها لي، فتصوّر ماذا تكون هذه الحلة التي تخيطها أمي؟ وأن أول حلة خاطها لي الخيّاط كانت مصنوعة من جبة خلّفها أبي رحمه الله، وكنت في الصف التاسع، فأحسست يوم جئت المدرسة بها كأني إمام المتأنقين! وأنّا بلغنا صف البكالوريا ولم يكن فينا من يجرؤ أن يعقد حول عنقه هذه العقدة، نرى ذلك تفرنجاً وتنطّساً لا يليقان بطلبة العلم.

فأين من هذا ما يصنع شبابُ اليوم؟ أين هذا التأنق والتجمل،

ص: 193

وإنفاق ساعة كل صباح في ترجيل الشعر وتصفيفه واختيار العقدة الملائمة للثياب والحذاء الموافق للجوارب، مما كان في أيامنا؟ رحمة الله على تلك الأيام.

* * *

وقلت للغلام: ألا تمشي معي أريك دمشق؟

قال: أنا أرى دمشق كل يوم، ولا أريد أن أمشي معك. إنني لا أمشي مع من هو أكبر مني ولا أمشي مع من لا أعرف.

قلت: ولو كان قريبك؟

قال: فهل أنت قريب؟

قلت: أنا أقرب الناس إليك.

قال: وما تكون مني؟

قلت: أنا أنت.

فضحك الخبيث وقال: رحم الله هبَنَّقَة (1)؛ أنت أنا، فمن أنا؟

(1) أحد بني قيس بن ثعلبة، ضُرب بحمقه المثل فقيل:«أحمق من هبنّقة» ! ومن حمقه أنه كان يرعى غنم أهله فيرعى السمان في العشب وينحّي المهازيل، فقيل له: ويحك! ما تصنع؟ قال: لا أفسد ما أصلحه الله ولا أصلح ما أفسده! ومن حمقه أنه جعل في عنقه قلادة من ودع وعظام وخزف، فسُئل عن ذلك فقال: لأعرف بها نفسي ولئلا أضل. فبات ذات ليلة فأخذ أخوه قلادته فتقلّدها، فلما أصبح ورأى القلادة في عنق أخيه قال: يا أخي، أنت أنا، فمن أنا؟!

ص: 194

فكدت أقول له: أنت أنا. ثم خفت أن يجترئ عليّ بالقول الجارح لأنه -كما بدا لي- سليط اللسان، فسكتّ عنه، وما زلت به حتى رضي أن يمشي معي.

قال: ولكني لا أجاوز آخر الشارع.

قلت: وأي شارع.

فقال: وهل في دمشق مئة شارع؟ الشارع الذي فتحه جمال باشا، وأنا أعرفه من قبل طريقاً ضيّقاً يمتد من بعد المشيرية إلى محطة الحجاز، يقطعه هذا الزقاق الذي يصل من المَرْجَة إلى الشابكلية: زقاق رامي.

قلت: لقد تغيرت الأرض ومَن عليها يا ولدي، وفُتحت مئات من الشوارع، وصارت «المرجة» لُبَّ البلد وقد كانت في آخره، وقامت وراء شركة الكهرباء (حيث المزابل التي تعرفها) العماراتُ الضخمة والحدائق الواسعة. وطريق الصالحية الذي كان يمتد وحدَه بين البساتين، ما على طرفَيه إلا بيوت قليلة تقوم صفاً واحداً وراءه الفضاء، صار اليوم سوق المدينة، وقامت على جانبيه أحياء إذا جئتها حسبت نفسك في باريس، وحي «المهاجرين» الفقراء من أهل جزيرة كريت (إقريطش) صار حيَّ الأغنياء والمترفين، وصارت البقعة الواحدة منه التي لا تذرع مئة متر مربعة أغلى من أرض الحي كلها! وبوابة الصالحية، حيث يمر الترام بين «الخسته خانة» وبستان الكركة في طريق ضيق كان منذ غروب الشمس مربطَ قطّاع الطرق، لقد صارت بوابة الصالحية ميداناً فسيحاً فيه العمارات العالية والشوارع الفسيحة، شارع

ص: 195

بغداد وشارع الأركان، والبساتين صارت أحياء عامرة، وبستان الأعاجم صار حيّ الحلبوني، وبستان السبكي وبستان الحبوبي صارا أضخم أحياء الشام

لقد دار الفلك ثماناً وثلاثين دورة على دمشق التي تعرفها.

قال: إذن يجب أن أكون ابن ثمان وأربعين!

قلت: نعم.

قال: ألا تراني أمامك صبياً؟

قلت: وأنت ألا تراني أمامك كهلاً؟

قال: أرجو ألاّ تلقي عليّ هذه الفلسفة الجنونية.

قلت: ويحك! ما ألقيتها عليك. وهل أنت شيء له وجود؟ إنما ألقيها على نفسي.

وسحبت الغلام، وسرت به وهو مشدوه مما يسمع. ورأى السيارات الكثيرة وهي تتعادى وتتسابق مسرعة مجنونة كأنما هي راكبة على جناح شيطان، من كل لون وجنس، من الصغيرة التي تشبه صندوق اللعب إلى الكبيرة التي تسع سبعين راكباً، تخرج عن يمينه وعن شماله ومن أمامه ومن خلفه، كأنها العفاريت في قصة «الملك سيف» ، تتلاطم أصواتها في الأذن كأنها عزيف الجن، فارتاع ووقف حائراً. فقلت له: ما لك؟ ألا تعرف السيارات؟

فلم يشأ أن يظهر الجهل وقال: وهل تظنني آتياً من الصحراء؟ كيف لا أعرفها؟ لقد فاخرت التلاميذ بأن والدي ركب فيها.

قلت: وهل كانت مثل هذي؟

ص: 196

قال: لا، كانت سيارة واحدة لجمال باشا لم يأتِ دمشقَ غيرُها، فكان الناس يخرجون لرؤيتها. وأنا أعرف الطيارة أيضاً، صغيرة لها جناحان واحد فوق الآخر، يركب فيها رجلان.

قلت: إن من الطيارات اليوم ما يركب فيه مئة، يحملهم من دمشق إلى الهند قفزةً واحدة.

فنظر إليّ مفتوح الفم شاخص العينين، كأنه لا يصدق!

قلت: وهل تعرف الكهرباء؟

قال: نعم، وأدخلناها دارنا منذ أيام، وضربني المعلم من أجلها.

قلت: ولماذا يضربك من أجلها؟

قال: كنت أحدّث التلاميذ أن في بيتنا مصابيح تشتعل بلا كبريت، ندير زرّاً في الجدار فتضيء، فكذّبوني فضربتهم، فجاء المعلم فضربني! (1)

قلت: ولكن للكهرباء اليوم منافع لا تعرفها؛ أنها تدفئ المنازل في الشتاء وتبرد الطعام في الصيف، وتسيِّر الـ

صاح الصبي مقاطعاً: ما هذا؟ أعوذ بالله.

فنظرت فإذا هو إعلان عن فِلْم في السينما، فيه صورة فتاة عارية ورجل يقبّلها، فقلت: هذا إعلان سينما. ألا تعرف السينما؟

(1) هذه حقيقة وقعت لي أيام الحرب الأولى.

ص: 197

قال: بلى، أخذونا إليها في المدرسة، فأرونا صور القتال في «جناق قلعة» ، وكانت في طريق الصالحية بعد «الخسته خانة» (1).

قلت: صحيح، أعرفها، وقد هُدمت وشيد في مكانها عمارة ضخمة تعرض «أفلاماً» من نوع آخر، اسمها «البرلمان» !

قال: ولكن كيف لا تمنع الحكومة هذا المنكر؟ كيف لا ينكره العلماء؟

قلت: إن أمثال هذه الصور في كل مكان. انظر

وأشرتُ إلى المجلات المعلَّقة في الطريق عند البيّاعين، وسألته: ألا تقرؤون المجلات؟

قال: وما المجلات؟ إننا لا نعرفها.

قلت: أتقرؤون كتباً غير كتب المدرسة؟

قال: نعم، أنا أقرأ في «العقد الفريد» و «حياة الحيوان» للدميري وكتاب «الفرج بعد الشدة» و «الأغاني» .

قلت: هذه كتب لا يقرؤها إلا العلماء، فمن دلّك عليها وأنت في هذه السن؟

قال: كان الرجال الذي يجتمعون على أبي للدرس كل يوم يتناقشون، فيقول لي أبي: هات الجزء الرابع من تاج العروس، هات الثالث من الحاشية، هات الخامس من فتح القدير

(1) وكانت السينما في موضع البرلمان، وقد احترقت وبقيت أنقاضها سنين طويلة.

ص: 198

فتعلمت أسماء الكتب، وصرت أدخل المكتبة وحدي فأسحب كل كتاب فأقرأ فيه صفحة، فإن أعجبني قرأته، وإلا أخذت غيره، فمن هنا عرفت هذه الكتب (1).

قلت: وهل يعرفها رفاقك في المدرسة؟

قال: إن بعضهم يعرف بعضها.

قلت: ألا تقرؤون كتباً للتسلية؟

فاحمرّ وجهه وسكت.

قلت: أخبرني، لا تكذب عليّ، ولا تخف مني.

قال: ولما أخافك؟ أنا لا أخاف أحداً، ثم إني مؤمن لا أكذب أبداً، وهل يكذب المؤمن؟

قلت: إذن أخبرني.

قال: نقرأ القصص في الخفاء؛ قصة عنترة وحمزة البهلوان والملك سيف

وكنا نقلِّد هؤلاء الأبطال، فنتبارز في صحن الأموي كل يوم عندما ندخله.

قلت: ولماذا كنتم تدخلونه كل يوم؟

قال: لماذا؟ لنصلي ونسمع الدروس.

قلت: ولِمَ؟ أليس في المدرسة درس دين؟

قال: لا.

(1) هذه كلها حقائق.

ص: 199

قلت: كيف؟ ألا يعلمونكم القرآن؟

قال: بلى، عندنا درس تجويد ودرس تفسير.

قلت: والفقه؟

قال: وعندنا درس فقه، وعندنا درس حديث ودرس وعظ.

قلت: وكم ساعة في الأسبوع لذلك كله؟

قال: عشر ساعات.

قلت: إنهم يستكثرون عليها الآن ساعتين في الأسبوع! ولست أدري لماذا يحسبونها درساً واحداً؟ إنها دروس مختلفة ولو كان يجمعها اسم «الدين» ، فإذا كان يكفيها ساعتان فاجعلوا للعربية ساعتين فقط للنحو والصرف والإنشاء والإملاء والمحفوظات، وللرياضيات ساعتين فقط للحساب والهندسة والجبر، وللطبيعيات ساعتين ولو تعددت علومها.

* * *

وقطع الحديث وجعل ينظر مدهوشاً إلى النساء السافرات، الباديات الأذرع إلى الآباط والسيقان إلى الرُّكَب، الكاشفات عن الشعر والنحر والصدر.

قلت: ما لك؟

قال: ما هؤلاء؟

قلت: نساء.

قال: وهل تظنني حسبتهن بقراً؟ ولكن كل نساء الشام يلبسن

ص: 200

الملاءة، لا تفرق المسلمة من النصرانية أو اليهودية إلا بأن هذه تستر وجهها وتلك تكشفه، أما الملاءة فللجميع (1). فماذا يكون هؤلاء إذا لم يكنَّ مسلمات ولا نصرانيات ولا يهوديات؟

وسكتُّ لأني لم أجد جواباً، وطال السكوت، وفكرت فيما كنا فيه وما صرنا إليه، وعاد ذهني إلى هذا الحاضر المُمِضّ، فرأيت الصبي يتملص مني ويبتعد عني حتى عاد إلى ضباب الماضي، ولم يبق في يدي إلا هذه الصور الباهتة، صور عهود مضت بما كان فيها من جهل بعلوم الكون وانقطاع عن دنيا الحضارة، وما كان فيها من الفضائل والأخلاق والرضا والسعادة، عهود الإيمان والطهر والصفاء، عهود صباي الذي فقدته إلى الأبد (2).

يا سقى الله تلك العهود!

* * *

(1) وهذه أيضاً حقيقية.

(2)

ما جاء في هذه المقالة هو الموجز، وتفصيله في «الذكريات» التي بدأ علي الطنطاوي بتدوينها ونشرها بعد ثلاثة عقود من نشر هذه المقالة (مجاهد).

ص: 201